أكوان للنشر والترجمة والتوزيع

شارك على مواقع التواصل

ضجة كبيرة في المكان، أصوات متداخلة وأجساد تكاد تتلاحم من شدة التكدس والتزاحم، معلنة إشراقة يوم جديد في ذلك السوق الشعبي في المدينة الكبيرة، باعة من كل القرى المجاورة يتواترون عليه في ذلك اليوم المشهور من كل أسبوع أملًا في رزق عز عليهم في مقرات إقامتهم في تلك القرى والنجوع البعيدة، تلاحظ وأنت تسير بينهم أن المكان قد قُسِّمَ عُرْفيَّا إلى أقسام كل منها قد خُصِّصَ لصنف من الأصناف كل باعته يتواجدون فيه ويتعاونون فيما بينهم، توافد القطط والكلاب وتواترها على هذا المكان مع متانة أجسادها يوحي باقترابنا من أماكن بيع اللحوم والدواجن والأسماك لا يفرق بينهم إلا الرائحة، فرائحة البحر النفاذة مميزة للسماكين، أما روث الطيور وريشها فهي لباعة الدواجن بينما روث البهائم والدماء تنبئ عن الجزارين، ذلك أنه في تلك الأسواق يقوم الجزارون بالذبح في أماكن تواجدهم غير مرتبطين بما تحمله مجازر المدينة من ذبائح ذبحت بطرقة رسمية بعد توقيع الكشف الطبي عليها والتأكد من سلامتها؛ لذلك نجد الجزارين في تلك الأسواق القروية وقد انقسموا إلى قسمين أحدهما قد اشتهر بلحومه السليمة الخالية من الأمراض، وقسم آخر تخصص في لحم البهائم المريضة المعروفة بين الطبقات الشعبية "بالوقيع" والتي تكون الأرخص في أسعارها وفقًا لحالتها ولها زبائنها الذين يبحثون عنها ويأتون للسوق خصيصًا من أجلها.
مع تعمقك في السير تمر على سوق الخضراوات والفواكه ذلك المكان الذي يحيطك فيه اللون الأخضر كما باقي ألوان الخضر والفواكه الطازجة التي تشع بريقًا كما تفوح منها وتتداخل فيها كل روائحها المميزة والمحببة.
تجد باعتها وقد تميزوا إلى دكاكين مختلفة في اتساعها و جودة منتجاتها، وكذلك الباعة الجائلين المعروفين بالسريحة ممن يتوافدون من القرى ويجد الفقراء ومحدودو الدخل فيهم وجهتهم وضالتهم، إذ إنهم يبيعون للناس بأسعار تقل كثيرًا عن أسعار أصحاب الدكاكين والمحلات الكبرى، حيث إنهم غير متقيدين بإيجار لمحلات أو ملزمين بسدادٍ للضرائب، وكذلك فواتير المياه والكهرباء التي يلتزم بها أصحاب المحلات ويحاولون دائما التهرب منها بكل الطرق المشروعة وغير المشروعة، في آخر ذلك السوق ونهايته نجد العلافين والعطارين وتجار الأقمشة والمانيفاتورة والذين يتركز تعاملهم الأكبر مع الدَلَّالَات كما كان يطلق عليهن قديمًا، أو تاجرات الشنطة ممن يمررن على منازل الفلاحات ويبعن لهن بضاعتهن بالتقسيط الذي يشمل فائدة تمثل كل الربح بالنسبة لهؤلاء البائعات، في نهايات السوق أو بدايته من ناحية موقف سيارات الأجرة تتواجد المقاهي وتنتشر حيث تعد قبلة كل القادمين والمرتحلين في نهاية يومهم بعد اكتمال جولتهم وشرائهم لكل ما أتوا من أجله، وأيضا ما لم يكن في الحسبان وتم ابتياعه بعد أن أغراهم البائعون به.
تُعرف الأسواق في القرى دائما بأسماء الأيام التي تقام فيها؛ مثل الثلاثاء والخميس، وأشهرها سوق الجمعة، غير أن سوقنا هذا قد عُرف منذ زمن قديم بسوق العايقة، ذلك أنه في عصر بعيد كانت بائعات الهوى وفتيات الليل يرتكزن في المقاهي المتطرفة بذلك السوق دونًا عن باقي الأسواق التي تقام في مختلف المراكز المجاورة ودائما ما كانت العايقة رئيستهن، وهي من تتولى الإشراف عليهن وتوفير الحماية لهن مع توزيع البلطجية ليراقبوا سلوكهن لضمان التزامهن بالعمل ومنعهن من إقامة علاقات غرامية خفية مع الزبائن ربما تؤدي مستقبلًا لهروب إحداهن أو حتى تمردها على نظام العمل المتَّبع.
