Yomna

شارك على مواقع التواصل

الخامس والعشرين من تموز ، أَتَنقلْ بين الحُقُول اتَّكِئ على غصن شجرة ، الطبيعة تُلْهِمُنِي مُنْذ كُنْتُ فتى في العاشرة ، وأَسْتَنِدُ عليها في فِهْمِي للأمور مع أن أبي كان نجاراً ، يسكُن ببلدة رامان ، تركته في دكانه مع شقيقايا ورُحْتُ أتفكر في أسرارها ، تَشْغَلُنِي كثيراً البذور التي تُدْفَنْ في الأرض ثم تَنْبُتُ منها الحياة كلها ، الثمار التي تُأْكَل ، الأشجار التي تقوم عليها مهنة أبي ، حتى الأوراق التي يتغذى عليها الدود ، أي أن الحياة تنبت من البذور التي تُدْفن ، فابحث عن بذرة جيدة تدفنها بداخلك ، ولكن ماذا إن كُنْتَ أرضًا جدباء لا تُنْبِتْ ولا تُثْمِرْ، ماذا إن كانت السماء لا تُسْقِينَا ماءً نُنْبِتْ به.
خُلِقْتُ مُزارعاً أَحْبَبْتُ اخضرار الأرض ، الثِمار التي تَنْبِتُ بل انتظرها وأُرَاقِبُها ، كُنْتُ على علم بمواقيت الزراعة وفُنُونِها .
***
كان اتفاقاً معقوداً بين أبي وأخاه على زواجي من ابنته عامرة ، كان اتفاقاً موفقاً بالنسبة إلي فأنا تُيمْتُ بها ، شَعُرْتُ أنَّهَا خُلِقَتْ لي ، الحياة تُهْدِينِي إياهَا ، ولكن ماذا إن كانت الهدية تأبى أن تَصِلَ ، أخبرتني بِبُؤسِهَا الشديد من هذا الاتفاق وأن عَليَّ أنْ أرحل
كان قراراً مُحَطِمًا بالنسبة إلي ، وعَلِمْتُ أن ابتسامَاتِها لي ما كانت إلا لأنني أبتسم لها ، حيث يوجد فرق شاسع من تَبَسُمِ وجه أحدهم حين الْتَقَاق وبين أنْ يَتَبَسَمَ لك ، افْتِعَالُ الأمور لا يدل على صدق النية ، ولو أنَّها تَرَكَتْ وجهها عابسًا ما كُنْتُ بعثتُ إليها رسالتي
( إلى عامرة ، تَسَائلْتُ بعد قرائتي رسالتك، كيف اسْتَطَاعَتْ يَدَاكَ أن تَخُطَّ الرسالة ، وكيف مَرَتْ عَيْنَيْكَ عليها ، كيف اسْتَطَعْتِ أَنْ تُوشِي بي عند قلبك لِتَحْمِلَكَ خُطَاكِ على تسلِيمِهَا إليَّ ، كيف كُنْتِ تتنفسين بهذه السهولة ، حتى أنَّنِي في هذه اللحظة اخْتَنِقُ والهواء يملئني ، كيف كان حالك وأنت تَكْتِبِينَهَا ؟ وإني لراحل بعد قرائتها والسلام . ) ورحلتُ عن بلدتي وأصبحتُ مُعلقًا بين كل شيء ونقيضه , بين الحب والكراهية , بين الانتقام والمسامحة , بين الحياة والموت , فأنا لا أنتمي إلى الأرض ، في الحقيقة لا أحد ينتمي إلى الأرض ، أرواحنا لا تنتمي إلى الفناء .
ابْتَئَسْتُ كثيراً بنفسي ، وحَمَّلْتُهَا كل ما حدث لي ، اشتريتُ مزرعةً على حدود ظهران وَ رامان ، ومكثتُ فيها انتظرُ أي أمر قد يحدث ، حتى أنَّنِي ما عُدْتُ أنظر للمياه حتى لا أرى فيها عينايا وهي تَنْظُران إليَّ ، لا أريد رؤية وجهي العشريني المتجعد ، خيباتي تنعكس لي كلما أطللتُ بوجهي فأُشْفِقُ على نفسي .
***
جميعنا يعلم أن الحياة خُلِقَتْ لنا ، وأن علينا أن نحيا ما دُمْنَا أحياء ، لكن لا بد من أن يُقْنِعَكَ أحدهم بهذا ، بل يجعلك تُؤْمِنُ بذلك . السابع عشر من تشرين الثاني تَزَوجتُ صالحة ، أخبرتني أن الحياة لاتروق لها إلا معي ، وأنَّنِي سرٌ من أسرار جمال هذا الكون ، ابتسمتُ ناظرًا إليها قائلًا :
- الكون كله ، أكتفي بكوني جميلًا في الأرض
- اعتقد أن جمالك في الأرض وحدها لا يُوضِحُ ما أحمله لك ، اكتفيت بك في كل الأزمنه وفي جميع المواقيت حتى أنَّنِي أُؤمِن بأنَّ مكوثنا على الأرض مُنْقَضِي ، أردتك أبدياً



