Zajelpublishing

شارك على مواقع التواصل

يصنع الشتاء في عزائم القادة، ما يصنعه في المعادن، فتنكمش الطموحات واقعًا، ولكنها على أضواء المشاعل، وحرارة الأنوار، تتمدد تخطيطًا وتأهبًا، حتى يأتي الربيعُ، وما تلاه من الفصول، فيرفرف بأيسر النسمات لواءُ الجهاد، وعلى الرِّماح تثمر الرؤوس.
لم يحمل ربيع تلك السنة، إلا نسائم شك ساورت أهالي حلب، لمّا رأوا من نصارى البلدة الحيطة والحذر، لخطر غير جليّ. في قلعة حصينة لا تُرام تتوسط البلدة على تل مرتفع، يفصل بينها وبين نهر القويق الصغير أحياء سكنية، في إحدى شرفات القلعة، يتراءى لأميرها سوار ارتداء الجو لرداء مغبّر، فيحدّق ببصره، ويدقق نظره، وإذ بالرداء المغبّر ينقشع عن ثلاثة فرسان، يبدو على اثنين منهم الإعياء، وثالثهم يظهر تماسكه.
ترجّل الثلاثة عن جيادهم إلى بوابة القلعة، وحراسها لا يملكون أمرًا ليسمحوا لغريب بالدخول، ولم يصمد اثنان فسقطا أرضًا، وفزع الثالث إليهما وأسندهما إلى كتفيه، وسوار يتابع ما جرى من بعيد، فنزل إليهم، أمر بعض الجند بحمل الاثنين إلى خان قريب، وأوقف الثالث، وقال له:
- من أي البلاد أنتم؟
- نحن يا سيدي من بزاعة، كنا قد خرجنا أنا ورفيقيّ للصيد، وعادتنا قد نغيب أيامًا، وفي عودتنا وجدنا حرثًا قد أُهلك، ونسلًا قد أُبيد.
- مَن فعل ذلك؟
- الفرنجة، ومعاونوهم من بيزنطة.
- كيف تتركوا أهاليكم وتأتوا بثلاثتكم؟! كان يكفي واحدٌ!
دموع راكدة انهالت من عين الفارس، حركتها كلمات الأمير سوار، أطرق الفارس رأسه، ثم عاود النظر لسوار بوجه مبلل، وقال:
- ماتوا جميعهم في الكهوف يا سيدي، لجأوا إليها لمّا رأوا الغدر، لمّا علم الكفار بأماكنهم، دخّنوا عليهم حتى مات المحتجَزون كلهم.
بدورها، حركت تلك الكلمات الركود في عيني سوار، حتى ابتلّت لحيته ثم قال:
- كيف غدروا؟
- لا نعلم إلا ما ذِيع بين البقية، أنّ القاضي وبعض شهودنا قد تنصّروا، وتبعتهم تلك البقية على ذلك.
- تنصّروا!
- هذا ما نعلمه عمّا حدث، وجئناك نسألك الغوث للبقية المضطّهدة، الذين أظهروا الكفر وقلوبهم مطمئنة بالإيمان.
- أبشر إن شاء الله، لكنك لم تخبرني باسمك بعد.
- اسمي زيد، ورفيقاي خالدٌ وسعد.
- أتعرفني؟
- وكيف يخفى لواؤك عنّا؟!
- حسنًا يا زيد، أتعرف أين يعسكر جيش الكفار؟
- آثارهم تقود تابعها إلى الأثارب.
- الأثارب إذن؟
- نعم.
- أيألفك طريق إلى الموصل؟
- نعم.
خلع سوار خاتمه من يده وقال:
- خذ خاتمي هذا إلى الأتابك، وقصّ عليه ما حدث، وهو يعلم جيدًا ما سنحتاجه.

