Horof

شارك على مواقع التواصل

فراسة

الأيام القادمات خيرُ دليلٍ على ما أقولُ؛ هكذا اختتمَ حديثَه الأبُ المريض بعدما كان يعظُ أبناءَه وانفضَّ الجميع باستثناء الصغيرة التي قالت لأبيها : ما تركت للأيامِ؟ وما ستعلّمنا؟ وقد شرحت وأفضْتَ حول تقلُّباتها؟
ردّ بوهنٍ: يا ابنتي ما هذا إلا غيضٌ من فيضٍ.
وارتعدَ الأبُ المسجّى وتصبَّبَ العرقُ الباردُ من شعرِهِ الأبيضِ كالثلج، وتخدّرتْ قدماهُ فرجلاهُ فجذعُه حتى وصلَ الخدرُ إلى رأسِهِ وهناك لفظَ روحه.
بين نواحِ النائحين وعويلِ الثكالى تلبّدتِ المشاكلُ في سماءِ العائلةِ حول الميراثِ، كلٌّ يريد أخذَ الحصةِ الأكبرِ بزعم استثمارِها.
تجفُّ تربة الفقيدِ وتزدادُ سخونةُ الخلافاتِ حتى وصلت حدَّ تراشقِ التُّهمِ بالسرقةِ والاحتيالِ.
تبدّدت أواصرُ الودِّ وتقطّعت حبالُ الرحمِ وأضحى كلُّ أخٍ عُرضةً لدسائسِ أخيه ومؤامرته، من فوق السماواتِ العلا تاقت روحُ الميتِ لتنهرَ الأبناءِ عن ضلالِهم وتعيدُ إشراقَ النور في رؤوسِهم فهم ليسوا كذلك البتّة سوى أنَّ المالَ يغيّر النفوسَ والطبائعَ وحلّتِ القطيعةُ.
في الاجتماعِ الأخيرِ لهم عقدوا العزمَ على بيعِ كلّ ما تركَ لهم وتقاسُم الحصصِ على حدِّ سواء بما في ذلك بيتِ العائلة - الذي ضمّهم يوم ما كانوا صغاراً يرتعون - وهاتيك الأمُّ سلب القهر فؤداها، ما تفعلُ وروحَها تشتاقُ بعلَها؟ وفلذاتُ كبدِها يكادون يفتكون ببعضِهم كرمى لعيونِ النقودِ وبُهرجِها.
وعادتِ الأصواتُ لتعلو والأيادي إلى الاشتباك والصغيرة ترقبُ إخوتَها بحسرةٍ مريرةٍ، ومن فيضِ الجنونِ الحاصلِ أتتْها ضربة على رأسِها أدنَتها من أبيها، على مشارفِ الموت تنهّدتِ الصغيرةُ: الأولى بكم أن تتدارسوا نصائح أبينا عوضاً عن الاقتتالِ على درنِ الدُّنى.


طواف السنين

وتمرّ الأيامُ ويتوالى تلفي
هي السنينُ تتراقصُ في باحات أعمارِنا دون أن تكلَّ أو تُنهَكَ، وكلما ازداد رقصُها إجلالاً تناقصت لحظاتُنا في هذه الحياةِ متجاهلةً كلَّ الأفراحِ التي عشناها وكافة زهورِ الأيامِ التي تنعّمَت بها ذواتُنا وكذلك فسحاتُ الهناءِ التي تزيَّنت بها نواصينا.
الغريبُ في الأمر أنَّ رقصَ السنواتِ يظهر على أجسادنا فيحلُّ البياضُ في رؤوسنا ويزيحُ النحولَ قوانا وتتَّضِحُ معالمُ أقدامِ السنين على أرضيات قلوبنا وتلك العصافيرُ التي كانت تشدو لنا أضحت غربانا سود تنعق إيذاناً بقرب الرحيل، يالَسطوة الزمن، ما أشدها؟
أفي الموت كذلك هو الحالُ؟
ترقصُ السنينُ ونمسي في النهايةِ أغرابٌ فوق غربتِنا وتائهون دون تيهنا وضائعون حول ضياعِنا وملتاعون في جوف لوعاتِنا.
يا أيُّها العدّاءُ السريعُ
يا أيُّها السارقُ - سارقُ الفرحات.
يا أيُّها الزمنُ
- مهلكَ، مهلكَ فلي في الآفاق مسرّاتٌ ما أحلاها وليالٍ ما أزهاها وأمنياتٌ ما أبهاها وستتحقَّقُ ذات يومٍ، وكذا أفقدُ روحي بين عشية وضحاها.


