أكوان للنشر والترجمة والتوزيع

شارك على مواقع التواصل

أسمع وقع أقدامه على السلم، تلك الخطوات الوئيدة التي تُرْعِد أوصالي خوفًا ورهبة فأنكمش رعبًا، ولا تزيده تلك الحالة عندما يراني عليها إلا جنونًا وانتشاءً، تتخشَّب ساقاي وتلتصقان ببعضهما البعض، وأجد يديَّ وقد استدارتا وتقوستا تلقائيًّا لتحتضن جسدي على أمل أن تستطيع اليوم حمايته من ذلك الوحش بعد مرات كثيرة عانت فيها من الفشل الذريع.
دقاته على الباب تشعرني وكأن زلزالًا قد ضرب المكان، أتخبط ما بين اتجاهي لا إراديًّا لفتح الباب وبين رغبتي في تجاهله وإبقائه الليلة بالخارج، تتداخل معها نواياي المستمرة في إلقاء نفسي من الشرفة قبل أن يفعل بي ما اعتاد فعله كلما عاد ثملًا إلى البيت.
يدفع الباب بقدمه ويضع يده ذات الأصابع اللزجة على وجهي فور ولوجه إلى الداخل، فأزيحها متقززة كما لو كنت أهُشُّ ذبابة سمجة من تلك التي تلتصق بالوجوه ولا تتركها إلا بعد أن تثير حنق أصحابها، أُسْرِع الخطو للاحتماء بالغرفة الوحيدة التي بقي بابها على حاله؛ إذ إنه في محاولاته السابقة والمتكررة للنيل مني قد حطم أبواب معظم الغرف بالبيت.
يُدْركني قبل أن أغلق الباب، بالكاد استطاع أن يلمس أطراف شعري، استجمع قواه المترنحة وجذبني منه، صرخت متألمة إثر تمزق خصلاته فانفرجت شفتاه عن ابتسامة كشفت أسنانه السوداء المتآكلة، انطفأت جذوة مقاومتي مع إصراره على التمسك بما اكتسبه من شعري الطويل والذي أخذ في لفه حول كف يده بكل ما أوتي من شراسة وعنف؛ حتى يجبرني على الاقتراب والاستسلام له، وبعد أن بات كل شعري تحت سيطرته وفي متناول يده صار وجهي في مقابله تمامًا، وبين موجات الألم المتوالية التي ضربت رأسي وما يتصل بها، شعرت أن فروة رأسي في طريقها للانسلاخ، وبين إصراري على المقاومة بدأت يده الأخرى في اعتصار ثدييّ؛ فتعالت صرخاتي أكثر وأكثر حتى رأيت خيط لعابه وقد سال من فمه كما لو كان ذئبًا جائعًا ساقت الأقدار إليه نعجة تائهة بعد طول يأس، كانت قدماي تركلانه بينما يبصق فمي عليه؛ فما يزيده ذلك إلا هياجًا وعواءً، تهاويت إثر دفعة منه فارتطمت رأسي بالأرض بعنف فقدت بعدها الوعي للحظات و غامت الدنيا في عينيّ، لأستفيق بعدها وقد مزق الذئب ملابسي وبدأ في تحسس جسدي بذات الأصابع المرتجفة، كنت بين الصحو والغيبوبة والتي حرصت بعد استعادتي للوعي على التظاهر باستمرارها، بينما يدي تتحسس البلاط العاري الذي يرقد جسدي عليه بحثًا عنه حتى وجدته، وبمجرد تأكدي من سيطرتي عليه انهلت به على رأسه في ضربات متتالية أحسست خلالها بسخونة الدم الذي انسال من رأسه يختلط بلعابي ودموعي ويغرق وجهي، ألقيت الحجر من يدي بينما الرجفات تتوالى على جسدي غير مصدقة أني قد نَجَوْت، غسلت وجهي ببعض ماء القلة الفخارية وبدلت ثوبي الممزق وارتديت غيره على عجل وخرجت أجري من البيت بكل ما أوتيت من قوة، غير ملتفته لتلك الجثة الغارقة في الدماء والتي تركتها للتو