Yomna

شارك على مواقع التواصل

كُنْتُ الفتاة المدللة لدى والِديها ، والصغرى بين إخوانها ، لا أذكر يومًا أن شيئًا ما نقص خِزَانتِي ، يقول أبي : أن كل الحُلِي الذي يصنعه مستوحى من طيفي ، و كان يذكر لي أن للإنسان روحًا ، وطيفًا ، ونفسًا .
ولكن ماذا إن لحق بي طيف أحدهم ، أو بالأحرى لحق طيفي بطيف أحدهم ، ماذا إن كان جمال العالم جُسِّدَ في رجل يسكن بالبلدة التي أسكن بها ، ماذا إن كانت عيناه الرائعتان يتدلى الحسن منهما ، و ماذا إن سكن هواه بالقلب واستعمر .
الشعور الوحيد الذي لم أستطع تفسيره هو الحب ، كيف نُحِبْ ؟ و متى ؟ و أين ؟ بل السؤال الأصعب لماذا زغفري دون غيره ؟
كان عليَّ أن أتسلل إلى زغفري من النواحي المحيطه به ، وليس منه ، كان مصمتًا إلى حد أنَّنِي لم يَمْكُنُنِي الولوج فيه ، كانت نفسه غائبة ، وروحه مُتْعَبَه ، وطيفه مُنْطَفِئ ، الكثير من الأمور عرفتها من زاهرة ، لم أُرْسِل رسالتي عبثًا ، لمَّا رأتنِي عيناه أشرقتْ ، أتُشْرِقُ الشمس لأرضٍ غير أرضها ؟!
الغلافُ الذي نُحِيطُ به أشياؤنا ، الأطعمة مغلفة بأغلفة متفاوتة في السمك والحدة ، كل غلافٍ بحسب ما يكمن بداخله ، أما زغفري فكان الشوك يُحِيطَهُ ، أَرْضُهٌ شائكة ، كانت الأشواك تشيكني كلما دنوت مِنْهُ ، وهذا لم يُرْجِعْنِ عنه ، كُنْتُ أُؤْمِنْ أن روحًا رائعة في الداخل ، كان عليَّ أنْ أصِلَ إليها .
كُّل مِنَا يمتلك أسطورةً ما بداخله ، مغلقة بشفرةٍ ، لا يحمل حلها إلا شخصًا واحدًا ، يستطيع إيجادك ، يستطيع تَحْويلُك إلى شخص آخر ، تكاد تُلْهِم العالم معه ، تميم كأي بلدة عادية ، لم يستطع زغفري إدراك ذلك ، لأنه عَجِزَ عن فهم مُسمَّى الحبُ الحقيقي ، ولهذا استطعت الولوج بداخل زغفري ، لأنني أحببته .
بعدما استلمتُ رسالتَهُ من زاهرة ، ورقةٌ خُطَتْ من أجلي ، مُرَادُهُ ابْقِي بجانبي وهذه مخاوفي ، فَنسجتُ له ( زغفري ) على منديلٍ أبيض وبعثته له ، لم تكن هديةً كما ظَنْ ، كان عهدًا بالقبول بالأمر ، و تنبهت أن الصمت لا يُطْلَق على كونك لا تتحدث فقط ، بل يشمل عدم الفعل ، وعدم الشعور ، أي أنه يشمل انعدام أن تكون ، أنت صامت عن الحياة يا زغفري ، الحياة بأكملها .
جاءني هامسًا إلى ضفة النهر :
- لماذا تتمسكين بي ؟
- لأنك ألهمتني ، أشعر بالحياة معك
- وكيف ذلك ؟
- الشمس تشرق نهاراً ، والليل يسكنه القمر ، الورود تَتَفتح في الربيع ، العالم يبدوا رائعاً ، رأيت الجمال بدونك ، وحين التقيتك شَعرتُ به ، حيث يوجد فرق كبير بين شُعُورَك بشيء ورُؤْيَتُه ، فثمة أشياء تُرْى لا بريق لها ، فبريقك ينير العالم ، ولتعلم أن هذا البريق من حولك ما هو إلا بريق عينيك ، فكل لحظة قْضِيتها معك كانت الأجمل ، يبدو أن العالم اختزن جماله بداخالك ، فهباك الله فرحة كفرحتي حين ألقاك وكفاك همًا كهمي حين ترحل .