خريف السماء

لعلّك نسيتَ أيُّها الغروبُ حين غروبِكَ أنَّ هناك آلافاً من الأحلامِ ستشرق لا محالة، وأيضاً زفراتٌ حرّةٌ مُرّةٌ ستلفظُها الصدورُ ودمعاتٌ لا حصرَ لها.
يا أيُّها الغروبُ، يا طعمَ الرحيلِ، يا حسراتِ الأيام القادمةِ ها قد ازدانَتِ السماء بألوانِكَ، واكتستِ الآفاقُ بحمرتِكَ، والخريفُ يتنَّزلُ كلَّ عام بملامحِكَ، ويكأن حمرتَكَ القانية هي ذاتها دماءنا - المترعة بالألم - التي تنبضُ بالوتينِ.
يا أيُّها الغروبُ لعلك نسيتَ أنَّ من بعدِك ليلٌ جميلٌ تتألّق به النجماتُ وتطيب فيه المقامات وتحلو به النغمات وتنجلي في سحرِه الكُرباتُ وتُغنّي فيه البسماتُ وترقصُ على ضفافِه المسراتُ فأهلاً بك أيُّها الخريفُ - خريف السماءِ.



مكر واهن

وفتاة أشرقت فيها الأنوثة على حين وقت وما نعمت بأنوثتها حتى انفتح باب نصيبها أمام كهل أرعن، كللها بالذهب، أزاغ بريق نقوده بصيرة أهلها، باعوها إليه فسطرت على جدار الفؤاد بمداد الوجع:
هذه القيود أنهكت منّي الفؤاد وما تركت لي سوى آهات متراكمة بعضها فوق بعض لكن والذي نفسي بيده لأحطمنّ هذه الأغلال ولأنتصرنّ عليها أيُّما انتصار وما لي سبيلٌ إلا أن استلّ حسام الألوان لأستقي منه قوّة ما عرفتها القوى.
ها أنا ذا أحقق الانتصار تلو الانتصار وأجني الفرح إثر الفرح وتزهو لي الزهور ويفيض منّي السرور ويستحيل الحديد الصدئ ذهبا برّاقا يخطف الأبصار وتزدان به قطع جسدي المتجاورة.
وا انكساري وبؤسي لا زلت مقيدة ولا استطيع الحركة، تبا لقيود من ذهب.



غبار النجاح

روائح الرُّبى المنبعثةِ من ثغره دلّت على انفتاحِ فكره، يختالُ بين الناسِ، تزدهي أفكاره ورؤاه، وصل التفوّقُ لابنته في دراستِها فحرمَها الاستمرارُ به.
****************
بين النسوةِ لها المكانةُ، تعيّر الأولى وتتندَّرُ بالثانية، هي المثقّفةُ، الواعيةُ، ذاتُ الفكرِ الرشيدِ - هكذا تحسبُ نفسها.
فلذة كبدها نالتِ العُلا في التحصيل العلمي. هتفت بجوفِها: رائع ستنالُ مهراً أكبر.
*****************
فراشةٌ تتألَّقُ صبا، ينضح من وجهها العبير-وللشباب وثبات-مرارة الأيام لوّنت فرحها، مزّقتها الازدواجية في سكنات أبويها، فرّت من بؤس الواقع إلى زيفِ النجاحِ مشتهيةَ الجنون.
0 تصويتات

اترك تعليق

التعليقات

اكتب وانشر كتبك ورواياتك الأصلية الأن ، من هنا.