tafrabooks

شارك على مواقع التواصل

بقدميها العاريتين تتحسس خطاها بتلك المدينة التي بالرغم من كونها العاصمة إلا أن شوارعها -إلا ما ندر-تعاني انبعاجات وتقلصات تأبى الانصياع لأقدام سوف تحاجج أصحابها، وربما تُعلن عصيانها وتمردها يوماً ما من كثرة التعثر.

أذهلها كثرة عدد المارة وثيابهم المهندمة ونعالهم المرصوفة اللامعة، فتلك سيدة ترتدي (سَبلة) ذات أكمام تُجرجر خلفها من الحرير البنفسجي الذي لم ترَهُ ولا مرة واحدة في حياتها البهماء، تعلوها (فرودية) من الكريب الأسود مطرزة الأطراف بخيوط وعملات من الذهب، وتلك سيدة تركب حمارها الذي يتقدمه عبدها، غطيس البشرة أسودها، وتحاول الإمساك ببرقعها الطويل كي لا يرفعه الهواء ويكشف ما وجب تخبئته، بينما يبرز حذاؤها المراكشي الأصفر مستدق الرأس معقوف عند الأصابع، وما جذب انتباهها حقًّا هو ذلك الشيء المصنوع من الصوف الذي ترتديه النساء بأرجلهن، فلا هو نعل ولا هو حذاء، ستعرف فيما بعد أن اسمه جورب، وهذا رجل ذو كرش ضخم دفع حزام (الموسلين) دفعًا مشينًا إلى الخارج ليعلن عن نفسه خارج جبته التي تفيض عن حاجة ثلاثة رجال من قريتها، فالرجال والنساء في قريتها قد التحمت بطونهم بظهورهم، حتى المرأة الحبلى قد لا يُعرف أنها حملت إلا بعد أن يأتي صراخ صغيرها إلى الدنيا معلنًا قدوم جائعٍ جديد.
انتبهت لتتحسس بيدها حِملها الذي ناخت له روحها قبل كتفها، ملست برفق على فخذه التي عرتها زعابيب أمشير الرعناء، لملمت شالها الصوفي الذي لم تجد غيره تُسكن به ارتعاشات صغيرها التي انتفض له قلبها فأنزلته واحتوته بذراعيها علَّ صهد صدرها يصل إليه.
هشَّت بيدها ذبابة كانت تلعق ما فاضت به عينه، مسحت وجهه بطرف كمها، وتذكرت ذلك المرض اللعين الذي أصاب عين ولدها في الصيف الماضي وكاد يودي بها لولا ستر المولى الذي حفظ لها نظر صغيرها، إنه الرمد -قاتله الله- الذي أفقد الكثيرين من أهل قريتها إحدى كريمتيه أو كلتاهما، فعلت كما نصحها حلاق القرية ومُعالجها، ألا تغسل عيون ولدها أبدًا حتى لا تزيد العدوى، كلامه كالقرآن لا جدال فيه ولا انحياد عنه ولا تحريف.


جاءت من قرية أطبق فيها الجهل وأحكَم سطوته بربوعها، اعتمد أهلها على العادات والموروثات في كل تفاصيلهم الحياتية، يُعالجون أوجاعهم بالصبر وإن فاضت عن طاقتهم أسكنوها بالوصفات الشعبية المتوارثة كابر عن كابر، أو ربما بالحجامة، أو بالكي بالنار الذي شاع رُغم ورود حديث شريف للرسول -صلى الله عليه وسلم- ينهى عنه، وأحيانًا بالبتر إن كان الجزء المتألم أحد الأطراف المسكينة التي تتفتق من سياط الظلم، التي يلوح بها الملتزمون وتابعوهم في وجه هذا الشعب الصامت كمدا، الساكت أبدا.
أجيال تبعتها مثيلاتها توارثوا كل الصفات والجينات، حتى الأباطيل والترهات تمسكوا بها وتركوا العلم ونسوا دروبه ومسالكه، شعبٌ أفنى التعجُبَ تعجُبا.