*******

الأتابك في قلعته بالموصل، خلع حلّته ولبس تخفيفة وقميصًا يتدلى من حاشيته إلى نصف ساقيه؛ استعدادًا لقيلولة يريح بها جسده المنهك، من تفقده أسواق الموصل، ولم يلبث أن وضع رأسه حتى استأذن عليه حاجبه في الدخول، فأذن له.
- سيدي، رسولٌ من الأمير سوار، يخطرنا بوفوده لأمر لا يحتمل التأخير.
اعتدل الأتابك في جلسته، وقال:
- ماذا تنتظر؟ أدخله.
- أمرك.
خرج الحاجب ودخل زيد محيّيًا، قام الأتابك إليه وأجلسه لِما بدا عليه من الإعياء، ناوله الماء وظل منتظرًا، ليلتقط زيد أنفاسًا، تعينه على التحدث بصوت مفهوم.
- هذا خاتم الأمير سوار، بعثني به إليك.
بدأ زيد في قصّ الخبر على الأتابك، فانتفض قائمًا من مجلسه وأرسل في طلب نور الدين محمود، لم يغب طويلًا وكان حاضرًا أمامه، فقال الأتابك له:
- يوحنا نقض الهدنة، غدر هو والفرنجة بأهلنا في بزاعة والأثارب، وها هم سيتجرأون على حلب مجددًا، فلا راحة لنا، قبل أن نردهم على أعقابهم خائبين.
- يا أبتِ نحن طوع أمرك، فانظر ماذا ترى!
- اذهب وجهز جيشًا، قوامه عشرة آلاف جندي.
- ألا ترى أن نزيدهم يا أبتِ؟
- حسنًا، إن شئت فجهّز خمسة آلاف فقط.
- كيف يا أبتِ؟
- سنهزمهم دون قطرة دم واحدة بإذن الله، والآن افعل ما أمرتك به، وأخبر كُجك وشيركوه بصحبتي في الخروج.
- وأنا يا أبتِ؟
- أرى أنّ حرصك على العلم، قد يُقعدك عن الخروج.
- الأمر ليس هكذا يا أبتِ، فنحن نحصل العلم لنعمل به، وهذا هو عينُ المقصود.
تبسم الأتابك من قول ولده، وقال:
- تجهّز إذن.

