tafrabooks

شارك على مواقع التواصل

أريد من زمني ذا أن يبلغني


عاشت فتاة صغيرة في قرية صغيرة مترامية الأطراف، أشجار الزيتون عن يمين هذه القرية وعن شمالها. كانت هذه الفتاة تشق طريقها بنجاح نحو أفق رحب، فقد آمنت أن الشيء الوحيد الذي يُخَلصها من الإملاق والفقر هو العلم، فكم باتت الليالي الطوال العديدة بدون مأكل، لكن ذلك لم يكن يُضْعِفُ عزيمتها بل كان يقويها ويدفعها إلى الأمام.
كانت فيما كانت فتاة بيضاء البشرة تغطي شعرها مُتحجِبة، عيناها متلألئتان نورا، وتسطعان بريقا وضّاء. في كلامها همسٌ يدل على شيمة حسنة، وفي حديثها خجولة تجيب محاورها ناظرة إلى الأسفل، وبسمتها بسمة حياء توحي على تربية رشيدة تلقتها هته الفتاة.
ها هي تمشي في ساعة مبكرة من الصباح إلى المدرسة، وقد تناولت في فطورها كأسا من الشاي وشيئا من الخبز الذي كانت تغمسه في قليل من زيت الزيتون، وقليل من الزيتون والزبدة، فقد أنهت وجبتها المعتادة -التي لا تتغير إلا في بعض المناسبات- وحملت محفظتها الثقيلة، واتجهت صوب المؤسسة التي تدرس فيها، والتي توجد عل بُعْد كيلومترات عديدة من منزلهم. المهم أن هذه عادتها، فقد كانت تشعر بالتعب فيما مضى من المستويات بسبب طول المسافة بين المدرسة والمنزل، أما اليوم فقد طفح الفكر عقلها، وأصبحت ترى في هذه المعاناة نعمة، لا كما يراها الكثيرون نقمة، فلولا هذه المعاناة ما حصلت أعلى النقط، وما فازت بالجوائز الأولى في احتفالات المدرسة المختلفة في ما مضى.
الكل أصبح يقدر الفتاة لنبوغها، والكل صار يجلها لطموحها، والكل يُشجعها. بلغت شُهرتها آفاق بلدات بعيدة، وهي تدرك يقينا أن لولا جِدها ومثابرتها ما وصلت إلى ما وصلت إليه من تقدير واحترام وحب.
هكذا في يوم من الأيام تصاحب بعض الفتيات، لكن لما تأكدت من سوء أفعالهن وأقوالهن، وقبح تصرفاتهن، وضعف عقولهن، وعدم حسن أخلاقهن فارقتهن، ووعدت نسفها بأحسن منهن خلقا، وألطف منهن تصرفا وكلاما، فهيأت لنفسها الأسباب حتى وجدت صديقة مجدة في الدراسة مثلها وصاحبتها، وكانت لها خير أنيس، وأحسن جليس.
أدركت الفتاة بفِطْنتها أن رفيقات السوء يجلبن المتاعب، وصديقات الخير يجلبن المكاسب، وعملت على ألا تبقى وحيدة شريطة أن يتحقق الهدف الأسمى من الصداقة.
بدأت تكبر الفتاة، لكنها ليست أي فتاة، هي فتاة عذبة الأفكار، كانت في دراستها الأولى، وكلما اعترضت سبيلها مشكلة إلا عرفت كيفية الخروج منها، ومعينها في ذلك هو فقر أسرتها الشديد الذي كان لها سندا يقوي فيها الطموح والإرادة بغية تغيير واقع أسرتها في المستقبل.
