tamaeozpublishing

شارك على مواقع التواصل

تميز السيد أترسون بملامحه الحادة وقسمات وجهه الغليظة التي لا تعرف الابتسام إلا في مواقف نادرة. اتسمت حياته بالنمطية، فلم يعتد فعل أشياء جديدة، كرس معظم وقته لعمله بالمحاماة، وكان مولعًا بالمسرح إلا أنه لم يذهب إليه طوال عشرون عامًا!، تميز السيد أترسون بطوله الفارع، ولكنه مع ذلك هزيل الجسد، لا يعني بمظهره كثيرًا، وعلى الرغم من كونه لا يحب التغيير ولا يميل إلى تكوين علاقات اجتماعية جديدة إلا أنه كان محبوبًا بشكل ما.
امتلك السيد أترسون دائرة صغيرة من الأصدقاء، كانوا إما ذوي قرابة أو رجالًا عرفهم لوقت طويل، ولم يحاول البحث عن أصدقاء جُدد خارج دائرة معارفه المحدودة تلك، كان السيد ريتشارد إنفيلد واحدًا من أقرب الأصدقاء إليه وهو في نفس الوقت ابن عمه، اعتادا معا أن يذهبا للتنزه في كل يوم أحد، حتى أصبحت تلك عادتهم الأسبوعية المفضلة، لا يصرفهما عنها شيء، وعلى الرغم من استمتاعهما بتلك النزهة الأسبوعية إلا أنها كانت مدعاه لتعجب الناس وتساؤلهم؛ فقد كانا يسيران صامتين في سهوم وشرود دون حديث، دفع ذلك الأمر كل من يراهما للتساؤل؛ ألا يجد هذان الصديقان حديثًا مشتركًا؟!
في إحدى تلك النزهات قادتهما الخُطى إلى شارع فرعي في حي من أحياء لندن المزدحمة، كان الشارع يعج بالناس عادة، لكنه يوم الأحد حيث تغلق المتاجر أبوابها، فيبقى الشارع وكأنه لا يوجد به أحد، وعلى خلاف المناطق المجاورة كان هذا الشارع وقاطنوه في حالة جيدة، إذ كانت المحلات على جانبي الشارع تبدو كما لو أنها حديثة الطلاء، وعلى الجانب الأيسر بالقرب من ناصية الشارع، برز ممر قذر يؤدي إلى فناء، وفي أخر هذا الفناء منزل يختلف عن باقي المنازل المجاورة؛ حيث كان قديمًا مهملًا يبدو وكأنه منزل مهجور، مكون من طابقين، لا يوجد به أي نوافذ تقابل الرجلين، إنما الباب فحسب، وكان الباب مهترئ أوشك مزلاجه أن ينفصل عنه.
كانا يسيران على الجانب المقابل للمبنى، وعندما استرعا انتباههما ذلك الممر المؤدي إلى الفناء ومن ثم المنزل المهجور، توقف السيد إنفيلد ورفع عصاه مشيرًا إلى الباب الموجود أسفل المنزل ثم سأل ابن عمه السيد أترسون:
-هل لاحظت هذا الباب من قبل؟
-أجل، لاحظته بالفعل.
-إنه يذكرني دائمًا بقصة في غاية الغرابة.
-حقًا!، أي قصة تلك؟
صمت السيد إنفيلد قليلًا ثم بدأ يحكي له القصة كاملة:
-في ليلة شديدة البرودة، كنت عائدا إلى المنزل في وقت متأخر من الليل، ربما كانت الثالثة بعد منتصف الليل، وكنت أسير في طرق خالية تماما من الناس، يؤنسني فقط ضوء المصابيح المضاءة على الجانبين، كان الضباب يغشي كل شيء، احتجب نور القمر وظللت انتقل من طريق إلى أخر على أمل رؤية أحد يبعث في نفسي الطمأنينة، فقد بدأت أشعر بالوحدة ثم الخوف من كل تلك الأجواء، وبينما أنا أسرع الخطي من أجل العودة إلى المنزل، إذا بشخصين يظهران أمامي فجأة، الأول كان يبدو رجلًا ضئيلًا يركض