داخل قاعة المحكمة كانت تقف خلف القضبان وتنتظر الحكم الذي سيصدره القاضي بحقها ... نظرت حولها ودموعها تنساب على وجنتيها بغزارة ... تندم وبشدة لأنها أطاعت والدها وتزوجت هذا الحقير الذي كان سببا في معاناتها حتى بعدما قتلته ... ليتها تمردت ورفضت هذا الزواج فلم يكن ستحدث لها كل تلك الأمور .
نظرت من خلف القضبان إلى جميع الجالسين في القاعة والذين ينتظرون خروج القاضي من حجرة المداولة والنطق بالحكم.
أخذت تلوم نفسها بسبب ما فعلته رغم أنها ليست مذنبة فالمذنب الوحيد هو ذلك الوغد زوجها الذي تتمنى بشدة أن يحترق في الجحيم فهو من أوصلها لكل تلك المتاعب ، ولكنها ورغم كل ما تمر به الآن إلا أنها تقسم أنه لو عاد بها الزمن إلى الوراء لكانت ستكرر ما فعلته وتقف في وجه هذا الوغد الحقير الذي لا يجوز أن يصفه أحد بالرجولة لأنها ستكون إهانة لجميع الرجال.
هي لم تقصد أن تقتل زوجها بتلك الطريقة البشعة ولكنها مشيئة الله وحكمته ليكون عبرة لمن هم مثله فالوغد الذي لطالما اعتبره والدها بمنزلة ابنه هو نفسه من حاول طعنه في ظهره بأبشع الطرق.
انتهت المداولة وجلس القاضي على كرسيه وتنهد لينطق بالحكم:
-"قررت المحكمة وبعد الاستماع إلى جميع المرافعات أن تقوم ..."
وضعت "مي" يدها على أذنيها حتى لا تستمع لباقي كلمات القاضي وأغمضت عينيها بقوة وهو تتذكر اليوم الذي بدأ به كل شيء.
قبل عشر سنوات.
كانت "مي" شابة يافعة وجميلة جدا وتنتمي إلى عائلة ذات أصول راقية والجميع يتمنى مصاهرتهم بسبب التزامهم واحترامهم الشديد وأخلاقهم الرفيعة فكل هذه الصفات قد جلبت لهم السمعة الطيبة.
تخرجت في كلية الهندسة وهي تبلغ الثالثة والعشرون من عمرها وكما يحدث مع جميع فتيات عائلتها تقدم لخطبتها شاب ميسور الحال وأُعجب به والدها كثيرا.
لم تشعر "مي" بالراحة عندما جلست برفقة هذا العريس وكادت ترفضه ولكن استطاع والدها اقناعها ووافقت في النهاية وتمت خطبتها ولكن لم تستمر تلك الخطبة لوقت طويل وذلك لأن خطيبها "أيمن" استطاع أن يوفر كل الحاجيات وينهي التجهيزات الخاصة بشقتهما المستقبلية في وقت قياسي ، وتم الزفاف وسط فرحة كبيرة من جميع أفراد عائلتها وانتقلت برفقة زوجها إلى منزل الزوجية.
مرت أشهر زواجهما الأولى بشكل جيد لأنه لم تحدث بينهما خلافات تعكر صفو حياتهما كما يحدث بين الأزواج الآخرين ، وكان جميع أصدقائها يحسدونها على تلك الحياة الهادئة والسعادة التي تعيش بها فلم يكن أحد يعلم ما يخبئه القدر لتلك المسكينة.
صفقة خاسرة قام بها زوجها كانت سبب انقلاب حياتها رأسا على عقب وتحويلها إلى جحيم فقد أصبح "أيمن" حاد الطباع وعصبي لدرجة لا يمكن لأحد أن يحتملها ، بل تطور الأمر وأصبح يصرخ كثيرا في وجهها وازدادت الأمور سوءاً عندما أصبح يبيت أحيانا خارج المنزل.
-"لم أعد أحتمل تصرفاته يا أمي ... الحياة معه أصبحت لا تطاق".
نطقت بها مي بعصبية وهي تتحدث مع والدتها في الهاتف لتتنهد الأخرى وهي تجيب بهدوء عكس الحنق الذي تشعر به فزوج ابنتها قد تجاوز حدوده بأفعاله ويجب أن يتصدى له أحد:
-"تحملي قليلا بعد يا صغيرتي ... زوجك الآن يمر بفترة عصيبة بسبب مشاكله في العمل ويجب أن تدعميه وتحتوي غضبه".
