هاديا
هاجر صبري
الفصل الأو ل
الأسكندرية 1990
منزل قديم مُتهالك يكاد يسقط على القاطنين به، لكنه مازال مُسيطرا على وضعه ومظهره، أفضل حالا من تلك الأسرة المليئة بالتناقضات والصراعات رغم عدم ملاحظة أحدٌ لذلك، دائما ما كانت ليلى مُسيطرة على الصورة المثالية لحياتها الزوجية وتُقاتل لتثبت ذلك أمام عائلتها والجميع! مهما حدث لا تشكو ولا يعلم أحدٌ شيئا عن خلافاتها مع يوسف المستمرة وتحكمه بها وسوء معاملته لها، لم تخبر والدها إجباره لها على الإنجاب للمرة الثالثة خوفا من المشاكل لعلمها التام بخوفه الشديد عليها وموقفه من يوسف منذ زواجهما.
مر أسبوعان من المناقشات ومحأو لاتها معه، ليتفهم سبب عدم رغبتها في تكرار ما مرت به خلال المرتين السابقتين، فلديهما ابنتان وذلك كافٍ ليستطيعا سد احتياجاتهما و تربيتهما بشكل سليم، لكن يوسف لم يرَ أمامه سوى ذلك الطفل الذي سيحمل اسمه للباقي من عمره, الولد الذى سيُكمل مسيرته و يصبح سنده بالحياة!
رغم افتقاره للطموح والإنجازات، وانعدام رصيده البنكي إلا أنه كان يحلم به على أية حال، لم يراعِ حالة ليلى الصحية و تحذير الأطباء من الإنجاب مرة أخرى، اجتمع هو وأمه على تلك الرغبة التي سيطرت على عقولهم وعمت أعينهم عن أي منطق ,و كانت اَخر محأو لة من أمه لإقناع ليلى هو تهديدها بزواجه من أخرى لتنجب له الذكر الذي سيغير حياتهم للأفضل، و يُصبح سندا لبناتها فلا يصح أن يعيشا بدون رجل لحمايتهم! محأو لة رخيصة و لكنها كانت تعلم طباع زوجة ابنها جيدا، في النهاية رضخت ليلى لرغبتهم رغما عنها وخوفا من زواجه وتخليه عنهم, كانت تعلم جيدا مدى أنانيته التي طغت على كل شيء، اعتادت سوء صفاته, فضلت التعايش مع كل ذلك خوفا من الشكوى, لعلمها أن لا أحد سيقف إلى جانبها أو يشعر بها وبالنهاية الجميع سيُقِر بحق يوسف, لإجماع اأراء الأغلبية بأهمية إنجاب الذكور.
بعد مرور شهر أثبتت التحاليل حمل ليلى، وتهللت أسارير يوسف وأمه وظل طوال التسعة أشهر مُنتظرا اليوم الموعود وحمله لأبنه بين يديه وكأنه لم يختبر الأبوة من قبل، مرت أشهر الحمل ثقيلة على روح ليلى ,فقدت شهيتها في الطعام والنوم و الحياة أيضا بشكل ملحوظ, لكن يوسف لم يهتم سوى بالطفل وأغمض عينيه عن أي شيء اَخر, انتظر بشدة انتهاء الأشهر سريعا ليقابله ويحتضنه، ملأ قلبها القلق من انتظاره القاتل, لا تتخيل رد فعله إذا حدث ما يُخالف رغبته, قلقها يتزايد كلما اقترب وقت الولادة، لا تريد لعلاقتها به أن تزداد سوءا، كل ما تفعله هو الدعاء والتوسل إلى الله أن يفعل الخير لهما ويمنح زوجها السكينة والرضا في أية حال، في الأشهر الثلاثة الأخيرة قبل الولادة قررت العودة إلى عملها رغم رفض زوجها للفكرة, إلا أنها أصرت بشدة لأو ل مرة بحياتها, لعدم قدرتها التواجد معه بالمنزل كثيرا فهو لم يكف عن وصفه لشوقه لرؤية إبنه وماذا سيفعل بمجيئه, ورغباته وأحلامه التي ستتحقق جميعا بالنظر إلى عينيه .