نظرتُ إلى وجهها الجميل وتَحَسستُ ابتسامتها سبقتني حديثًا :
- أتدري أنَّنِي لا أدري ما سِرْ ابتسامتي حين أراك ، وكأنَّ كل جسدي يُرحِبُ بك ، كل ما فيَّ أحبك عمرآن .
في ذلك اليوم بالتحديد ، أحببت الحياة كثيراً ، أردتُ أن أحيا .
***
رحل عام بعد عام و أَثْمَر بُسْتـانِي ، واخضرت مزرعتي ، ولكني لم أُنْجِبُ ولدًا يأكلُ من ثماري .
في سن العشرين إلى الثلاثين لم أشعر بمصابي ، من الثلاثين إلى الأربعين تَفَهمْتُ عدم إنجابي ، وضِقْتُ بالأمر ذرعًا في سن الخامسين من عمري ، شَعرتُ بانقضاء أيامي دون فتى أُعَلِمُهُ فن زراعتي وائتَمِنُهُ على نخلاتي ، لا أمتلك فتاة تُعِدُ لي طعامًا ولا تشاطرني حديثي ، حتى أن صالحة تمنت ذلك وبشدة ولكن دون إفصاحٍ لي .

حين بلغتُ الثانية والخمسين ، وضح شِيب رأسي ، وزِيد التفاخر أمامي ، فبعض البشر لا يشعرون بنعمتهم إلا بالتباهي بها أمام فاقديها ، فأردت الزواج بأخرى عَلَنِي أُنْجِبُ من يرعى كِبَرنَا ، ولكني لم أجرؤ أن أُتَمْتِمَ بالأمر لصالحة ، لن ترفض مطلقًا أعلم بحبها تجاهي ولن تعارض ما أظُنُه سبيلًا لي . واستغلالي لهذا الأمر كان الأسوأ ، وبالرغم من ذلك لم أستطع إخبارها ودعوت الله حتى أجد مخرجا .