*******

غيّمت سحب النفير في سماء حلب وأرضها، وطفق النقّابون في حفر الخنادق حول المدينة، لمنع تقدم المجانيق، أخذ كلٌّ من الجند أماكنه في الأبراج الخارجية، وعلى الساقطات في الأسوار، شرع سوار في شحذ الهمم واستنفار الرجال، تمّ لهم ما تيسر من أسباب الدفاع، ولجأوا مع كل اجتماع للجفون وافتراقها، يدعون ربهم.
تقدمت جحافل التحالف البيزنطي الفرنجي، طوّقت حلب من كل ناحية وجانب، لم تبرح المجانيق في ضرب الخط الدفاعي الأول للمدينة، من حوائط وأبراج خارجية، حتى تصدعت، وظل الصمود حليفًا للمسلمين.
في معسكر التحالف، على أعلى النِّقاط ترفرف أعلام بيزنطة، وتقصرها في العلو أعلام فرنجة الرَّها وأنطاكية، يوحنا امبراطور بيزنطة يسير بلأمته الذهبية على رأسه، يشجع الجند، ورجال الكنيسة الشرقية والغربية، يغرسون في نفوس مقاتليهم، أنّ قتل أعداء الرب ليس خطيئة، بل هو الطريق للجنّة.
على أطراف الجيش، يقف أحد القساوسة بين جند الفرنجة خطيبًا، إلى أن جاء قوله:
- باسم الصليب تقدموا، فالربّ قد وعد كل مَن يخسر الحياة الحالية من أجل المسيح، سوف يربح حياة أخرى لن يخسرها أبدًا، لأنّ هذه ليست معركة في سبيل مملكة أرضية، ولكنها في سبيل الرب الخالد، قاتلـ...
فختم حياته بتلك الكلمات إثر سهم أصابه في قفاه، فزع الجند من حوله، واضطربوا وهاجوا وماجوا، تفرّق شملهم حتى أصبحوا بمرامي الفريسة، أمام سهام الرماة، الذين أتوا من خلفهم فوق التلال والجبال، تعالت صيحات رماة:
- الله أكبر.
اضطربت الأطراف، تقدم بعض فرسان التحالف، ليطوقوا جبل الرماة، ولكن تقهقروا بالنّبل، وصاروا يُتخطفون كما يُتخطف الطير، فتباعدوا حتى أحدثوا فرجة في حصارهم للمدينة؛ متفادين الرُّماة، الذين يُثار النقع خلفهم من أسفل الجبل، وصل صدى الاضطرابات إلى الامبراطور، فانزعج لذلك، زاد انزعاجه مع توافد الأنباء، بتزايد عدد القتلى بصورة مستمرة، مع دخول الليل، كأنّ القمر يصنع مدّه وجزره، بدماء جنود التحالف.
انشغل معسكر التحالف بالاضطرابات، وسكن هجومه على المدينة، بلغ ذلك سوار فابتسم وقال:
- لقد جاء الأتابك إذن.
قام سوار بتعبئة جيشه بالداخل، وامتدّت القناطر على الخنادق، وفُتحت أبواب البلدة، حتى حملت الريح خبر ذلك إلى يوحنا، بالتزامن مع وصول فرس بسرج فرنجي، مُعلّقة رسالة على صدر فارسه، الغارق في دمه، تناولها يوحنا في اشمئزاز، من إصابة بعض الدم ليده، فتح الرسالة، وبدأت عيناه تتناول أسطرها بالتناوب:
ما خَتَر قوم بالعهد إلا وسُلّط عليهم عدوهم،
وها أنا أكرر عليكم ما سبق وعرضته عليكم،
اخرجوا إلى الصحراء حتى نلتقي، فإن ظفرتم
أخذتم حلب وغيرها، وإن ظفرتُ بكم أرحت
المسلمين من شرّكم، ولا تنتظر مني توقيعًا،
فإني أصون اسمي من أن يكون مكتوبًا
على رسالة تحملها أيديكم النّجسة.
قبض يوحنا على الرسالة في غيظ، تطلع قادته لما سيقوله، فتركهم، ودخل خيمته، وتبعه ولده مانويل، التفت يوحنا إليه، وقال:
- زنكي يدعونا إلى الصحراء لنلتقي.
- ليكن إذن يا أبي.
- أتظن أنه بجمعه هذا وحده؟ زنكي ليس بالغباء الذي تظنّ، لكن ما يشغلني، كيف علم بهذه السرعة؟
- أظنه ريمون كونت أنطاكية، حتى لا يتسنى لنا فتح تلك البلاد، واسترداد أنطاكية منه، ألم ترَه في خيمته غارقًا في لهوه، بينما نحن نستميت لخنق الحصار على حلب؟
- هو كما قلت، لا أحد غيره سيستفيد من ذلك.
بينما هما كذلك، دخل عليهما رجل شديد السمرة، أسود الشعر، عريض الوجه، كثير الندوب، جاحظ العينين، بارز الأنف. دخل عليهما وهو محتدٌّ في نبرته:
- لن أحارب، وبيننا هذا الخائن!
- ماذا تقصد يا جوسلين؟
أخرج جوسلين كونت الرّها رسالة من جيبه، وأعطاها لمانويل فقرأها، ثم قال:
- كما قلت لك يا أبي، ريمون يبعث أخبارنا إلى زنكي.
قام يوحنا منتفضًا من مجلسه، ثم قال:
- أعلِم الجميع بفك الحصار، وعودتنا إلى أنطاكية، يا مانويل.
- لكن يا أبي...
- افعلْ ما أمرتك به.
خرج مانويل لتنفيذ الأمر، وفي نفسه تحفظٌ على ما يصفه في نفسه من سوء سياسة أبيه، خرج جوسلين إلى خيمته، انضم إليه هيجو رئيس أساقفة الرّها، قائلًا:
- أجادت علينا الرسالة بثمارها؟
- نعم، وصدّق مانويل ذلك الظنّ في ريمون، ولم يطعن في نسبة الرسالة إليه، من الواضح أنّ الوُشاة كُثر، وقد سبقني بها أحدهم.
- الخيانة التي تنجح، لا يجرؤ أحد على تسميتها خيانة، فكن مطمئنّ البال، لن يكشف أحد خطتك.
- أنا لست قلقًا، لا أحد يعرف ذلك غيرك، وإن علم أحدٌ فلن يعلم سبب موتك غيري، كن مطمئنًا!
كلمات جوسلين الأخيرة، جعلت هيجو يبتلع ريقه بصعوبة.