تعبت من مُبالغته في الأمر, شعرت بالضغط يزداد عليها و كادت أن تنفجر، عادت يوما من العمل متعبة, نامت كثيرا حتي شعرت بألم الولادة فجأة في وقت متأخر , واستيقظ يوسف على صوت صراخها, سارع بالاتصال بأمها لتأتي, ثم ذهبوا إلى المستشفى ثلاثتهم، مستشفى حكومية كئيبة , ذات حوائط رمادية تشعر كأنها سجن، بمجرد وصول ليلى انقبض قلبها و شعرت شعورا مريبا، اعترضت أمها على المكان و طلبت من يوسف الذهاب إلى مستشفى أخرى و لكنه نظر على الفور إلى ليلى نظرة تفهم معناها جيدا، لتقول ليلى:
- ليه بس يا ماما المكان مش وحش، إن شاء الله هقوم بالسلامة ونمشي على طول اطمني .
قالت أمها باستغراب :
- يابنتى أنا مش متطمنة ما نوديكى مكان تانى أحسن و متقلقيش أنا معايا فلوس
قال يوسف بغضب :
- المسأله مش فلوس يا حماتي, مستورة الحمد لله إحنا متفقين من الأو ل وليلى عارفة كده، ثم ينظر لها بحزم لترد
قالت سريعا :
- اَه يا ماما إحنا متفقين، متخافيش يا حبيبتي ادعيلى إنتى بس ربنا يسترها معايا .
لتصمت أمها في قلق و غضب من يوسف و إصراره غير المبرر، و حزن على ابنتها، فهو يعلم تمام العلم أنها لن ترفض له أي طلب تحت أي ظرف، حتى لو على حساب صحتها و قلقها، لا يهتم , فقد اعتاد طاعتها العمياء له بدون تفكير، ذهبت ليلى و أمها إلى الحجرة لتبديل ملابسها, ثم دخلت غرفة العمليات وبالخارج يوسف منتظر الخبر اليقين بمنتهى القلق الموجود بالعالم، مرت حوالي ثلاث ساعات ومازالت ليلى بالداخل لايعلمون عنها شيئا ولم يجدوا من يطمئنهم.
بدأت والدة ليلى في البكاء والدعاء ولم تتوقف حتى أتت ممرضة و طلبت منهم البحث عن أكياس دم لفقدانها الكثير منه بسبب سيولة دمها وعليهم الإسراع لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، سقطت الكلمات على مسامع الأم كالصاعقة و أجهشت بالبكاء وسألتها عن ليلى بينما أو ل كلمات يوسف كان سؤالها عن نوع الجنين وهل هو بخير!؟
قالت الممرضة باستغراب :
- المهم دلوقتى نلحق الأم ,لو سمحت شوف دم بسرعة، عن إذنكم
توسلت إليه والدة ليلى أن يسرع و يأتي بأكياس الدم، ذهب و بحث كثيرا حتى أحضره للدكتور, ملئ بالفضول ليعرف نوع الجنين ,يريد الاطمئنان و تهدئة عقله ليس أكثر. يوسف شخصية متناقضة للغاية، حنون, لكن قسوته تظهر أكثر , أناني ولا يتنازل عن رغباته, ومُضحٍ أحيأنا، يحب ليلي و هي حب حياته الأو ل و يعاملها كثيرا بجفاء غير مُبرر، ذكي جدا، ينصح الجميع بما لا يفعله، تتضح عليه مظاهر التدين وله ورد قراَني يومي وسلوكه لايدل علي ذلك، يمتلك قلبا طيبا, أمين, ناجح بعمله, مثقف, بار بأهله يحب بناته كثيرا وفي الوقت ذاته يحاكم ليلى على نوعهم وكأنها مسئوليتها، عنما تراه لأو ل مرة تستطيع الحكم عليه بحسن الخلق وعندما تعاشره تستغرب أفعاله من كثرة تناقضها، مرت ثلاث ساعات أخرى ومازالوا منتظرين ليلى بالخارج ولا يعلمون شيئا, إلى أن أتت الممرضة حاملة الطفل فى فرح وقالت ليوسف :
- مبروك بنوتة جميلة ربنا يبارك لك فيها وإطمن المدام هتكون بخير
صُدم يوسف بشكل مبالغ فيه, لم يهتم بباقي الجملة, رفض حمل الطفلة وأخذ يردد كلمات عشوائية فى غضب شديد :
- بنت تانى ! ليه يا ربي كده هو أنا خسارة فيا أفرح, أنا عايز ولد واحد مش طالب معجزة ؟!