زفرت "مي" أنفاسها بضيق وأنهت المكالمة سريعا مع والدتها فحديثهما معا لا يجدي نفعا.
عاد "أيمن" إلى المنزل في تلك الليلة وهو يترنح من أثر المشروبات الكحولية الذي احتساها في الخارج ... عقدت "مي" حاجبيها في دهشة وريبة من حالته وسألته بقلق:
-"هل أنت بخير؟"
ابتسم كالأبله وأجابها بسكر وهو بالكاد يفتح عينيه:
-"أنا سعيد جدا ... أشعر أنني أحلق فوق السحاب".
اصطدمت ساقه بالطاولة فسقط أرضا وأخذ يتفوه بكلمات غير مفهومة ... اقتربت منه ووضعت ذراعه على كتفها وأخذت تسحبه وتسير حتى وصلت إلى غرفة نومهما ووضعته بحدة على السرير وهي تتأفف من رائحة الكحول التي اندلعت بقوة من فمه.
كادت "مي" تغادر قبى أن يمسك أيمن معصمها ويحاول أن يقربها منه ولكنها دفعته وخرجت من الغرفة وهي تتنفس بعصبية فهي لم تتوقع أن يسوء حال زوجها لدرجة تجعله يحتسي الكحوليات.
تكرر الأمر نفسه عدة مرات وضاق بها ذرعا فأخبرت والدها الذي حضر إلى منزلها ووبخ زوجها بشدة.
أخفض أيمن رأسه بخزي وهي يهمس باعتذار:
-"أسف عمي ... أعدك أنني لن أكررها مرة أخرى".
مرت الأيام وتحسنت تصرفات أيمن قليلا عن ذي قبل وامتنع عن احتساء الكحوليات وذات يوم دلف أيمن إلى المنزل وهو يدندن بسعادة كبيرة مما جعل "مي" تهتف باستغراب من تبدل حالته:
-"خير؟! تبدو سعيدا جدا اليوم".
خلع "أيمن" سترته وهو يجيبها بابتسامة:
-"وجدت أخيرا من سيدعمني ويساعدني في إعادة فتح الشركة مرة أخرى".
ابتسمت بارتياح فيبدو أن المياه ستعود إلى مجاريها وكل شيء سيصبح على ما يرام وسيعود زوجها إلى طبيعته.
في مساء اليوم التالي دعاهما شريك زوجها إلى منزله لتناول العشاء وكانت عينيه طوال السهرة مصوبة على "مي" بطريقة أثارت قلقها كثيرا.
أخبرت زوجها بعد عودتهما إلى المنزل بما تشعر به ولكنه نهرها بشدة واتهمها بأنها تريد أن تفسد عليه صفقة العمر بالنسبة له.
نظر لها "أيمن" بجفاء وهو يصيح:
-"توقفي عن قول تلك السخافات لأنني لست مستعدا لخسارة هذه الفرصة بسببك".
أومأت باستسلام فهي ليس لديها حل سوى تجاهل ما يحدث إلى أن أتى اليوم الذي لا يمكنها أن تمحيه من ذاكرتها أبدا.
عاد "أيمن" إلى المنزل وجلس برفقتها على المائدة وتناول العشاء ولم يتفوه بكلمة واحدة أثناء جلوسهما سويا.
جلس أمام التلفاز وأشعل سيجارة وأخذ ينفث دخانها وهو يزفر بعصبية فما يطلبه شريكه صعب جدا.
-"أريد أن أقضي بعض الوقت برفقة زوجتك".
ظلت جملة شريكه تتردد داخل أذنه لبعض الوقت ولم يقل شيئا إلا عندما همس شريكه بتحذير:
-"إما أن تحضرها لي أو أنهي الشراكة بيننا".
فاق من شروده عندما أنهى سيجارته فوضعها في المطفأة وتوجه إلى غرفته حيث تجلس زوجته على السرير وتتصفح إحدى المجلات ... نظر إليها مليا وبادر بالحديث بعد أن فكر كثيرا في الأمر وقرر إخبارها بما يجيش في صدره:
-"هناك أمر مهم يجب أن أخبرك به يخص شريكي في العمل".
وضعت المجلة جانبا وانتظرت حتى يبادر بالحديث وعندما طالت مدة صمته هتفت بتساؤل:
-"ماذا هناك؟ هل أنهيت شراكتك معه؟"
وهذا ما كانت تتمناه حقا فهي لم تسترح أبدا لهذا الرجل التي تشعر وكأنه يأكلها بعينيه كلما رآها.