مسرعًا، و الشخص الثاني كانت فتاة يتراوح عمرها ما بين ثمان إلى عشر سنوات تقريبا، كانت تركض هي الأخرى بأقصى سرعة، وعند ناصية الشارع اصطدما ببعضهما البعض، ثم جاءت اللحظة المروعة؛ عندما داس الرجل بقدمية جسد الطفلة وتركها تبكي خلفه ملقاه في الشارع، لم ينظر خلفه ولم يتوقف ولو للحظة، ألمني المشهد، كانت تصرفات الرجل غريبة وشديدة الفتور، صرخت ثم ركضت خلفه، حيث أدركته دون عناء، جررته نحو مجموعة قليلة من الناس تجمعوا على صراخ الفتاة وبكائها، ظل الرجل ضئيل الجسد هادئا، لم يقاومني، ولكنه نظر إلي نظرة واحدة جعلتني أتصبب عرقًا، هرعت أسرة الفتاة إلى الخارج لتلتحق بالجمع الصغير الملتف حولها، جاء أحد الأطباء وفحص الفتاة بعناية، أخبرهم أن الفتاة بخير، لم يلحقها ضرر بالغ أو خطير، ولكنها مرعوبة وخائفة أكثر من أي شيء أخر، ربما تعتقد أن القصة ستنتهي عند هذا الحد ولكنني لاحظت نظرات الطبيب المليئة بالاشمئزاز والكراهية لهذا الرجل البغيض الذي أوقع بالفتاة، هي نفس نظرات أسرة الطفلة، ونفس شعوري تجاه الرجل، لذلك قررنا ضرورة أن يقوم الرجل بتعويض أهل الفتاة عن فعلته الشنيعة تلك، وأخبرناه بغضب شديد إما أن يدفع التعويض أو أن ننشر أمر فعلته الشنيعة في أنحاء لندن، وسيتناقلها الجميع، لكنه ظل هادئًا تمامًا، ورد علينا بلامبالاة قائلًا:
-كم تريدون أن أدفع؟
اتفقنا على أن يدفع مائة جنية إلى أسرة الفتاة، وكان من الواضح إنه عد المبلع مبالغًا فيه، إلا أنه وافق على مضض في النهاية.
لازمنا الرجل من أجل الحصول على المبلغ المحدد، حيث طلب منا أن نصحبه إلى مكان ما، كان ذلك المكان هو هذا المنزل، حيث توجه إلى الباب وأخرج من جيبه مفتاحا وفتح الباب إلى داخل هذا المنزل، عاد بعد لحظات بحوالي عشرة جنيهات ذهبية، وكتب شيكًا بباقي المبلغ المطلوب.
توقف السيد إنفيلد قليلا، ثم نظر إلى صديقه هو يقول:
-كان الاسم المكتوب على الشيك مفاجأة كبرى، كان اسم رجل محبوب ومعروف في المدينة، اغتظت من ذلك الرجل البغيض وصرخت فيه قائلًا أنه يعطينا شيك يحمل اسم رجل أخر وبملغ كبير يقارب المئة جنية، لا بد أن هذا الشيك مسروق من صاحبه، حينها ابتسم الرجل ابتسامة كريهة قائلًا بهدوء:
-هدئ من روعك، سأبقي معكم حتى تفتح المصارف أبوابها في الصباح، وعندئذ سأصرف هذا الشيك بنفسي وأعطيكم المبلغ المطلوب.
قبلنا بهذا الحل، صحبت الجميع إلى بيتي ننتظر حلول الصباح، كنا أربعة أفراد، أنا والطبيب وذلك الرجل البغيض ووالد الفتاة، بعد أن تناولنا الإفطار، توجهنا جميعًا إلى المصرف، وكنت على يقين أن الشيك مزور، ولكنني كنت مخطئًا فقد تم صرف الشيك بمجرد تقديمه.
علق السيد أترسون مستنكرًا:
-عجبًا لذلك!
-أرى أن شعورك مماثل لشعوري حول تلك القصة العجيبة؛ فالرجل الذي اصطدم بالفتاة كان رجلا لعينا بحق، أما الشخص الذي صرف الشيك فهو رجل لبق من صفوة الناس! رأي أن ماحدث هو ابتزاز، هذا الرجل الشرير أرغمه على دفع هذا المبلغ الكبير كتعويض عن فعلته السيئة تلك الليلة، رجل نزية يدفع الثمن رغما عنه، بسبب بعض من نزوات صباه مثلًا..