صمت فجأة لشعوره بالخجل مما قال و جلس ليتمالك أعصابه قليلا ويستوعب الخبر بهدوء، حملت أم ليلى الطفلة في استغراب وحزن شديد من ردة فعل يوسف، أو ل مرة يُفصح عن رغبته في إنجاب ولد لم تخبرها ليلى بذلك من قبل، ثم ذهبت لتطمئن على ليلى من الدكتور وأخبرها أنها نزفت كثيرا واضطر لنقل دم وذلك الأمر الذى استغرق وقتا طويلا منه وهي الاَن في الإفاقة وستصبح على ما يرام
هدأ قلبها قليلا و ذهبت إلى الغرفة فلم تجد يوسف ,, ذهب و ترك ليلى وابنته لم يعبأ لأمرهم, تعجبت من موقفه واتصلت بزوجها ليأتي، وسقط يوسف من نظرها الى الأبد
انتهى اليوم و ذهبت ليلى إلى منزل والدها مع طفلتها, ظلت تسأل طوال الطريق عن يوسف و أين ذهب و كان القلق يملأ قلبها خوفا من ردة فعله بعد علمه أن الطفل بنت للمرة الثالثة، لم تهتم بألمها ولا ما عانته طوال اليوم وانشغل عقلها بيوسف فقط وخوفها حزنه و غضبه عليها
مر يومان ولم يظهر يوسف أو يتصل للاطمئنان عليهم, الأمر الذى جعل ليلى تقلق كثيرا بعدما ذهب والدها إلى منزلها ولم يجده ووجد البنات مع جدتهم بالمنزل, التي ذهبت إلي منزلها غاضبة بمجرد علمها بنوع الطفل من والد ليلى!
فأحضرهم معه لتطمئن ليلى قليلا وتنشغل بهم عن التفكير في أمر يوسف الذى لم يصل منه أي خبر إن كان حيا أو ميتا
مرت على ليلى تلك الأيام كأنها عمر كامل, تبكى طوال الوقت ولا تعلم هل تبكي لغيابه عنها أم لصدمتها به, شعرت أن ما مر معه من سنوات و عشرة ضاع هباء، حزنت على تساهلها معه وحبها إليه الذى لم يقدر على الإطلاق.
في اليوم الرابع جاء يوسف وهو محبط وتظه عليه ملامح الحزن والإرهاق وقلة النوم, استقبلته بناته بترحاب شديد على عكس ليلى التي انهارت باكية بمجرد رؤيته، حأو ل تبرير موقفه ولكن لا يوجد ما يبرر هروبه من المسئولية وخذلانه لها طلبت منه أن يوفر أي كلام لأنها لاتريد سماعه من الأساس وأنها ستستمر في حياتها معه فقط خوفا على مستقبل بناتها
عادت معه إلى المنزل محأو لة التظاهر بأن كل شيء على ما يرام حتى لاتلاحظ البنات شيئا , لكن بداخلها غضب شديد تجاهه لن يدأو يه الوقت, وخذلان لن ينسي مهما حأو ل تعويضها، عادت لتتجنب اللوم من عائلتها، وأخذ قلبها قرارا ضمنيا بالابتعاد عنه.
كل شيء تغير داخلها بعد ذلك الموقف الموجع من يوسف, أصبحت تعيش معه بجسدها فقط بلا روح من أجل بناتها واستقرار حياتهن، ولثقتها بوقوف الجميع ضدها في قرار الابتعاد والطلاق.
كعادة المجتمعات الشرقية وأعرافها التي تنص على أن تتحمل المرأة كل شيء حتى لاتهدم المنزل وتشتت الأسرة هذا واجبها! ولا يهم راحتها أو استقرارها النفسي فهي أصبحت مجرد جسد ليشبع شهوة زوجها وأم ومربية وخادمة لأو لادها وما عليها سوى الاستمرار في دورها حتى تموت بدون توقف أو تراجع، ولكن الرجل له كل الحق دون مراعاة شيء! كبرنا على تلك المفاهيم العقيمة التي ليس لها أي أساس ديني ولكن الجميع يؤمن بها أكثر من إيمانهم بالله
والمفهوم الأكثر غباء الذي يقر بأهمية الذكور عن الأناث, ومن ينجب ذكرا فقد أنجز الإنجاز الأعظم بحياته والأناث ماهن سوى عار يندى له الجبين ووجودهم ما هو سوى وسيلة للزواج والإنجاب لتكملة الحياة والاستمتاع بهن اللعنة على تلك الأفكار وعلى كل من ساهم في زراعتها بعقولنا , وكل من مارسها ممارسة الحقوق