Horof

شارك على مواقع التواصل

عطسَ الشحات عندما تدافعَت إلى أنفه ذرات الغبار الناشئ عن مقشة الكناس الجديد الذي يكنس الشارع، ليعتدل الشحات في جلسته، ويلتقط مِن أسفل حصيرته سيجارة مُتَعجِّنَةً أشعلها ثم أسند ظهره إلى الجدار يتأمل ذلك الكناس الجديد الذي عدل مِن وضع النظارة الطبية على أنفه ثم رفع يده للشحات يقول بابتسامةٍ عريضة:
- صباح الفل يا صاحبي، هو اسم الكريم إيه؟
- الشحات.
- أنا شايف شِحتة أحلى، تمام كده؟
- ماشي.
عاد الكناس ليكنس مرة أخرى في همةٍ ونشاط، في حين نهض الشحات ينتعل حذاءهُ البلاستيكي ليسير كعادته على غير هُدى.
لا تتزاحم في رأسه أيُّ أفكار ...
تبخرت صورة نعيمة تمامًا....
لَمْ تَعُد تُصيبهُ لعنة التخيُّلات....
رأسًا ساكنةً لا حركة فيها...
فقط حالةٌ عامةٌ مِن السكون و....
والملل...
الكثير مِن الملل!




مِن وسط أشعة الشمس القوية ضربت حمامة بجناحيها الهواء، تندفع بسرعة نحو الأسفل، يظهر مِن أسفل جناحيها أسطح البيوت في منطقة محرم بك، تَمُرُّ فوق مظلةٍ مهترئةٍ يجلس أسفلها رَجل يبسط قدميهِ أمامه، مُسترخيًا على مقعده، يدخن سيجارته، يداعب بأصابعه الأرض الأسمنتية لسطح البيت، وآخر يعدِّل مِن وضع "الإريال" ثم يتدلى مِن فوق سور السطح يهتف بآخر، وامرأة تقوم بنشر غسيلها فوق الحبال الممتدة أمامها على نصف مساحة السطح.
تقف الحمامة على مسافةٍ قريبةٍ مِن أقدامٍ طالها السواد مِن كثرة الوسخِ العالق بها، ثم تحلق الحمامة مرةً أخرى وأثر حباتٍ مِن الغبار تشكلت قربها، يعطس الشحات وقد اندفعت إلى أنفه ذرات الغبار، يعتدل جالسًا القرفصاء يتابع بعينينِ باسِمَتين جسدها الممتلئ قليلاً وهي تكنس الشارع.
- صباح الخير يا شحتة.
- صباح النور يا نعيمة.
- كنت بتحلم بإيه يا راجل؟
- حلم كده.
توقفت عن كنس الشارع وهي تستند إلى مقشتها، شفتيها تلتويان تقول بسخرية:
- حلم كده! يا راجل ده أنا بعفر عليك بتراب الشارع مِن الصبح ولا أنت هنا.
ابتسامة خبيثة تداعب شفتيه وهو يتناول مِن أسفل حصيرته سيجارة معجنة قائلاً:
- عايزة تعرفي ليه يا نعيمة؟
لَمْ تهتم بسؤاله بل واصلت كنس الشارع في ملل وقرف، أشعل سيجارته وهو يتابع مؤخرتها التي تتحرك مع حركة المقشة في يديها، يسحب كل حينٍ نفَسًا، وابتسامته تتسع أكثر، شفتيه اللتين اسودَّتا مِن أثر تراكم القذارة عليها، حَكَّ صلعته الأمامية المُتلطخة بنفس سواد أظافره وقال:
- تتجوزيني يا نعيمة.
- هي ناقصة راجل مجنون، كفاية حياتي يا شحتة كلها جنان في جنان.
- ده أنا بحبك.
- وأنا كمان يا شحتة.
- طب إيه؟ ما تيجي.
ضحكة أنثوية مجلجلة امتزجت بالحزن أفلتت منها وهي تقول:
- يخيبك يا شحات، ضحكتني.
نهض مِن جلسته، يواجه أشعة الشمس بعينين ضيقتين ثم ينظر نحوها قائلاً:
- كنت ناوي أستِّتك يا هبلة.
ضحكتها تجلجل مرة أخرى وهي تقول:
- ع الرصيف يا شحتة.
- وماله!
عادت للكنس مرة أخرى وهي تكوم ما كنسته إلى جانب الرصيف، تمسح العرق المتصبب عن جبينها، تحرَّكَ هو كعادتهِ على غير هُدى فنادت عليه:
- شحتة.
- عايزة إيه؟
- هات لنا كوبايتين شاي مِن العنيبسي وأنا هبقى أحاسبه.
- طيب.
- قوام يا شحتة.
اشتدت أشعة الشمس، فدفعت غطاء رأسها الشفاف إلى الأمام قليلاً، تقول في ضيقٍ وهي تمسح بطرف الغطاء فمها:
- يخرب بيتك شمس ملعونة هو أنا نقصاكِ.
غادر شابٌ نحيلٌ "كشكًا" حديديًا كائنًا بآخِر الشارع إلى اليسار، فارعُ الطول، شديدُ النحافة وامرأةٌ بدينةٌ تندفع وراءه تصرخ:
- يا ابن المشمومة يا صايع، أم الحشيش ده مش عايزة أشوفه تاني في البيت.
ألقى الشاب عقب السيجارة وهو يصيح فيها ضجرًا:
- خشي يا ولية يا مجنونة، هو الخرابة اللي أنتِ فيها دي خلاص سمِّتيها بيت!
خلعت حذاءها وقذفته به ليندفع رأسه قليلاً إلى الأمام، يتوقف وهو يسبها سرًا في حين صاحت هي:
- ناولني الشبشب يا ابن العبيطة!
ركل الحذاء بقدمه لتلتقطه هي في خِفَّةٍ لتعودَ مرةً أخرى إلى "الكشك" تسترسل في نوبةِ سباب طويلة، في حين واصل المسير مبتسمًا ليكشف عن أسنان صفراء نخرة عندما وقعت عيناه على نعيمة، فرك عينيه المحاطتين بهالةٍ سوداء، يتابعها وهي تميل نحو القمامة تلملمها في "شوالٍ" بلاستيكي، يحاول أن يستطلع صدرها الذي تواريه بطرف غطاء رأسها وخصلات مِن شعرها الأسود المموج قد تهدَّلَ على جبهتها، يتوقف عندها قائلاً بصوتٍ مُحمَّلٍ بالشهوة:
- تحبي أساعدك يا نعيمة.
تنتصب واقفة، ترميه بنظرة استهجانٍ وهي تقول:
- امشي يا عبدالله مِن وشي عشان معوركش وتمسك في خناقي أمك الصايعة زي المرة اللي فاتت ولا ناسي!
بصقَ أرضًا ولَمْ يُجِب، رمَتْهُ بنظرةٍ أخيرةٍ ثم مالت تلملم القمامة مرة أخرى.
- آخرك حتة زبَّالة، راسمة نفسِك على إيه!!
آثَرت الصمت على الاشتباك معه في حديثٍ لا طائل مِنه وقد شغلت نفسها بجمع آخر ما تبقى مِن القمامة في "الشوال"، انتفضت مذعورةً عندما صاح:
- بس أعرفي إنه هييجي يوم وأعمل معاكِ اللي أنا عايزه.
