tafrabooks

شارك على مواقع التواصل

في الحقيقة، لم أُفاجأ كثيرًا بدوري من رد فعلهما عندما علما بقدومي، لطالما كان واضحًا جليًّا لي ذلك طوال حياتي، ففي نظرهما، وإن لم ينطقاها يومًا، ما أنا إلا شخصٌ غير مرغوبٍ فيه.
كأي زوجين عمليين في مستهل حياتهما، الزوج معيد بالجامعة لم يمضِ الكثير من الوقت على تعيينه والزوجة لا تزال طالبة في كلية طب الأسنان، انتهت لتوِّها من سنتها الثانية بتقدير ممتاز، فأقاما احتفالًا متواضعًا لفردين بمنزلهما مساء يوم إعلان النتائج، لم يجدا داعيًا إلى دعوة بقية أفراد العائلة الذين لن يعترفوا أبدًا بوجود أمرٍ يستحق الإحتفال على أية حال، فاكتفيا ببعضهما، كانا يظنان وقتها أنهما يحتفلان وحدهما، غير أنني كنتُ هناك، أشهد الأجواء الدافئة بينهما، وأرى خلسة نظرات الاعتزاز التي غمر بها الزوج زوجته الناجحة، وقد قررت أن أفرض وجودي لتكتمل بهجتهما، فما إن قطمت الزوجة قطعة من التورتة المغطاة بالكريمة وحبات الكرز حتى ركضت إلى الحمام تستفرغها مع عصارة الكاكولا أو الكازوزا، كما كانا يدعوانها، وحينها، عزما على الذهاب إلى ذاك الطبيب في اليوم التالي عقب عودة الزوج من الجامعة.
كانت تطلعاتهما كبيرة وتوقعاتهما عالية من الحياة، يترقى الزوج إلى مدرس مساعد بعد حصوله على درجة الماجيستير، فيزداد راتبه بعض الشيء بما يمكنهما من الإدخار لينتقلا من هذه العمارة التي تفوح بروث الحمير وتنقطع مياهها عنهما أكثر مما تجئ، إلى شقة صغيرة يستأجرانها بعيدًا عن سطوة بيت العائلة وتدخلات أفرادها، وفي تلك الأثناء، ستكون الزوجة قد أنهت تعليمها وافتتحت عيادتها الخاصة وستساعد زوجها في عملية الإدخار، فتتحول الشقة الإيجار إلى شقة تمليك صغيرة، ومن الشقة الصغيرة إلى أخرى أكبر، ومن الشقة الأكبر إلى فيلا صغيرة بحديقة متواضعة، ومنها إلى ضخمة بحديقة أوسع وجراج يتسع لسيارة فخمة تَحُل محل سيارتهما الخنفساء. أحلام واسعة ومخطط كبير لم أشغل حيزًا منه ولو بسيط؛ من وجهة نظرهما، كان عليهما التمهيد لاستقبالي بتحقيق تلك الأهداف كلها أو على الأقل قصيرة المدى منها، أسرة عملية حقًا، جرَت رياحها بما لم تشتهي فتبعثرت خرائطها.

