كابوس
فيروس كورونا بسمعته السيئة، وشكله المخيف ذي الرءوس المدببة والمتداول على منصات التواصل الاجتماعي والقنوات الفضائية، يغزو حلق زوجي، يقتحم حنجرته ويتهاوى إلى رئتيه، وزوجي: يسعل بشدة، يصرخ، يستغيث، يختنق، يحتضر.
أيقظني من نومي هذا الكابوس المخيف في حالة هلع، مفزوعة، أصرخ بأعلى صوتي: لا لا.
وضعت يدي على قلبي أهدهده ليستكين، نشفت عرق جبيني، استعذت بالله من الشيطان الرجيم، ارتشفت جرعة ماء من الكوب الذي على حزينة الأحذية أبلل به ريقي.
كابوس فظيع أطبق على أنفاسي، وأطار النوم من عينيَّ.
أسندت رأسي إلى رأس السرير واستحضرت ما حدث يوم سفره....
استيقظ على صوت المنبه مبكرا؛ مط جسده، وضع يده على فمه متثائبا، جلس على حافة السرير، فرك عينيه ونهض واقفا.
أحضرت له المنشفة، ودخلت المطبخ أعد الفطار.
وقف على مرآة الحوض يحلق ذقنه، يرى تحركاتي خلفه في المرآة.
قال مباغتا لي: تم اختياري ضمن الطاقم الطبي لمحاربة كورونا.
رددت مفزوعة وبالتفاتة سريعة نحوه وكأني لم أسمع شيئا: ماذا تقول؟!
-تم اختياري ضمن الطاقم الطبي لمحاربة كورونا.
-اعتذر، لا داعي، مناعتك ضعيفة.
-لا أستطيع أن أتخاذل عن أداء دوري في هذه المهمة القومية، ما علينا إلا الأخذ بالأسباب، وقدر الله لا يمنعه حذر.
-نعم، لكن..
قاطعني:- لا لكن ولا حاجة، أعدي الحقيبة.
جهزت حقيبة سفره، زرع على جبيني قبلة الوداع، احتضن بناته بشدة، كادت أن تغلبه عبراته وتنسكب دموعه، انتفض واقفا، رفع رضيعته إلى أعلى، ضحكت بصوت عالٍ، حمل حقيبته ملوحا لنا من فتحة الباب الموارب.
هناك، في مستشفى الحجر الطبي أرسل إلينا صوره على الواتساب مرتديا ملابس كورونا الواقية.
يتصل بنا كل ليلة يطمئنا عليه ويطمئن علينا.
أوشكت فترة انتدابه لهذه المهمة الإنسانية والقومية على الانتهاء.. قرب نهايتها أبلغني أنه يشعر بألم خفيف بالحلق وارتفاع طفيف بدرجة الحرارة.
في اليوم الأخير، قاموا بأخذ مسحة من الحلق كعمل روتيني له ولباقي الفريق الطبي قبل العودة إلى منازلهم ومخالطة أهلهم وذويهم.
في الصباح استيقظت على صوت الهاتف: إدارة المستشفى تبلغني بإصابته.
انهرت، بكيت، أصرّيت على زيارته.
اصطحبت بناتي .. سمحوا لنا على مضض بزيارة باهتة من خلف ألواح الزجاج العازلة..
حلق فيها بروحه حولنا معانقا قلوبنا.
عند بوابة المستشفى
ذوو المرضى خارج أسوار المستشفى يفترشون الرصيف ويلتحفون سماء شهر ديسمبر الباردة، يجلسون القرفصاء مسندين ظهورهم إلى السور، ومحتمين بأشجار الفيكس من طلّ أخر الليل.
خرجت من المستشفى لشراء بعض الطعام والشراب، مرتديا بدلة العمليات ذات اللون الكحلي -اعتدنا لبسها والكمامة منذ انتشار وباء كورونا- فإذ بصوت آتٍ من الخلف: دكتور، دكتور ...
يعلو في كل مرة عن المرة التي قبلها.
التفت، لأجد رجلا في الأربعينات من عمره؛ خالط الشيب رأسه ولحيته الكثة التي نبتت وأُهمِلت على طريقة المساجين، أشعث الشعر، رث الثياب برغم فخامة خامته، تبدو على عينيه علامات الأرق وعلى وجهه ملامح الإرهاق والتعب.
اقترب أكثر، تبادلنا التحية.. تحية غرباء باهتة، ثم أردف:
-أما تعرفني؟
-حققت، ودققت فيه، وأطلت النظر لأتعرف عليه، ورحت أستجدي الذاكرة استرجاعا للوجوه التي عبرتها، ولكن دون جدوى.
عندما أدرك ذلك عقَّب:
- أنا المهندس فلان زميل الثانوية.
- رحَّبت به ترحيبا أكثر حرارة من ذي قبل، وتأسفت له على ضعف ذاكرتي، متعللا بالتغيير الكبير الذي اعتراه وطول المدة التي لم أره فيها.
اصطحبني في الذهاب إلى محل البقالة، في الطريق اغرورقت عيناه وانفرط عقد دموعه، وهو يخبرني بأن زوجته محجوزة بوحدة العناية المركزة بعد إصابتها بڤيروس كورونا، ويود أن يعرف أخر تطورات حالتها.
حاولت مواساته ببعض الآيات والأحاديث التي تحض على الصبر، ووعدته بالمرور عليها في التو وموافاته بآخر المستجدات.
