tamaeozpublishing

شارك على مواقع التواصل

كان من عادة السيد أترسون في ليالي الأحد بعد العودة من النزهة الأسبوعية رفقة صديقة السيد إنفيلد أن يجلس للقراءة بجوار المدفأة بعد أن يتناول العشاء، حتى تدق ساعة الكنيسة اثنتي عشرة دقة معلنة منتصف الليل، وحينئذ كان يتوجه إلى فراشه راضيًا هادئًا، ولكن الحال هذا الأحد تبدل؛ فبعد أن انتهى من تناول عشاءه، أمسك بشمعة وتوجه إلى غرفة مكتبه، ثم فتح الخزينة وأخرج منها ظرفًا كبيرًا مكتوب على غلافه "وصية دكتور جيكل"، جلس إلى مكتبه يقرأ نص الوصية التي كانت محفوظة داخل هذا الظرف، كتبها الدكتور جيكل بنفسه ولم يستشر فيها السيد أترسون رغم أنه محاميه الخاص، كانت الوصية تتضمن كلمات قليلة مفادها أنه حين يموت الدكتور جيكل أو في خالة اختفاؤه أكثر من ثلاثة أشهر تذهب كل ممتلكاته إلى صديقه ومساعده "إدوارد هايد".
رأي أترسون أنه أمر غريب أن يترك جيكل ثروته بأكملها لشخص واحد! كان أترسون أحد الأصدقاء المقربين إلى جيكل، لكنه لم يعرف أي شيء عن السيد هايد إلى أن أخبره إنفيلد بقصته، تعجب أيضًا كيف يختفي جيكل أكثر من ثلاثة شهور ولماذا؟!
كان من واجب أترسون باعتباره محاميًا، أن يحتفظ بتلك الوصية لينفذها في الوقت المناسب، إلا أنه بعد أن تأكد أن السيد هايد شخص شرير، فقد بدأ يشعر بالقلق على صديقه، وبعد أن فكر مليًا، شعر بضرورة فعل شيء تجاه هذا الأمر، فقام على الفور، أطفأ الشمعة وأرتدى معطفه، وخرج متوجها لزيارة صديقه الطبيب لانيون، ردد أترسون في نفسه وهو في طريقه إلى هناك "لو أن شخصًا يعرف شيئًا حول هذا الموضوع، فهو لانيون بالتأكيد"
وصل إلى منزل صديقه المقرب لاينون، صديق المدرسة والكلية، دق الجرس، ففتح له الباب كبير الخدم الذي كان يعرفه، رحب به وأدخله مباشرة إلى حجرة الطعام حيث يجلس الدكتور لاينون وحيدًا يرتشف نبيذه، كان الدكتور لاينون رجلًا دمثا، ودودًا، أنيقًا، متورد الوجه، ما أن رأى صديقه حتى قام من كرسيه ورحب به بكلتا يديه.
تحدثا قليلًا في مواضيع مختلفة سريعًا قبل أن يبدأ حديثه عن الموضوع الذي يشغل باله قائلًا:
-أعتقد يا لاينون أننا أقدم صديقين لهنري جيكل.
-أعتقد ذلك، ولكني لم أعد أراه إلا نادرًا، وفقدت الاتصال به منذ مدة طويلة.
-كيف ذلك؟! لقد كنت أعتقد أنكما على تواصل دائم بحكم مهنتكما الواحدة في الطب!
-هذا صحيح، وقد كنا على اتصال دائم فيما مضى، ولكن منذ أكثر من عشر سنوات بدأ هنري جيكل يتصرف تصرفات غريبة، أصبح بالنسبة لي رجلًا غريب الأطوار لا أفهمه، سلك هذا الطريق الشيطاني البعيد عن العلم، ومع ذلك فأنا أشعر أن هناك صلة تربطني به منذ أيام قديمة، ولكني لا أراه إلا نادرًا.
بعد لحظات صمت قصيرة أردف غاضبا:
-إنه لم يتصرف كطبيب إطلاقًا، أعتقد أنه فقد عقله!
لم يعلق السيد أترسون على هذا الغضب المفاجئ بشيء، أعتقد في نفسه أن هناك خلاف بينهما حول مسألة علمية، سأله بعد لحظات قائلًا:
-هل تعرف أي شيء عن صديق له يُدعى هايد؟
-هايد! لا، لم أسمع بهذا الاسم من قبل.