بينما الفتاة قادمة ذات بُكْرَةٍ إلى المدرسة اعترض طريقها إنسان سوء فتحايلتْ عليه قليلا قليلا، وبعدها حركت ساقيها للريح، وبدأت تجري وتجري إلى أن استقرت رجلاها في الأمان، واطمأنت على نفسها في باب المدرسة، ونجت من ذلك الشخص الذي أراد بها السوء، ولم يُدْرِكْ أنها أمهر منه ذكاءً، وأحسن منه عقلا، وأقوى منه حجة، وأشد منه برهانا، وأقوى منه حكمة، وإن استخف بِصِغَرِ سنها، ونحافة جسمها، وضعف بنيتها.
كان طموحها ليس له حدود، وعزيمتها لا تحدها قيود، وإرادتها إرادة المتنبي حين يقول:
أريد من زمني ذا أن يُبَلغني ما ليس يَبْلَغَه من نفسه الزمن
فهي تريد مع المتنبي أن يبلغها زمانها ما لم يبلغْهُ حتى الزمن نفسه، لكنها كانت تفوق المتنبي -الذي كان له قلب ملك وإن كان لسانه من الشعراء- في أنها قانعة بالعطية، راضية بالقسمة، وكثيرا ما كانت تردد وتقول:"كل عطاء منه فضل، وكل عقوبة منه عدل"، تؤمن بأن عطاء الله جل جلاله للإنسان فضل، وكل عقوبة من الخالق للعبد هي دون ريب عدل.
سنة بعد أخرى والفتاة تثبت تفوقها في الدراسة والحياة إلى أن دخلت أسوار كلية الطب والصيدلة، واختارت الطب، لم تغير السنون من مطامحها شيئا، ولم تنل منها المشاكل والهموم، لازالت في تفوقها، تغيرت عليها المواد المُدرسَة قليلا، لكن بمرور أشهر معدودات أمسكت الخيط الرابط، واتصلت بالاجتهاد مرة ثانية حتى أصبحت من أوائل الطلبة ليس داخل الكلية فحسب، ولكن داخل الجامعة بأجمعها.
بعد كد وجد لسنوات طوال تخرجت الفتاة من الجامعة دكتورة متخصصة في طب العيون وجراحتها، ونظرا لنبوغها في العلوم الشرعية لم ترد فتح عيادة خاصة بها كي لا تأخذ قرضا من البنك تعيده زائدا بعض الشيء أقساطا، وبالتالي تقع في الربا المحرمة شرعا، لأن صاحب الربا يكسب المال دونما جهد، ودونما عمل، فقد اجتازت الدكتورة الطبيبة مباراة فتحتها وزارة الصحة ونجحت فيها، وعينت في مدينة من المدن الصغيرة الساحلية، وهناك سخرت كل ما في طاقتها لخدمة المرضى الذين في أغلبهم كانوا يذكرونها بحالها أيام الصبا، أيام الحاجة والعوز، أيام الفقر الذي أعانها كثيرا.
بعدما تأكدت أن المرضَى يؤدي بهم المرضُ العضوي إلى أمراض نفسية عديدة، شرعت في سد الثغرات في هذا الجانب، واقتنت مجموعة من الكتب المتخصصة في علم النفس وعلم الاجتماع، وخاصة القريبة من المجال الصحي، وسدت خصاصها في هذا المجال. كانت تطمئن مرضاها نفسيا أولا، وبعدها تحدثهم في سكينة وهناءة حتى انتشر اسمها في المدينة بكاملها، وعُرفتْ بطيبوبتها بين الصغار والكبار، بين الرجال والنساء، كما عرفت بحنانها ورقة فؤادها.
لولا ريشة الفتاة -التي هي عقلها- ما حققت على الإطلاق ما حققته من مكاسب، وما بلغت ما بلغته من مجد، وما جاورت النجوم في علوها، والسماء في سموها.
الإثنين 21جمادى الثانية 1435هـ/21أبريل 2014م