- زمرده ، لا أدري لماذا هذا الحزن يَسْكُنُنِي ، يَعْزِلُنِي عنكِ ، بل عن العالم ، هل الأمر يستدعي هذا القدر من الحزن ؟!
- احْزَنْ يا زغفري ، دَعْ هذا الألم يخرج من قلبكِ ، ولكن قاوم أن تنسى نفسك في هذا الحزن كثيرًا ، و على العالم أن يحترم أنك حزين .
***

كان زغفري لي كغصن شجرة بها أوراقٍ خضراء ، وزهور كرمزية تُظلني ، هو ضَوءٌ تخللنِي من خلال أغصان تلك الشجرة ، يَتَمثَّل لي كجذعها الذي أستند عليه في جلستي ، أي أن زغفري هو الطبيعة بالنسبة إليَّ ، كلماته لي لا تُغَادِرُنِي ، وأفكاره تُلْهِمَنِي ، كان يعتقدْ بأنَّ هذا الجمال إحساس يتخللنا ، امتلاكك للشيء لا يُكْسِبُكَ صفاته ، فعند مرورك على حديقة تحتوي زهرة بنفسجية ، ستنظر للزهرة إن شعرت بجمالها تركتها ، وإن رأيت جمالها قطفتها ، وهنا اعتقادك بامتلاكها أنك امتلكت ما لم تستطع الشعور به وهذا خاطئ تماماً ، المشاعر الصادقة لن تستطيع لمسها ، إحساس يتخللك ، فيبدو وجهك أكثر نضارة ، ثم أشار إلى وَجْهِي قائلاً : كوجهكِ تمامًا .

طال غياب زغفري عني عدة أيام ، فذهبت إليه عند أقشمته ، وهو الذي يتنبه إلى كلماته معي ، يُعَنْيفُنِي في الكثير من رسائله ، كانت إحداهن تتمايل و تضحك بصوت لين ، وكِلَهُمَا صفوان وزغفري يريها الأقمشة ، بل ويتجاذبان الحديث معها ، تراجعتُ عنه ، لماذا أعين الرجال لا ترى ، لماذا لا ينجذبن إلا للسراب ، تَرَكْتُهُ حتى أَتَتْ زاهرة إليَّ تسألُ عن غيابي ، فبعثتُ له
( غنائي مر ، ولا أستطيع التمايل أثناء الحديث معك ، لم أدرك بمدى سوءِ غير اليوم )
بَعثَ زغفري لي مظروفًا لم يُزَينْ بوردِ التوليب
( إلى الرائعة زمرده ....... سلام من الله يملؤك ، أعلم بخفقان قلبك ، أكاد أشعر بنبضه ، أَغِيرُ من وريقَاتِي التي تمسكينها بأناملك ، وتشغفين بما في داخلها ، تنظرين إليها بعينيك البنيتان اللتان سَيُفْتَنُ بهما العالم إن رَأهُمَا ، تهتمين بِوريقَاتِي كثيرًا ، ذَكَرتْ زاهرة لي أنك تُزينينَ شعرك الداكن بزهور التوليب الموضوعة على المظروف من الخارج ، فامتنعتُ من وضعها لك ، أخبريني ما فائدة أن نُزِين الجمال بالجمال
أنت فاتنة كليلة النجوم حلت بسمائها ، عشرون نجمة زرقاء يتخللها سبعة نجمات تكاد أن تُمْزج باللون الأحمر غير النجمات المتناثرات ذات اللون الأخضر ، أعتذر منك أنت الأشد جمالًا فكلماتي في العشق تهوى أمامك ، تَبَسَّمِي علّ جمال الكون المُخَبْئ يظهر )
جاء إلى ضفة النهر صامتًا ، نظرتُ إليه :
- أنت لست جميلة ، بل الأجمل في هذا العالم
صمتُ لأنَّ كلماته لم ولن تُدَاوي الجروح المتوالية التي سببها لي ، صمتُ لأنَّنِي لو تَكلمْتُ حينها لغرق زغفري بقسوتها ، لو تكلمت حينها لاحترق عالمه من أجلي ، فصَمتُ ، أحيانًا يكون الصمت أشدَّ فتكًا من الكلمات ، ولكن زغفري ظل يتحدث ولما انتهى قلتُ له :