*******

- ارجع الآن إلى الأمير سوار، وأبلغه سلامي، وأخبره بضرورة ملاحقة فلول التحالف هذا.
بهاتِه الكلمات ودّع الأتابك زيدًا، فقفل عائدًا في طريقه إلى الموصل، وفي الطريق انفرد نور الدين بوالده، فقال:
- لمَ العجلة في العودة يا أبتِ؟
- تلقيت رسالة من زوجتي زمرد خاتون، تخبرني فيها بقتل ولدها غيلة، وتطلب مني التدخل لضمّ دمشق، والأخذ بثأره.
- شهاب الدين محمود، صاحب دمشق؟
- نعم.
- أظنها الفرصة المناسبة.
- هي إن شاء الله.
واصل الأتابك طريقه إلى الموصل، تفكيره في أمر دمشق لا يعتريه شاغل، دعا قادته للاجتماع في دار المملكة، من غد وصوله الموصل، على ضوء النهار توافد إليها القادة، متراصين في صفّيْن، في انتظار الأتابك، الذي دخل من بينهما، إلى أن وقف على رأس خريطة كبيرة على المنضدة، عن يمين المنضدة جقر، وكُجك، والياغسياني، وأبو بكر الدبيسي، وعن يسارها نور الدين، وشيركوه، ونجم الدين، والوزير الكفرتوثي، توجهوا بأنظارهم نحو الأتابك، يتطلعون لما سيقوله، وعمّا سيفصح، فقال:
- ماذا تروْن من أمر دمشق، وحكامها؟
ردّ جقر، قائلًا:
- ما نراه هو ما أقدمت عليه سابقًا، أيها الأتابك، وإن كنا لم نُفلح فيما مضى، فلعل الله يحدث بعد ذلك أمرًا.
ابتسم الأتابك، وقال:
- أردت فقط أن أتأكد، من أن عُقد عزمكم على ضمّها لم تُحلّ، جهّزوا المسير إليها، سننطلق في الغد إن شاء الله.
قال نجم الدين:
- لكن سيدي، إن لم تمانع، فلديّ ما أقوله!
- قلْ يا نجم الدين.
أشار نجم الدين إلى موضع في الخريطة، فنظر الأتابك حيث أشار، وقال:
- بعلبك؟!
- نعم، هي لمعين الدين أنر، ولا شك أنّ قادتها، إن لم يكن أهلها كذلك، مخلصون له، هذا إن لم نضع في حسباننا أيضًا، الفرنجة المتوافدين هناك، وهذا يجعلنا...
- يجعلنا بين شقي الرّحى.
- أجل يا سيدي.
رأى الأتابك في نفسه ميلًا لرأي نجم الدين، لِما يعلمه من حنكته، تفرّس وجوه قادته فأومأ الجميع برؤوسهم، فلمّا رأى منهم العزم قال:
- إذن.. إلى بعلبك أولًا.
توجّه عماد الدين تلقاء بعلبك، بلدة قديمة ذات أسوار، كثيرة الخير، لِما فيها من أشجار وأنهار وأعين، بساتينها متصلة إلى دمشق، في ثمانية عشر ميلًا، قلعتها حصينة، قامت على أرباض المعبد الكبير، الذي يرثي الامبراطورية الرومانية. فور وصول الأتابك بجيشه، قال:
- طوّقوا المدينة من كل جانب.
نُصب حولها أربعة عشر منجنيقًا، امتد الحصار لشهرين، لم تسلم أحياء المدينة فيهما، مما تناثر من تحطم قذائف المجانيق، بدأت المفاوضات، واستمرت حتى خلا نجم الدين بالأتابك:
- سيدي، أرى أن نمنحهم الأمان، فأنت ترى كم هي مستعصية! فكيف ستكون دمشق إذن؟
- لذلك كل يوم يمر عليّ، أخشى أن تخرّ عزائم الجند.
- أفهم من ذلك أن نقبل منحهم الأمان.
- أخبرهم بذلك.
- حسنًا يا سيدي.
وصل الرد بالموافقة إلى حامية بعلبك، لم يطمئنوا لذلك، وساورهم القلق، وأخذ منهم كل مأخذًا، فاهتدوا كي يخففوا قلقهم، بأن يقُسم الأتابك بالقرآن، على أن يلتزم بما يخصّه من الاتفاق.