مَرِضَتْ صالحة مرضًا عُضالًا ، وبدأتُ أستشعر البؤس من جديد استيقظ صباحاً ، أذهب إلى مزرعتي ،وينقضي يومي الأسبوع الأول لم أحصل على غداءٍ خلال عملي ، إذ انتهيت أذهب إلى بيتي وأتناول طعامي ، ثم أخبرت خادمي بشعوري بالجوع خلال يومي ، فعاد الطعام يأتيني مرة أخرى ، وكان ابتئاسي واضحاً من بعض الأمور ولكن سرعان ما استجاب الخدم لمطالبي .
تفكرتُ أن مرض صالحة حين أخبرني الطبيب بِصعوبة شفائُها , لم يكن ابتلاء فقط بل حَمَلَ معه العطية لي ، ثم إن مَوتُنَا لامفر منه ، من البديهي سُتَغادرُنِي صالحة يوماً أو أُغادِرُهَا ويبقى الآخر في الحياة وحيدًا .
ثُمَّ لو كُتِبَ لها المضي أولًا ، ولكِنِي في العمر أَصْبحتُ مُتقدمًا ، لكان الأمر أكثر مأزقًا ، ففي كل ابتلاءٍ نعمة ، وكان هذا ابتلاء لا مفر منه ، ونعمتُهُ في كوني في العمر غير متهالك ، وانْحَلْتْ عُقْدَتِي من أني لا أَسْتَطِيُع أَنْ أُحْزِنَ صالحة بزواجي بغيرها ، كُنْتُ زوجًا وفيًا إلى حد معقول .
مَرَتْ أسابيع على مرض صالحة ، وزادَ حُزْنِي عليها مَمْزُوجًا بِسُرورِي بولدي المنتظر .
ومع كل يوم يمر بمرض صالحة ، يخبو قنديل الحياة بي شيئًا فشيئاً ، حتى إذا كاد أن يَنْطَفِئ ، أَخْرَجْتُ رسالة عامرة وقرأتها مرةً أخرى .
( عند عقد اتفاق تَوَجَّبَ مِنْ حُضُور كل الأطراف ، وخَلَّ اتفاقهم لعدم حُضُورِنَا ، أَشْعُرْ بِسوء الحياة إذا اجتمعنا ، فليرحل كل منا عن الآخر ، لربما يروق لنا العالم )
هَرعْتُ إلى غرفةِ صالحة وأيْقَظْتُهَا
- كيف حالك عمران ؟ قلبك يرتجف ؟
- ما أدراك بخبري ؟! جِئْتُ أَقُصُهُ عليكِ
- الغُصَةُ تُصِيبُ قلبي ، أشعر دائمًا بك
- قبل دخولي غرفتكِ ، قرأتُ رسالة عامرة ، أخافُ عامرة كثيرًا ، أخافُ بأس الناس بي ، أخافُ الحياة كثيرًا ، ثم إنِّي ارتكبتُ جريمة ما بداخلي .
القضية أنَّنَا لم نقتنع بعد بنزولنا من الجنة ، وشَغَفْنَا بها يدفعنا لممارسة الحياة وكأنَّنَا بها ، ثُمَّ إنَّ جنة الله في الأرض أن تملك روحًا أحببتك ، وهذا كافيًا للغاية


