Horof

شارك على مواقع التواصل

اجتمعت العائلة، بعديدها والجميع ينتظر الجدّ العائد إليهم، ليراهم وليتعرّفوا عليه. الزّمن يمرّ بطيئاً، الصّغار لا يفقهون شيئاً، الكبار بلهفة المحتاج لحضور الجدّ المادي قبل المعنوي ينتظرون.
منهم من ذهب إلى المطار كي يأتيَ به ومنهم من ضجر من طول الانتظار في البيت القديم الذّي عملوا على تأهيله وتصليحه وإعادة فرشه كي يستقبلَ الضّيف العزيز ويكون مكاناً مريحاً للّقاء.
بدأت تتسلّل ضجةٌ آتيةٌ من الحديقة، أصواتٌ ومناقشاتٌ وكلماتُ ترحيبٍ، وأخيراً قد وصل الجدّ المنتظر.
لم يرضَ بأن يرتاحَ في غرفته؛ فضّل القعودَ معهم في الصّالة ريثما تنتهي النّسوة من تحضير العشاء.
واجتمعوا حول المائدة، وتناولوا الطّعام وجرت حواراتٌ قصيرةٌ عن الأكلِ وعن الغربِ وعن أكلاتِ أيامِ زمانٍ وكيف اعتاد الجدّ هناك وراء البحار على تناول الأطعمة الخفيفة لذلك لا يمكنه الإكثارُ والشّبعُ حتّى لا يُصاب بمرضٍ أو علةٍ هو بغنًى عنها.
نزلوا إلى الحديقة وطلبوا الشّاي وقُدِّم لهم. وفي حلقة الشّاي، سأل الجدّ عن أولادِه كلّهم، واستغربَ عدمَ حضورِ الجميع، برّرَ الأخوةُ عدمَ مجيء البقيةِ بأنّهم مرتبطون بعقودِ عملٍ في الخارجِ وبمدارسِ وجامعاتِ أولادِهم والصّيفُ قريبٌ وبالتّأكيد سوف يأتون إلى البلد ويجتمعون بالجدّ الآتي بعدَ غيابِ عقودٍ.
ومن ثمّ بدأَ يُنْصِتُ لكلّ واحدٍ منهم رجالاً ونساء ويسجّلُ في مفكّرةٍ صغيرةٍ بعضَ الملاحظاتِ. وبعد ذلك استأذنَ فقد حان وقتُ نومِه، ووَعَدَهم بإكمال الاستماع إليهم غداً صباحاً.
هدأتِ الحركةُ في البيتِ القديمِ وخَمَدَتِ الضَّوْضاءُ ونام الجميع على أحلامٍ كبيرةٍ وعلى مشاريع َغزيرةٍ معتقدين أنَّهم سوف يتلقَوْن مساعدةَ الجدِّ وأنّ الفرجَ جاءَ وكلُّ المشاكلِ الماديةِ سوف تذهبُ إلى غير رجعةٍ .
بدأ الجدّ بلقاءِ عائلةِ الابنِ البكرِ، فرداً فرداً، من أصغرِها إلى كبيرِها، نساءً ورجالاً، شباباً وشيباً.
وفي أمسيتِه، جَلَسَ على كرسيّه الهزّازِ يتفكّرُ بما سَمِعَه من مصائبَ ومشاكلَ ومطالبَ وهمومٍ.
الكلّ ُيعاني من ضائقةٍ ماديّةٍ، وعنده طموحٌ أكبرُ من إمكانياتِه، والجميعُ ينتظرُ الفرجَ ويتوقَّعُ أن تُمْطِرَ السّماءُ ذهباً كي يَعْبُرَ إلى مستقبلِه الزّاهرِ وكي يحقّقَ حلمَه الكبيرَ .
وأقصى تلك الأحلامِ منزلٌ ودكّانٌ وسيّارةٌ ورصيدٌ للآخرةِ. لم يطلبْ أحدٌ منهم تنفيذَ مشروعٍ أو دعماً لتنفيذِ أفكارِه أو منحةً لتطويرِ ذاتِه .