لفت نظرها تلك السيدة التي تُقبل عليها في خُيلاء، تظهر عيونها التي أتقنت تكحيلها من تحت البرقع الأسود، يرتج صدرها، وترى تموجات مؤخرتها من خلف ردائها الذي يرفرف في الهواء منتشيًا كونه يحاوط ذلك الجسد المصري الأصيل، فكشف عن قدمين مرمريتين يبدو أنهما نامتا في الحناء طوال الليل لتكتسبا ذلك اللون الأحمر الغزالي، تبسمت لأول مرة منذ وصولها حينما لمحت ذلك الصبي الذي تمسكه تلك السيدة بيدها التي جذبتها الأساور الذهبية الثقيلة إلى أسفل، وجهه لا يفرق كثيرًا عن وجه ولدها بيد أنها تستريح في عينيه نصف دزينة من الذباب، حليق الرأس عدا مقدمتها التي اكتست بالشعر، تلك القَصة المعتادة للأطفال كما عندهم بالريف، جلبابه رثٌ ملطخ بالطين كأنه لُطِّخ عمدًا، ولا غرابة في ذلك عندها، فالكل يخشى من الحسد، لا فرق بين غني وفقير، يجعلون أبناءهم في تلك الثياب الرثة صباح مساء، حتى أن بعضهم قد يُلبس الصِبْيَة أردية البنات ويطلقون شعورهم حتى تصل إلى أكتافهم؛ مبالغة في الخوف حتى لا يُعرف جنسهم.

مرت بتلك الدكانة المملوءة عن آخرها بالدِّكك، حتى أنها تراصت أمامها في الشارع، يجلس الرجال عليها، يحتسون القهوة التي اشتمت رائحتها على بعد ميلين، ويمسك الواحد منهم بأرجيلته يتطاير دخانها يمنة ويسرة، حتى المارة بعضهم يحمل أرجيلته في يده، وبعضهم يحملها عنه عبده أو مملوكه الخاص، فتعبَّق الشارع بخليط يجذب أصحاب الأمزجة، والرؤوس التي لا يهدأ أزيزها إلا إذا تزاوج ذلك المزيج النيكوتيني بها، في عهد ليس بالبعيد كانت القهوة محرمة ويُطارد شاربوها بواسطة رجال الشرطة، ناهيك عن الأرجيلة بأنواعها وأشكالها المختلفة، أما الآن فلا شيء يضبط أدمغة الناس إلا هما.

ظلت تتلفت من حولها مشدوهة بالبيوت المبنية بالحجر، والمشربيات الكبيرة التي تخرج منها روائح البخور العطرة، وأكثر ما لفت انتباهها حين رأت بابًا مفتوحًا ومن خلفه نافورة ضخمة بصحن البيت مملؤة بالماء الذي تعجبت من أين يأتي وإلى أين يذهب وما من ترعة ولا ساقية ولا ثور يدور حولها، قالت في نفسها: «كم أنتم متنعمون يا أهل القاهرة!».

