tafrabooks

شارك على مواقع التواصل

عندما حانت لحظة الصفر، أطلقت أمي صافرة الإنذار في منتصف ليلٍ شتوي بارد فأيقظت والدي، أخبرته بشعورها أنها على وشك الولادة، فانزلق عن السرير وتلفت في جميع الاتجاهات، تقدم بضع خطوات وتراجع، تقدم وتراجع كبندول الساعة الحائر حتى استعاد باقي عقله، فارتدى قميصًا وألبسها عباءة، ثم حملها وهبط وسَط أنينٍ مكتوم لم يسمعه أهل البيت الغاطين في نوم عميق.

أنبأوه بعد فحوصات سريعة باستحالة الولادة الطبيعية لكبر رأسي وأخذوا إذنه لإجراء عملية الولادة القيصرية، فوافق دون تفكير، وكأن لديه خيارًا آخر مثلًا؟! لقد سدّوا جميع المنافذ في وجهه وتركوا له واحدًا ثم ادّعوا أنهم يأخذون إذنه!
لحسن الحظ كان دكتور النساء والتوليد متواجد حينها، لكنهم قاموا باتصالاتهم لاستدعاء دكتور التخدير، وفي تلك الأثناء، اتصل بحماته مستعينًا بهاتف المشفى وأخبرها بولادة ابنتها المفاجئة، فما لبثت أن قدمت مع خالي مذعورة، تتشبث بطرفي شالها الفروي الأسود المتدلي على كتفيها المكتنزين، وتركض تجاه والدي فيتهدهد صدرها علوًّا وهبوطًا وينزلق إيشاربها القصير عن شعرها المصبوغ بالأصفر إنشًا للوراء مع كل خطوة تخطوها. أخبرها أن ابنتها بالداخل فوقفت بجانبه أمام غرفة العمليات تصفق كفيها حينًا وتتمتم: "حبيبتي يا بنتي" أحيانًا أخرى، أما خالي، فقد أخذ يشق الرواق ذهابًا وإيابًا، يقف أمام بابي غرفة العمليات على أطراف أصابعه، ويسترق النظر من لوحيّ الزجاج أعلاهما، وحين ييأس من دكنته، يعاود شق الرواق متأففًا.
كان دق قطرات المطر على زجاج النافذة المجاورة لأبي، ووقع أقدام خالي وحركته المستمرة بلا تعب، وصدى بكاء جدتي وتساؤلاتها عن سبب تأخرهم إلى هذا الحد، يزيد الوضع توترًا في نفسه كدقات عقارب الساعة في لجنة امتحان صعب، وفي محاولة يائسة للهروب من قلقه، أخذ يتأمل ما يحدث بالعالم الخارجي، وعندما لم يعقب هطول المطر بصيصٌ من أنوار الصباح بعد، ازداد قلقه حدةً، ولم يطفئ لهيبه في صدره إلا صوت فتح بابي الغرفة. التفت إلى الفاعل، فرأى أحد الممرضين يخرج راكضًا دون التفات حتى بلغ نهاية الرواق، واختفى. لحظات، ثم عاد يقود ممرضيْن آخرين، تركهما يسبقانه إلى غرفة العمليات ووقف هو أمام والدي يستدعيه إلى الداخل بشذرات كلمات متطايرة خارج لهاثه المتواصل.
سرعان ما عاد إليهما بعينين تائهتين وأذنين لم تسمعا تساؤلاتهما وقدمين لم تقويا على حمله، فانهار جالسًا على الأرض مسندًا ظهره على الحائط، فجلسا بجواره يواصلان أسئلتهما دون رد، حتى أيقظه من شروده، صياح جدتي:
- ما بها ابنتي؟
أخبرها أنهم سيستأصلون رحمها، واستقبل بعد مقولته المشؤومة تلك وابلًا من النحيب واللوم على إحضار ابنتها إلى مشفى رخيصة، ألصقه بالأرض أكثر. ولم توقف ولولاتها أو يوقف ابنها اتهاماته الطائشة للطبيب بالإهمال إلى أن انفرج البابين عن سرير يجره ممرضان، فوقفا مهروليْن خلف السيدة النائمة، ولزم أبي مكانه يتأمل ذاك الكائن الضئيل على ذراعي الممرضة وهو يقاوم بيديه المكشكشتين خرقة بيضاء ملفوفة عليه بإحكام، ناولته الممرضة إياه، فحمله بذراعين مرتجفتين، وأمعن النظر في ملامحه بعينين لا تخلوان من فزع، وجبهة تتصبب عرقًا رغم برودة الجو؛ ربما كان متوجسًا من أن أنزلق من بين يديه كمادة هلامية ناعمة، أو أن يسحق عظامي بحركة عفوية خاطئة، لكنه لم يقطع نظراته عني إلا عندما وقف الطبيب أمامه، علَّق عينيه عليه ببقايا أمل خافت، انطفأ تمامًا عندما أخبره أن الاستئصال قد تم.