لا زالت مطالبُهم نابعةً من بيئةٍ فقيرةٍ معدمةٍ، ليس مادياً وإنّما أخلاقياً ودينياً. الأطفالُ وحدُهم من يمكن أن تُعَدَّلَ مطالبُهم و تُنَزَّهَ طموحاتُهم وتُصَوَّبَ أحلامُهم؛ عِوَضَ الألعابِ المستوردةِ والتّكنولوجيا المتطوّرةِ، نعلّمُهم على الألعابِ الرّياضيةِ والتّمارين الجسديةِ والقراءةِ التّي صارت من نوادرِ جحا ومن أساطيرِ سندبادَ.
وقرّر الآتي سوف يُقيمُ لهم مسابقةً:” من يقرأ ُ ألفَ كتابٍ سوف ينالُ جائزةً وسوف ينالُ ألفَ........ يعلنُ عن نوعِها بعدَ حينٍ، والمسابقةُ هي للكبارِوللصّغارِ .
وأَعْلَنَ الجدُّ عن مسابقتِهِ أمامَ الملأِ وقَبْلَ أن تبدأ َ المواجهةُ الثّانيةُ.
صارَ يقرأ ُ كلَّ أمسيةٍ على مسامعِهم كتباً ورواياتٍ. في البدايةِ، أصابَ الجمعَ المللُ وبدأوا بالتّململ. وبعدّ عدّةِ جلساتٍ، صارت الأمسياتُ أجملَ، استماعاً وانصاتاً، ومناقشاتٍ وحواراتٍ وتكرارَ بعضِ الجملِ التّي تُحْفَرُ في الأذهانِ وتُطْبَعُ على الألسن.
“العِلْمُ يرفعُ بيوتاً لا عمادَ لها والجهلُ يَهْدِمُ بيتَ العزّ والشّرفِ”.
“مدرسةُ العِلْمِ لا ترفضُ طالباً والكِتابُ لا يَرُدُّ صاحباً.”
“العِلْمُ نورٌ ونارٌ يُضيءُ الطَّريقَ ويَمْحو العارَ.”
كلماتٌ معانيها رائعةٌ تَخْتَصِرُ أفكاراً راقيةً.
في كواليسِ النّفسِ، ذكرياتٌ جميلةٌ تجعلُنا نفرحُ أو نحزنُ. تَتَصادَمُ المشاهدُ وتَتَعانَقُ، تُمْعِنُ في تجميعِ صورٍ مُلَوَّنَةٍ بكلّ ألوانِ الحياةِ!.
وجاءَ لقاءُ الابنِ الثّاني، وكان طويلاً، حتّى الفجرِ.
وبعدَ نومِ بضعِ ساعاتٍ، جَلَسَ الجدُّ يراجعُ محصلةَ اللِّقاءِ.
أبناءٌ يتقاتلون يتحاربون يتنافسون بدون مراعاةٍ لصلةِ الأرحامِ. الشّوارعُ والأحياءُ مدمَّرةٌ والدّماءُ تسيلُ أنهاراً وتَتَجَمَّعُ بحيراتٍ. رائحةُ الموتِ تفوحُ في كلّ الأنحاءِ.
وفَقَدَ الجميعَ الحَواسَ والإحساسَ، الشّرُ يطوفُ بين النَّاسِ، الحقدُ والحسدُ، الكرهُ والبغضُ، عناوينٌ تُلَخّصُ كلَّ الأحداث.
نظراتُ الأطفالِ تحكي للسّماءِ حكاياتٍ موجعةً، دموعُ الأمهاتِ تروي قصصَ الموتِ وبكلّ الأسباب.
غريبةٌ تلك الأخبارُ؛عندما هاجرَ الجدُّ كان عنده ابنٌ ضال، وبعدَ هذا اللقاءِ اكتشفَ أنّهم جميعاً قد ضلّوا الطَّريقَ وأنَّهم نسَوْا اللهَ فأنساهم أنفسَهم،وأنَّهم رضخوا لواقعٍ أليمٍ.
وبعد جلسةٍ مع الذّاتِ، خَرَجَ بفكرةٍ علَّها تعيدُ لهم نعمةَ البصرَ والبصيرة َوهي:”إضافةً على جلساتِ المطالعةِ والحواراتِ التّي فَرَضَها الجدُّ، على الجميعِ إنجازُ مجسماتٍ عن البلدِ الذّي يريدون العيش فيه، أو رسمُ لوحةٍ أو كتابةُ وصفٍ مُفَصَّلٍ يمكن أن يساعدَهم في الوصولِ لمبتغاهم.”