اكْتَفِي حين يستيقظ أحدٌ لأجلك كل يوم وتستيقظ لأجله
اكْتَفي حين تُفْعَلْ الأمور التي تريدها دون أن تطلبها
اكْتَفِي حين يرى أحدهم النور بعينك
اكْتَفِي حين يحب شخصًا ما الحياة لأنك بِهَا
اكْتَفِي حين تَمْلُكُ روحًا أحببتك
إذا امتلكت مَنْ تَكْتَفِي بِه ، فأنتَ تَمْلُكَ الحياة كلها وما ينقصك تذكر بأنَّك ما زلت على الأرض ، أَخْبِرَنِي ما فائدة امتلاكُكَ لمقوماتُ الحياة وأنت تفقد الحياة نفسها ؟! وتَذَكْر بأنَّ تَبَاهِيك بالنعمة أمام فاقدها نوع من الجرائم التي يرتكبها البشر ، والتي تَفْتَحْ للشيطان باب للتَدْخِلْ والتناقش معك في ماذا ينقصك في هذه الحياة ، ويَشْغَلُكَ بما لا تملك فتزهد فيما تملك .
***
ولم يشفع لي ذلك ، ألم أكن للدنيا مالكًا ، وأَذْكُرْ أنِّنِي لمْ أَكُنْ في الحياة راغبًا ، ولمَّا التقيتُ صالحة أصبحتُ للعالم ضاحكًا ، وكيف كانت مفرحتي إذ أَرَدْتُ استبدال ذي النعمة بتلك
ألم أدري أن لا أحد يكترث بإشراقة عيني في الصباح غيرها ، كم كانت فكرتي نادمة ، ونفسي طامعة .
وأخذتُ أدعو الله بشفاء صالحة ، كما أنَّه لا يجب علينا تأويل أقدار الله لصالحنا ربما كانت دعوة صالحة ذات يوم بأن يحفظني الله لها .
***
القساةُ هم أكثر الناس رحمة ، ثَمَّةُ شيئٌ أصابهم ، ثَمَّةُ خيبةٍ أطاحت بهم ، ابْحَثْ عن ثقب الرحمة بداخلهم وأرفق بهم ، فبعد أنْ كُنْتُ قاسيًا لفقدي ، أصبحتُ أجوبُ الأرضَ برحمةٍ أنزلها الله بقلبي بعد شفاء صالحة .
في اليوم السادس عشر من شباط ، سمعت صوت أرنب بري يحذو بالقرب من البئر القديم عند مزرعتي ، علمتُ بوجود شيئًا ما داخله ، أخذتُ حِبَالِي وانطلقتُ انظرُ داخله ، ذُهِلْتُ عَيْنَايَا كَوْنَ شابة ملقاه بداخله ، نزلتُ إليها وجلستُ بجانبها أتامل نومها الهادئ داخل بئري.
أخذتُ انظر إليها ، أتَجَولُ في تقاسيم وجهها الحزين ، كانتْ جميلة إلى حد الروعة ، أمسكتُ رسالة بيدها ، رسالة إلى نفسها وأخرى بجانبها ، أولاهم كانت تحكي عن شاب تنتظر قدومه ، والثانية عن عائلتها ، فلَمْلَمْتُ أوراقها وذهبتُ بها إلى صالحة ، وكأنَّنِي أحملُ لها هدية من السماء .
وحين استيقظتْ ريحانة وعلمتُ بعدم معرفتها لشئ ، دفنتُ الورقة الأولى داخل البئر مرةً أخرى ، لأنَّها أرادت ذلك هي تريد أن تحيا من جديد فاستجبتُ لمطلبها ، وتركتُ الورقة الأخرى لها لِتَبْعَثَ بداخلها أملًا تَنْتَظِرُه .
وفي الحقيقه دفنتُ الورقة الأولى لأدفنَ عائلتها للأبد ، أردتُنَا عائلتها فقط ، لا أريدها أن تَنْتَمِي لغيرنا ، وتركتُ الأخرى خِفْتُ أن يُفْتَنَ أحد بها مِن مَن يراها ، فهي تُؤثر أي قلبٍ يُلاقِيهَا ، أَرَدْتُهَا أنْ تَنْتَظِرَ مجهولًا قد لا يَأْتِي ، في النهاية يبقى الإنسان أسيرًا لمطامعه ، تَذكر أَنَّ امتلاكُكَ للأشياءِ يَكْمُنْ في تَرْكِهَا تَعُودُ إلينا .


في اليوم الرابع والعشرين من تشرين ، ذهبتُ مع السيدة صالحة إلى ظهران ، قد مضى عام على مكوثِي معهما ، وأصبحتُ أكثر التصاقًا بها ، عند اقترابنا من تاجر الأقمشة ، أَصْبَحَ قلبي يَخْفِقُ مضطربًا ، اقترب التاجر مني والله كادت عيناه أن تكون قطعة من الفردوس ، جذبتُ رداء السيدة صالحة وناديتُها أُمِي ، يبدو أن شيئاً ما أصابه من كلمتي .
كُنْتُ تائهةً بداخله عَلَّنِي أعثُر عليَّ بِه ، وَجَدَّتُ بِه شيئًا يُشْبِهُنِي ، ولَكِنْ السَّيد لمْ يَسْمَحَ بأَنْ أُطِيل النَّظَر بعينيهِ الرائعتين وأَمْسَكَ بيدِي ، انْهَالَ عليه المُلْتَفُون حَولَنَا ، أصابَتْنِي غُصَّةً فابتعلتُ رُوحِي ، أردتُ التَّمسُكَ به دون جدوى ، أَبْعَدُونِي عنهُ ، فَقَدْتُ قُدْرَتِي على مَدْ يدي تجاهُهُ ، السَّيد بمجرد إفلات يدي نظرَ إلى الأرض ، واسْتسلمَ تمامًا ، أدركتُ أنَّ جمال اكْتِمَال القمر يُشْبِه اتِساع عينيه .
0 تصويتات

اترك تعليق

التعليقات

اكتب وانشر كتبك ورواياتك الأصلية الأن ، من هنا.