الصورة الثانية فسَّرت ما سيأتي، حيث كان الجد بعباءته البيضاء الخفيفة الفضفاضة على جسده الهزيل يجلس على الأريكة المكسوَّة بقماش القطيفة البنفسجي المزركش بورود زهرية، بجانبها طاولة دائرية لا تتسع سوى لراديو مربع الشكل بنيّ اللون متوسط الحجم يصدح بصوت عبد الحليم حافظ، أخذ يدندن معه ويلوِّح يديه بمنديله الكتاني المخطط يمنة ويسرة مغمضًا عينيه كمَن انتقل إلى مكان وزمان آخريْن، لا ينتبه إلى الجالسات على الأرض أمامه: الجدة أم السيد بعباءتها الكحلية المنقوشة بورود بيضاء صغيرة وإيشارب أبيض معقود على رأسها بإحكام، مع زوجة عمي السيد ببطنها المترهلة، وعمتي نادية برضيعها النائم على حجرها. جلسن في حلقة تتوسطها صينية عليها فروع الملوخية، انكبَّ ثلاثتهن عليها يقطفن أوراقها ويضعنها في الأطباق البلاستيكية العميقة بجوارهن، في جلسة لا تخلو من تبادل أخبار الجيران فيما بينهن، لا تنضب تلك الأخبار أبدًا إذ لابد وأن يكون هنالك أخبار جديدة في مكان ما كل يومٍ لتناولها والسخرية من أغلبها مع القهقهات التي رغم ارتفاعها، لم تتمكن من التشويش على الجد رأفت، ولم تستطع انتزاعه من ذاك العالم الذي حلّق إليه مع عبد الحليم.
أما رأفت فكان يركض هاربًا من جميلة، يلتفت إليها بين الفينة والأخرى ويمد لها لسانه، فتصرخ وتحث ساقيها القصيرتين على اللحاق به، فيدور هو حول دائرة النسوة ضاحكًا، وتستقبله هي في نهايتها، تمسك بطرف قميصه مثقوب الكتف، فيصرخ راكضًا في مكانه حتى ينسلت من بين يديها ويهرول نحو باب الشقة وهو يمد لها لسانه ويضحك من جديد، يرتطم بساقي والدي الطويلتين، فيتراجع محملقًا في وجهه مطبقًا فمه على لسانه، ثم ينصرف إلى الشارع بأقصى سرعة؛ كان لوالدي رهبة كبيرة أمام الأطفال، ففور رؤيتهم له ينفضُّون من المجلس إن كان باستطاعتهم ذلك، وإن لم يكن، التزموا الصمت في أماكنهم حتى يغادر، وقد استغلت أمهات الحي ذلك أحسن استغلال، فإذا تجاوزت شقاوة أولادهن حدّها وغَلُبن معهم في أمرهن، لجأن إلى تهديدهم بعمهم غريب فيلزموا الهدوء لحين إشعار آخر.
أفسحت عمتي وزوجة عمي لأمي مكانًا بينهما فور رؤيتها، لم يكن ذلك نابعًا عن اشتياقٍ وحبٍ عارمٍ منهما تجاهها وإنما لتشاركهما العمل بكل تأكيد، كان بإمكان رأفت البالغ خمس سنوات استنتاج ذلك ببساطة. انصاعت لذلك بهدوء بينما جلس أبي بجوار جدي، فانتشله من ألحانه وعانقه وقبَّل يده وحظى بتربيتة حانية على رأسه ونهل من بشاشة وجهه القوة اللازمة لخوض معركة نسائية كان قد خطط لولوجها مرغمًا.
ساد الصمت بين النسوة واختفت الضحكات وتلاشت إلى غير رجعة فور جلوس أمي بينهن وكأن بحر الأخبار قد نضب فجأة، لاحظ غريب ذلك كما لاحظه الطفلان والجد الذي أخفض صوت المذياع عندما قال ابنه:
- لديّ خبر أود إطلاعكم عليه.
رفعن رؤوسهن نحوه بينما تابعت سهير قطف أوراق الملوخية، ورغم أنه معتاد، لطبيعة عمله، على إلقاء المحاضرات، فإنه، ولسبب لم يعلمه، توتر أمام نظراتهن الفضولية وتاهت عنه الكلمات لبرهات، كُنّ كقناصات ينتشلن أخبار الغرباء من بُعد أميال، فكيف بخبرٍ يخص فردًا من أفراد عائلتهن!
لملم شتات أمره ونظر إلى زوجته مردفًا:
- سهير حامل.
تهللت أسارير الجدة في وجه أمي فبادلتها بابتسامة مقتطبة، تبادلت عمتي نادية مع زوجة عمي نظرات تشي بالكثير حتى نبَّهت أمي زوجةَ عمي بطرف عينها إلى أنها ما زالت تجلس بجوارها، فتداركت الأخيرة الأمر وأخذت تضحك وهي تهز كتف أمي بمرفق ذراعها وتقول:
- غِرتِ لما عرفتِ اني حامل فلم تهدأي حتى حملتِ أنتِ أيضًا.
كان من المفترض أنها مزحة، لكنها لم تُضحِك أيًا من الجالسين، ولترفع عنها عمتي نادية الإحراج، أخذت تضحك ضحكات مصطنعة مزوّرة.
ربّت الجد على كتف ابنه وهنأه، فابتسم ابتسامة متيبسة ورمق أمه بنظرات مرتبكة قائلًا:
- أوصانا الطبيب أن نوفِّر لها الراحة لأن الحمل مُهدد، لذا أستأذنكِ يا أمي أن تعفيها من شغل البيت هذه الفترة حتى نطمئن.
صاحت زوجة عمي:
- هي ليست الوحيدة الحامل هنا، أنا حامل وقاعدة قدامكم أقطف الملوخية، هذا غير تنظف زريبة الجحش، وتسوية قدور الفول مع جوزي، وغسيل ال.....
- منى!
قاطعتها جدتي بصوتها الحازم، فالتزمت الصمت وأخرجت غيظها على أوراق الملوخية المسكينة، فأخذت تنتزعها من فروعها بلا هوادة ولا رحمة.
التفتت مرة أخرى إلى ابنها قائلة:
- سأكلفها بتطبيق اللبس والخياطة، حاجات بسيطة تعملها وهي قاعدة.
ولأن كلمتها واحدة لا تتبدل، لم يجد بُدًا من الموافقة على هذا الحل الوسط الذي سيقنع به زوجته في خُلوتهما.


اتجهت إلى الصورة الثالثة، فرأيت والدي يحتضن يد أمي النائمة على سرير حديدي، ويتأملها بوجه مكتظ بحمرة الحنق.




0 تصويتات

اترك تعليق

التعليقات

اكتب وانشر كتبك ورواياتك الأصلية الأن ، من هنا.