صمت قليلًا للحظات ثم أشار إلى المنزل وهو يقول:
-لقد أطلقت على هذا المنزل ذو الباب العتيق فيما بعد "بيت الابتزاز"
سأل السيد أترسون سريعًا:
-هل تظن أن الرجل الطيب الذي وقع على الشيك يعيش في هذا المنزل؟
-لا أظن ذلك، لقد لاحظت العنوان، إنه يسكن في إحدى الأحياء، لا أتذكر تحديدًا الاسم.
تساءل السيد أترسون قائلًا:
-هل سألت أحدًا عن هذا المنزل الغامض وهذا الباب العجيب؟
-لا يا سيدي، فأنا لا أحب توجيه الأسئلة، قد يؤدي ذلك إلى كثير من المتاعب.
أومأ السيد أترسون برأسه مصدقا على كلامه بينما تابع السيد إنفيلد حديثه قائلًا:
-ولكن مع ذلك راقبت في أكثر من مرة هذا المكان، إن المنزل لا يشبه أي من المنازل المجاورة المحيطة به، فليس له سوي باب واحد، هو ذلك الباب المقشر طلاءه، لا أحد يدخل أو يخرج منه سوى ذلك الرجل البغيض بطل قصتنا، وهناك ثلاث نوافذ تطل على الفناء ولكنها دائمًا مغلقة بالرغم من أنها نظيفة، ثم هناك مدخنة يتصاعد منها الدخان، ومعنى ذلك كله أن أحدًا يعيش بالداخل بلا شك
واصل الرجلان سيرهما بينما كان السيد أترسون غارقا في التفكير في تفاصيل القصة، ظلا صامتين لفترة طويلة إلى أن قال السيد أترسون فجأة:
-هل تعرف اسم الرجل البغيض الذي أوقع الطفلة أرضًا؟
-نعم أعرفه، ولا أرى أن هناك ضررًا في أن أخبرك به، اسم هذا الرجل هو "هايد".
-وكيف كان يبدو؟
-ليس من السهل وصفه، لقد كان به خلل يعتري مظهره، شيء منفر، مرعب، أعتقد أنه مشوه في جزء ما من بدنه لكنني عاجز عن تعيين موضع التشوه بالتحديد. الحقيقة أني لا أريد أن أصفه لك؛ حتى لا أتذكر ملامحه بوضوح مرة أخرى.
وبعد فترة سير أخرى دون حديث قال ذلك السيد أترسون مستفسرًا:
-هل أنت متأكد أنه استخدم مفتاحًا كي يدخل المنزل؟
-نعم متأكد، ألم أخبرك بذلك؟
-نعم، لقد أخبرتني، وأنا أعلم أن أسئلتي تبدو غريبة، ولكني في الحقيقة لدي معلومات أخرى عن هذا الموضوع، وأنا أعرف أيضًا اسم الرجل المحترم الذي وقع الشيك، أن الأمر يتعلق بأحدي الأصدقاء، لا أستطيع أني أخبرك بأي معلومات، فهو أمر خاص بالعمل شديد الخصوصية، ولكن حكايتك جاءت للرجل المناسب، وما لم تكن دقيقا في تفاصيلها، فلتعد تصحيح القصة مرة أخرى.
علق السيد إنفيلد وقد حملت نبرته شيئا من الغضب:
-لقد حكيت لك القصة كما وقعت أحداثها تمامًا، فالرجل معه مفتاح يستخدمه لفتح الباب، وقد رأيته هو يفعل ذلك منذ أقل من أسبوع مضى.
تنفس السيد أترسون بعمق ولم ينبث بكلمة، لاحظ السيد إنفيلد اضطرابه فقال له:
-ها هو درسًا جديدًا في ضرورة الصمت؛ علينا ألا نتحدث مطلقًا في هذا الموضوع الكئيب، يجب ألا نشير إلى "هايد" هذا مرة أخرى!
رد السيد أترسون:
-أتمني ذلك بالفعل، دعنا نتصافح على ذلك!
0 تصويتات

اترك تعليق

التعليقات

اكتب وانشر كتبك ورواياتك الأصلية الأن ، من هنا.