Horof

شارك على مواقع التواصل

تُقدّم له القهوة بيدٍ مرتعشة، لا يراها فلم يلحَظ الخوف والتردد البادي على ملامحها وهي تنحني قليلًا؛ لتضع صينية القهوة على المنضدة الصغيرة أمامه.
استأذنت للمغادرة فأشار بوهنٍ لها، كادَت تخرج وتغلق باب غرفته وراءها، ولكنها لم تغادر، أوصدَت الباب وبقيَت ساكنة تطالع ذلك العاجز الجالس منكسرًا على مقعده، سحب نظارته السوداء التي تخفي عينيّه عنهم، تركها جوار الصينية بعد أن تحسّس موضعها.
أراح مؤخرة عنقه على حافة مقعده، ثم سمح لدمعة ساخنة أن تهرب من بين جفنيه قبل أن يئِدها بجانب سبابته، لم تتمالك نفسها، فانهالت دموعها لتضع يدها سريعًا على فمها؛ لتكممه حتى لا يشعر بوجودها.
تتناحر المشاعر داخلها، تلعن اضطرارها لفعلتها، فتتثاقل عليها لحظات انتظارها.
يعتدل في جلسته ليقترب من الصينية؛ فيتحسس بحذر موضع فنجان قهوته حتى حمله، ازدادت عيناها اتساعًا وهي تراقب اقتراب الفنجان من شفتيه، كاد يلمسه أخيرًا؛ فاندفعت إليه صارخة وهي تدفع الفنجان، فيسقط من يده وتتناثر قطرات القهوة الساخنة عليهما:
- بهيّ، لا تشربها.
أفزعه ما حدث، فهتف بحروف ازدادت ثقلًا بسبب انعزاله منذ سنوات:
- أميرة، ما الأمر؟
انتحبت أميرة، وانحنت تقبّل قدميه:
- سامحني أخي، ليتني مِتّ قبل أن أطيع شيطاني.
شعر بتخبط داخله، لم يفِق بعد من كارثة وفاة والده الأسبوع الماضي، والآن كان سيقع ضحية لأخته.
أبعدها عنه بقسوة، فمنعتها المنضدة عن تركه:
- وسوس لي زوجي أن أضع لك السم؛ ليعود إلينا ميراثنا الشرعي، أبي من دفعنا لذلك عندما ترك لكَ كل أملاكه.
اختل توازنه فسقط جالسًا على المقعد الذي تركه منذ قليل، بينما هي متشبثة بساقيه:
- غبية، فعلها أبي خوفًا عليكُنّ، يعلم أنّي ملكُكنّ.
تشنجت ملامحه نفورًا وهو يجاهد؛ ليخرج حروف كلماته:
- يعلم أن أزواجكن الخمسة طامعين حاقدين، سيُضيِّعون بطمعهم ما أفنى عمره في بنائه.
أغرقت حذاءه بدموع ندمها:
- أوغر زوجي قلبي حقدًا عليك.
ضحكة ساخرة شردت تهكمًا منه:
- تحقدين على أعمى! أنتُنّ فقط عائلتي، وكل شيء تحت أقدامِكُن، ليس لي في هذه الدنيا غيرَكنّ! لا زوجة ولا ولد.
اعتصر الألم قلبها، آذته الآن كما آذته من قبل وحرمته من حقه في حياة طبيعية وهو جاهل.
اعتدلت جالسة تحت قدميه، مسحت دموعها وقد عزمت أمرها على كشف السر الذي تخفيه منذ ثماني سنوات:
- بل لكَ يا بهيّ.
حرك وجهه اتجاه صوتها، عيناه متسعتان ذهولًا، لسانه لا يطاوعه؛ ليُخرج حروفه المتلعثمة لتجتمع في كلمة واحدة:
- ماذا؟!
تنفست ودقات قلبها تتصارع لتزفر ذلك الهواء السام من روحها الآثمة:
- طليقتك كانت حاملًا.
لم يستوعب ما تقول، مذهولًا مصدومًا يتمنى لو كان الموت رحيمًا فيلتقمه، بينما تكمل أميرة وهي تكتم قطرات المياه الساقطة من أنفها بأطراف أصبعي الإبهام والسبابة:
- عندما طردتُها كتبَت ذلك في ورقة أعطَتْها لك.
لا يصدق قولها، تكذبها أذنيه:
- لا، أنتِ كاذبة.
أرادت أميرة إزاحة ذلك الثقل الجاثم على صدرها:
- أصابك نزيف وقتها، وأعطتني ممرضتك تلك الورقة، كنت غائبًا عن الوعي ولم تنتبه للأمر.
لمعت عيناه، ولكنه أجبرها على الصمود؛ فنطق بصعوبة:
- من أين لكِ بكل تلك القسوة يا ابنة أمي وأبي؟!
عادت لانتحابها وتقبيل قدميه:
- وسوس لي زوجي كالشيطان الرجيم.
دفعها بعيدًا عنه، ثم نهض ساحبًا إياها من ذراعها وهو يتخبط بدون عصاه، ووسط بكائها وصراخه العالي اتهمها متلعثمًا:
- بل أنتِ الشيطان نفسه.
ألقاها خارج غرفته، في الوقت الذي اجتمع فيه أهل البيت؛ ليتَبَيَّنوا سبب صراخه، ولكنه أغلق بابه خلفها بعنف، بينما أميرة تطرقه بغلظة وهي تبكي بلوعة:
- سامحني أخي، سامحني بهيّ، افعل بي ما تريد، ولكن أرجوك سامحني.
يسمع بهيّ تداخل صراخ وعويل أمه وأخواته أمام غرفته، وكأن ما حدث يوم وفاة والده يتكرر؛ ساحة معركة قادتها أمه ضد بناتها وأزواجهن، وكان أسرعهم فرارًا زوج أميرة الذي تركها لنيران أمها وبقية أخواتها قبل أن تنفّذَ وعيدها وتتصل بالشرطة؛ لتسجنه بتهمة شروعه في قتل ابنها الوحيد.
سقط أرضًا مستندًا على الباب، يشعر بالعجز وقلة الحيلة، فقد تلاحقَت عليه مصائب الدهر تباعًا ولا يملك للصمود سبيلًا، له طفل لا يعلم اسمه ولا حتى جنسه، وأخته ببساطة أرادت قتله، ليسأل نفسه:
- ماذا فعلت يا بهيّ لتكن حياتك بهذا الشكل من البؤس؟! أي فعل ارتكبتَ لتنال هذا العقاب؟!
فتلاحقت الدموع على وجنتيه:
- أهذا ذنب خذلاني لكِ يا أمانة؟
0 تصويتات

اترك تعليق

التعليقات

اكتب وانشر كتبك ورواياتك الأصلية الأن ، من هنا.