Horof

شارك على مواقع التواصل

قضى البختيار "مادان" اليوم حتى بداية المساء نائمًا، ولما أفاق من نومه أُعدت له ولمرافقيه وليمةً فاخرة بناءً على أوامر الشاهنشاه، الذي قضى النهار كله يتقلب على شقي جمر من فرط تلهفه وشوقه لمعرفة الحادث الغريب الذي مرَّ بعدوه الألد "مادان" وهو في طريقه إليه ..
فلما فرغ "مادان" من طعامه وشرابه ارتدى أفضل ما حمله معه من ثيابٍ مَلكيةٍ مزركشة ومزخرفة بخيوط الذهب وفصوص الجواهر، ثم وافي "شهريار" على موعدٍ في خيمته الشاهنامية، واستقبله الأخير مضطرم المشاعر وقد فرغ مرجل صبره، وبعد تبادل كلمتين أو ثلاثة جلس البختيار "مادان" في وضعٍ مريح بجوار "شهريار" على الأبسُط الفاخرة، التي بُثت عليها وسائدُ صغيرة مطرزة كأجمل ما يكون التطريز، ثم آنس "مادان" من الشاهنشاه تشوقًا ولهفةً لسماع باقي الحكاية التي حكي أقلها وبقى أكثرها، فابتسم ابتسامةً غامضة واستطرد مكملًا حكايته العجيبة:
"لما أيقنت يا صديقي بالهلاك قرَّرت أن أموت عزيزًا كريمًا مرفوع الرأس ثابت الجنان، كما ينبغي للملوك؛ ولكن شيئًا مما جال بخاطري لم يقع، فلم يكد تراجمتي يفرغون ما بجعبتهم من صنوف اللغات وطرائق الألسن ويركنون إلى اليأس، حتى فوجئنا بشخصٍ يختلف منظره عن مناظر أولئك القوم، ينسلُّ من بين صفوفهم متقدمًا ببطءٍ نحو محفَّتي، وحاول رجالي وحرسي منعه فأشرت لهم ألا يفعلوا، ووقف الرجل أخيرًا بمحاذاتي، وراح يتفرَّس في وجهي وملابسي بدقةٍ وكأنه يقيس أبعادي ويزنني، وكان الرجل طويلًا نحيلًا للغاية، يرتدى ملابس فاخرة ودروع مزردة، ويتقلَّد سيفًا من الذهب الخالص، فبدا لي وكأنه رئيس أولئك القوم أو قائدهم، وما راعني إلا أن يتحدث إليَّ فجأة، لا بلغة "ميديا" أو "مصر" أو "تاميرا"؛ بل بلغتنا نحن، لغة مملكة البغدان! فقال:
-سيدي الخان، أرجو ألا يخيفك اجتماعنا حولك
وكان يا "شهريار" العزيز هذا الأسلوب في الكلام أسلوبًا غريبًا، لم تتم مخاطبتي به من قبل أبدًا، وكانت لهجة الرجل تحوى من الوقاحة والجرأة قدر ما تحوي من التهديد والتخويف، مما أثار حفيظتي بشدةٍ على هذا الرجل السافر الوجه الوقح، وعلى مَن معه من أولئك الهمج قاطعي الطريق، فتبخر خوفي الأول وحلَّ محله الغضب والاستياء، فقلت للرجل الجريء الذي لم يتعلم الأدب في حضرة الملوك:
-أفسح الطريق يا هذا، ودع موكبنا يمرُّ
فردَّ عليَّ الرجل بوقاحة:
-بل تنتظر أنت ومن معك حتى يُبت في أمركم!
فعدت أقول للرجل الوقح البغيض وقد تهدَّج صوتي غضبًا ونفورًا:
-وممن ننتظر الإذن والبتَّ في أمرنا يا هذا؟! إذا كنت تعني صديقي المعظم الشاهنشاه "شهريار"، فنحن في طريقنا إليه.
وقد قلت ذلك يا صديقي لأن ظني بأن هؤلاء القوم الغرباء هم من أتباعك كان ما زال غالبًا عليَّ؛ ولكن الرجل المتبجح ضحك ضحكةً مجلجلة رنت عبر دروب الصحراء، وكأنها ضحكة حيوانٍ مفترس، وأجابني في لهجةٍ خشنة وأعتذر عن اضطراري لترديد ما قاله على مسامعك أيها الشاهنشاه، قال وكأنه يقذف بسهامٍ مسمومة في وجهي:
-أنا لا أتحدث عن "شهريار" البليد الغبي أيها الخان!! بل أنت وموكبك تُحملان إلى بلاط ملك "هيمرا" العظيمة وسيد جيوشها، حيث يبتُّ في أمركم، فإما موتٌ وإما حياة.
وتم اقتيادنا يا مولاي وقد أيقنا بالهلاك، ويئسنا من النجاة
************
.. وتم اقتيادنا يا مولاي كالأنعام التي تُساق إلى النحر، ولما جنح رجالي وجندي المخلصون إلى المقاومة استعدى الرجل الذي حسبته قائد القوم عليهم جنده، فضربوا بعضًا من جنودي وشدُّوا وثاقهم بعد أن أثخنوهم بالجراح، وخفت على رجالي الذين قضيت العمر أختارهم وأصطنعهم لنفسي فأشرت إليهم آمرًا بألا يقاوموا هذا الجيش الكثيف، لئلا يشقون عليَّ وعلى أنفسهم، وسرنا يا صديقي تحت تهديد الأسلحة وعبرنا دروبًا من الصحراء وعرةً عسيرة المسالك، وتعثرت جيادنا التي لم تعتد أمثال تلك الدروب والطرق العسرة؛ بينما كانت جيادهم تدبُّ على الأراضي الوعرة الشائكة بنعومةٍ ورشاقة تأخذ بمجامع القلوب، وكأنها تسير على بساطٍ من السندس الأخضر النضير، لا على صخورٍ بارزة وحصباء وكثبان رملية خطرة، وإن كنت عرفت فيما بعد سبب لين عريكة جياد هؤلاء القوم وسهولة طواعيتها واندهشت له جدًا !
وبعد مسير حوالي نصف يومٍ عبرنا دربًا قصيرًا ضيقًا من دروب الصحراء، أخبرنا الرجل البغيض الذي عرَّفته لك من قبل بأنَّ خلفه تقوم عاصمة مملكتهم الغريبة التي يسميها "هيمرا" أو "هوميرا"، لا أدرى بالضبط، وتوقَّعت في نفسي أن نشرف بعد قليلٍ على وادٍ قاحل من وديان هذه الصحارى الجرداء، التي تنتشر فيها الخيام ويسكنها أهل البوادي الجهلاء الغلاظ، الذين يظنون أنَّ واديهم هو أول وآخر حدود الدنيا، ويحتقرون الممالك الزاهرة وحضارتها العامرة ويتعاملون مع أهليها وأسيادها بمنتهى العنف والغلظة التي جُبلوا عليها، ولكنى يا مولاي الشاهنشاه ما لبثت أن تبين لي أنى طفلٌ غرير جاهل لم أعش في الدنيا قبلًا ولم أرَ من بدنها سوى ذؤابات الشعر، فما راعني بعد أن عبرنا الدرب القصير الضيق إلا أن أجد نفسي أنظر وكأني أحملق في حلمٍ إلى مدينةٍ عامرة !
مدينة يا صديقي ليست من صنع بشرٍ ولا جان، بل لابد أن الآلهة نفسها صنعتها بأناملها، لكي تأوي إلى قبابها السامقة المغطاة بالذهب، أو تمرح في رياضها النضر المعطَّر أو تشرب من غدائرها الصافية التي يتدفق من جوفها ماءٌ كأنه فضةٌ صافية مذابة مصقولة، ومررنا أنا ورفاقي بأرباض المدينة وأحيائها وكأننا نيام، وبعد كثيرٍ أو قليل لا أعرف -فقد كنت حينئذ غائبًا لا أدرك من أبعاد الزمن شيئًا- وصلنا إلى ما بدا لي أنه قلب المدينة، وهناك روعت حقًا وكدت أسقط مغشيًا عليَّ.. "
وفي تلك اللحظة أقتحم الخيمة الشاهنامية فجأة الوزير "عبدان" وقد امتُقع لونه واضطرب اضطرابًا أنساه حتى أن ينحني لمولاه الشاهنشاه؛ ثم أخبر "شهريار" بصوتٍ يختلج تأثرًا بأنَّ رجاله عثروا على ابنته الأميرة "روكسان!".

0 تصويتات

اترك تعليق

التعليقات

اكتب وانشر كتبك ورواياتك الأصلية الأن ، من هنا.