- لا تعبث كثيرًا مع أحد ، الكل يملك خيباته التي يحملها ، الكل مرهق في هذه الحياة ، ولا أدري لماذا حين تَغْلِقُ الحياة بابًا أَمَاَمَنا ، تُغْلَقْ من بعده جميع الأبواب تِباعًا ، و لماذا كل الخيباتِ تأتي وقتًا واحدًا ؟ لماذا لا تتجزئ ؟ حتى أن الحزن الذي يكون بداخلنا يُصْبِح مترابط وقوي لا نستطيع تجزئته أو إضعافه ، وتأتي العاصفه والانحناء يُحْنِي ظهورنا ، فيتوجب علينا الوقوف ، فنقف بهشة أمام العاصفة فتقذفنا ، و نصبح الضعفاء ، مع أنها لو أتت أثناء استقامتنا وقوتنا ، لما أسميناها عاصفة ، و شددنا أشرعة طائراتنا الورقية وطرنا بها ، لكننا ممزقين قبل أن تحل بنا
- ماذا تخافين يا زمردة ؟
- الوقت أصبح متأخرًا ، علينا الرجوع إلى تميم
- تبسمي بوجهي لَعلنِي أدعك ترحلين
- ولكن ابتسامتي ستزيد من تَشبُثك بي
- إذاً عليك إقناعي بالرحيل
- لا ترحل ...... اعتقد أن قطعة من نفسي سكنت بك ، بل خُلقت معك
- أهذا شيء جيد ؟!



- بالطبع شيء جيد، جزء مني يَنْبعِثُ من داخلك ، إذا انْطَفأتُ لا أنطفئ تماماً ، بعضي يُضِيء بك ، وإن غِبْتُ لا أغيب مطلقًا ، بعضي حاضر معك .... والأجملُ من ذلك أني إن تُهْتُ يومًا ستبحثُ عني وتُعِيدُنِي فجزء مني مَمْزُوجٍ بجزءٍ منك ، فعدْنِي يا زغفري بالبحث عنِي متى غِبْتُ ، أكنتُ ضائعة أو راحلة ، ولا تُسْكِتَ صوتي بداخلك
- أعتذر لكي كوني لا أستطيع أن أقطع لكي وعدًا ، أعتذر لكي لأني حِمْلٌ يُحْنِيكِي ، لو كُنْتُ أثناء استقامتي وقوتي لقطعته ، واعتذر لك من قبح اعتذاراتي
- أتدري ماذا يخيفني يا زغفري ؟
- ماذا ؟
- أخاف الفقد ، أخاف الضياع ، الرحيل و الغياب مختبئين لي ، ما إن أحببت شيئاً ، سُلِبَ مني ، رحل عني ، لم أستطع تخبئتك عن مخاوفي
***
آمن زغفري أنه الحمل الأثقل علي ، لم يكن لزغفري قانونًا في الحب يُقيمُه ، لم يكن يُحِبَنِي بالشكل الذي تمنيته ، لذلك أَرادَ أن أَبْطِشَ أنا بِه ، وإنِي مَنْ أُزِيحَهُ عَنِي ، لم يكن على قدرٍ من التفكير بأن يَرْفَعَ مَعِي بدل من أنْ يَسْقُط منِي ، فَزيفَ إلى زاهرة أني أريد الرحيل فأَتَتْ إلي تسألني :
- وإن رَحِلْتِي ما لُمْتُكِ ، لأنَّ الأمر تجاوز
- أنا لا أُحِبُ زغفري ، ولكنَّنِي أخشى أن يكون تَعِيسًا ، يُرْهُقِنِي كَوْنُه مُتْعَبْ ، إِنْ حَلَّ بِه مرض مَرضتُ ، وإن أصابه شِفَاء بَرئتُ ، أَخْشَى عليه من نفسه ، أخاف عليه من الشتاء والصيف ، أيمكنني انتشاله من العالم وإدخاله بقلبي ؟!
فكرت كثيرًا يا زغفري في قراري بالبقاء ، فوجدتُ أنه لا يوجد أسوء من الرحيل لذلك سأبقى ، بأكثر صراحة ، لن أرحل ، لأن عقلي لم يتحمل فكرة رحيلي ، ولم يعد لدي سوى البقاء لذلك سأبقى ، ولكن كان عليك أن تُقَّدِرَ ذلك .