تود أن تستدير وتصفعه بكل ما أوتيَت مِن قوة ولكنها اعتدلت عن انحنائها توليهِ ظهرها، تمسح ما علق بجلبابها الأسود مِن غبار الشارع.
- الشاي يا نعيمة.
داخَلَها الشعور بالاطمئنان عندما سمعت صوت الشحات حازمًا قويًا واستدارات في سعادةٍ لتجده يرمق عبدالله بنظرة تحمل الكثير مِن الوعيد، يبدو كملاكٍ حارسٍ رغم القذارة التي تغطي كل ملامحه، تناولت منه كوب الشاي وهي تقول مبتسمة:
- تشكر يا شحتة.
أعادَ الشحات النظر مرة أخرى لعبدالله وهو يقول بصوته الحازم المُحَمَّل بالوعيد:
- عايز حاجة يا شهاب.
ارتبك عبد الله وهو يقول:
- لا يا شحتة، أنت اللي مالك مكشر كده.
حاول أن يواري ارتباكه بضحكةٍ بلهاء لَمْ يشاركه فيها أحد، لمح في عيني نعيمة مزيدًا مِن الاحتقار وقد اتجهت إلى حافة الرصيف، تجلس عليه وترتشف مِن كوب الشاي مُطرِقةً بنظرها أرضًا.
- طب السلامو عليكو.
أسرع الخُطى يهرب مِن نظرات الشحات المخيفة التي ظل يحاصره بها، توقف عبد الله عند ناصية الشارع يقول بصوتٍ عالٍ:
- ثم أنا مسميش شهاب يا شحتة، اسمي عبدالله.
- طب غور بقى يا شهاب.
اختفى عبد الله مِن أمامه في حين ظل الشحات متصلبًا يرمق الشارع بعيني صقر متحفز لاصطياد فريسته حتى أفاق على صوت نعيمة:
- جرى إيه يا شحتة مالك اتسمرت مكانك كده يا راجل.
اتجه الشحات قِبلها وجلس جوارها على حافة الرصيف، فمدت يدها إلى ما بين فخذيها تلتقط لفافة في حين انشغل هو بمتابعة الجزء المكشوف مِن صدرها وقد برقت عينيه بشهوةٍ بالغةٍ، حدجته بنظرةٍ مستنكرةٍ ثم ضحكت وهي تقول:
- جرى إيه يا شحتة، حوش عينك اللي هتخرم صدري.
- أصلهم حلوين.
- يوه، اختشي يا راجل، إنت إيه مبتتكسفش.
- هو في مجنون بيتكسف مِن حاجة!
هزت رأسها وهي تقول:
- على رأيك، يا ريتني كنت مجنونة زيك.
- الفرصة قدامِك بس أنتِ اللي مش عايزة.
فضت اللفافة عن "سندوتشات" الفول والفلافل.
- مِد إيدك يا شحتة.
- لا بالهنا والشفا أنتِ، أنا لسه واكل.
- أمتى يا راجل؟ إمبارح الضهر!
- نعيمة.
- مِد إيدك يا شحتة.
- لا أنتِ بتتعبي، كلي ... خلي وشك الميت ده يحيا شوية.
توقفت عن الأكل وقد تكوم جزء منه في جانب فمها، تتأمله بطريقةٍ لا إرادية، متجاوزةً كَمَّ القاذورات التي تلوث وجهه وجسده وملبسه الرَّث البالي، تتجاوز عن رائحته العفنة أو ربما التي اعتادتها لطول معاشرته، ترى وجهًا يحمل ملامحَ رجولية بها شيء مِن الجاذبية استترت خلف ركامٍ مِن القاذورات، إذا فقط وافق أن يستحم!
سترى ملامح أخرى، فقط إن وافق أن يستحم!
ملامحه التي جنحت للكهولة ما تزال تحمل مِن عنفوان الشباب ونضارته الكثير، لَمْ تُفلح كهولته في أن تُخفي تلك الملامح الشابة الفتية، مازالت ترى في عينيه بريقَ شابٍ عشرينيٍ مُتَفجر بالحيوية، مسحت جسده كله بعينيها فاستغربت واستنكرت في آنٍ واحد، أنه يملك جَسدًا رياضيًا وكأنه شابٌ لَمْ يجاوز عقده الثالث، فذلك الصدر القوي المُشعر وهذين الساعدين المفتولين، عنقه الذي تشكل بعضلاتٍ مفتولة، كيف لَمْ تلحظ كل ذلك مِن قبل؟!، كيف استطاعت عينيها أن تُغَيِّبَ كل تلك الشواهد؟ هل فقط لأن عقلها يضعه في إطار الشحات فيخدعها عقلها في رسم صورة مختلفة له؟ تطبعها عينيها بكل استسلام، لذلك تعتريها الدهشة عندما تعيد اكتشاف تضاريسه، تبتسم وهي تمصمص شفتيها ومِن ثَمَّ تتناول قضمةً أخرى مِن "الساندوتش".
- شكلك كده كنت حكاية في شبابك يا شحتة.
- الله لا يعودها أيام.
- ليه يا شحتة؟
- ملكيش دعوة.
دَسَّت يدها في جيب جلبابها الأسود تلتقط سيجارة، وضعتها بين شفتيها بعد أن أكلت "الساندوتشات" الأربع على عجل، لتقول في دلال:
- ولَّع لي يا شحتة.
أخرج الشحات علبة الكبريت يشعل أحد أعوادها ويقربها مِن السيجارة، لِتَميل نحوه مُبتسمة، يغوص في عينيها السوداوتين الواسعتين، وشفتيها المضمومتين على السيجارة لتثير شهوته بشدة، على الرغم مِن الغبار الذي يعلو بشرتها إلا أنها لازالت تحمل نضارةَ الشباب، بَيدَ أنَّ هناك بضعة تجاعيد خفيفة أسفل عينيها وأعلى حاجبيها.
نعيمة التي تجري تحت جلده وتخترق لحمه وتنخر في عظامه، لا يتذكر كَمْ أحبَّ قبلها مِن النساء قبل أنْ يفقد عقله...
ربما أحَبَّ بعضهم أو واحدةً منهم على الأقل كما يحب نعيمة الآن أو ربما يحبها أكثر ولكن ذاكرته الآن لا تحفظ مِن كل تلك الوجوه إلا نعيمة.
يتعاظم صدى الصوت في عقله المُرَدِّد لاسم نعيمة.
لو كان الشحات رجلاً عاقلاً يمتهن أيَّ حرفة لَمَا تردَّدَتْ في أن تطلب منه الزواج، هكذا ضربت هذه الفكرة رأسها وهي تراهُ يلقى عود الثقاب جانبًا.
وقفت كلمة "لو" كحجر عثرة في حلقها، ابتلعتها مع أول نفَسٍ للسيجارة، وهي تتراجع مكانها، تنفث دخان السيجارة.
غادر الشحات مكانه يسير كعادته على غير هُدى، ظلت تتابعه لبعض الوقت ولكنها سرعان ما أهملت أمره عندما شاهدت ذلك الرجل الأنيق يغادر مدخل العمارة الجديدة مُتَّجِهًا إلى سيارته، أسرعَت إليه وقد ألقَت السيجارة أرضًا، تضع ابتسامة واسعة متكلِّفةً على شفتيها، تهتف به قبل أن يركب سيارته:
- صباح الخير يا بيه.