وصل مطلبهم للأتابك، فغضِب وكاد يحنث، طلب منه نجم الدين باستعطاف، أن يلبي طلبهم، فخرج الأتابك على جنده يقسم بالقرآن، سمعه أهل بعلبك وحاميتها، ومع ذلك لم يخنس قلقهم لحظة! ترك نجم الدين الأتابكَ، واتجه نحو بعض الجند، ليصلي معهم صلاة الظهر، لبّى البعض دعوته، ولم يتحرك الآخرون متعللين بأوامر الأتابك، ألّا يصلّوا إلا في بعلبك! أوجس أيوب في نفسه خيفة، وظل يُطمئِن نفسه، بأن الأتابك لن يحنث، اصطفّ هو ومَن معه للصلاة. فُتحت أبواب المدينة، ودخلها الجند، غير باد عليهم أنهم يحملون الأمان، على أسنة الرماح، ولا على ذُباب سيوفهم! انتهى نجم الدين من الصلاة، ووثب مسرعًا على فرسه، لِما رآه وأثار القلق في نفسه، كرٌّ وفرٌّ، واضطرابات، تلوح له من بعيد، وقال في نفسه:
- اخسأ أيها الشيطان، لن ينكث الأتابك وعده!
مسرعًا دخل نجم الدين المدينة، فرأى ما أذهله، سقط السيف من يده، شلل مؤقت أصابه، الزمن مرّ ببطء شديد حتى توقف، وأصاب قلب أيوب الوهن، وخرّ متسائلًا:
- أتلك الدماء دماء إخوتي؟!
دماء أريقت تحت عهدٍ زائف بالأمان، زيّف حقيقته أحد الطرفين، صيحات القاتلين والمقتولين لا تتوقف، مدخل المدينة اختفت ملامحه، تحت الأشلاء المتناثرة، والسيوف المتكسرة. السهام تطيش لا تفرّق بين الضحايا.
- خيانة، خيانة!...
تطرّقت إلى سمع نجم الدين الذاهل، هاته الكلمة بصوت مُتحشرج، يكابد صاحبه خروج الرّوح، أخذ نجم الدين يتلفت يمنة ويسرة؛ علّه يرى الأتابك فلم يره، لمح شيركوه يقتنص بسيفه أعيانًا ولا يطيش به، استعاد نجم الدين سلاحه، ووثب على الجواد مسرعًا صوب شيركوه؛ علّه يجد لِعلّته شفاءً.
- شيركوه، ماذا يجري؟
- خانوا العهدَ، أمر الأتابك بمعاقبة الجميع.
- ماذا تقول؟! كيف الجميع؟ أتزر وازرة وزر أخرى؟
- ابحث عنه يا أيوب، علّ لديه تأويلًا.
- ليشهد الله أني بريء من ذلك.
اخترق نجم الدين الصفوف، باحثًا متفحصًا الوجوه، حتى رأى الأتابك وفي يده رجلٌ، يعكس بريق السيف جزعه، فارتمز ناحية الأتابك، عن يمين نجم الدين مرق سهمٌ، ليصنع نقطة التقاء لمساريهما، تعثر الفرس، ووقع نجم الدين عنه، وأخطأ السهم مرماه، قام منفضًا عن نفسه ما علق به، وقد تلوث بالدماء، جرى إلى الأتابك.
- سيدي.. سيدي، لا تزر وازرة وزر أخرى.
التفت إليه الأتابك في غضبة:
- الكلُّ خان العهد يا أيوب، ماذا دهاك؟
- سيدي.. غالب أهل بعلبك، وغير واحد من قادتها، عُزّل عن السلاح، الدماء تراق بغير وجه حق، وفرّ الفاعل بفعلته، كادت تصيبني سهامٌ من هذه الناحية.
نظر الأتابك حيث أشار نجم الدين، فأمر الجند باقتحام ذلك الحصن الأمامي، أُتي بمن فيه على الملأ، هدأ الاشتباك فأمر بكفّ أيدي الجند، وبتجريد جند بعلبك، مَن كان منهم بالحصن، الموسومين بخيانة العهد، أمر بإعدامهم على رؤوس الأشهاد من المدينة، الذين تهامسوا فيما بينهم، بويل قد حلّ عليهم بحلول الأتابك، الذي صوره ما حدث في صورة الغادر!
وقف الأتابك بين قادته وقال لهم:
- لا بدّ للجيش من راحة قبل إكمال المسير، ولا بدّ للمدينة من إعادة إعمار.