كلُّ فردٍ يستطلعُ موهبتَه ويُظْهِرُها بالتّنفيذِ وبتبيانِ مطالبِه وما يحبُّه لنفسِه ولعائلتِه .
وبذلك يكون الجدُّ القادمُ من وراء ِالبحارِ قد وَضَعَ حجريْن لأساسِ المدينةِ الرّائعةِ: (القراءة والتّفكير)، والتّي سيجتمعُ فيها مع أبنائِه وأحفادِه.
أمةٌ لا تقرأُ ولا تفكّرُ فأنّى لها أن تحيا وتعيشَ. حقيقةٌ مؤلمةٌ وموجعةٌ ويبقى الحلمُ بمحو السّوادِ بشمس ِالأملِ وهذا ما حاولَ الجدُّ زرعَه في قلوبِ الأبناءِ...
وكان اللّقاءُ بين الجدِّ وبين أفرادِ العائلةِ الثّالثةِ بولدانِها وشيبِها وشبابِها ونسائِها.
الكلُّ أجمعَ على أمرٍ غريبٍ وهو أنّه يعملُ بقليلٍ من الطّاقةِ التّي لديه؛ حتّى التّلاميذُ ورباتُ المنزلِ التّكنولوجيا هدمَتْ قواعدَ العملِ ومبادئِه في ذاتِ كلٍّ منهم .
الميلُ إلى الرّاحةِ والكسلِ والنّحو صوبَ الفرحِ المزيّفِ والسّعادةِ المفتعلةِ سماتٌ مشتركةٌ لديهم.
يعملون بأنصافِ قوّتِهم وبأجزاءِ طاقاتِهم ويجهرون بذلك ويضحكون ربما على أنفسِهم وربما على ظنونِهم بأنّهم فازوا بما هم عليه وحقّقوا نصراً مبطّناً بهزائمَ جمةٍ.
انفرطَ عقدُ اللّقاءِ وذَهَبَ كلُّ واحدٍ إلى مكانِه وعادَ الجدُّ منهكاً ممّا في نفسِه، ومتعباً ممّا حَمِلَه من همومِهم ومشاكلِهم. في الظّاهرِ هم مرتاحون ولكنْ في الحقيقةِ هم متقاعسون .
وفي الأمسية التّي اختارها لإعلان النّتيجةِ، احتارَ الجدُّ كيف يقرأُ عليهم ما وصَلَ إليه وكيف يُقْنِعُهم بأن يُغَيّروا طبيعةَ عملِهم وثقافةَ عيشِهم ويستعيدوا جوهرةً يملكونها تركوها مطمورةً ويعلوها التّرابُ، مهملةً متروكةً مجهولةَ القيمةِ: ألا وهي إتقانُ العملِ” إنّ اللهَ يحبُّ اذا عَمِلَ أحدُكم عملاً أن يُتْقِنَه” صَدَقَ رسولُ اللهِ (ص) .
واهتدى لفكرةٍ صائبةٍ وهي إعلانٌ لكلّ أفرادِ العائلةِ: “ضاعفوا جهودَكم واقتنعوا بشحذِ كلَّ طاقاتِكم ومارسوا كلَّ معرفتِكم واستعينوا بعِلْمِكم وقوموا بأعمالِكم، وبعدَ شهرٍ راجعوني وحدّثوني عن الفرقِ من راحةِ لضمائرِكم وزيادة في انتاجياتِكم وفي تشذيبِ أنفسِكم وفي شعورِكم بالرّضى حتّى وإن بقيَ راتبُكم هو نفسُه، وإن بقيَتْ درجاتُكم هي ذاتُها. فمن يرَ ببصيرتِه لا تعنيه ماديةُ النّظرِ ولا ينتظرُ أن يستمعَ إلى إطراءٍ أو إلى شكرٍ ولا ثناءٍ.