ينظر إليها بغيرِ اكتراثٍ وهو يدسُّ المفتاح في باب سيارته مغمغمًا:
- عايزة حاجة يا نعيمة.
- المدام متؤمرنيش بحاجة النهاردة يا بيه؟.
ضرب جبينه ثم قال مبتسمًا:
- كَتَّر خيرك والله يا نعيمة إنك فكرتيني، فعلاً المدام قالت لي أول ما تشوف نعيمة قولها تطلع.
السعادة تقفز إلى وجهها لتعيد تشكيل ملامحها وهي تقول بسعادة تسربت مِن وجهها إلى صوتها:
- إنت تؤمر يا بيه.
أسرعت الخُطى نحو البناية، ولكنها عادت سريعًا عندما نادى عليها قائلة:
- أوامرك يا بيه.
مسح بعينيه وجهها وجسدها كله ليرفع حاجبيه قائلاً:
- كل يوم عن يوم بتحلوي يا نعيمة.
التالي هي تعرفه جيدًا سيقتبس فمه ابتسامةً سخيفة تبادله بواحدة تحمل دلالاً تجعله يرضى عنها، يهز رأسه في اعتزازٍ برجولته التي يظن أنها نفذت إليها، سيركب سيارته راضيًا عن نفسه وسيضيفها إلى مآثره في مغازلة النساء، تتقبل هذا الأمر ببساطة ولا توليه أي عناية، ما يعنيها بضعةُ جنيهاتٍ ستحصل عليها اليوم.
السيارة تتحرك مِن مكانها وهي تهتز بشدة حتى تختفي مِن أمام ناظريها، تتجه إلى مدخل البناية مَرةً أخرى ترتقي درجاتها في سرعة حتى باب الشقة، تلتقط أنفاسها ولا تصبر على إعطاء رئتيها الفرصة للحصول على ما يلزم مِن الأوكسجين، تطرق الباب بسعادة.
********
تتنقل الحمامة في خفة بين أشعة شمس المغيب والتي تدَرَّجَت مِن اللون البرتقالي إلى الأحمر، ترفرف بجناحيها وهي تعلو فوق حزمةِ ضوءٍ أخرى مائلةٍ للون الأرجواني ثُمَّ تفرد جناحيها أمام قرص المغيب، قبل أن تهبط في حركةٍ سريعةٍ باتجاه سطح أحدِ الأبنية القصيرة بحي محرم بك، لتتبخر تدريجيًا في ظلمة الليل الذي غيَّمَ على أسطح البيوت.
تقف على حافة ذلك السقف الحديدي لقهوة العنيبسي وقد أضاء مصابيحه الصفراء، وعددٌ مِن رواد المقهى يتسامرون بصوت هامس والبعض الآخر تجلجل ضحكاته ليخالطها كركرة النَّرجيلة في أيدى البعض.
تقدمت نعيمة مِن المقهى وقد سكن الإرهاق بين ملامحها، في حين جلس الشحات على كرسي في ركنٍ قصي وحيدًا يشرب الشاي ويدخن سيجارته، لمعت عيناه بسعادةٍ وهو يتابع اقترابها مِن المكان فأدارَ أحد الشباب الذين يلعبون "الدومينو" رأسه له يقول ساخرًا:
- حبيبة القلب وصلت يا شحتة.
تجاهله الشحات فعاد الشاب يواصل ما كان يفعله وسط ضحكات رفاقه.
- هات الكيسة يا ربيع عشان أروح.
جلست نعيمة على حافة الرصيف تعبث بقدمها اليمنى في وجه الأسفلت بينما كان ربيع مشغولاً بإجابة طلبٍ ما لزبون.
- بِت يا نعيمة.
استدارت نعيمة إلى الشاب الذي سخر مِن الشحات لتقول في غلظة:
- عايز إيه؟
- ما تجيبي بوسة.
- ريحتي وحشة.
- مش مهم، إنما فيكِ الطلا برضه.
ضحكة قصيرة ممزوجة بالمرارة تفلتها قبل أنْ تَهمِس:
- ربنا يكرمك.
- أنا بتكلم بجد.
تتجاهله وهي تدير رأسها لربيع تصيح بضجر:
- يالا يا ربيع خليني أروح.
- طيب يا بِت اتهَدِّي شوية.
آثَرت الصمت بعد صياحه وظلت تعبث بوجه الأسفلت بينما عاد الشاب ليقول وقد انصرف عن اللعب:
- هديكي خمسين جنيه في مقابل بوسة يا نعيمة.
استدارات له نعيمة بنصفها العلوي في حدة، تحدق فيه بعينيها الواسعتين، في حين أسرع الصمت ليكمم الأفواه لتغرق المقهى كلها في حالة سكونٍ تام وقد تركزت أنظارهم جميعًا على وجه نعيمة، توتر الشحات في مجلسه والقلق يتوثب مِن عينيه.
- قدام كل الرجالة دول أقسم بالله لو جيتي قعدتي على حجري وسبتيني أحضنك وأبوسك لمديكي خمسين جنيه.
قلب نعيمة يدق بين ضلوعها بقوة، تمسح العيون البراقة المتلهفة لردها، شاهدت في أعينهم جميعًا ذات النَّهَم الذي يسكن عيني الشاب، غمغم رفيق الشاب:
- خمسين جنيه قليل على كل اللي أنت طالبه، زود شوية.
كان الشاب يحدق فيها بعينين جائعتين وابتسامة خبيثة تقفز إلى فمه، هزَّ رأسه مستحسنًا الفكرة وقال:
- معاك حق برضه.
أخرج مِن جيبه ورقة بمائة جنيه أمام أعين الجميع قائلاً:
- مية جنيه تاخديها لو نفذتي اللي طلبته.
صوتٌ آخر يأتي مِن آخر المقهى:
- قومي يا بِت يا نعيمة، دي فرصة متتعوضش.
الشيخ عبد الوهاب يدخن النرجيلة في هدوءٍ تام وهو يراقب الموقف، في عينيه نظرة ترجمتها نعيمة على الفور، لا يحتاج الأمر إلى الكثير مِن الذكاء لتفهم ما رمَتْهُ عينيه مِن رسالة واضحة، الشحات يتحرك فوق مقعده بعصبية، وذلك الشاب يرميه بنظرة جانبية ساخرة، وقفت نعيمة في بطء، توقف ربيع في مكانه وهو يحمل الصينية مصفوفٌ عليها عدد مِن الأكواب، يتابع بعينين شغوفتين وجه نعيمة المضطرب، بدت كغزالة يكتنفها الرعب وهي تستطلع كل تلك العيون التي ترغب في اصطيادها.
- إخلصى يا نعيمة، أنا عرضي مش هيستنى كتير.
صوت رفيقهِ مرة أخرى:
- أنا لو كنت بت حلوة زي نعيمة مكنتش هفوت الفرصة دي.
ضَحِكَ الجميع ولكن سرعان ما بسطَ الصمت نفوذه على المكان مرةً أخرى، لحظة بدَت للجميع فارقة تجمد فيها كل شيء قبل أن تكسر نعيمة هذا الجمود بصوتٍ يحمل الغضب والحزن:
- الله الغني يا عم.
احمر وجه الشاب وهمَّ بِشَتْمِها ولكنه عدَلَ عن ذلك قائلاً ويده اليمنى تعبث بجيب بنطاله:
- مية وخمسين يا نعيمة.
تمتم ربيع:
- يا قوة الله، مية وخمسين عشان حتة بوسة مِن نعيمة الزبَّالة، يالا يا بِت، أنتِ عبيطة!.