*******

في مملكة بيت المقدس، أرض الميعاد المقدسة التي أحبها الربّ، وكرّمتها الملائكة، وإليها يرنو كلُّ العالم، أرض تعجّ بالحُجّاج، اختارها الربّ، وفضّلها، وزيّنها، بأن جعل فيها خلاصَ الجنس البشري من الآثام، عن طريق تقديم القربان المقدس، مملكة نالت نصيبها من الأرض، مجموعة تلال محصورة بين الأسوار، تقع بوابتها إلى الشرق من معبد الرب، يحيطها وادي قِدرون شرقًا ووادي جهنّم غربًا، يتقارب الواديان جنوبًا عند عين سلوان. في برج داود قلعة المدينة، برج دائري عالٍ، مبني من حجارة ضخمة، كأنه قطعة حجرية من قاعدته لأعلاه، به الكثير من المياه، وله خمس بوابات حديدية، به سلم له مئتا درجة يؤدي إلى أعلاه. كان الأتابك عماد الدين زنكي، محور حديث فولك ملك المملكة، مع قائده رينيه دي بروس، في حجرة تغدق عليها المشاعل بالأنوار، المنسوجات الفاخرة، ورسوم ذوات الأرواح، تزين جدرانها، يجلس فولك على كرسي العرش، المصنوع من الخشب المحفور، على هيئة العقود البارزة، على رأسه تاجٌ، مرصّع بالجواهر والأحجار الكريمة، ظل ناظرًا إلى كأس يقلّبه بيده، ثم حوّل نظره إلى رينيه وقال:
- وماذا بعد يا رينيه؟
- تبادلت الرّسل بين زنكي وبعلبك، حتى توصلوا إلى اتفاق، تعهد فيه زنكي بمنحهم الأمان، ولأني خادمكم المخلص، لم أجعل الاتفاق يتم كما أرادوا.
مال فولك برأسه للأمام، عقد حاجبيه، وضاقت عيناه هو ينظر لقائده، وقال:
- ماذا فعلت؟
- كان يجب أن نتدخل، فأرسلت من جنودنا رجالًا، أشبه الجند بالعرب، قدّموا أرواحهم لخدمة قضيتنا المقدسة، وتخفوْا بينهم ومرقتُ السّهام، ففسد الاتفاق.
قام فولك من مكانه، علت ضحكاته الممزوجة بنشوة الانتصار، أخذ يمشي يمنة ويسرة، كفكف ما استشرى من ضحكه ثم قال:
- أقُتل زنكي؟
- ليس بعدُ يا سيدي.
- ما حدث أفضل لنا من قتله، فمن الآن لن يأمن لزنكي أحد، وإن أقسم لهم، والفارّون من بعلبك، سيقومون بنشر غدر زنكي، في كل ربوع المسلمين.
- لن نترك بيتًا إلا وسيعلم ما حدث، وسيقوم مخلصونا بذلك.
- أريدك أن ترسل رسالة لأنر في دمشق، تخبره فيها بأنه ساءنا ما حدث في بعلبك، وأننا بجانبه إذا أراد مساعدة.
- بالطبع، سيقدّر ذلك منك.
- صاحب دمشق لن يصمد طويلًا، كثُر معارضوه، وسيحتاج مساعدة زنكي لإخمادهم، لكن عندما يتأكد أنر من وقوفنا بجانبه، سيقف لصاحب دمشق، ولن يسمح بتدخل زنكي، وعندها سأثأر.
- فليحفظك الرب، أيها الملك.
- كن مستعدًا يا رينيه، سنرد صاع زنكي بصاعين، خسرنا حصن بعرين في السابق، والآن سنصدّه عن دمشق ونربح بانياس.
- كيف؟ أسنعلن الحرب على زنكي؟
- لا، سيهدينا أنْر إياها ردًّا لمعروفنا، بردّ زنكي عن دمشق، ليكن عندك إحاطة، أن بقاءَنا هنا قائم على إقامة علاقات ودية مع مَن هم مثل أنْر، ومثل أنر لن يتأتّوا إلا إذا أنهكتَهم بأمور داخلية، تجعل غاية الجهاد عندهم بمنأى، يبعد عن تفكيرهم ما أردت أن يستقرَ مقامُنا هنا.
- حفظك الرب مولاي الملك، إذن أمتأكد من أنّ زنكي سينسحب؟
- زنكي ليس متهورًا ولا أحمقَ، ليجازف بقواته ضد خصمين في وقت واحد.
- قد فعلها مع ثلاثة خصوم من قبل، يا سيدي.
- أتقصد تحالف يوحنا؟
- أجل.
- يوحنا انسحب لعدم درايته بأرض الشام، فخاف عواقب قراره، وزنكي كان على علم بهذا كله، لذا طلب المواجهة وهو يعلم استحالتها، لكننا أدرى بذلك، ولنا في كل بقعة من بقاع الشام مَن نتكأ عليه، لا تخف.
- وماذا بعد امتلاكنا بانياس؟
- سأُقطِعك إياها، وستتواصل مع حلفائنا الإسماعيليين هناك، هم أجدر مَن يخدموننا، في إيقاف زحف المسلمين نحونا.
- أمرك مولاي الملك.