بالبيت، كان البرد قارسًا والليلة ظلماء خالية من قمرها وكلاب الطريق يأتيني صوتها وكأنه عواء الذئاب، لم أكن أرتدي سوى جِلْبَاب منزلي قديم، واكتشفت عند توقفي لالتقاط أنفاسي بعد فترة طويلة من الجري أنني كنت حافية القدمين، فكرت لوهلة في العودة لارتداء ملابسي الثقيلة وكذلك الحذاء، لكن الرعدة التي سرت في جسدي وقتها كانت تحذيرًا داخليًّا بعدم العودة والتراجع عن هذه الفكرة التي ربما بها تُكْتَب نهايتي.
تحسست صدري ورقبتي فجأة وكأنني تذكرت شيئًا مهمًّا وخفت أن أكون قد فقدته في معركتي الأخيرة، كانت قلادة أمي، وما إن وجدتها تحتضن جيدي حتى استولى عليّ الهدوء وتملكتني السكينة وكأنني مازلت في بيتي يحتضنني أبي وتطعمني بيديها أمي، فركت يدي بيدي الأخرى استجلابًا لدفء لم أستطع التحصل عليه؛ فقررت أن أحتضن نفسي ربما استطعت أن أمد جسدي الصغير بالحرارة اللازمة للحياة، خطوات أخرى مشيتها في طريق أُجْبَرت على السير فيه، أعرف بدايته جيدًا لكني للأسف لا أرى نهايته بوضوح ولا أظن أنني سأدركها في القريب العاجل، لمحت بعض السَيَّارة في الشارع فانتحيت جانبًا اتقاءً لنظراتهم وتجنبًا لتساؤلات حتما ستحاصرني فور رؤيتهم لي، كانت تكبيرات الفجر قد بدأت في التصاعد من مختلف مساجد المنطقة، وكان الجميع منهمكين في الوضوء أو أداء ركعتيّ سنة الفجر، بينما أحذيتهم وشباشبهم تتراكم أمام بوابة المسجد، وبنظرة سريعة استطعت أن ألمح وسطهم شبشبًا يخص أحد الفتية ممن يتناسب حجم قدمه مع قدميّ، فمددت يدي لالتقاطه وبينما يمنعني ضميري ويدفع يدي للوراء درءًا لسرقة قادمة في الطريق، كانت قدمي المتألمة من البرد و حصى الطريق تحضني حضًّا وبمنتهى العنف نحو التقاطه وارتدائه والعدو بعيدًا، و انتصرت قدماي وجريت بأقصى سرعة بعد سرقتي وأنا أتمتم بكلمات تتمازج ما بين استغفار الله والأسف والاعتذار لذلك الشاب الصغير الذي قد تتسبب سرقتي لمداسه في امتناعه عن ممارسة طقوس الصلاة في المسجد مرة أخرى، استأنفت السير حتى صادفت بيتًا مفتوح الباب بداخل بوابته أريكة من تلك التي يستريح عليها البوابون في جلساتهم النهارية في واجهات العمارات التي يعملون على حراستها وخدمة أهلها؛ فقررت التوقف قليلًا للراحة، لكنها سرعان ما استحالت نومًا عميقًا استفقت منه على وخزات مؤلمة في ذراعي.
فتحت عينيّ فوجدتني في مواجهة مع زوجة البواب أو لنقل إحدى السيدات اللائي يعملن في تنظيف العمارات، ظلت تصرخ في وجهي وعجز لساني عن الرد عليها حتى ظنتني بكماء، وبينما تستعد لتوجه لي دفعة جديدة من طلقاتها الكلامية النارية فاجأتها طلقة مباغتة من إحدى السيدات بالعمارة والتي كانت في طريقها للخروج، لكن المشهد استرعى انتباهها فتوقفت لمتابعته وقد وجهت كلامها لمن قامت بضربي والصراخ فيّ:
- بتزعقي فيها كدة ليه يا سيدة؟ اسمك ايه يا شاطرة؟
0 تصويتات

اترك تعليق

التعليقات

اكتب وانشر كتبك ورواياتك الأصلية الأن ، من هنا.