حاولت أن تنتزع السماح مِن عيني الشيخ عبد الوهاب الذي قال في هدوءٍ وهو يدخن نرجيلته:
- متبصليش يا نعيمة، القرار قرارك.
هتف الشاب في صوت الظمآن:
- يالا بقى يا نعيمة، الشيخ بيقولك القول قولك.
هَبَّ الشحات مِن على مقعده يندفع في جنون نحو نعيمة يقبض بقوةٍ بيده اليمنى على ذراعها وهو يصيح:
- أنتِ بتفكري في إيه؟
انتزعت ذراعها مِن قبضته بخشونة وهي تزجره قائلة:
- وأنت مال أهلك، هو أنت مِن بقية أهلي ونسيتك.
ضحكات الجميع صمَّت أذني الشحات عن السمع، لَمْ يَعُد هناك سوى ذلك الأزيز الذي يدوي في أذنيه، نظر نحوهم الشحات بغضب ثم صَبَّ عليها نظرة مِن عينين اشتعلتا بالغيظ، خفتت أصوات ضحكاتهم حتى عَمَّ الصمت المكان والجميع يتكهن بِرَدِّ فعلٍ جنوني مِن الشحات.
فجأة بصق الشحات على وجهها لتطلق شهقة دهشة، وبكل هدوءٍ غادر القهوة، مسحت البصقة مِن على أنفها بطرف غطاء رأسها ثم مالت بسرعةٍ تلتقط حجرًا صغيرًا مِن على الأرض تقذفه به في رأسه وهي تصيح:
- يا ابن الكلب يا معفن هخلي وشك شوارع لو شُفتك تاني يا ابن المجنونة.
لَمْ يتوقف...
لَمْ يَستَدِر...
بَلْ أكملَ سَيره في خطواتٍ ثقيلة بطيئة حتى ابتلعه ذلك الزقاق المظلم بين ضحكات أخرى مِن رواد المقهى، استدارت تواجه الشاب الذي قال:
- ها يا نعيمة، قولتي إيه؟
لوَّحَ لها بالنقود فهمست في صوتٍ يحمل الرجاء:
- طيب يا خويا طالما هما كده كده طالعين مِن ذمتك، متخليها بثوابها وطلعهم صدقة على ست غلبانة زيي.
- لأ، تنفذي اللي قُلتلك عليه الأول.
بعد وهلةٍ لَمْ تتجاوز الثانية تجمعت الدموع في عينيها وهي تغمغم بصوت متحشرج مُلَوِّحَةً بيدها اليمنى:
- الله الغني عن وش أمك!
جلجلت الضحكات مرة أخرى وخاصة ضحكة الشيخ عبد الوهاب والتي قطعها بسعاله، نَحَّى مَبسم النرجيلة جانبًا، نادى على ربيع ليدفع إليه بالنقود في الوقت الذي صاحت فيه نعيمة:
- أنت يا واد يا ربيع، ما تجيب أم الكيس وتخلصني.
استكان الشاب إلى مقعده مُنكَمِشًا حول نفسه، محتقنَ الوجه ورفاقه يتندرون بأمره، يخالط ذلك زجره لهم، تناولت نعيمة الكيس مِن ربيع، ابتعدت في خطوات سريعة عن المقهى، تُتَمتِم في غيظ، يتبعها الشيخ عبد الوهاب في خطواتٍ سريعة، نادى عليها لتتوقف مستديرة له والدموع ترسم خطوطًا على خديها، تمسح دموعها بطرف غطاء رأسها، أقبل عليها الشيخ مُبتسمًا:
- بتعيطي يا نعيمة!
- أصل الفلوس عزيزة يا سيدنا الشيخ والمدارس على الأبواب خلاص.
ربت على كتفها الأيمن وحثها على السير بجواره يقول في هدوئه الذي بث إليها بعضًا مِن الطمأنينة والسكينة:
- المفروض تشكري الشحات، هو اللي صحاكِ على آخر وقت مِن الإثم اللي كنتِ هتُقعي فيه.
توقفت تنظر إليه في حِدَّة ثم اندفعت تقول:
- متدخلتش ليه يا سيدنا الشيخ، مش الدين برضه بيقول لو حد شاف فيكم الحرام يوقف صاحبه عند حده.
- صَح الكلام.
- أُمال أنتَ ساكت ليه زي الـ...
بترت حديثها الهجومي مرة واحدة وهي تعض شفتها السفلى في لوم فاتسعت ابتسامته أكثر، يقول وهو يحثها على السير مرة أخرى:
- كنت عايز أعرف درجة إيمانك قد إيه يا عبيطة، وبخلاف كده أنا راجل عجوز وصحتي على قدي والواد يوسف ده وشلته عيال صايعة، وأنا للحق خفت لو اتدخلت يأذوني بعد كده، أصل في سرك أنا راجل جبان وبرضه الدين بيقول لو معرفناش نغير المنكر بإيدينا أو بلسانا فبقلبنا نرفضه وده أضعف الإيمان والحِتة دي موجودة مخصوص عشان الناس الجبانة اللي زيي.
أغمضت عينيها ثُمَّ اهتزَّ جسدها بضحكٍ مكتوم، بترت ضحكتها وهي تسحب نفسًا طويلاً وقد عاد العبوس إلى وجهها مرة أخرى وقالت:
- طب وهعمل إيه يا سيدنا الشيخ، دي الدنيا مبترحمش.
- عدي عليا بكره في الجامع بعد صلاة العشا وحيكون نفس المبلغ اللي عرضه عليكي البأف ده في إيدك مِن غير لا بوسة ولا حاجة.
تهلل وجهها بالسعادة وهي تتشبث بكم عباءته تهتف غير مصدقة:
- وعزة جلالة الله يا سيدنا الشيخ.
- وعزة جلالة الله يا بِت يا نعيمة.
انحنت تُقَبِّل يده فلم يسحبها وهي تغمغم بصوتٍ باكٍ:
- ربنا يبارك لنا في عمرك يا سيدنا الشيخ.
سحب يده في الأخير، يربت على ظهرها فتعتدل والدموع تتراقص في عينيها مرة ثانية فيحثها على السير متوقفًا بها عند مفترق طرق قائلاً:
- تعرفي يا بت يا نعيمة أنا دايمًا بتخنق مِن الشيوخ اللي بيسحبوا إيديهم لمّا اللي زيك يبوسوها، قال إيه راجل متواضع وهو بيعمل إيه غير اللي ربنا مكلفه بيه، تقوليش بقى نبي خلاص، ولعلمك بقى كل واحد فيهم بيبقى مبسوط أوي، إنما هي حركات قرعة!
عادت ضحكتها لتصطبغ بالدلال مرة أخرى ثم قالت وفي عينيها نظرة امتنان بالغ:
- ربنا يطولنا في عمرك يا سيدنا الشيخ.

رفع سبابته يقول في جدية:
- عشان تعرفي إن ربنا كبير ومش بيسيب حد.
- ونعمة بالله.
- وما تنسيش تبقي تبوسي إيدي بعد ما تاخدي الفلوس بكرة!
- حاضر يا سيدنا الشيخ.
ألقى عليها السلام يتحرك في خطوات بطيئة بعيدًا عنها فشرعت تبتعد هي الأخرى حتى استوقفها قائلاً وقد تذكر أمرًا ما:
- بِت يا نعيمة.