بعد ثلاثينَ يوماً، سوف يقومُ كلُّ واحدٍ منكم بإعطائي هديةً ولن ينتظرَ مني شيئاً فما سوف تحققونه سيغنيكم عن المالِ وعن المناصبِ. فكلّ رئيسٍ في بلدِه وكلّ متفوّقٍ في إطارِ عملِه هو الوحيدُ الذّي يحقُّ له أن يُقَيِّمَ عملَه، واللهُ المستعان. ولا تنظروا إليّ كأنّي سَاحرٌ أو نبيٌّ مرسلٌ؛ أنا الجدُّ الذّي عادَ لِيَجْمَعَكم ولِيُساعِدَكم ولِيُمِدَّكم بالقوةِ والمالِ، ولِيَمْنَحَكم لقبَ الابنِ الذّي رضيَ اللهُ عنه وأرضاه ورضيتُ أنا عنه.
تفضلوا إلى المائدةِ لنتناولَ ما منحَتْنا إياه حديقةُ المنزلِ من خضارٍ وفاكهةٍ، وممّا حَضَّرَتْه أيادي نسائِكم. بالعافيةِ للجميعِ، وأذكّرَكم بالأمورِ السّابقةِ:” القراءة والتّفكير، واليومَ نضيفُ إتقانَ العملِ”. ثلاثةُ ركائزَ أساسيةٍ في بناءٍ جديدٍ لثقافةِ حياتِنا الجديدةِ القديمةِ.
وحديثُ المساءِ جاءَ على لسانِ الجدِّ في حضرةِ عائلةِ أحدِ أبنائِه وأحفادِه.
وبعد أن أنصتَ إليهم،أردفَ يقولُ يا أحبائي، رأيتُكم عاملين والحماسةُ تسيّرُكم، رأيتُ قدراتِكم ومقدراتِكم ومستوى تعاطيكم مع محيطِكم إلّا إننّي رأيتُ في مسيرتِكم الفوضى القاتلةَ وهي التّي تؤثّرُ على إنتاجياتِكم وعلى تقدّمِكم وازدهارِكم.
صدّقوني رتّبوا أفكارّكم كما تنظّمون حوائجَكم وأشياءَكم. كلّما كانت الأفكارُ مرتبةً بانت بطريقةٍ صحيحةٍ وكانت فاعلةً أكثر. لا تشوّهوا عملَكم بتقاعسِكم ولا ترضَوْا بواقعِكم. بأيديكم تستطيعون تغييرَه إلى الأفضلِ والأَجْوَدِ والأَحْسَنِ!
شتّان بين الّذين يثقون بأفعالِهم ويرتقون بها وبين الذّين يفتقدون لإحساسِهم بالنّجاح بسبب فوضى الحواسِ والأفكارِ التّي تتحكّمُ بهم عن قرب .
حاولوا أن تتفادوها وأن تتجنبوا العملَ قبلَ ترتيبِ أفكارِكم وبرمجةِ قدراتِكم وتقييمِ إنتاجياتِكم مسبقاً. فمن يملكُ قوةَ العطاءِ يحقُّ له أن يكونَ لديه ميزانُ التّقييمِ طالما التّقويمُ لكلّ ما يعطيه يرتبطُ بالعقلِ والمنطقِ والعِلْمِ والعملِ.
فقط التفاتةٌ للتّنظيمِ وللتّرتيبِ ولتنظيفِ ثقافةِ العملِ في داخلِنا وبعدَ ذلك القليلُ سيصبحُ كثيراً وحتّى أصغرُ المهامِ سوف تَعْظُمُ بإنتاجياتِها بإخلاصٍ وإيمانٍ واقتناعٍ أنَّ الحفاظَ على عائلتِنا ومجتمعاتِنا وأوطانِنا يكونُ بنظافةِ الفكرِ وبترتيبِه وأناقتِه. وكلّما ارتقى ارتقيْنا وهو حتّى الآن من الثّرواتِ المغيّبةِ؛ فلِمَ لا نستعيدُها ونعملُ على الحفاظِ عليها واستغلالِها بمسالكَ منتجةٍ ومفيدةٍ.
أحبائي لا يصيبنَّكم المللُ ولا يدخلنَّ عليكم اليأسُ ولا يشعرَنَّ أحدُكم بالغبنِ؛ علاجُكم بين حنايا قلوبِكم وفي داخلِ وجدانِكم. وصدِّقوني لا تحلو الحياةُ بدون النّظامِ ولا تمضي بدون الإصرارِ على القيامِ بتغييرِ أنماطِ عيشِنا وبمضاعفةِ الجهودِ وقوةِ التّنفيذِ لنقيّدَ الفوضى بالنّظام. فبه نصلُ إلى نجاحِ خياراتِنا وتصريفِ طاقاتِنا بأمكنتِها الصّحيحةِ وبطرائقَ ميسَّرةٍ تحقّقُ للجميعِ أهدافَهم السّاميةَ وأحلامَهم الرَّاقيةَ.