الإنسان بآدابه

- اُدخلي هنا بُنيتي، هل رأيت لباسا يُعْجِبك ابنتي؟ هذا سروال، ويبدو أنه جميل، وهذا قميص، وهذا حذاء كعب عال، ما أجمله من حذاء! ما أبهى لونه! ألم يعجبكِ شيء في المحل ابنتي؟
- لا يا أبي لِنذهَبْ إلى محل آخر.
بعد هذا الحوار الطريف، والاختبار الخفيف، يغادر الأب وابنته محل الملابس بحثا عن محل آخر، فهل سوف يجدان محلا يسد حاجة الفتاة للسرابيل؟
- إنه محل آخر يا ابنتي لِندْخُلْ إليه. اُنظري، إن هذا المحل أجمل من الأول، فيه الثياب الرائعة، لعلها تُعجبك، انظري هنا، وفتحي البصر هناك، وغيري الطرف إلى تلك الزاوية، يبدو أنك اُصِبْتِ بالذهول، هذا طبيعي في مثل هذه المحلات.
- لم يُصِبْني أبتاه أي ذهول، لكني لم أجد ما يُعجبني لحد الساعة.
- إذن فَلنَذهب إلى مكان آخر.
- أجل يا أبي.
ذهب الأب وابنته إلى أكبر محل في السوق، محل ترتاح فيه النفوس، ثياب فاخرة، وبالطبع لا ترتديها إلا السافرة، أحذية وسراويل وأقمصة قادمة من أكبر شركات إنتاج الملابس في العالم. محل من بابه يسلب الألباب، ويحير العقول، ويعجب الصغار كما يعجب الكهول.
- بنيتي، افرحي، هذا أكبر محل، ومن الأكيد أنك سوف تجدين ما توَدينه، ولباسا أنيقا ترتدينه.
- كل الألوان، وكل الأشكال لا تعجبني، يبدو أنك لا تعرف ابنتك ماذا تريد؟
- ماذا تقولين ابنتي؟
- ما تسمع أذنُكَ.
- لا يا ابنتي، لطالما كنت مقربا منك كثيرا، ومن الأكيد أني أعرفك جيدا جيدا.
- أبي، ألم أرَبّ على يديك؟
- بلى يا ابنتي.
- أنت الأب الصالح، وأنا الابنة البارة، أنت الناصح، وأنا المنصوحة، هل نسيت أني لا أحب هذي الثياب؟
- لم أنسَ هذا مطلقا؟
- وما لك منذ أن صحبتُك إلى السوق، وولجنا المحلات تقول لي هذا جميل، وهذا أجمل، هذا رائع، وهذا أروع، هذا حسن، وهذا الأحسن.
- إنني أحاول المساعدة فقط.
- سألتك لأني أعرف أنك تعرف ما أحبه.
- نعم أعرف ما تحبينه، واللباس الذي تُفضلينه، تحبين الملابس غير الواصفة غير الشفافة، وبصراحة تحبين ما هو فضفاض من الألبسة غير شفاف.
- بمَ أنك تعرف هذا، لماذا كنت تحاول تقديم المساعدة لي في الاختيار.
- يا بُنيتي، هذا سر الأبوة.
- أي سر هذا أبي.
- لا تترددي تعرفينه بحول المولى فيما بعد.
- قلْ لي، ألم أتعلم منك كل هذا؟ ألَسْتَ الأب الحنون المقرب مني؟ ألَسْتَ الأب الذي فتح بصيرتي؟
- بلى بنيتي، كل ما قلته صحيح.
- لكن ما هو السر الذي تخفيه عني؟
- في الأخير بعدما تشترين ما يعجبكِ سوف أخبرك، والآن أخبريني ماذا تودين؟
- أود لباسا يعجبني في البداية، ويسترني، ويحفظ كرامتي، ويُبْعِدني عن كل سفور.
- هذا سهل، اِتبعيني.
بعدما تيقن الأب أن تربيته لم تذهب سُدى، وأن قطعة كبده في صحة عقلية جيدة، وأن أفكارها متناسقة أراد – أثناء بحثهما عن محل آخر- أن يواصل الموضوع الذي بدآه.
- اسمعي.
- نعم، أنا صاغية لك معلمي، أردت أن أقول يا مُفهمي.