- نعم.
- أنا لمحت الواد عبده ابنك بيدخن سجاير مع الشلة البايظة إياها.
- حقيقي يا سيدنا الشيخ!
- قوليله عمك الشيخ بيقولك إن الدخان بكافة أنواعه حرام وإن أنا غلطان إني بدخن الشيشة، المفروض ميقلدنيش!
عادت ضحكتها تجلجل مرة أخرى قبل أن تقول:
- حاضر يا سيدنا.
ظلت تراقبه وهو يبتعد في خطواته البطيئة وجسده يتلون بظلمة الشارع الضيق بدءًا مِن رأسه حتى وارى كعب قدميه، تسحب نفَسًا طويلاً تكتم به رغبة عارمة في البكاء.
لَمْ يكن بكاءَ حزنٍ ويأسٍ هذه المرة.
ولكنه بكاءُ سعادة وفرح.
**********
طارت الحمامة مِن على حافة الرصيف، وقدم متسخة تطأ حافة الرصيف، تضرب بجناحيها الهواء وهي تمر أمام "الإيشاربات" التي رفرفت بألوانها المختلفة كأعلام على باب دكان فاروق الخردواتي مع نسمة هواء رقيقة هبت على المكان، تابع الشحات بعينين مبهورتين "الإيشاربات"، تترجم شفتيه هذا الانبهار إلى ابتسامةٍ واسعة تحتل شفتيه قبل أن ينادي بصوته الجهوري:
- يا حيوان، أنت يا واد يا حيوان!
رفع صاحب الدكان البدين رأسه لمصدر الصوت، وحباتٌ مِن العرق على جبهته، معقود الحاجبين، قطَّبَ جبينه لدى رؤية الشحات، غادر زبونته على عجل، يوقف تقدم الشحات أكثر مِن ذلك ليقول له بخشونة:
- عايز إيه يا شحتة؟
دَسَّ الشحات يديه في جيب بنطاله يقول بِعَينَينِ ساخرتينِ تتعلقان بلافتة الدكان الضوئية:
- والله ونضفت يا حيوان، وبقى اسمك مكتوب بالنايلون!
- اخلص يا شحتة عايز إيه؟
ثبت الشحات عينيه في عيني فاروق الغاضبتين بلا مُبالاة وهو يقول:
- أبوك الله يرحمه مرضاش يعلق يافطة على دكانه إلا في أواخر السبعينات!
استدار فاروق عائدًا إلى داخل المحل يقول بنفاد صبر:
- أنا مش فاضي دلوقتي لهزارك يا شحتة، إمشي دلوقتي.
تصنع انشغاله بعرض "إيشاربات" أخرى على الزبونة متجاهلاً وجود الشحات الذي وطأ إلى داخل المحل يغمغم:
- أبوك الله يرحمه يا حيوان مكنش يستجري لما أخش دكانه زمان لمّا كت بعقلي إنه يسيبني ويمشي.
مصمص الشحات شفتيه وهو يهز رأسه أسفًا يواصل حديثه إلى نفسه:
- إنما هو زمن قلاب.
رمقته الزبونة بقرف وخوف حاولت أن تواريه، اجتهد فاروق أن يصرف تفكيرها إلى "الإيشاربات" مرة أخرى ولكنهما انقطعا عما هم فيه وأخذا يراقبا بتوجس تجول الشحات في دكان فاروق الضيق فصاح به فاروق:
- أنت عايز إيه الله يخرب بيتك.
أشار الشحات إلى "الإيشاربات" المعلقة، يقول بهدوء بالغ:
- إيشارب.
- نعم!
- زي ما سمعت يا حيوان.
أدار فاروق رأسه للزبونة وقد اختلطت ملامح الغضب على وجهه بالخجل الشديد وهو يقول لها:
- معلش أصله مجنون قليل الأدب وأنتِ فاهمة بقى.
هز لها رأسه فهزت رأسها بخوف وهي ترمق الشحات بطرف عينها اليسرى تتصنع انشغالها باستعراض "الإيشاربات"، انتزع فاروق إحدى "الإيشاربات" في غيظ وناولها إلى الشحات يقول في سخرية:
- إيه نويت تتحجب يا شحتة؟
- تعرف يا حيوان إن دمك تقيل مِن وأنت صغير لحد النهاردة، مفيش فايدة.
ازداد احمرار وجه فاروق وقد اندفعت الدماء كلها إلى رأسه وفضَّل أن يلوذ بالصمت التام حتى لا ينجرف الشحات في إهانته أكثر، قلب الشحات "الإيشارب" في تأفف ثم قال في اشمئزاز:
- لا، لا، مش عاجبني، أنا عايز واحد ذوق مش بلدي!
- لا يا شيخ.
- إخلص يا حيوان وإنت ساكت.
جز فاروق على أسنانه وهو يكور قبضته اليمنى، يتمنى أنْ يلكمه في وجهه ولكنه يخشى الجلبة التي ستحدث على إثر ذلك وما سيستتبعه مِن نفور الزبائن مِن دكانه، سحب نفسًا عميقًا، قابله الشحات بدون اكتراث، قال فاروق جازًا على أسنانه:
- اتنيل نقي اللي إنت عايزه.
- هات الأزرق الفاتح ده، حلو قوي.
انتزعه فاروق بغضب ووضعه في يد الشحات قائلاً بصوت أشبه بالفحيح الممزوج بالغضب:
- مش تغور في داهية بقى يا شحتة ولا إيه؟
غادر الشحات المكان وهو يكور "الإيشارب" في قبضته اليُمنى، توقف على بعد مترين مِن المكان يصيح:
- ابقى روح زور أبوك يا حيوان وافتكر إنك عايش مِن خيره!
*******
انتفضت الحمامة التي كانت ترقد داخل إحدى فجوات "الكشك" الصفيح، لدى طرق قوي على الباب، وقفت على قدميها تُدوِّرُ رأسها يمينًا ويسارًا، تهز جناحيها وهي تعود لترقد مرة أخرى.
رفعت نعيمة الغطاء عن رأسها بعينين مذهولتين نصف نائمتين تطّلع إلى الباب، نهضت مِن رقدتها تضع فوق رأسها وكتفيها غطاء رأسها بإهمال، تخطو إلى الباب تنتقي خطواتها بعناية وهي تتنقل بحذر بين أجساد أولادها، تفتح الباب وتُبقيهِ مُواربًا، تتسع حدقتيها لتتغلب على النوم الساكن بهما، يرتفع حاجبيها في دهشة ويتعانقا وهي ترى الشحات يرسم ابتسامة بلهاء على شفتيه، لكزت ابنها عبده بقدمها اليمنى في رفق تهمس:
- واد يا عبده، إبعد عن الباب شوية.
يزحف عبده وهو نصف نائم يجر معه وسادته إلى آخر ركن بـ"الكشك" فتفتح الباب أكثر وهي تهمس للشحات برنة غاضبة خشية أنْ توقظ أطفالها:
- إيه اللي جابك تخبط على البيوت في نص الليالي يا مجنون إنت!؟
- جاي أقولك سامحيني يا نعيمة.
استطاع أنْ يرى في ذلك الظلام الذي يتلون بزرقة ضوء القمر احمرار خديها، تُطرِقُ برأسها أرضًا، يقتحم مشهد رؤيتها يده المُتعرقة الممسكة بكيس أسود منتفخ، تسمع صوته:
- خدي دي يا نعيمة.