كما كانت تتولى متابعة أمورهن الصحية وضمان عدم إصابتهن بأي عدوى لأحد الأمراض الجنسية التي قد تنتقل بسبب طبيعة العمل، كما تتعهد أمام الجهات الصحية بتوقيع الكشف الدوري عليهن كل أسبوع لضمان خلوهن من الأمراض الجنسية المعدية للزبائن، كما كان تواجدها بالمقهى بطرف السوق بمثابة نافذة تنتقي من خلالها بعض الفتيات اللائي تتوافر بهن المواصفات الملائمة للعمل معها لتُطْلِق عليهن السَحَّابات لجس نبضهن ومعرفة مدى ملاءمتهن لهذه الوظيفة التي تحتاج فتيات بطبيعة خاصة، وعليه إما أن يعدن معها لمقابلة العايقة أو تنتهي المحادثة بمشاجرة عنيفة تنسل منها السَحَّابة بهدوء حفظًا لماء وجهها، ويحكي الناس ممن عاصروا العايقة، التي أُطْلِقَ بسببها هذا الاسم على السوق، أنه بعد نجاح سحَّاباتها في استدراج إحدى الفتيات وإقناعها بالعمل لحساب العايقة بعد أن عرفن منها قصة هروبها من بيت أهلها رفضًا لزيجة من عجوز يكبرها في السن بسنوات كثيرة، وتَخَفِّيها في تلك المدينة التي تبعد عن محل سكنهم بكيلومترات عدة، وردت لأهلها معلومات عنها من بعض الرجال الذين قابلوها وعرفوا احترافها لممارسة الرذيلة؛ فاجتمع رجال عائلتها وقد قرروا قتلها وبعد تَقَصٍّ وتَقَفٍّ لخط سيرها نجحوا في معرفة محل إقامتها ومكان تواجدها في السوق حتى يراها الزبائن هي وباقي زميلاتها؛ ليختار كل رجل ما يناسبه منهن، لكن بعد وصولهم للسوق وللمقهى على وجه الخصوص نجحت العايقة في تهريب الفتاة ومحاصرة بعض رجال عائلتها وضربهم بواسطة بلطجيتها الذين يحيطون بها لحمايتها وحماية فتياتها من المضايقات والتحرشات على مدار اليوم، لكنهم قرروا العودة بعد وقت ليس بالطويل للانتقام من العايقة وفتياتها ورجالها بعد أن وضعوا خطة محكمة هذه المرة.
قاموا بإشعال النار في المقهى بمن فيه بعد أن حاصروه ومنعوا المتواجدين داخله من الهرب، كما منعوا الأهالي الذين توافدوا لإطفاء الحريق من القيام بذلك، ولقت العايقة والفتاة المطلوبة مصرعيهما مع الكثير من الفتيات الأخريات، وأيضا بعض البلطجية الذين شاء حظهم العاثر أن يتواجدوا في ذلك اليوم المشئوم؛ ليطلق على المكان كله بعدها ولسنوات طويلة: سوق العايقة.
*****
انطلق أذان الفجر من المسجد المجاور معلنًا تأهب الشمس للشروق من جديد، وها أنا أسير في البيت على أطراف أصابعي كي لا يُطْلِق الهاجع من البط والوز صوته الفضاح فيستيقظ النائمون. كنت قد قضيت ليلتي كما مثلها من الليالي في اختيار الطيور التي ستصاحبني في رحلتي إلى سوق العايقة، استنزفت الكثير من الوقت في رص بيض دجاجاتي بين طبقات كثيفة من القش والتبن حتى يصل معي إلى وجهتي على أحسن حال وبأقل الخسائر الممكنة، وضعت الطيور في القفص الذي سأحمله على رأسي حتى المكان الذي نستقل منه العربة المتوجهة إلى السوق، وركنته بالخارج بجوار الباب تجنبًا لتنامي صوت صياحهم الذي ربما يصل إلى أسماع زوجي فينتبه إلى خروجي؛ فيجن جنونه وتبدأ معها المعركة التي أحاول دائمًا تجنبها قبيل الخروج، أما بعد عودتي وقد انتفخ كيس نقودي بالقروش فلا بأس من المعارك. سنوات طوال مرت منذ تلك الليلة التي أصيب زوجي فيها بالشلل كمدًا وحزنًا بعد اجتماع أولاده من زوجته الأولى واتفاقهم على أن يتنازل لهم عن كل ما يمتلك من أرض زراعية، على أن يلتزموا بمبلغ شهري يقدمونه لنا، يفي بكل احتياجاتنا ومستلزماتنا طوال الشهر، كان ذلك ردًّا على إصرار أبيهم على الزواج مني وإرضاء لأمهم التي كانت أرضها تمثل معظم ما يمتلكه بكري من أطيان زراعية بعد أن قامت بالتنازل له عنها في أولى سنوات زواجهما، كبرت أسرتنا بقدوم الأطفال وزادت معها احتياجاتنا بينما بقي المخصص المالي على حاله، ولم يعد هناك مفر من تبادل الأدوار حتى تستمر الحياة ويجد أولادي قوت يومهم والأيام الطويلة القادمة، أحُثُّ الخطو لأحمل القفص فوق رأسي بينما مشنة البيض والجبن والزُبْد بيدي، وأغلق الباب بهدوء فيصطدم وجهي برياح ديسمبر الجليدية، تذكرني شدتها المؤلمة بصفعات أخي الأكبر عند تأخري عليه في إعداد الشاي، ومن بعده زوجي الذي كان ضربي وسيلته الوحيدة للتفاهم باختلاف الظروف والأسباب، حتى أقعده المرض وقيد حركته وتلاشت معه عافيته وقوته، كنت أدفع نفسي دفعًا كي أتقدم في طريقي بينما يصارعني الهواء ليعيدني لأول الطريق مرة أخرى، تمامًا كما تفعل معي الحياة منذ أن تفتحت عيناي عليها ووعيت لما يدور حولي.
0 تصويتات

اترك تعليق

التعليقات

اكتب وانشر كتبك ورواياتك الأصلية الأن ، من هنا.