***
كانت تلك هي كل المعلومات التي عاد بها إلى فراشه المظلم العريض الذي ظل يتقلب فوقه في كل اتجاه حتى أشرقت الشمس واحتلت أشعتها أركان الغرفة، ثم دقت الكنيسة القريبة معلنة عن السادسة صباحا، وهو مازال يفكر في كل شيء حكاه له السيد إنفيلد، منظر الشارع الهادئ، الرجل الذي دهس الفتاة الصغيرة، منظر الفتاة وهي تصرخ وتبكي، تعاظمت داخله رغبة عارمة في رؤية ملامح ذلك المدعو هايد. ظل هكذا قليلًا يتململ بالفراش حتى استغرق أخيرًا في النوم، ولكنه ظل يرى في نومه السيد هايد بلا وجه هو يتجول في شوارع المدينة، وعند كل ناصية، كان هايد يُلقي بطفلة على الأرض ويركلها بقدمه في حين تصرخ الطفلة وتبكي بحرقة.
منذ تلك الليلة، أخذ أترسون يتردد كثيرًا على ذلك الشارع، ويراقب المنزل الضخم وبابه الغريب، استطاع مراقبة المنزل في أوقات مختلفة من اليوم، أحيانًا في فترة الصباح المبكر وقبل أن يبدأ وقت العمل، ويراقبه أيضًا وقت الظهر حين يمتلأ الشارع بالناس، وليلًا على ضوء القمر، وكان يقول في نفسه " لو أن اسم هذا الرجل هو السيد هايد (معناه الخفي) فأن اسمي سيصبح من الآن فصاعدًا السيد سييك (معناه الباحث).
في إحدى الأيام التي كان يراقب فيها المنزل كالمعتاد، وحين دقت الساعة العاشرة لتُعلن عن شوارع خالية من الناس، و محلات أغلقت أبوابها، سكون مطبق على المكان، كان السيد أترسون يراقب بحذر المنزل وبابه الوحيد حتى سمع وقع خطوات خفيفة تتسارع بالقرب منه، اختبأ في ركن مظلم سريعًا، أرهف سمعه، وركز بصره جيدًا على المكان، قائلًا في نفسه" ها هو الرجل المنتظر"..
رجلٌ ضئيل الجسد، يرتدي معطفا داكن اللون، ذو ملامح غريبة، قطع المسافة بين الممر والفناء، ثم وصل إلى باب المنزل، وأدخل يده في جيبه ليخرج مفتاحه بهدوء كمن يدخل إلى بيته بشكل طبيعي، خرج أترسون من مخبأه وسريعًا اتجه نحو هايد ملامسًا كتفه عند مروره، نظر إليه ثم قال:
-السيد هايد؟
عاد إلى الوراء مفزوعًا، ندت عنه شهقة قوية، ولكنه سرعان ما تمالك نفسه، ورد عليه دون النظر إلى وجهه:
-نعم، ذلك هو اسمي، ماذا تريد؟
-أنا صديق قديم للدكتور جيكل، اسمي أترسون، أنا على يقين من أنك سمعت عني، يالها من مصادفة أن ألتقى بك في الخارج، هل تسمح لي بالدخول إلى المنزل؟
رد هايد سريعًا:
-إنك لن تجد الدكتور جيكل الآن بالمنزل.
لاحظ أترسون محاولات هايد للنظر بعيدًا عنه، ينظر إلى الباب أو الشارع دون النظر في وجهه فسأله:
-هل من الممكن أن تسديني معروفًا؟
-بالطبع، ما هو؟
-اسمح لي بأن أرى وجهك.
تردد هايد قليلًا، ثم بعد لحظات نظر بكل وقاحة في عينية.
قال أترسون بلهجة واثقة:
-اعتقد أننا يحب أن نلتقي مرة أخرى فيما بعد، قد يكون ذلك مفيدًا.
رد هايد في تحد:
-بالطبع، وأنا مسرور بلقائك، ولعل من الأفضل أيضًا أن تعرف عنوان بيتي.
أعطاه رقمًا لأحد البيوت في شارع من شوارع سوهو..
فكر أترسون في نفسه قائلًا " يا إلهي! هل أعطاني عنوانه بسبب الوصية؟!"
بعد لحظات قال هايد:
-الآن دعني أفهم، كيف عرفتني؟!
-بالوصف، لقد وصفك لي أحد الأصدقاء.
رد هايد سريعًا:
-من هو؟
-صديق يعرفني ويعرفك، لدينا أصدقاء مشتركون؟