مشيت كثيرًا كسائح جديد يزور القاهرة لأول مرة، كل شيء مختلف عن قريتها حتى الجوامع الكبيرة بمآذنها العالية وقبابها الواسعة، كانت قد سمعت عن الحمامات العمومية، لكنها لم تتخيل قط كيف يستحم الناس بمكان واحد، ويدفعون المال لأجل ذلك، حتى رأت ذلك المبنى ذو الواجهة الرخامية تخرج منه أبخرة كثيفة، والخارج منه ليس كالداخل فيه، ابتسمت حين رأت رجلًا يحمل قطعة من ليف النخيل يركض خلف صبي يصرخ قائلًا: «لا أريد الاستحمام».
استفاق صغيرها يبكي؛ أوقظته معدته الخاوية، توقفت هنيهة، وبحركة اعتيادية جدًّا مدت يدها من فتحة جلبابها وتناولت ثديها الهزيل الذي بدا وكأنه في طور النمو لفتاة لم تبلغ الحلم بعد، ألقمته صغيرها وضمته إلى صدرها مجددًا، ذلك الصدر الذي حوى زوجها وهو يلفظ آخر أنفاسه، لا لشيء إلا لكونه فلاحًا بسيطًا لم يستطع دفع الجباية، لم يساعده أحد من العَيان، كلهم خشوا من الاقتراب، لم يجرؤ أحد أن يخلصه من أيديهم، لم يجرؤ أحد أن يقول لا تضربوه، لم يجرؤ أحد أن يقول أنا أسِد عنه، لأنهم كلهم مثله يستقطعون تلك الجباية من أقواتهم وأقوات أولادهم، ألجمهم فقرهم وعوزهم ، وكبلتهم قلة حيلتهم.
كان زوجها فلاحًا لا يملك من متاع الدنيا غير بضعة قراريط يزرعها بالخضر ويبيعها بالسوق، وفي إحدى هجمات المماليك دمروا كل محصوله ولم يتبقَ له شيء، لم يجد ما يسد به جوعه هو وزوجه ناهيك عن التزامه، وحين أتاه جند الملتزم أخبرهم أنه لا يملك شروى نقير فسبه أحد الجند بأمه فردَّ الرجل السبة عن أمه، رد الجندي بصفعة على وجهه بالسوط ثارت لها ثائرته، فخطف السوط من الجندي وردها عليه، وما إن رأى باقي الجند ما عدوه تطاولًا عليهم أجمعين حتى اجتمعوا عليه بالضرب والسباب، أمرهم الملتزم بتعليقه بالنخلة ليكون عبرة لباقي الفلاحين، كان كل ذلك أمام عينيها وهي تصرخ وتتوسل إليهم أن يتركوه، قَبَّلَتْ قدم الملتزم وترجته أن يعفو عن زوجها، ركلها بقدمه فجرحَ أسفل فمها مما أثار بكاء زوجها الذي نادى فيها بألا تتوسل إلى هؤلاء الجبناء قائلًا: «إن مت سأموت رجلًا، لا ترخصي نفسك أمام أحد».
ذهب الملتزم وجنده بعد أن توعدوا بأنه من سيقترب من الفلاح سينال نفس مصيره، ظَلَّ الفلاح يومًا كاملاً ينزف ويئن، وزوجته بجواره تبكي وتنوح حتى شعرت بأن زوجها شارف على الموت فتجرأت وفكت وثاقه، نظر إليها بعينيه المتورمتين قائلًا: «اهربي من هنا يا عدوية، انفذي بجلدك، لا أريد لولدي أن يكون فلاحًا يشقى ويكد من أجل غيره، لا أريده أن يهان مثلما أهنت».
ظل يردد كلمة اهربي حتى توقفت أنفاسه.
مسحت عبرات سالت دونما شعور على وجنتيها اللتين برز عظمهما إلى الخارج وهي تنظر من حولها أين السبيل؟ غريبة هي ووحيدة، حتى لو كانت بقلب القاهرة النابض بالناس، وما أشقى الغربة على نفوس الضعفاء المحتاجين!

أعياها المشي فجلست بإحدى الزوايا، ووضعت ولدها جوارها، أسندت رأسها إلى الحائط فغشيتها غفوة، وجد الصبي حجرًا صغيرًا أمامه فتناوله ووضعه بفمه يعضعض فيه ويناغي، كان هناك من يشاهد ويبتسم للصبي الصغير الذي بادله الابتسام، بعد قليل أفاقت من غفوتها جزعة تبحث عن صغيرها، وجدته ما زال جوارها وبيده قطعة سميط يمدها لها، نظرت حولها مستغربة من أين أتته السميطة فلاحظت من ينظر إليها وإلى ولدها، رجل تبدو عليه مظاهر الهيبة والثراء يجلس على دكة خشبية بدكان المصوغات الذهبية الذي جلست جواره، قامت من مكانها وذهبت إليه.

- شكرًا لك يا بك، أعتذر أني جلست أمام دكانك، سوف أذهب إلى حال سبيلي.

مد الرجل يده في جيبه وأخرج قطعة نقدية، ومدها إليها، تراجعت إلى الخلف معتذرة.
- لست شَحَّاذَة، أنا غريبة عن المدينة وأبحث عن مكان أبيت فيه، حتى أجد أي عمل أعول به نفسي وولدي.

أعجب الرجل بعزة نفسها، فسألها:
- هل أنت مرضع؟
- نعم، فصغيري كما ترى لم يبلغ الفطام بعد.

- ولدي في نفس سنه تقريبًا وزوجتي مريضة، أيمكنك إرضاع الصبيين في نفس الوقت؟

ابتهجت والتقطت أنفاسها، كأنها غارقة وانتشلها بطلبه هذا.

ضاقت فلما استحكمت حلقاتها فرجت، حين تقسو الأقدار، قد تصالحنا بربتات على أرواحنا المنهكة لنستمد منها القدرة على المواصلة.

0 تصويتات

اترك تعليق

التعليقات

اكتب وانشر كتبك ورواياتك الأصلية الأن ، من هنا.