ترفع رأسها إليه وهي تتمتم:
- إيه ده يا شحتة؟
- افتحيه طيب.
تتناول الكيس مِن يده وتفض ما فيه لتجد ذلك "الإيشارب" سماوي اللون لتزداد دهشتها واحمرار خديها، أطربه أنْ يرى الدموع تتأرجح في عينيها وهي تقول:
- ده عشاني أنا!
لَمْ يُجِب على سؤالها بل غادرها دون أنْ يلقي عليها السلام، ينظر إلى القمر الذي يتوهج بالزرقة، ثم يواصل سيره المعتاد على غير هدى، تهمس في صوت خافت:
- شكرًا يا شحتة.
أغلقت الباب، تلف "الإيشارب" على يدها اليمنى في سعادة، تخطو بِحَذَرٍ بين أجساد النائمين، تعود لرقدتها، تشد الغطاء فوق رأسها وابتسامة باهتة تتسلل في خبث إلى شفتيها، قبل ارتعاشة أخيرة لجفنيها لتغط في نومها مرة أخرى.
***********
ظل رامي يراقب تلك الحمامة التي تنقر بمنقارها الصغير وجه الأسفلت ثم تتوقف للحظات تدّور رأسها يمينًا ويسارًا، ثم تعود لتنقر الأسفلت مرة أخرى، أخفى رأسه بين يديه المتعرقتين، يداعب خصلات شعره المتهدلة على جبهته بأصابعه الطويلة، نسمة هواء تهب لتتلاعب بشعره أيضًا.
- مالك يا شهاب؟
رفع رامي عينيه إلى الشحات يستنكر وجوده قبل أنْ يجيب في أسى:
- تعبان يا شحتة.
أخرج الشحات مِن جيبه سيجارة أشعلها وهو يقول في هدوء:
- مِن إيه؟
- تفرق معاك ولا إنت بتتسلى؟
جلس الشحات إلى جانبه على حافة الرصيف يتلذذ بتدخين سيجارته دون أنْ يجيب، راقبه رامي للحظات كأنه يتعرف على ملامحه مِن جديد، يحاول أنْ يبحث عن أي بقايا عاقلة تتستر في ملامحه القذرة، استغرب أنه لَمْ يجد فيه أثرًا للجنون ولكنها ملامح طبيعية تواريها بعض الطبقات مِنَ القذارة، شجعه هذا على أنْ يتحدث.
- تعرف أمينة بنت أبو العربي يا شحتة؟
هَزَّ الشحات رأسه وهو يسحب نفسًا آخر طويلاً مِن سيجارته فأكمل رامي:
- بحبها أوي يا شحتة.
لا يستطيع تحديد إذا ما كان الشحات يُنصِتُ إليه أمْ أنه ولجَ إلى شروده المعتاد خاصة وهو يُدَوِّرُ السيجارة في يده ولا تحين منه التفاتةٌ واحدة للشاب، لَمْ يعبأ الشاب لذلك بل قرر أنْ يواصل حكيه، هو على الأقل في الوقت الراهن يريد مِن يستمع إليه ويكفيه ذلك.
- وإنت عارف ولا معرفش إذا كنت تعرف ولا لأ ... مش مهم ... أنا لسه طالب في الجامعة يا شحتة.
حانت التفاتة أولى مِن الشحات ناحيته وهو يقول بلامبالاة:
- تلميذ يعني.
تعليق الشحات العفوي استطاع أنْ ينتزع ابتسامةً بائسة مِن جوف الشاب، وفور أنْ تكوَّنَت ذابَتْ، أكمل الشاب:
- أنا عايز أتجوزها يا شحتة ومِش معايا حاجة أقدمها لأبوها عشان أتجوزها، والبِت كبرت واحلوت وبقى يجي لها كل يوم خُطّاب.
- البِت حلوة فعلاً وخسارة في واحد زيك!
رامي يتجاوز عن كل تعليقات الشحات، لَمْ يكن ينتظر منه حلاً سحريًا أو أيَّ عون، فكيف يتوقع العون والحل مِن مجنون مثله؟ يكفي أنْ يحكي لمجنون مثله لا يعي ما يقوله وبالتالي لا خوف مِن تبعيات أن يعرف، يرغب في التخلص مِن ذلك العبء الثقيل الذي يطبق على صدره وحلقه ورأسه، يضغط كل عضلات جسده، يريد متنفسًا يخفف مِن وطأة هذا الضغط الذي يتعاظم كل حين.
- وأنا نفسي أكلمها أقولها أي حاجة لحسن هي بدأت تفقد الأمل فيَّ لأني مِن ساعة ما حسينا بمشاعر ناحية بعض ماكلمتهاش، وأنا خايف أنها تفتكر إني رامي طوبتها، ومش عارف أعمل إيه عشان أكلمها مِن غير أبوها ما يعرف.
سكت ولَمْ يَزِد حرفًا، نفخ بقوة، التقط "زلطة" بين أصابعه يقلبها في يأس، لَمْ ينتظر مِن الشحات أيَّ تعليق، يكفي على الأقل أنه أفرَغَ كل ما يعتمل في نفسه مِن كَبتٍ ويأس وإحباط ومشاعر متأججة، لَم يَكُن يعنيه أنَّ المتلقي لشكواه مجنون مثل الشحات والذي ألقى سيجارته يسحقها بقدمه العارية دون أنْ يشعر بأي ألَم ثم علَّقَ بهدوءٍ بالغ:
- الحل موجود يا شهاب.
حملت نظرة رامي الاستنكار والاستهجان وعلى شفتيه شبح ابتسامة ساخرة.
- الحل موجود.
- أيوه.
تحول شبح ابتسامته لضحكة ساخرة وهو يغمغم:
- قول يا شحتة.
- كل اللي قولته يا شهاب ولا له تلاتين لازمة، اسمع بقى هتعمل إيه، الأول: إنت قلت إنك حاسس وهي حاسة، بس اللي فاتك إنك تعرف منها هي حاسة فعلاً ولا دي تهيؤات يا شهاب.
أدار رامي رأسه للشحات وقد أعاد الاهتمام تشكيل ملامحه مِن السخرية للجدية والاهتمام، والشحات يقول وبصره شاخصٌ إلى اللاشيء:
- عشان لو هي بتحبك بصحيح، يبقى متخافش روح كلم أبوها طوالي، وبحالتك المقندلة دي، وحبة منها وحبة منك، الراجل ممكن يلين ولازمن دلوقتي يا شهاب وتبقى واد جَد، لازمن الراجل يحس منك كده، أي نعم أبو ربيع راجل ابن جزمة دماغه ناشفة بس هو بيستجدع الناس اللي بيلاقيها رجالة في كلامها مش جاية تتسلى.
- كلام معقول والله.
لَمْ يُعلِّق الشحات، بل لَزِم الصمت وقد غيمت على ملامحه آيات الشرود وقد ترجم الشحات ذلك إلى أنْ هزَّ رأسه عدة مرات وأصابع قدمه اليمنى تعبث ببقايا سيجارته.
- تصدق إنه كلام معقول أوي، ده كلام ميطلعش إلا مِن واحد عاقل مش مجنون زيك يا شحتة.
داخَلَ الشاب خجل شديد بعد عبارته الأخيرة وارتبكت الحروف على لسانه المعقود، هرب بعينيه بعيدًا عن الشحات في حين نهض الآخر يسير على غير هدى كعادته.