*******

عاد نجم الدين إلى الموصل، بعدما استتب للأتابك الأمر في بعلبك، وحيث أُقطع له في الموصل وصلَ، دخل على أهله محاولًا إضمار ما يسوءُه، ضمّ إليه ولده تورانشاه، ثم توجه إلى غرفته، طلبًا للراحة من عناء الطريق، على السرير رأى طفله الصغير، اقترب منه يداعبه ويقبّل يديه، ظلت زوجته تراقبه من بعيد عند باب الغرفة، وابتسامتها لا تفارق وجهها، حتى اقتربت منه، فرأت نجم الدين يبكي، في لهفة أمسكت يديه، وقالت:
- ماذا بك يا أيوب؟
كفكف دموعه، نظر إليها وقبّل يديها، ثم قال:
- ما بي تُذهبه نظرةٌ منكِ.
- اشتقتَ إلى يوسف؟
- بالطبع، وإلى أمّه.
نظر إلى طفله، وقال:
- أخشى أن أنشغل عنهم.
بدورها نظرت للطفل، وربّتت على كتف نجم الدين، وقالت:
- سيكبرون في كنفك وربوبيتك، إن شاء الله، لا تقلق.
- أين شاهنشاه؟ ما لي لا أراه!
- خرج للصيد.
أثناء عودة شاهنشاه من الصيد، بجزع هرولت نحوه جارية، في العقد الثاني من عمرها، قد شغفها حبًّا، لمّا رأته عند نهر الحرّ بداخل المدينة، يمسح آثارًا للدماء على وجهه.
- ما هذه الدماء التي على وجهك يا شاهنشاه؟!
بجفاء قال:
- لا تقلقي، حادث بسيط.
- كيف لا أقلق، والدماء تغطي وجهك؟!
- قلت لك لا تقلقي، فأنا فارس، ولا ينبغي للفارس أن يُقلق عليه.
- إلا فارسًا، فُتح له قلبي دون قطرة دم واحدة.
تابعت بأسى:
- مخلفًا وراءه نزيفًا جرّاء هجرانه!
كاد يخرّ قلبه ويتحرر لسانه، ولكن حادت عيناه متحدثة بكل ما يرضيها منه، تبقى العيون هي الجندي المتمرد في مملكة القلب، ثم تركها وابتعد عنها فرارًا من نار حبه، ولو علم حقيقتها، لاستمتع ببردها وسلامتها عليه! توقّف، ثم التفت برأسه لينظر إليها، فلم يرَ إلا سوادًا يجري باكيًا، فتمردت عليه أعضاؤه، فهرول نحوها.
- آسية.. آسية، انتظري.
توقفت، وكفكفت دموعها، بدأ الابتسام يكشف عن جمال وجنتيها، ظل واقفًا خلفها، لا يرى الحياء لائقًا، على من هو مثله فيما ينوي، وهي توليه ظهرها، تنتظر منه كلمة، أو حتى كُليمة تستدعي أعضاءها فتجيبه بالالتفات، حتى سَئمت من الانتظار، فالتفتت فلم تره!
عاد شاهنشاه إلى البيت، وما حدّثه به قلبه من أمر آسية، لا زال عالقًا بخاطره، ولم يُفق من سطوة خواطره، إلا وتورانشاه يخبره بقدوم والده. أيام قلائل مرت، قضاها نجم الدين في أسر حزنه، على ما حدث من فتنة بين الجند، وما لبث حتى استدعاه الأتابك هو وأهله، ليعيّنه واليًا على بعلبك. وقْعُ الأمر على الجميع فاح منه مِسك السعادة، إلا شاهنشاه حمل الخبرُ له نذيرًا، فإن رحل جسده فلن يلحق به قلبه، فتوجه لأبيه مُسرعًا، لمّا وصله نبأ التأهّب للرحيل إلى بعلبك، ليتحرر من مظنة الإثم، في التفكير في امرأة لا تحلّ له، إلى حِلّ التنفيذ، رآه نجم الدين مقبلًا عليه.
- ما الخطب يا ولدي؟!
لحظات لالتقاط الأنفاس.
- أبتِ.. أبتِ..
- ماذا بك؟
- خيرًا يا أبتِ لا تفزع، لكني...
- ماذا بك؟
- أبتِ...
نظر نجم الدين إلى ابنه، مستغربًا لحالٍ لم يعهد ابنه عليها، من قبل.
- دعنا نتحدث في الطريق، سنرحل بعد قليل.
- لا...
- ماذا؟ أأنت بخير؟
- نعم يا أبتِ بخير، لكن...