ذاتَ مساءٍ، تَقَوْقَعْتُ في صومعتي، أذاكرُ أحوالَنا، وأركّزُ على نقاطِ ضعفِنا، وبلا دهشةٍ وجدْتُ أنّ الحلَ لمشاكلِنا، هو الإقرارُ باستهتارِنا و الاعترافُ بالتّفريطِ بحقوقِنا.
لغتُنا أين هي؟ّ! باستثناء المباراةِ وبضعِ أفرادٍ وقليلٍ من الملتزمين، هي في الدّركِ الأسفلِ من القاعِ مع ما يترتبُ عن ذلك من انحلالٍ فكريٍّ وانهيارٍ أخلاقيّ.
وحدتُنا لم يبقَ منها شيءٌ؛ نتمسّكُ بالخلافاتِ ونشدّدُ على الانقساماتِ والأسوأُ أنّنا ننسبُها للدّينِ.
أصالتُنا هل لا زالت تُذْكَرُ أم أنّها اختفَتْ مع كلّ الأشياءِ الجميلةِ فينا!؟
صلةُ الأرحامِ استُبْدِلَتْ بوسائلِ التَّواصلِ والميديا.!
حتّى تسليتُنا صارت مهزلةَ صورٍ فكم من كلمةٍ تُكْتَبْ للتّعبير عن رأيٍّ أرعنٍ أو ادّعاءٍ باطلٍ.
ابتسامتُنا شُوّهَتْ، طيبتُنا اندثرَت، عقولُنا طارَت، قلوبُنا تجمّدَتْ.
وعلى كلّ، أملُنا بغدٍ أفضل كبيرٌ وثقتُنا باللهِ العظيمِ كبيرةٌ.فمن أوهنِ الأزمانِ سنُقادُ إلى زمنِ القوةِ والنّورِ والعزّةِ باللهِ وبالإسلامِ وبلا خجلٍ ولا وجلٍ؛ ديننُا دينُ الرّحمةِ والسّلامِ وكفى تشديقاً وزَيْفاً وتزويراً...
وعندما تشرقُ الشّمسُ في يومٍ ما سوف تشرقُ قلوبُنا وتَعكِسُ الأنوارَ في كلّ مكانٍ في الشّرقِ وفي بلادِنا العربيةِ .
حطّ المساءُ رحالَه في المدينةِ وفَرَدَ اللّيلُ جناحيْه مُعْلِناً وقتَ السّمرِ والسّهرِ والرّاحةِ بعدَ التّعبِ.
الأولياءُ مجتمعون حولَ الجدّ يتبادلون أطرافَ الحديثِ ويركّزون على مجرياتِ الأمورِ وانعكاسِ ما يحدُثُ في الوطنِ العربيّ. وتعدّدَتْ وجهاتُ النّظرِ واختَلَفَتْ الآراءُ. وجاءَ دورُ ربِّ العائلةِ وانبرى يشرحُ كيف نوحّدُ صفوفَنا ونكونُ قوةً، ونُنَزّهُ الإعلامَ من شوائبِه، ونعيد النّظَرَ في المقرّراتِ والمناهجِ الدّراسيةِ، ونجدّدَ طرائقَ عيشِنا مع الحفاظِ على ثوابتِنا العربيّةِ والدّينيةِ وتغييرِ أنماطِ حياتِنا التّي رضينا بها من كسلٍ وخنوعِ وقبولِ بالدّرجاتِ السّفلى في كافةِ الأمورِ.
عقَّبَ الجدّ على كلامِه بالتّصفيقِ وأبدى ارتياحاً؛ لقد سَمِعَ منه ما لم يسمعْه من أحدٍ قَبْلِه واطْمَأَنَّ على نُضْجِ ثقافتِهم وعلى معرفتِهم لمَواطِنِ الضّعفِ والقوة ِعلى السّواءِ.