بعد موت أبي خرجت من تميم فارةً من زغفري ، كان عليه أن يشعر بخزياني منه ، كان عليه أن يَشْعُرْ أنني إن أَفْلَتُه من إحدى يدي أمسكته بالأخرى ، كان عليه أن لا يستسلم لأنقاض الماضي المغطى بها ، كان عليه أنْ يَشْعُرْ بي أنا ، ويَشْعَرْ أنَّ العواصف قد تَحِلُ عليَّ ، علينا أن نحترم أن روحًا ما أحببتنا في هذه الأرض .
وماذا إن شعر بي بعد فوات الوقت ، عندما لحق زغفري بالقافلة ، وكأَنَّهُ بُخُرُوجِهِ واتِّبَاعِي محى ذُنُوبَه تِجَاهِي ، كُنْتُ أُرِيد ولو أمرًا يسيرًا للعودة إليه ، أُرِيدُ أنْ أعود ، أنا التي أٌرِيدُ ذلك ، ولكنْ كانَ لِزامًا عليه أنْ يطلبَ هو ذلك .
عندما أتى هو إليَّ وَعدَنِي أن لا يَدَعْنِي أرحل ، قطع على نفسه كل العهود وأوثقها بالمواثيق ، ولمَّا أتَى شعرتُ أنَّنِي أقوى من أي وقت مضى ، و لكن العاصفة كانت أشد .
هُوجِمْنَا ليلًا و اخْتَبَئْنَا بالوادي ، رُمِينَا بالسهام ذات النصول الحادة ، ما إنْ أصابت أَحدُنَا قتلته على الفور ، وَهْلَةُ سُقُوط السهام كان زغفري الأشد إمساكًا بي وأنا الأشدَّ تمسكًا بأمي ، نظرتُ إليه ، الغضب يتخلل عيناه كان يصيح باللُّصوص : عليكم اللعنه
ثم يَنْظُرْ إليَّ ، كُنْتُ الأَشَدُ خوفًا بالوادي ، شَعَرْتُ بالرحيل ، الفقد يُدَاهِمُاِني ، وما إنْ اسْتَقَرْتْ السهام أصبحنا فاقدين ، نجت عائلتي نَجِيا زغفري وصفوان ، وفقدتُ الأقربين ، فقدتُ الجار والعم ، ولكن الناجين أقْسَمُوا على دفن مَوتَاهُم ، خرجتُ مع أخوايَ وزغفري صفوان ، كِدتُ أَخْتَنِقُ في الوادي .
ولكنها كانت الفكرة الأكثر بؤسًا ، القتلة كانوا بالخارج ، اجتزنا مسافة من الوادي بنجاح ، أرادوا إشغال اللُّصوص عن الناجين ، فانطلقوا باتجاهاتٍ مختلفة ، الخطة نجحت على حد اعتقادي ، تَرَكَنِي زغفري أحتمِي بصخرة كبيرة ، لكنَّها لم تُحْصِنِّي من نظر أحد اللُّصوص ، فانطلقت أعدوا وضيعت طريق العودة ، تُهْتُ ليلتان ونهار حتى تعثرتُ في بئرٍ قديم ، انزلقتُ بداخله وظلَلْتُ للسماء ناظرة .
الليلة الأولى ، كُنْتُ ذاكرة ما حدث بالتفصيل ، ثُمَّ سَحَبَنِي النوم وحين استيقظت ، أصبحت أقل استذكاراً للأسماء ، علمتُ أن ذاكرتي هي الأخرى راحلة عَنِّي ، أنا لم أَتمسكُ بِهَا مطلقًا ، أخذتُ ورقة كنت أحتفظ بها وريشتي ، وبدأتُ أَكْتِبُ بأنامل مرتعشة ، ذكرتُ عائلتي تحدثتُ عنهم ، شعرتُ أنَّنَا كنَّا رائعين للغاية ، والربع الثاني من الورقة تركتها لزغفري وحده ، الجزء التالي ذكرتُ ما حدث لنا وعن الغدر الذي طالنا وتركتُ الربع الأخير فارغاً .