تابعه الشاب للحظات وهو يتمتم:
- يا ترى إنت مجنون بجد ولا أنت بتستعبط يا شحتة؟
*******
هبطت الحمامة لتقف على حافة شرفة طويلة تتلفت برأسها يمينًا ويسارًا ثم تنقر حافة الشرفة، تحلق بعيداً على أثر صوت هادر أفزعها.
- بقى يا ابن الكلب بتقرطسني وبتلاغي بتي.
يعقب صياح الرجل صوت كعب حذائه وهو يضرب ظهر الشاب، يخالطها صرخات الشاب وهو يحاول الإفلات مِن قبضة ذلك الرجل قوي البنيان، وبعض مِن الناس تحلقوا حولهما يتابعون الأمر في فضول، بعضهم يضحك والبعض الآخر قد اندفع في محاولة غير جادة لتخليص الشاب مِن يد أبو ربيع.
- والله ما أقصد يا حاج، فهمتني غلط.
حاول الشاب أنْ يفلت مِن يد أبو ربيع، الذي أمسك بياقة قميصه يعيده بين يديه مرة أخرى ورجل أربعيني يمسك ذراع أبو ربيع يدعوه لترك الشاب، هوى هذه المرة بكعب حذائه على رأس الشاب وقد احمرت عيناه مِن فرط الغضب والشاب يصرخ مرة أخرى وامرأة بدينة تثب في مكانها تصرخ في جنون:
- والنبي يا حاج معادش يعملها تاني، والنبي الغالي لتسيبه، دنا مليش غيره.
هوى كعب الحذاء مرة أخرى فوق ظهر الشاب ليصرخ متألمًا:
- يا حاج أبوس إيدك أنا قصدي شريف.
- شريف إيه يا ابن سميرة يا معفن إنت، هو أنت لاقي توَكِّل نفسك يا قُفة عَضم عشان تعمل فيها حبيب وتلاغي بتي.
ناوله ركلة قوية في أمعائه في حين جلس الشحات القُرفصاء على حصيرته يتابع ما يحدث على بعد عشرة أمتار مِن مجلسه ضاحكًا وهو يلف سيجارة جديدة مِن ورق الجرائد، في حين تابعت نعيمة الأمر بتوتر شديد وهي تتمتم في أسى:
- هيموت الوَلَه، الوَلَه بيخلص في إيده.
نظر الشحات نحوها ثم انخرط في ضحكهِ الهامِس، وهو يقول لنفسه:
- الله يخيبك يا شهاب.
يأتيهما صوت أبو ربيع وهو يصيح غاضبًا:
- بترمي للبت جواب في البلكونة عيني عينك كده يا كلب.
ترددت بعض الأصوات غير الصادقة ترجو أبو ربيع أنْ يفلته مِن وسط ضحكاتها.
- خلاص بقى يا حاج
- سماح النوبة
- سيبه يا حاج، ده واد غلبان.
كانت أمه لاتزال تَثِب في مكانها بهيستيرية وتولول على ابنها وبعض النسوة يحاولن تهدئتها.
- سامحه المرة دي يا حاج، عيل وغلِط، خليك الكبير.
كان أبو ربيع لازال مُمسِكًا بياقة قميصه يجز على أسنانه يفكر في أنْ يضربه بكعب حذائه مرةً أخرى، حاول الشاب أنْ يصرف أبو ربيع عن ضربه مرةً أخرى بأن رفع ذراعيه أمام وجهه ليهتف برعب:
- الشحات هو اللي قاللي أعمل كده يا حاج والله.
الصمت لَمْ يُكَمِّم الأفواه فقط ولكن جمد المشهد لِوَهلة، والكل ينظر إلى الشاب مذهولاً، حتى أمه التي كانت تولول تدلى فكها السفلي، أنظار الجميع اتجهت للشحات بما فيهم أبو ربيع ونعيمة تستدير للشحات تمتم في ذهول:
- يخيبك يا شحتة هو أنت اللي ....
لَمْ يكتَرِث الشحات لنظرات الجميع وعاد ليضحك مرة أخرى مكملاً لف سيجارته، أبو ربيع أول مَنْ حَطَّمَ جمود المشهد وهو يناول رامي "قفا" قوي أخرج الجميع مِن حالة الذهول وهو يصيح ثائرًا:
- أنت عايز ترمي بلاك على أي حد وعشان هو مجنون قمت عايز تلبسهاله يا معفن.
جلجلت ضحكات الجميع مختلطة بصراخ أم الشاب:
- ابني حيموت يا عالم، الحقوا ابني.
أفلتت نعيمة المقشة وجرت نحو أبو ربيع تتعلق بيده تهتف باستجداء:
- وحياة النبي الغالي يا حاج لتسيبه وأوعدك إنه ما راح يعاكس المحروسة تاني بعد النهاردة.
كان صدر أبو ربيع يعلو ويهبط بسرعة، يلتقط أنفاسه بصعوبة، بدأت شياطين الغضب تفر مِن عينيه الواحد تلو الآخر إلى أنْ قال في هدوء اكتسى بنبرة حادة:
- والله أنا كنت ناوي أدبحه زي الفراح اللي عندي إنما هسيبه عشان خاطرك بس.
- تِكرَم يا راجل يا طيب.
ربتت على كتف أبو ربيع، أفلت ياقة رامي وهو يركله في مؤخرته بقوة وهو يقول:
- غور يا ابن الكلب ينعن أبو شكلك العِكِر.
عاد إلى دكانه يبرطم في غيظ وأحد الرجال يرافقه يحاول أنْ يُهدئ مِن ثائرته، انفض الجميع .. كُلٌ إلى سبيله، يتندرون بما شاهدوه اليوم، في حين تلقفت المرأة ابنها في جزع تحاول بيأس أنْ توقِفَ النزيف المتدفق عن رأسه، تصحبه في خطوات سريعة إلى بيتها.
تنهدت نعيمة وهي تستدير إلى الشحات ترميه بنظرة مغتاظة، ابتسم وهو يَدُسُّ السيجارة بين شفتيه، نهض قائلاً:
- كوبايتين الشاي عندي النهاردة يا نعمية.
********
فرَدَت الحمامة جناحيها في الهواء وهي تهبط بضعةَ أمتارٍ لتُواري رأس نعيمة الجالسة بجوار الشحات على حافة الرصيف.
- شُفت نصايحك المنيلة عملت في الواد إيه؟
ارتشفت نعيمة مِن كوب الشاي والشحات يرد عليها بغير اكتراث:
- إنتِ مصدقة برضه الكلام ده.
- شحتة أنا عرفاك أكتر مِن نفسي.
- أنا مكنتش أعرف إنه واد قِفل للدرجة دي.
أدار لها رأسه وقد ظهر الاستنكار على وجهه يقول:
- شهاب غشيم يا نعيمة، يرمي لها جواب وهي واقفة في البلكونة ودكان أبوها آخر الشارع.
كان يبحث في عينيها عن استنكارٍ مُماثل فاستقبل فتورها، فهز كتفيه وهو يقول:
- مهي البت بتنزل السوق كل يوم، يلاغيها هناك.
ضربته في كتفه برقة ليهتز جسده بالضحك، ابتسمت وهي تهز رأسها علامة اليأس مِن الشحات ثم قالت:
- طيب لما شوفته بيعمل الهبل ده موقفتوش ليه.