ويُبْنَى على الشّيءِ مقتضاه، فلْنَبْدَأْ! كلٌّ بعائلتِه ترتيباً، وتعليماً، وتحسيناً، ومزاوجةً بين الأصالةِ وبين الحداثةِ بشرطِ ألّا ُيعارِضَ التّقدُمُ مبادِئَنا وأفكارَنا وتعاليمَ الأديانِ. ولِنستوحِ تربيةَ أجيالِنا من منطوقِ الحلالِ والحرامِ؛ فلا يصحّ إلّا ما حلّل اللهُ ولا يُرْفَضُ إلّا ما حرّمَ اللهُ، ولنقتدِ بمدرستِنا العظيمةِ سنةِ نبيِّنا عليه الصّلاةُ والسّلامُ. واللهِ لو تمسّكْنا بكتابِ اللهِ وسنةِ رسولِه لتَقَدَّمْنا على العالمِ ولَكُنّا بحقٍّ خيرَ أمّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنّاسِ.إذا لم نمسكْ المالَ والسّلطةَ والأخلاقَ والأدبَ فعلى العربِ مليارُ سلامٍ.
وكان الجدُّ متحمساً لدرجةِ أنّه قرَّر أنْ يجولَ عليهم هو ويعيشَ حياتَهم كي يكونَ على درايةٍ بما يحصلُ عن قربٍ ليساعدَهم. عساه يلمُّ شملَهم ويجمعُ كلمتَهم ويوحّدُ صفوفَهم ويخرجُهم من الأنفاقِ المظلمةِ التّي أفنَوْا حياتَهم فيها: الانقساماتِ المذهبيّةِ القاتلةِ والضّعفِ المُسْتَشري والجهلِ المتفشّي...
وهكذا يتابعُ رسالتَه ويحاولُ أن ينفّذَ مأربَه؛فباعتقادِه إعطاؤهم المالَ لن يفيدَهم، بل سيلزمُهم الكثيرَ من العلمِ والعملِ والثّقافةِ والأخلاق والدّينِ-وحده- يشمل كلّ ما سبق...

وإلى لقاءٍ آخر.

ذات مساءٍ، قرّرَ الجدُّ النّزولَ إلى مدينةِ أحفادِه المُحاصَرةِ حيثُ الموتُ يُسَيّطِرُ على الهواءِ والدّمارُ يحلُّ في الأَنْفسِ. هناك وَجَدَ الحياةَ بين حنايا الأكفانِ الحمراءِ ووَجَد َأهميةً لنقطةِ الماءِ ولكسرةِ الخبزِ وللكلمةِ الطّيبةِ وللصّلواتِ.
ومن بين الرّكام ِومن بين الزّحام ِ، يهتفُ للأبناءِ ويقولُ: “المؤامرةُ علينا كبيرة ٌوالضّعفُ فينا أعظم ُ الأسبابِ.
تَرَكْتُكُم صِغاراً ووِلْداناً، وصُرْتُم اليومَ شباباً وشيباً.
ورغمَ علمِي الكَثيرِ وخبرَتي الكبيرةِ وتجاربي في الدّنيا الواسعةِ، إلّا أنّني وقفتُ أمامَ عنفوانِكم وجبروتِ صمودِكم مذهولاً. ومهما قالوا عن الثّورة من افتراءاتٍ إنّها مصادرةٌ ومتعددةُ الرّؤوسِ وغيرُ متكافئةٍ ولكنّها واللهِ تبقى من أقدسِ الثّوراتِ.
هي فتيلٌ اشتعلَ ردّاً لكرامةِ شعبٍ مُخَدَّرٍ ونائمٍ لسنواتٍ وعقود.
واليومَ، أمامَ مزيجٍ من الأجيال ِ، كلُّهم على قلبِ رجلٍ واحدٍ، نريدُ للوطنِ الحياةَ بعيداً عن الظّلمٍ والإرهابِ. نعم الإرهاب! فلسنا كما يسمّونَنا! إنْ كنا نحنُ الإرهابيينَ، فماذا نسمّي أفعالَهم؟! من النّظامِ إلى الأحزابِ والدّولِ التّي تآمرَت والدّولِ التّي تخاذَلَت والشّعوبِ التّي لا تملِكُ إلّا الجلوسَ وراءَ الشّاشاتِ تباركُ النّصرَ والهزيمةَ على حدِّ سواءٍ.