هز "أيمن" رأسه نفيا وهو يتلجج في الحديث:
-"لا لم أفعل ... شراكتنا لا تزال مستمرة ولكنها ستنتهي إذا لم..."
توقف عن الحديث وهو يرمقها بنظرات غامضة لم تستطع تفسيرها ... شعرت بضربات قلبها تتسارع فأردفت بتوجس وقلق من نبرة صوته التي تخبرها أن القادم أسوء:
-"لم أفهم ... ما الأمر الذي تتوقف عليه شراكتكما؟"
-"يريدك أنتِ في مقابل استمرار الشراكة".
جحظت عيناها بغضب من وقاحة هذا الرجل الحقير ولكن صدمتها الحقيقية كانت عندما غمغم "أيمن" بلا مبالاة:
-"ستذهبين إليه غدا وتظلين برفقته طوال الليل".
صاحت في وجهه باستنكار غاضب فما يقوله زوجها هو درب من دروب الجنون:
-"ماذا قلت؟ هل فقدت عقلك؟!"
نظرت في عينيه تلتمس الكذب فيهما ولكنها وللأسف وجدته صادقا فيما يريدها أن تفعله ... صاحت بحرقة وهي تدور حوله وعينيها ترمش بعدم استيعاب لحديثه الصادم بالنسبة لها:
-"أنا زوجتك التي يجب أن تدافع عن شرفها حتى وإن كلفك الأمر حياتك وليس أن تحضر لها رجلا ينال منها ما هو ملك لك".
نظرت له من رأسه إلى أخمص قدميه باشمئزاز وقرف فقد سقط زوجها اليوم من عينيها ... لا تفهم كيف يمكن لرجل أن يطلب من زوجته أن تذهب إلى منزل رجل غيره وتقيم معه علاقة آثمة بل ويقولها بهدوء وكأن تلك المرأة التي سيدفعها لأحضان رجل أخر ليست زوجته التي تمثل عرضه وشرفه!!
شرف!! وهل يعرف هذا الحقير ما تعنيه تلك الكلمة؟! لا تصدق أن والدها سلمها بيده لكائن يحسبه الجميع رجلا ولكنه لا يمت للرجولة والنخوة بصلة.
صرت على أسنانها بغضب وهي تزفر بعصبية:
-"طلقني أيها الديوث الحقير".
ثم توجهت نحو خزانتها ولملمت أغراضها ووضعتها في حقيبة السفر والتفتت تحدثه بحدة:
-"لن أعيش معك بعد اليوم تحت سقف واحد".
أمسكها من رسغها بحدة وهو يديرها له وقبض على فكها وهتف بفحيح مرعب:
-"لن تغادري".
شد على خصرها بقوة:
-"ستفعلين كل ما أقوله لكِ دون أن تناقشيني بحرف واحد".
لا تعرف كيف امتلكت تلك القوة التي جعلتها تدفعه بعيدا عنها ولكنها هتفت بإصرار:
-"لن أفعلها ... لن أغضب رب العباد لأرضي حقير مثلك حتى وإن كانت حياتي هي الثمن".
جرها من شعرها بقوة جعلتها تشعر أنه سيقتلعه من جذوره ولكنها ورغم كل الألم الذي تشعر به لم تستسلم وصاحت بعزيمة:
-"أزل تلك الفكرة اللعينة من رأسك لأنك لن تستطيع إجباري على تلك القذارة".
ضحك بسخرية وهو يدفعها لترتطم بالحائط:
-"سنرى إذا كنت سأستطيع أم لا ... سأتصل به الآن وأخبره أن يأتي ويحصل على ما يريده منكِ".
ثم أحضر حبلا وحاول تقييدها حتى لا تهرب قبل مجيء شريكه إلا أنها قاومت وبشدة ولم تشعر بيدها التي امتدت وأمسكت بالمزهرية إلا عندما هشمتها على رأسه.
اتسعت عيناه ونظر لها بصدمة قبل أن يغمض جفنيه ويسقط ويفترش الأرض بجسده.
شهقت "مي" بذعر وهي تنظر إلى الدماء التي تدلت من جبين زوجها وهتفت بفزع وهي تقلب يدها الملطخة بدمائه:
-"يا إلهي!! ما الذي فعلته؟!"
نهاية الفصل