- يقول كبير من الكبراء اسمه أبو عثمان النيسابوري:" من لم يزن أقواله وأفعاله كل وقت بالكتاب والسنة، ولم يتهم خواطره، فلا تعده في ديوان الرجال"، عليك بنيتي بالحجاب، فالناس أشكال وأحسنهم من بادر إلى تطبيق ما جاء في الكتاب، المرء صغيرتي إذا لم يعمل بما شرعه الخالق يبقى عمله مردودا.
- إنه لقول رائع، لهو كبد الصواب.
- نعم يا ابنتي قال المولى جل جلاله:" يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين"، عليك بتقوى الخالق في السر والعلن، وفي القول والعمل. اِسمعي قول مصطفى صادق الرافعي:
واجعل أساس النفس حب الله إذ لا خـير فـي بيـت بغـيـر أسـاس
- كلام روعة، دائما تختار لي أجمل ما قيل، وتقنعي بالحجة، وتعطيني الدليل، وترشدني بالكلام الجميل، وتوجهني بكل قول أصيل، شكرا لك.
وصلَ الاثنان إلى المحل المقصود، إلى محل محترم، وحارت الفتاة ماذا تختار. ارتاحت لهذا المحل وأراحت أباها، بسمت وأفرحت والدها.
- انظرْ إلى هذا الفستان.
- إنه لأروع فستان شاهدته اليوم، فضفاض غير شفاف، ولونه جميل، وربما يناسب هذا السروال، وذاك الحذاء.
- ذوقك هذا يؤكد لي أنك صاحب الذوق الرفيع. أزلت حيرتي باختيارك ما يناسب الفستان.
- لم أكن أعلم أن الذكية تحار في اختيار ما يناسبها. هذا اللباس يناسبك ويناسب فكرك الرائع.
- إن من زرع حبوب هذا الفكر هو أبي، المرشد الذي أحتاجه فيطعمني بالأقوال الجميلة، يعلم كيف يحيي روحي، وصدق من قال:
فروح الروح أرواح المعاني وليس بأن طعمتَ وأن شربتا
أتعلم ما الذي يسرني أكثر في هذا اللباس، ويزيدني حبورا، ويفرحني سرورا.
- إذا ما تفضلت ابنتي بالإبانة سوف أعرف ما الذي يفرحها في هذا اللباس.
- إني فرحة، لأن هذا اللباس سوف يريح دواخلي، وسيطمئن خاطري، إنه يرضي ربي، ويرضي والدي، ويرضي والدتي، أليس هذا الفرح بعينه؟ هل هناك سعادة أجمل من أن تسعد وتسعد الآخرين؟
- بلى صغيرتي، أنا راض عنك.
- قديما أبي قالوا:"الإنسان بآدابه لا بزيه وثيابه". الأخلاق كل شيء في حياة المرء، لكن ابنتك الفطنة تقول:"الإنسان بآدابه وزيه وثيابه".
- أصَبْتِ أيتها الفطنة، منْ علمك هذا؟
- علمتني أنت إياه، وأمي من سقتني حتى أصبحت كما تسمع وترى.
- زادك الرازق حرصا. هيا الآن نؤدي الواجب لصاحب المحل، ولنذهب كي نروي لأمك كلما جرى معنا في بحثنا عن اللباس الكنز.
- هيا، وبعدها أخبرني عن السر الذي قلت أنك ستطلعني به عند فراغنا من بحثنا.
- بالتأكيد سأخبركِ أيتها الذكية التي لا تنسَ.
أدى الوالد ثمن الملابس لصاحب المحل وغادرا عائدين إلى المنزل، وفي الطريق ذكرت الابنة أباها بالسر الخفي.
- يا أبي أخبرني عن السر.
- أنا لم أنسَ ابنتي.
- إذن أخبرني، فقد شوقتني لمعرفته كثيرا كثيرا.
- اسمعي، كل أب يعرف أبناءه جيدا، وأنا طالما عرفت صغيرتي، وعرفت ما تحب من الألبسة، ولكنني طرقت في السوق أفكارها، والسر هو أني أردت اختبارها، وقد نجَحَت في الاختبار، وتركت أباها مسرور الفؤاد. مرحى لي بك، ومرحى لوالدتك بك، ومرحى لابنتي المطيعة بنفسها.
الأحد 22 جمادى الثانية 1436هـ / 12 أبريل 2015م