ترددت الأصوات في ممرات المشفى كلحن نشاز من تأوهات تقشعر لها الأبدان، ونداءات الممرضين وأقدام تركض هنا وهناك، وأسِرّة وكراسٍ أمكنني سماع عجلاتها الصدئة تحتك مع بلاط المشفى المشقوق المتصدع، أصوات غريبة وأمور مزعجة أختبرها دفعة واحدة، الضوء الساطع، والنسمات الباردة، ورائحة الكحول التي عمّت أرجاء المشفى مع رائحة البيتادين الذي غطى جرح أمي، والتواءات أمعاء معدتي واشتباكاتها المحتدة، وصراعي مع ثدي أمي حتى تمكنت من التقامه، لكن غرابة كل تلك الأشياء على أعضائي لم تضاهي أبدًا غرابة نشيج الكبار على أذنيّ.
فعندما عادت جدتي مع خالي من بيتها بطعام تتناوله ابنتها عند سماح الطبيب بذلك ودثرت رأسها بالقبلات، وعانقها خالي بحرارة متجاهلًا تأوهاتها من ألم جرحها، اعتدل هاتفًا:
- ولا يهمك يا أبلة، أنا سأرفع قضية على الدكتور المتخلف وعلى المستشفى كلها.
رمقته بنظرة متسائلة، فنظر إلى أبي وفوجئ به يزجره بعينين جاحظتين، أطبق فمه على لسانه، فنظرت بدورها إلى أبي، فنظر إليّ عوضًا عن مواجهتها، لو أمكنني النطق حينها لصرخت فيه:
- لم تنظر إليّ الآن وما دخلي أنا؟! فقط ذكِّرني ألا أتخذ خالي هذا قدوةً أبدًا...
خالي الذي لم يستخرج بطاقة شخصية بعد، يريد رفع قضية على أحدهم، يا للسخرية!
نظرت إلى أخيها مرة أخرى وسألته:
- ولم يا سامي تريد مقاضاة الدكتور؟
سقطت دموع جدتي الثقيلة على يدي، وارتبك خالي متمتمًا:
- ألم تعلمي؟
وضعت يدها على جرح العملية وتأوهت كأن ألمه قد اشتد عليها فجأة، فدنا أبي منها فزعًا، لكنها تقهقرت قائلة:
- لم يريد مقاضاة الدكتور؟
تمتم خالي:
- أصل...
بسط أبي كفه أمام وجهه ليوقفه قبل أن يستكمل ويزيد الطين بِلَّة ثم جلس على الكرسي المجاور لسريرها قائلًا:
- تعلمين.. عمليات كهذه تنتج عنها...
- بدون مقدمات أرجوك يا غريب.
أغلق عينيه وزم شفتيه؛ من يراه في تلك الحالة يراهن أنه يبرح خالي ضربًا في مخيِّلته. فتحهما قائلًا في نفس واحد:
- حدث نزيف عقب الولادة لم يتمكنوا من السيطرة عليه فاضطروا إلى إزالة الرحم.
- نزيف.. رحم.. أعِد.. أعِد ما قلت مرة أخرى.
رفع عينيه على سقف الحجرة المتشقق وامتعض وجهه وهو يسمع صياحها:
- أعِد ما قلت يا غريب، تقول إنني لن أنجب مرة أخرى؟!
علا نحيب جدتي وبكى خالي وهمّ أبي بمعانقتها، فتراجعت قائلة:
- كيف سمحت لهم بفعل هذا؟
- كنتُ سأخسركِ إن لم أفعل.
انتحبت بين ذراعيه:
- لمَ لم تتركني أموت بالداخل؟
وأمام نحيبهم وبكائهم، لم يفرج والدي عن دمعة واحدة، كبّلها بقوة داخل مقلتيه وأطلق ليديه على شعر زوجته، عنان الارتجاف.


أُف... لم كل هذه التراجيديا الكاذبة؟! ألم يصنع ذاك الطبيب لهما معروفًا بفعله هذا؟ على الأقل، لن تدمر المزيد من الأخبار المفاجئة جداولهما المنظمة...
رأيت الجزء العلوي من الصورة يتجه صوب الجدار وكأن هنالك طاقة جذب خفية تنبعث منه فتستدعيها. تركتُها، فطارت وحطَّت في موضعها السابق. تأملت في الرابعة والديَّ الواقفين أمام منضدة مستطيلة، يحملان بينهما صبيًا يرتدي قميصًا أبيض بببيونة زرقاء على بنطالٍ أسود، تنتهي ابتسامته العريضة بغمازتين لطيفتين أخذهما من والده الوسيم، وينسدل نصف شعره على جبهته البيضاء، ورث نعومة خصلاته من والدته، كما ورث عينيها الضيقتين مسحوبتي الجوانب بمقلتيها الرماديتين.
انتزعتُها، فاصطحبتني الشاشة إلى لقاءٍ حميم مع نسختي القديمة الفطرية.

0 تصويتات

اترك تعليق

التعليقات

اكتب وانشر كتبك ورواياتك الأصلية الأن ، من هنا.