Horof

شارك على مواقع التواصل

بدأ (رادون) حكمًا جديدًا، حكمٌ لم يقم على الوراثة كحكمٍ (ليني) و(سيلدن) ولا على الاختيار كحكم (جسبلت) المختار من (بهرام) العظيم، كان يرى أنه صنع نفسه وشقَّ طريقه الصعب بنفسه غير معتمدٍ على نبوءةٍ أو نسب، لذلك ظنَّ أنه الأعظم بين الملوك؛ فهم صنعهم مصيرهم وأتاهم المُلك بفعل غيرهم؛ أما هو فقد صنع مصيره ونال المُلك بقوةٍ ومهارة، كانت سيطرته على كل مراكز القوة في الدولة شبه مطلقةٍ، وعندما اجتمع مجلس الحكماء للنظر في توليه الملك والتحقيق في وفاة الملك حاصر المقرَّ بجيشٍ عظيم ولم يكن لأعضاء المجلس من أنصارٍ بالجيش، وكذلك وجد من بينهم أنصارًا له ليسوا من الجيانيز فقط إنما كانوا من كل العشائر البشرية، كان واضحًا أن ليني قُتل لكنَّ نبأ انتحاره لم يجد مكذِّبًا واحدًا؛ فالكلُّ إما معجبٌ برادون وموالٍ له وإما خائفٌ من سيطرته ومتجنبٌ لبطشه، وهكذا صار نائب الملك العقيم ملكًا.
في أول أيام مُلكه نبهه أحد الخبثاء أنَّ مُلكه مهددٌ بظهور جسبلت، وأنه رغم سيطرته هذه فلن يبقى معه أحد لأنَّ شخصية جسبلت الآسرة لن تجد من يتحداها من أجله رغم كراهيتهم لقوانينه.
لم ينتظر رادون وجرَّد من فوره حملةً لمهاجمة الكهف الذي يأوي جسبلت، وانتظر أخبارًا تأتيه لكنه فوجئ باختفاء الحملة في ظروفٍ غامضةٍ، وشاع الخبر وأصاب الجند رعبٌ شديد، وازداد قلق رادون فأمر بتجريد حملةٍ أخرى لكنه لمس خوف الجندِ والقادة فقرر إلغاءها وأجَّل المواجهة المحتملة مع جسبلت حتى يفهم ما يحدث بالضبط.
مرَّت الأيام ثم الشهور ولم يظهر جسبلت، وخف ترقُّبُ رادون رويدًا رويدًا حتى نسي أمر جسبلت ونسيه الجميع عدا الجسبلتيين الذين ظلوا يأملون ظهوره ليخلِّصهم من الطاغية الجديد سارق المُلك من آل جسبلت.
بعد دفن الملك ليني جمعت (ميرالا) متعلقاتها وحاولت الذهاب لقصر أبيها؛ لكنها فوجئت بمنعها من الخروج من القصر وتحديد إقامتها في غرفتها، كانت حانقةً يملؤها البغض لرادون الذي غدر بزوجها ومنعها من الذهاب لبيتها الأول، كانت في الماضي تخافُ من نظراته الوقحة وتهرب منها عندما كان يزور أبيها أو تضطر لحضور حفلٍ له مع أبيها، شيء في نظرته كان يخيفها وينفِّرها، تذكرت ذلك الآن بعد أن صار الملك وبعد أن منعها الخروج من القصر.
فوجئت بزيارةٍ من أبيها في القصر، كان وجلًا يحاول الابتسام وعندما رأته تعلقت به وجعلت تبكي بحرقةٍ، ربت على ظهرها حتى هدأت ثم جلس إليها وقال:
- وضعك في القصر لا يريحني يا حبيبتي، وقد طلبت من رادون أن تعودي للعيشِ معي لكنه ماطلني وقال أنَّ أقلَّ تكريمٍ لملكتنا السابقة أن تظلَّ بقصر الملك وتحتفظ بلقبها الملكي.
احمرت عيناها غضبًا وقالت:
- لا أريد أن أظلَّ ملكة حبيسةً في قصره الملعون.
نكس رأسه وبدا أنه مكلفٌ بمهمةٍ صعبة فازدرد ريقه بصعوبةٍ وقال:
- أعلم يا ابنتي أنه لم يرُق لك قديمًا، أنا تاجرٌ بارع في قراءة النظرات، لكن رادون طلب مني أن يتزوجك ويصيِّرُك ملكة الأرض، وهو يعرض أن يعطيك قصورًا ويمنحك سلطاتٍ لم تعطَ لملكةٍ من قبل.
صمت قليلًا ثم أكمل:
- أعرف أنك تكرهينه، وهو يريدك بجنون، لا أدري هل هو حبٌّ أم رغبةٌ محمومة لكننا لا نملك الخيار، فأنا أعلم الناس به، لا نملك غير الموافقة.
ضغطت حروف كلماتها وهي تقول:
- على جثتي أن يظفر بي هذا الثعبان الكريه، يقتل زوجي ويسلب مُلكه ويريد أن يسلب روحي كذلك، الموت أهون يا أبي.
كاد الرجل يبكي وهو لا يدري ماذا يفعل وكيف يتجنب المصير المؤلم الذي ينتظر ابنته، كان يعلم أنَّ رادون حيوانٌ شرهٌ لا يشبع، وأنه لن يتورع عن استغلال نفوذه في ابتلاع كلِّ ما يروي طمعه من مالٍ ونساءٍ وخمرٍ وسُلطةٍ؛ وربما يشرب دماء من يعترض سبيله ويحرمه من إشباع حواسِّه جميعًا، لا شكَّ أنَّ هذا الوغد سيفني جسده سريعًا، سيحترق كشمعةٍ وهو يفني جسده في ملذَّات الحياة جميعها.
بخلاف أبيها كانت ميرالا لا تهابه، وكان احتقارها له يملأ حواسَّها وقلبها حتى أنها لم تعد تتخيل أنَّ هناك مكانًا لمشاعر أخرى تزاحم احتقارها له.
خرج أبوها من القصر حزينًا منكسرًا، ولم يسع لإبلاغ رادون بردِّها عليه فهو يدرك جيدًا أنَّ كلَّ شيءٍ وصله قبل أن يخرج من القصر.
كان يتوقَّع مدى الغضب الذي سيشعله رادون، وأي ضررٍ قد يلحقه ويلحق ابنته، لم يدرِ أنَّ رادون في القصر يحاول رؤيتها من بعيد ويكتم دمعةً قد تخونه لتظهر مدى ضعفه أمامها، فيقرر إطفاء ناره مع امرأةٍ أخرى وهو لا يعلم أنَّ ناره لن تنطفئ أبدًا.
مرَّت أيامٌ وهو يبتعد عنها ويحاول نسيانها، كان يتعذَّب أثناء حياة ليني صديقه الذي رفعه، كان يلوم نفسه أحيانا أنه يشتهي زوجته ويحبها لكن الوجد الذي يحرقه كان يحرق كل يومٍ جزءًا من إخلاصه لليني الذي فعل من أجله ما فعل، تآمر على سيلدن من أجله، خلَّصه من أفكار جسبلت ليتمتع بالحياة.
كان يحبه بالفعل لكنه أصبح يمقته بعد أن نالها وأصبح أكثر مقتًا له عندما جرَّب حلاوة السلطان وشهوته التي لا تقاوم، كان هو الملك الحقيقي، كان يدير شؤون أكبر مملكةٍ بالتاريخ، وفي النهاية مطالبٌ بالانحناء أمام رجلٍ كسول، ومجبرٌ على قول (مولاي) لرجلٍ هو من يتحكم فيه.
كان يحترق كل يومٍ وصورة ميرالا لا تفارق خياله في نومه ويقظته، وكلما حاول إطفاء ناره اشتعلت أكثر، مافعله ليس جديدًا، حاول إطفاء النار فغرق في شهواته وشرب حتى أُغمى عليه، وضاجع حتى اصفرَّ لونه لكنه لم ينسها.
هي تأبى الزواج منه وتأبى الركوع، يرى أنها لا تفهمه، هو يريدها ملكةً ولا يريد ركوعها، هو يعشقها ويقتله صدودها؛ أدرك أنه يحبها لدرجةٍ تمنعه من إيذائها أو محاولة نيلها بالقوة، أدرك أنَّ قلبه الذي ظنَّه حديدًا أسود اللون يرقُّ لها كقلب أمٍّ حنون.