العقل غريزة والحكمة فطنة

لا يزال الطفل نجيب يشق طريقه إلى المعرفة في ثبات وأريحية، هذب نفسه تهذيبا لو كان لدى سائر الأطفال الذين في مثل جيله لكان لدينا جيل يتمتع بأخلاق سيد البشرية صلى الله عليه وسلم الذي جاء ليُتَمم مكارم الأخلاق.
دخل هذا الذكي اللبيب الكُتاب وهو يبلغ ست سنوات من عمره، حفظ إلى حدود سن الثامنة ثلث القرآن الكريم، ولما وصل هذا السن بدأ يتردد تفكيره وتفكير أهله في آفاق مستقبله، هل يُتْمم تعليمه العتيق القائم إلى جانب تحفيظ الكتاب على التمكن من علوم الشريعة الإسلامية أم ينقطع عن هذا التعليم وينضم إلى التعليم المدني القائم على الحداثة والانفتاح على العالم؟
بعدما بدأ يفكر نجيب في مستقبله العلمي شاور أباه الذي حار في مصير ابنه شهورا عديدة يأخذ بمشورة أقربائه وأصحابه وأهل التجربة إلى أن استخار المولى جل وعلا في فترة المصيف على حال يتمثل في أن ولده من الحكمة أن يُغادر الكتاب ويدخل المدرسة التي لها كبير فضل هي الأخرى في تثقيف الأنام، وبعدما يُحصل المرء شهادات علمية ً مسموح له أن يُشارك في الوظائف الحكومية التي تسمح بها الشهادة الُمُحصلة، وهذا الأمر هو الذي حفز أبا نجيب أن يُدخل ابنه إلى المدرسة بدل الكتاب.
بعد عطلة الصيف دخل الطفل الصغير المدرسة رغم أنه كان يفوق أقرانه، لكن رغم هذا فإن نجيبا ذكي لبيب لا ينظر إلى سنه، بل يهتم بعلمه، وزاده في المعرفة، والشيء الأجمل هو أن أقرانه سيبتدئون في معارفهم الأولى، وهو الشيء الذي حسم معه الصغير الذكي سنوات مضت، وسوف تعطي السنوات التي قضاها في الكتاب متفوقا أكلها دون شك. وفي الوقت نفسه يتابعُ حفظ القرآن على يديْ شيخه في العطل وأوقات الفراغ، لأنه ضروري نافع له في حياته ومماته.
بدأ الصغير دراسته وهو متحفز لرؤية كيفية عمل المدارس، وقد أظهر لمُدرسيه ذكاءً حادا ليس عاديا بالمرة. وقد ازداد اللبيب فطنة بمرور الأشهر حتى صار مَضْربا للمثل في الجد والمُثابرة.
رغم أنه يدرس بعض الدروس لأول مرة إلا أن ذهنه كان يستجيب وهذه الدروس نظرا لأنه حصن نفسه في الكتاب جيدا جيدا. كان ولا يزال هو الأول بين زملائه في العلم. ونظرا لأنه كان يحفظ من حِكم القرآن والحديث والشعر الشيء الكثير الوفير، تداخلت هذه الأشياء في تهذيب أخلاقه، كيف لا والكتاب يعمل على تهذيب الفضائل قبل كل شيء؟ ما أجمل التعليم العتيق في صُنْعه لسجايا الطلاب!
إن هذا الأمر كان يُسعد أبا نجيب، فهو لما يرى دوما أخلاق ولده يقول في خاطره:"ذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين"، ويُذكر ابنه ببيت أحمد شوقي الشهير قائلا:
وإنما الأمم الأخلاق ما بقيَتْ فإن هُـمُ ذهبتْ أخلاقهم ذهبوا
ويرد الابن على أبيه أحيانا قائلا:"الإنسان بآدابه لا بزيه وثيابه". وهذه الأخلاق كانت تُدخل على الأب البهجة والسرور، يفرح بها أيما فرح، لأنه يعلم أن بها قام بواجبه تجاه ابنه. وقد يستدل الوالد لنجيب أيضا قائلا: "الأخلاق الصالحة ثمرة العقول الراجحة"، ويشرح لابنه أن مفاد هذه القولة أن الأخلاق الحميدة هي ثمار لعقول تتعامل بالعقل والفكر بدل غيرهما، والأوائل قالوا:"العقل غريزة، والحكمة فطنة". وإلى جانب أن نجيبا وُلد بعقل مثل جميع الناس، فهو يتمتع بالحكمة التي توحي بالذكاء والألمعية.
سنة وأخرى ونجيب يُظهر التفوق. والأسرة معجبة بهذا الولد الهبة من الخالق سبحانه، وقد قال شاعرنا:
وجودة العقل تنْبِي أن خالقهُ سبحانهُ مُبدعٌ في خلْقهِ عِبَرُ
إن عقل هذا الولد يمتاز بالجودة، وما زاد من جودته هو احترامه الكبير لأساتذته في المدرسة، ولأبيه وأمه في البيت، ولجميع أصدقائه الذين أحبوه حبا كبيرا، ولكل من يعرفه، وربما السبب في هته الرزانة والتعقل يعود للُكتاب أولا، لأن علوم الشريعة تطهر القلوب، وتُنَظف الأفئدة، وراجع للأب ثانيا، فالأب وجه ابنه توجيها رشيدا سواء في دراسته أو في أخلاقه، وكان يرى أن هذه الثنائية بين العلم والأخلاق إن لم تجتمع في طالب العلم كان علمهُ إخفاقا، ويُضْمر دائما في فؤاده قول حافظ إبراهيم:
والعلم إن لم تكتنفهُ شمائلٌ تُعليه كان مطية الإخفاق
لا تحسبن العلم ينفع وحده ما لـم يُتوجْ ربـه بِخًلاًقِ
لا يزال نجيب وهو في سنته الثانوية التأهيلية الأخيرة عنوانا بارزا للتفوق في أبهى صوره، وأجمل حُلَلِه، وأرقى درجاته، وما يزيد هذه الدرجات العاليةَ جمالا هي تلكم السجايا الرائعة التي تزيد أبناء العُرُوبة ولدانَ الإسلام سناءً وعُلا. وإنه لشيء فائق الجمال أن يتعامل كثير من الإنس تعامل نجيب مع نفسه.
الأحد 30 ربيع الثاني 1435هـ/ 2 مارس 2014م


0 تصويتات

اترك تعليق

التعليقات

اكتب وانشر كتبك ورواياتك الأصلية الأن ، من هنا.