في نهار الليلة الثالثة لي ، أستيقظت أذكر قليل القليل عَنِي بدأتُ أقرأ الورقة التي وضعتها بيدي ، خِفْتُ أَنْ أنسى أنِّي كتبتها ثم أبدأ بالبكاء والموت مرة أخرى ، ثم إن الله مَنحنِي فرصةً لأبدأ من جديد لماذا أُضَيعُهَا ، قررتُ تمزيق الجزء المكتوب من الورقة ، كتبتُ الجزء الفارغ ، كنتُ أُريد ذِكر تفاصيل أكثر عن زغفري وعائلتي ولكن ذاكرتي انتهت وجف حبر ريشتي .
الجزء الأعلى من الورقة دفنته بداخل الرمال ، كانت اللحظة الأصعب ، و لكن كان محال من تغير ما حدث ، وكان عزائي الوحيد أني سأنسى تلك اللحظة .
***
حينما استيقظتُ لمْ أعلم أي يوم يكون ، لم يَنْتَاُبِني فُضُول لأنزع الستار و أَدَقق إن كانت الشمس ما زالت مشرقة أم غابت ، حتى الطعام المرصوص على المائدة ، لا أدري إن كان أُعِدَّ لي ومن أعده .
وذات لحظة اقتربت من الشرفة بجوار خزانة لا أعلم لماذا تم اقتناؤها ومن اقتناها ، وضعتُ الوشاح على وجهي وانطلقُت خارج المنزل وازداد ركضي ، فلا أحد خلفي أهرب منه ولا أحد أمامي ألحقُ به .
وكأن صخرة شَرَدَتْ من بين الجبال لأتعثر بها ، شيء ما يدفعني للنهوض ورغم جرح ساقي الأيسر شيء أقوى يدفعني لأركض ، لم أتيقظ لسقوط وشاح وجهي ، فعند كل عثرة نفقد شيئًا .
استوقفني رجل ..... لا أدري لماذا بكيت ، كنت أبكي الاشيء وجدت البكاء يبكيني فبكيت لأجل البكاء وبكى البكاء من أجلي .
رجل خمسيني العمر أمسك بيدي ، قَبَلَهَا و أعادني إلى المنزل الذي تركتهُ و خرجتُ هائمةً أبحثُ عنه .
دخلت المنزل برفقته ، لم نتحدث في طريق العودة ، اكتفيت بالنظر في عينيه ، و انزلقت روحي بداخله ، رغم تمسكي الجيد بالخارج .
***

- أنا عمران وهذه زوجتي صالحة
- أين أنا ؟ - نسكن على حدود بلدة زهران
- كيف وجدتني ؟ - في البئر القديم بجانب مزرعتي ، وجدتك منذ ليلتين ، كيف وصلتِ هناك؟
نظرت إليه والذهول يملئني :
- دل سؤالك يا عزيزتي على أنك تحملين بعض الأجوبة لي
- لا
أعطاني السيد ورقة أحملها و ريشتي ، الورقة ممزقة ، يبدو أنا من مزقها لكني لا أدري ما سر فعلتي ، الورقة تحمل أوصاف شخص ما ، يبدوا أنَّني كنت في تلك اللحظة وأنا أخُطَاها أُعَانِي من صعوبة عالية في التذكر ، لم أستطع تحديد ملامحه جيداً لأذكرها ، وتاه مسماه بداخلي ، الورقة محددة للغاية
( يبدو أن ذاكرتي تتخلى عني ، تذكري دائماً أنك أحببت رجلاً أُقسم لك أنه يبحث عنك الآن ، تمنيتُ أنني أجيد وصفه ، ستعرفينه جيدًا بمجرد رؤيته ، حباه الله عينان لو أخفيت خلف أسدلة العالم ستعريفينها ، لا تخافي مطلقًا وإن فقدت نفسك هو يحمل جزء مشتعل منك بداخله ، ابحثي عنه وتذكري دائماً أن ذاكرة العشق خالدة ، أنتِ تؤمنين بهذا )
- ريحانة نظرتُ باتجاهه بائسة لا أفهم ما يقول
- أسميتك ريحانة ابتسمت ، شعرت بالطمأنينة كوني امْتَلكْتُ اسمًا.