- لكن مجددًا!
فطن نجم الدين، لِما بدا من ابنه من الحياء والخجل، فضحك.
- ألهذه الدرجة، أصاب الأمر لسانك بالعقدة؟
همّ نجم الدين متظاهرًا بالمغادرة، ملاعبًا لنفس ابنه ولهفته.
- انتظر يا أبتِ.
- بنيّ، عيناك متمردةٌ على ما يُسِرُّ به قلبك، فلنسلك المسلك الصحيح إذن.
بتلعثم، قال شاهنشاه:
- ماذا تقصد يا أبتِ؟
- أقصد أنّ بوحك بحبك، لا يضرُّ كونك فارسًا، مقدامًا شجاعًا، سيد الشجعان صلى الله عليه وسلم، باح بما في قلبه دون خجل.
- إذن أنت تعلم؟
- نعم.
- وما العمل الآن؟
- سنهتدي بهدي النبيّ صلى الله عليه وسلم.
- هل سـ...؟
- نعم، جهّز حالك لنذهب إلى أهلها.
لم تسعه الدنيا، التي وسعت قصص العشاق من قبله، وستسع من بعده، ذهب نجم الدين بصفته الجديدة، إلى أهل آسية، أفصح عن نيّة الرغبة في زواج ولده ابنتهم، في عجلة من الأمر تم العقد، وصحب أهل آسية آل أيوب. سعادة حلّت ضيفة في حياة نجم الدين، رحل آل أيوب وأصهارُهم إلى بعلبك، كان شيركوه في انتظارهم، تعانق الجميعُ، وتسلم نجم الدين ولاية بعلبك، من الأتابك الذي بدأ استعداداته، لمواصلة الزحف نحو دمشق، دخل عليه نجم الدين، ورأى في يده أوراقًا كثيرةً، كبيرة الحجم وصغيرة، لا يبخسها حقها من القراءة الوافية.
- السلام عليكم.
- وعليكم السلام، تفضل يا أيوب.
- أراك منشغلًا، يا سيدي.
- تعال، أريدك!
اقترب منه نجم الدين، ودنا أكثر، فقال الأتابك:
- أيوب، أعلم أنك كفءٌ لهذه الأمانة.
- جزى الله الأتابك عنّا خيرًا، وجعلني عند حسن ظنّك دومًا.
- سأكمل الزحف نحو دمشق، كن مستعدًا إذا ما حدث شيء.
- إن شاء الله يا سيدي.
- أعلم أنك قادر على أخذ التدابير اللازمة، لكن لعلني آتيك محمولًا هذه المرة.
- حفظ الله الأتابك.
- لقد جعلتك ظهري، فأنت كنت خير ظهر لي، عندما كنتُ بلا ظهر.
- اسمح لي سيدي، فقيمة المرء منا بما يصنعه، ثبتني الله وإياك على الحق.
- آمين، يمكنك الانصراف، سأجهّز حالي للمغادرة فجرًا.
- فتح الله على يديك، سيدي.
قام الأتابك من مجلسه، فتعانقا، غادر نجم الدين الحجرة، متوجهًا إلى حجرته الجديدة في القلعة، قابل في طريقه أخاه شيركوه، الذي اقترب منه، وقال:
- جئت أودعك، سأرافق الأتابك إن شاء الله.
- شيركوه، أأنت جاد؟
- يا أخي، إني خُلقت للحرب، ولا ينبغي لي تركُ الأتابك في طريقه.
- أما تعلم تعلق شاهنشاه بك؟!
- يا رجل، دعه يفرح بعُرسه في سكون، ولا تخبره.
دمعت عين نجم الدين لفُرقة أخيه عنه، تعانقا عناقا طويلًا، أبت دموعهما إلا أن تشاركهما تلك اللحظة الأليمة. ودّع نجم الدين أخاه، ثم دخل على زوجته، أسرّته بخبر، فتهللت أسارير وجه، فقالت:
- فليبارك الله في نسلنا.
- آمين يا عزيزتي، فليتمّ الله عليك حملك بخير.
اجتمعت العائلة، وعمّت السعادة لزفاف شاهنشاه، وخبر المولود القادم من نسل أيوب، بعلبك بتولية نجم الدين عليها، أصبحت تتغنى بالعدل والأمن، والأيام تتوالى، وأيوب يترقب الأخبار أولًا بأول، عن تحركات الأتابك، حتى انقطعت...
0 تصويتات

اترك تعليق

التعليقات

اكتب وانشر كتبك ورواياتك الأصلية الأن ، من هنا.