في أقبيةٍ حيث البناياتُ أصبحَت تلالاً من الحجارةِ، فوقَ الأشلاءِ كانَ يجلسُ الجدُّ ومعه مجموعةٌ من الأطفالِ والشّبابِ والنّساءِ، لا يهابون الموتَ.
ها هم يقتلون وبكلّ سلاحٍ فتّاكٍ ولا يخشَوْن الظالمَ يسخرون من جبروتِه ويتسلوون بأخبارِه.
وقد صوّبَ الجدُّ لبعضهم لهجتَه وصارت عربيةً ممتازةً وصحّحَ مساراتِ أفكارٍ لبعضِهم الآخرالذّي كان يعتقدُ أنّ الغربَ هو القدوةُ والمثالُ؛ فأسقَطَ من منظومةِ استراجيتِه نقطة الغاء ليصيرَ العربُ هم القدوةُ وهم المثالُ وإن كانت الصّورةُ لا تزالُ غيرُ واضحةٍ ورؤيتُها بعيدةً.
ها هي المدائنُ تتساقطُ واحدةً تلوُ الأخرى وها هم الأحرارُ يحاولون الدّفاعَ عن أرضِهم وعن ثورتِهم وعن مبادئِهم بصدورِهم العاريةِ وبأيديهم الخشنةِ.
ثورتُهم ثورةُ أبطالٍ شوّهوا فيها كلَّ بيانٍ وأشاروا عليها بكلّ بنانٍ! ها هم يبيعون الغاليَ والرّخيصَ لأجلِ حفنةٍ من المالِ ونسَوْوا أو تناسَوْا أنّهم عربٌ من سلالةِ يُعْرُبْ وأنّهم أحبابُ مُحَمَّدٍ صلّى اللهُ عليه وسلّم.
أطفالُهم رجالٌ ونساؤهم رجالٌ ورجالُهم عظماءُ.
ومع كلّ هذه الأحداثِ، كَتَبَتْ أناملُ الجدّ حكايا لكلّ إنسانٍ وفي مختلفِ الأعمارِ قصصاً من صميمِ الواقعِ. أبطالُها كلّ من صَرَخَ ودافَعَ وصَبَرَ وجاعَ من أبناءِ خالد ابن الوليد وصلاح الدّين وطارق ابن زياد.
ومنها قصةُ طفلةٍ أبْكَتْ العالمَ بصمودِها وبنداءاتِها وبقوةِ بلاغتِها وفصاحةِ لسانِها. وليس بالعربيةِ نَطَقَتْ وإنّما بالانكلّيزية كي يفهمَ العالمُ أيّ شعبٍ هنا وأيّ إنسانٍ يعيشُ.
كانت تناجي أخاها الذّي فُقِدَ تحتَ الدّمارِ وشقيقتَها التّي أَسْعَفَها الشّبابُ من بينِ الرُّكامِ وأمَّها التّي لا تزال في المشفى والوالدَ الغائبَ في معتقلاتِ النّظامِ.لقد سَمِعْتُكم ورَأيتُكم غيرَ فاعلين وانفَطَرَ القلبُ على واقعِكم الأليمِ. دعوني أسْكنُ إلى ذاتي كي أفضيَ بما بها على الورقِ، أحكي عن زمنٍ كان لكلّ ما فيه معنًى جميلٌ ومغزًى حكيمٌ ولن أدعوَكم لتعيشوا الماضي ولا التّاريخَ ولكن أروي ما أروي تبياناً لأمورٍ نسيتموها وكنتم عنها غافلين. نعم الثّورة من صلبِ الدّينِ فربُنا اللهُ حثَّنا على الثّورةِ شريطةَ أن تكونَ حقيقيةً، أن تمحوَ كلّ َنوايانا السّوداء فكما يقولُ اللّه في كتابِه الكريمِ ﴿لا يغيّر الله ما بقومٍ حتّى يغيّروا ما بأنفسهم﴾. فالثّورةُ ليست شعاراً نرفعُه ولكنَّها تَصْلَحُ لأن تكون لنا مُنْطَلَقاً على دروبِ الخلاصِ.


0 تصويتات

اترك تعليق

التعليقات

اكتب وانشر كتبك ورواياتك الأصلية الأن ، من هنا.