-أصدقاء مشتركون! من هم؟
-الدكتور جيكل واحد منهم.
-صاح هايد غاضبًا:
لا يمكن أن يكون الدكتور جيكل قد حدثك عني!، ليس هناك داعي للكذب يا هذا!
صاح أترسون بدوره:
-لا تحدثني هكذا بتلك الطريقة.
ضحك هايد بشده ضحكات كريهة، ثم اندفع نحو الباب ودخل إلى البيت وهو مازال يضحك.
وقف أترسون مضطربًا حيث تركه هايد، ثم بدأ يتحرك ببطئ، يتوقف بعد خطوة أو خطوتين واضعا يده على رأسه كما لو كان يشعر بألم شديد. لم يستطع التوقف عن التفكير في السيد هايد؛ فقد كان ضئيل الجسد شديد بياض الوجه، له ابتسامة قبيحة، يتكلم بحذر وكراهية في نفس الوقت، يوجد به شيء غير طبيعي، غير مألوف بالمرة، ظل يقول في نفسه وهو سائرا" هناك شئيا غامضا لا أعلمه، إن هذا الرجل أشبه بسكان الكهوف! له وجه قبيح بملامح شريرة، وجه لم أرَ مثل قبحه من قبل. مسكين أنت يا صديقي جيكل، هذا هو الرجل الذي أوصيت له بكل ممتلكاتك؟!
وعند إحدى النواصي، استدرا السيد أترسون ثم انحرف إلى شارع آخر يؤدي إلى ميدان تحف به مجموعة من البيوت جيدة البناء جميلة المنظر، توقف عند إحداها، وطرق الباب ليفتح سريعًا خادم كهل حسن الهندام رحب به وقبل أن يدعوه للدخول سأله السيد أترسون:
-هل الدكتور جيكل موجود يا بول؟
-سأرى حالًا يا سيدي.
قالها بول وهو يتجه بالسيد أترسون إلى غرفة واسعة بها مدفأة كبيرة على الطراز الريفي، وصلا إلى هناك فقال بول:
-هل ستنتظر هنا يا سيدي، أم أوقد لك شمعة في غرفة الطعام؟
-أشكرك، سأجلس بجوار المدفأة.
جلس ينتظر الخادم وهو مازال يفكر في مقابلته للسيد هايد، لا يستطيع أن ينسى وجهه القبيح الشرير، شعر بالارتياح عندما جاء الخادم بول، ولكنه أخبره أن الدكتور جيكل قد خرج ولم يعد حتى الآن!
رد أترسون متعجبًا:
-لقد رأيت السيد هايد يدخل هذا المبنى من الزاوية الأخرى يا بول، من الباب المجاور للمختبر القديم، هل يمكن أن يحدث هذا في غياب الدكتور جيكل؟!
أجاب الخادم:
-السيد هايد لديه مفتاح لذلك الباب.
-يبدو أن سيدك يثق به ثقة كبيرة، أليس كذلك يا بول؟
-بالفعل يا سيدي، ولدينا أوامر بأن ننفذ جميع طلباته.
-ولكنني أعتقد أني لم أرَ السيد هايد في المنزل من قبل؟
-نعم يا سيدي، هو لا يتناول طعامه هنا في المنزل، وفي الحقيقة نحن لا نراه إلا نادرًا، حيث يحضر وينصرف من خلال الباب الخلفي المجاور للمختبر.
-حسنًا، طابت ليلتك يا بول.
طابت ليلتك سيد أترسون.
***
عاد أترسون إلى منزله مهمومًا، يفكر كيف تجمع جيكل علاقة بهذا الشحص الشرير المسمى هايد، لا بد أن شبح إحدى الخطايا القديمة هو الذي يسجن جيكل في هذه العلاقة؛ فأي سبب آخر يدفعه إلى التعامل مع أناس على شاكله هايد؟!
أنا على يقين أن صديقي المسكين يعاني مشكلة كبرى، ويهدده خطر كبير من هذا الرجل الشرير، لو كان هايد يعلم بما جاء في الوصية ربما ينفد صبره ويدبر شيئًا للتخلص من جيكل للحصول على ممتلكاته، أعتقد أن من واجبي أن أفعل شيئًا للمساعدة، ولكن ليت جيكل يدعني أساعده، يا له من لغز عجيب!
0 تصويتات

اترك تعليق

التعليقات

اكتب وانشر كتبك ورواياتك الأصلية الأن ، من هنا.