مكثتُ عامًا مع عائلة السيد عمران ، العائلة ليست سوى السيدة صالحة ، السيدان لم يُنْجَبَا فأورثوني حياتهم كلها ، أصْبحْنَا أشبه بعائلة مكتملة ، تقول السيدة صالحة دائمًا : بان السعادة مرافقة لي وما إن جئتُ إلى منزلهما حَلْتْ عليهما ، كان هذا بالنسبة إليهما ، أما بالنسبة لي لم أعد أهتم بالأشياء من حولي ، لم أعد أبالي بشيء مطلقاً ، أنوار المدينة تزعجني فأحببتُ البرية
حتى الحشرات التي كُنْتُ أخاف منها كثيراً ما عادت تقلقني ، قد تصل إلى نقطة أنك لا تريدُ ، لا تستطيعُ ، لن تفعلُ ، تتخلى ، تسقط
***
في ليلة مضيئة انتشلتني السيدة صالحة من تَحْدِيقي بالقمر
- ريحانتي
- هل تُدْركِين سر جمال القمر بالنسبة لي سيدة صالحة ؟ القمر لا يَكْمُنُ جماله في قربه من الأرض ، ولا كَوْنِه يُضِيء وسط العتمة ، ولا أنَّ القمر يجمعُ بين ناظريه في كل مكان ، بلْ أنَّ القمر حين يكتمل يشبه شيئًا ما أحببته ، ولكن قمر هذه الليلة يتوارى في العتمة .
- القمر لا يختبئ ، حتى إنَّ القمر لا يُغَادِرُنَا مطلقًا ، وجُودِهِ محققًا ليلاً ونهاراً ، فعدم رؤيتك للقمر: أغيوم اعْتَلَتْهُ ، أو ضوء شمس فاق نوره فهذا شيء لا ينفي وجوده ، ولكني عزيزتي لم أًسْئلكِ مطلقًا عن هذا الخاتم المعلق برقبتك منذُ وصولك ، أتذكرين شيئًا عنه ؟
- نعم أذكر ليلة البئر جيداً ، في تلك الليلة نزل إلي رجل ادعى أنه سَيُخْرجُنِي من البئر ، اقترب كانت له أعين خائنة كان ينظر باتجاه سلسلة عنقي ، ماسة خاتمي ، اقترب وكِدْتُ أموت خوفًا ، نظرتُ للسماء ، شعرتُ بالله ، في تلك اللحظة أيقنتُ أنَّ الله سينجيني رغم هلاكي المؤكد
- هل جاء عمران في تلك الليلة ؟
- لا ، عندما تَسْتنجدين بالله وتُوقِنين بهذا ، الله يتكفل بك ، الخاتم سقط من الرجل ، الشمس كانت مشرقة حين وجدني أبي عمرآن
***
وها أنا اليوم أَقِفُ متحسرةً على زغفري وفِعْلَتَهُ ، التقيتُ صفوان وعلمتُ أنَّه اعتقد أنِّي تَخَليتُ عنه ، كيف يُصدِق أنِّي أراهُ مُتجاهِلَة ، يَكُون ظَنُّهُ كاذبًا حين يَظُنُّ بي أنا التي بَحثتُ عنه في وقتٍ لم أكنْ أَذْكُرهُ ، فَقدتُ ذاكرتي ولم أَفْقدهُ ، أَيظُن بِي أنا التي تَذكرتْ نَفسَهَا حين نَظرتْ بعَينيهِ ، زغفري هو الحبُ إذا أحْببت و هو العشقُ ما حييت ، هل الخوفُ من معرفتك ما يُؤلِمُكَ يدفعكُ لتَرْكِه ؟ حَذرتُكَ مِنْ هذا يا زغفري كثيرًا ، كيف لَمْ أُثْبِتْ لك بعد كل هذا أنِّي ما أتخلى عنك ، متى ستُؤمِنُ بأنَّ حبي لك حبًا يليق بي وبك ، أَقِفُ اليوم مُتَأسِفَةً لِي ولك على ما آلت إليه الأمور .
كَتَبْتُ رسالة وبَعَثْتُهَا مع صفوان ، علينا أنْ نَجْعلُ الخوفُ يَشِدُ عَضَدنَا بدل من أنْ يَكْسِرهَا ، فَخوفُه من فقدي دفعه للهرب، وخوفي من فقده دفعني للبحث عنه ، الخوف من الفقد يدفعنا لفعل ما لا طاقة لنا به .
0 تصويتات

اترك تعليق

التعليقات

اكتب وانشر كتبك ورواياتك الأصلية الأن ، من هنا.