ذهبت مسرعا لوحدة العناية، طلبت من الممرضة إحضار ملفها، اطلعت عليه بسرعة، وذهبت إلى غرفتها؛ وجدتها في حالة حرجة، موضوعة على جهاز تنفس صناعي والموت يحوم حولها، ساءني جدا حالها.
ماذا أقول لزوجها الذي ينتظر على أحر من الجمر ردا يحمل ولو بصيصا من أمل؟
ترددت .. أخبره، أم لا؟
بعد حيرة حسمت أمري، وجدت أن إخباره بحقيقة الأمر أفضل.
في طريقي إليه، أراه يرمقني من بعيد، من بين أسياخ بوابة المستشفى الحديد، عندما اقتربت منه رأني بوجه غير الوجه الذي ذهبت به، وفّر عليّ معاناة البوح برسالة استطاع أن يقرأ حروفها من ملامحي.
وبلسان متهدج، بادرني: أعرف أن الحالة حرجة -وبسؤال ينتظر من إجابته إجابة عن سؤال آخر في ذهنه- أردف: لكن، هل يمكنني المبيت الليلة في بيتي الذي لم أدخله منذ خمسة عشر يوما لأغير ملابسي، وأحضر في الصباح الباكر؟
حركت رأسي في أسف أن لا.
جثا على ركبتيه وهو ينهنه كالطفل: وصلت الرسالة، وصلت الرسالة،....
انسحبت من المشهد انسحاب العاجز؛ ”العين بصيرة، واليد قصيرة“..
في ردهة المستشفى عائدا إلى وحدة العناية المركزة؛ سمعت جلبة.. نظرت؛ إذ بعاملين يجران «الترولي» بشخص إلى الاستقبال مسرعين وهما يصيحان: وسع، وسع.. استدعوا طبيب العناية، استدعوا طبيب العناية بسرعة،... مخاطبَي تمريض الاستقبال.
رجعت أركض.. صعقتني الصدمة عندما وقعت عيناي على الشخص المغشي عليه.. المهندس!.. زميل الثانوية!
قالوا: فجأة، بعدما تركته أمسك صدره بيده وسقط مغشيا عليه.
تحسست النبض.. غير محسوس..
ضربات القلب.. غير مسموعة..
بسرعة بدأنا إنعاش قلبي رئوي له... ولكن دون جدوى.
لقاء في زمن الكورونا
قابلتها صدفة في الشارع الظليل، وأشعة الشمس النافذة من بين أوراق الشجر ترسم قروشا متحركة على وجهها البهي وعلى الرصيف، وأحدث نسيم الهواء فوضى بشعرها؛ تتطاير مع العطر خصلات منه وتتراقص حول الوجنتين وتضرب العينين برفق. تلف حول عنقها شالا بلون البنفسج له تعرقات خضراء.
استوقفتني، تسأل -بصوت غير واضح من تحت الكمامة التي تغطي فمها وأنفها- عن الحي القديم، الذي اختفت ملامحه خلف الأبراج الشاهقة التي خرجت من باطن الأرض فجأة كالأشباح بعد ما يسمى بالربيع العربي، وغزت المساحات الخضراء وحجبت زرقة السماء.
الغريب أنها تسأل عن البيت المهجور المقابل لبيتنا، بيت عم موريس.
أجبتها بعد تنهيدة وجع طويلة: ”دا بيت عم موريس -أبو البنات- دا مات بكورونا منذ شهور“.
كست وجهها مسحة حزن كأنه لوحة لبيكاسو، وأطرقت هنيهة وقالت: أنا ماري ابنته الصغرى، عائدة للتو من فرنسا بعد أن فكوا الحظر.
واستطردت: ألست أنت أحمد ابن عم سالم؛ الذي كان ينثر الحب تحت شجرتنا للعصافير، ويتسلقها ويضع الحب لصغارها في العش و...
قاطعتها مكذبا عينيّ: أ أنت ماري التي كانت تزين معي الشارع بأوراق الزينة قبيل شهر رمضان، وتأتي بمعطر الجو وتنثر رائحة الورد في أعيادنا؟!
لقد تغيرتي كثيرا. وتبسمت وأكملت: للأحسن طبعا.
وفتحنا كوة في جدار الواقع الصلد نحو عالم الذكريات الجميلة. فتحنا قنينات الماضي ونثرنا عطرها في أرواحنا، وتحسرنا عليها وتساءلنا كيف أفلت في بدايتها، وغربت في ضحاها.
ثم اصطحبتها وأوغلنا في الشارع حيث البيت المهجور. اقترب وقت الحظر. العالم حولنا مغلق وصامت باستثناء هبة ريح مباغتة لطمت خدي، وذلك الإيقاع المنتظم لكعب حذائها على الأسفلت.
هناك، وأول ما وقعت عيناها وقعت على الشجرة التي نخرها سوس العطش ويبست؛ فأخرجت هاتفها الجوال والتقطت صورة للشجرة اليابسة وأطلال العش العالق بها، ثم استدارت ناحية البيت والتقطت صورة أخرى لخيوط العنكبوت التي اكتست بها شرفة البيت والنوافذ، وركزت في صورة أخيرة على آخر ملامح الشارع القديم.
والتفتت إليَّ وقالت: للذكرى.
ووقَّعت على عقد بيع آخر معالم طفولتنا لتختفي للأبد، محتمية بمعطف تلك الصور التي التقطتها من صقيع الذكريات.
وبدأ الحظر.