- يا نعيمة...
- نعم يا شحتة.
يَهُزُّ كتفيه مرة أخرى علامة الذهول والاستنكار وهو يضيف:
- مهو لو كُت فرملت أمه كان عمل أوسخ منها وساعتها كان أبوها دبحه زي الفراخ بصحيح.
كعادتها التي يحبها كثيرًا، تفلت تلك الضحكة الماجنة المجلجلة منها وهي تقول:
- يخرب شيطانك يا شحتة.
ضربته مرة أخرى في كتفه قائلة:
- ده أنت طلعت داهية وعامل عبيط.
- أنا مش عبيط يا نعيمة.
- أُمال إيه اللي دهول حالك كده يا شحتة؟
هزَّ رأسه وقد صرف نظره عنها وملامح الضيق تتسرب إلى وجهه، حاول أنْ ينطق مِرارًا ولكنه اكتفى بهز رأسه ملتزمًا بالصمت التام.
نظر لها مرة أخرى وهي تقول:
- وحياة النبي أنت أعقل واحد فينا يا شحتة.
استغربت انطفاء بريق عينيه ليحل فيهما حزنٌ عميق، قررت أنْ تغادره فلقد استشعرت في عينيه الحرج مما آلت إليه نفسه الآن مِن فتور وحزن، اتجهت إلى مقشتها تتشاغل بها، ظل يراقبها لبعض الوقت ومِن ثم ركز بصره على مؤخرتها فتدفعه للضحك الصامت، ينصب قامته المقوسة وهو يرتشف آخر ما في الكوب.
بدون أنْ تستدير وهي تكنس،هتفت به:
- عينك يا راجل اللي هتخرمني.
انتزعت كلماتها مِن جوفه ضحكة أخرى صامتة قبل أنْ يغادر مجلسه يسير على غير هدى كعادته في مثل هذا الصباح المُنعِش، يصل إلى ترعة المحمودية فيختار ربوة طينية مرتفعة يرتكن إليها في خمول ويدلدل قدميه مِن فوقها، يؤرجحهما في تلذذ وهو يتناول كل حين طوبة صغيرة يلقيها في المياة الراكدة لتصنع بها دوامات دائرية سرعان ما تتبخر.
******
أرخَت الحمامة جسدها فوق المظلة القصيرة المعدنية التي تظلل مدخل دكان شبه مُعتم.
ألقى رضا السيجارة وهو ماضٍ في طريقه إلى محل أفراح (أبو الفتوح)، وقف على عتبة المحل ملقيًا السلام فاستقبله ذلك الأشيب بجلبابه الأبيض في بشاشة، ناهضًا مِن خلف مكتبه يصافحه في حرارة وهو يقول:
- أهلاً بيك يا أستاذ رضا، يا مرحبا.
- إزيك يا أبو الفتوح.
كشف الرجل بضحكته المفتعلة الواسعة عن أسنانٍ صفراء نخرة وشاربه الكث يتدلى بشكل فكاهي على شفته العلوية فيكاد يخفيها.
- فرح بإذن الله.
- لا والله، أنا جايلك في موضوع تاني خالص يا أبو الفتوح.
يستطيع أنْ يتوقع أبو الفتوح السبب الذي يدعو رضا لزيارته بشكل مفاجيء، لا يحتاج الأمر منه إلى كثير مِن الذكاء، التوتر والغضب اللذين تلاعبا بصدر أبو الفتوح صعدا رغمًا عنه إلى ملامحه وهو يقول بصوت مخنوق:
- خير يا أستاذ رضا.
سعل رضا قبل أنْ يتكلم:
- إنتَ عارف شحتة طبعًا...
بتر عبارته يرمي أبو الفتوح بنظرة يفهمها الآخر جيدًا، ضرب كفًا بكف في غيظٍ شديد، وهو يقول بغضب:
- هو عملها تاني على سلالم بيتكم؟
كحكح رضا مرة أخرى وهو يهز رأسه في صمت، تبدلت ملامح الآخر تدريجيًا مِن الغضب إلى الوجوم وهَمَّ بأن ينطق لولا رنين الهاتف الجوال لرضا ليلتقطه بسرعة يجيب:
- آلو... أيوه... أيوه يا أم جابر مـ...حا...أيوه...عملت حسابي على أتـ....حاضر، هجيب اتنين كيلو فاصوليا قبل ما آجي، حاجة تانية...طيب، مش هنسى الحنة، حاضر...سلام بقى!
أعاد النظر لأبو الفتوح ليستكملا ما انقطع مِن حديثهما ولكن بدا أنَّ الآخر انشغل بالهاتف الجوال الذي يمسكه رضا، أشار له أبو الفتوح بابتسامة بلهاء تفترش وجهه.
- هو ده بقى الموبايل يا أستاذ رضا.
اغتصب رضا ابتسامةً ولَمْ يُجِب، لَمْ يبدو على أبو الفتوح أنه يبالي برد فعل رضا، فطن رضا لِمَ يفعله أبو الفتوح مِن محاولة صرفه عن موضوع الشحات ورماه أبوالفتوح بسؤالٍ آخر:
- نفعك على كده الموبايل يا أستاذ رضا؟
لَمْ يهمل الآخر الفرصة لقطع السبيل أمامه وقد بدأ صبره ينفد، وأردف:
- يعني بدل ما تطلع البيت وتبقى جي مِن الشغل تعبان وتلاقي الجماعة تقولك هات وهات، أهو وأنت في السكة تجيب كل حاجة، هو مش أنت جايبه عشان كده برضه!
قال رضا مِن بين ضروسه:
- الله ينور عليك، هو كده.
ضحك أبو الفتوح وقال مزهوًا:
- لا خد بالك، أنا عندي نظرة برضه في المسائل الجديدة دي، ميآخذكش إني بتاع أفراح.
- لا صحيح، واخد بالي، نرجع لموضوعنا.
اغتمَّت ملامح أبو الفتوح وقد فشلت خطته في صرف رضا عن موضوع الشحات فهز رأسه مُتَمتمًا:
- آه ... الشحات.
لَم يَزِد عن قوله هذا، يعلم أنه سيسمع شكوى مُملة مِن الآخر، هو في غِنى عنها، شكوى سَتَمسُّ جيبه وهذا آخر ما ينتظره الآن، لَمْ يَكُن أمامه مِن سبيل سوى الإصغاء وأنْ يُبدي الكثير مِن التأثر المُفتَعل.
- الحاجة أم حسن زي ما أنت عارف سِت نضيفة قوي وهي موصياني وأنا راجع مِن الشغل إني أكلمك في موضوع الشحات لأنها غُلْبِت تكلمه ميعملهاش على السلالم أو في بير السلم بس هو مُصِرّ، كل مرة يقولها مِن عنيا الاتنين يا حاجة ويعملها وأحنا بصراحة، متآخذنيش طهقنا مِن الوضع ده وفيه ناس بتيجي تشوف بتي، أنت عارف هي على وش جواز، ومِش معقول يتفاجئوا بالأوضاع الصعبة دي، خصوصًا إن الشحات واخد بَرَاحُه خالص ورافض يروح المبولة، قال إيه!، بيتقرف مِن المبولة، وشايف إن السلالم أنضف، بقى ده اسمه كلام يا أبو الفتوح!
0 تصويتات

اترك تعليق

التعليقات

اكتب وانشر كتبك ورواياتك الأصلية الأن ، من هنا.