لا يطيق فراقها ويؤذيه ما يؤذيها، صبر عن رؤيتها ثلاثة أيام وشعر بوحشةٍ مؤلمة كأنه وحيدٌ بالصحراء، لا يستطيع لقاءها فلن يسمع منها سوى الاتهامات، الاتهامات التي سمعها يوم مقتل ليني، كانت تصرخ وتصفه بأبشع الصفات، هي تمقته كالموت وتحتقره كحشرةٍ، وتتقزز منه كدودةٍ تتحرك فوق شفتيها، لا يستطيع مواجهتها، فنظرة الكراهية في عينيها تبتلعه وتعتصره ثم تلقيه بلا لحم ولا عظام، لذلك يجب أن يراها دون أن تراه.
في اليوم الثالث من ابتعاده عنها استدعى مهندس القصر وطلب منه تصميم غرفةٍ زجاجية لا يرى من بداخلها مَن بخارجها، وقام المهندس بتصميمها وأشرف على تنفيذها، وكان رادون يتسلل ليرى ميرالا كل ليلةٍ وهي نائمة، وهو حريص على ألا تشعر به حتى تم الانتهاء من بناء الحجرة الزجاجية؛ وحينها أمر بنقلها للحجرة موفرًا لها كل سبل الراحة والاستجمام.
فكانت الحجرة واسعةً بها حوضٌ للاستحمام والسباحة، وسريرٌ كبير مفروش بالحرير والأرض مفروشةٌ بسجادٍ فاخر رسومه مبهرة وألوانه مبهجة، مقاعد وثيرةٌ ملونة ونسيمٌ عليل يأتي من كوَّةٍ بالسقف محملًا بروائح زكية، وبالحجرة وصيفتان تسليانها وخادمتان لرعايتها، كان يتصور أنه منحها فردوسًا أمل أن يراقبها وهي فيه سعيدة، أراد أن يستمتع بابتسامتها وتتلذذ أذناه بصوت ضحكاتها عبر فتحات الزجاج الصغيرة.
انتقالها إلى الفردوس لم يجعلها سعيدةً، ظلَّت على حالها لم يزايلها الحزن، وزاد عليه اختناقها بين الجدران الزجاجية تستعذب الموت لتستريح من نظراته التي لا تراها ولا تحتملها.
ذات يومٍ جلست إلى إحدى الوصيفات، وبصوتٍ هامسٍ طلبت منها معرفة الميعاد الذي يتلصص فيه رادون عليها والمكان الذي يراقبها منه، صمتت الوصيفة في البداية لكنها لانت أمام توسلات ميرالا وبكائها، أخبرتها أنها ستجنُّ وأنها تشعر أنه يراها دائمًا في كلِّ لحظةٍ حتى أنها تحسُّ أنه قادر على النفاذ تحت جلدها يراقب عظامها ويشاهد تدفُّق الدم في عروقها ويحصي قطراته.
علمت بميعاد وقوفه والمكان بدقةٍ، والغريب أنها نامت في هذا اليوم نومًا هنيئًا وكانت مبتسمة.
في اليوم التالي جاء رادون ووقف أمام الزجاج، عيناه تبتلعان جسدها وتحيطان بدقائقها وقسماتها، كان يشبع منها، يتنفسها، يغذي قلبه وعقله بصورها، كانت تأكل التفاح والخادمة تقطِّعه لها بسكين، ابتسمت للخادمةِ وطلبت منها السكين، أعطته لها الخادمة فأخذته بهدوءٍ وقامت، ثم سارت إلى الجدار الذي يراقبها من خلاله وتوقفت على بعد خطوةٍ منه.
أصابه الذهول وهو يراها تقف أمامه مباشرة وتنظر إليه نظرة كراهيةٍ لم يتحمل قسوتها، كاد يغمض عينيه أو يشيح بوجهه لكنه رآها ترفع السكين فصرخ بجزعٍ لكن جريان السكِّين على رقبتها أخرسه ومنظر الدماء الذي أغرق الأرض والزجاج أسقطه على الأرض كالموتى.

0 تصويتات

اترك تعليق

التعليقات

اكتب وانشر كتبك ورواياتك الأصلية الأن ، من هنا.