حاولت "مي" إفاقة أيمن ولكن باءت جميع محاولاتها بالفشل ... أمسكت معصمه وقربته من أذنها تستشعر نبضات قلبه ولكنها تصنمت وألقت يده وابتعدت عنه بسرعة وكأنها لدغتها حية عندما لم تستمع لنبضاته وهذا يعني أن زوجها فارق الحياة.
شهقت بذعر وتخشب جسدها عندما استوعبت حجم الكارثة التي حلت على رأسها.
رباه!! لقد قتلت زوجها وهي لا تزال عروس لم يكمل زواجها عام واحد ... لا تصدق أن بعد كل ما عانته طوال الأشهر الماضية ستنتهي معاناتها بمأساة أكبر ألا وهي الإعدام.
أمسكت هاتفها واتصلت بشقيقتها الكبرى "إيمان" وأخبرتها بإيجاز بما حدث لتهرع الأخرى على الفور إلى منزل مي وترى الكارثة التي حدثت لشقيقتها.
تحسست إيمان نبض أيمن وتأكدت من مفارقته للحياة ... وضعت يدها على رأسها وأخذت تفكر في خطة للخروج من هذا المأزق دون أن تتأذى شقيقتها.
أجهشت "مي" بالبكاء وظلت تلطم بقوة وهي تصرخ بصوت متحشرج:
-"لم أقصد قتله ... كنت أدافع عن نفسي فقط".
اقتربت منها "إيمان" وملست على وجهها بحنو وتحدثت بهدوء وهي تزيل دموعها:
-"أعلم حبيبتي ... أنتِ بريئة جدا ولا يمكنكِ أن تقتلي نملة وما حدث الآن لم يكن خطأك".
ثم أشارت بإصبعها تجاه جثة أيمن واستطردت بغل:
-"أنتِ لست مذنبة يا صغيرتي الحلوة ... الذنب كله يقع على هذا المخنث الحقير".
اشتعل غضب "إيمان" أكثر عند رأت الحبال التي كان يريد أيمن أن يقيد بها شقيقتها.
-"لم أكن أتوقع أبدا أن يكون زوجك ديوثا وعديم المروءة ... كنت أظنه شخص جيد ويعاملك بلطف ... المظاهر خادعة حقا".
-"كنت أخبر أمي باستمرار بما يفعله بي ولكنها كانت تقول لي اصبري وتحملي".
قالتها "مي" ببكاء مما جعل إيمان تزفر بعصبية وتهمس بحنق:
-"والدتك سلبية دائما ولا تجيد حل أي مشكلة ... كان عليك أن تخبريني بدلا منها بما يحدث معكِ منذ البداية وأنا كنت سأجعله يقبل قدميك ويتوسل إليكِ حتى تسامحيه ويتمنى لك الرضا دوما".
زادت حدة نحيب "مي" وهي ترمق الدماء الملتصقة بكفيها وارتعش بدنها برعب عندما تخيلت لوهلة حبل المشنقة وهو ملتف حول رقبتها ... شعرت بخيبة الأمل والحسرة بعدما أيقنت أنها خسرت كل شيء.
-"ماذا سنفعل الآن؟ أنا خائفة جدا ولا أعلم ماذا سيحدث لي؟"
تنفست إيمان بعمق وعقلها يعمل ويرسم خطة ذكية لإخراج شقيقتها من تلك الورطة التي وقعت بها دون قصد ... تحدثت "إيمان" بحماس وكأنها وجدت الحل الذي سيخلصهم:
-"سنخبر الشرطة أنكِ كنتِ تدافعين عن نفسك".
أخرجت "إيمان" هاتفها وعزمت على الاتصال بالشرطة ولكن أمسكت "مي" الهاتف وسحبته منها وهمست برجاء ودموعها تهطل من عينيها بغزارة:
-"لا تفعلي أرجوكِ ... لن يصدقني أحد لأن أيمن سمعته جيدة ولا أحد يعرف حقيقته البشعة ، كما أنه لا توجد جروح أو أثار عنف على جسدي".
أومأت إيمان بتفهم فشقيقتها محقة في وجهة نظرها لأن عدم وجود جروح سيقف عقبة في طريق إثبات أنها ارتكبت جريمتها دفاعا عن النفس وأيضا لن يصدقها أحد عندما تقص عليهم ما أراده زوجها منها وذلك لأن أيمن مشهور بين الناس بالأخلاق الجيدة وسمعته لا غبار عليها وهذا يعني أنه لم يتبق أمامهما سوى الطرق الملتوية والغير شرعية حتى ينتهي الأمر على خير ودون أن يعلم أحد بحقيقة ما جرى.
تحدثت إيمان بحزم وهي تبعد "مي" عن أحضانها:
-"اذهبي الآن واغسلي يديك جيدا وبدلي ملابسك بسرعة".
سألتها مي بتوجس وهي تنهض وتخرج أحد الفساتين من خزانتها:
-"أخبريني بما يدور في عقلك ... أريد أن أعرف بماذا تفكرين وكيف ستخرجينني من تلك الورطة؟"
استكملت "مي" برجاء وفزع عندما لاحظت جمود ملامح إيمان:
-"أرجوك لا تخبريني أنك ستتصلين بالشرطة!!"
أومأت "إيمان" بتأكيد وجدية:
-"أجل سأتصل بهم الآن".
ثم استطردت بتوضيح عندما رآت شحوب وجه شقيقتها وزرقة شفتيها:
-"ولكن لن أخبرهم بحقيقة ما حدث هنا".
اقتربت منها وربتت على خصلات شعرها ونظرت في عينيها مباشرة وهتفت بحزم:
-"افعلي ما قلته لكِ واطمئني ... أعدك أنني لن أدع مكروها يصيبكِ".
ذهبت "مي" إلى المرحاض وبدلت ملابسها وعندما خرجت طلبت منها "إيمان" أن تصرخ وتبكي بصوت مرتفع وهذا بالضبط ما فعلته مي.
تجمع الجيران أمام الشقة عندما استمعوا إلى أصوات الصراخ والنحيب وخرجت لهم إيمان وهي تبكي وطلبت منهم أن يتصلوا بالإسعاف حتى يستطيعوا إنقاذ زوج شقيقتها.
اقترب منها أحد الجيران هاتفا بجدية:
-"أنا طبيب .. أفسحي لي الطريق ودعيني أفحصه".
تقدم الطبيب وفحص أيمن ثم غمغم بأسف وحزن وهو يخلع سماعته:
-"البقاء لله".
ارتفع صراخ "مي" وبكت بشدة كما طلبت منها شقيقتها ... اندست في أحضان "إيمان" وهي تشهق بمرارة مصطنعة:
-"رحل أيمن وتركني ... ماذا سأفعل من دونه".
بكت إيمان هي الأخرى وتحدثت بحسرة مفتعلة:
-"يا حبيبة قلبي ... رحل زوجك وأنتِ لا تزالين عروس في عز شبابك".
التمعت عينا "إيمان" بدموع كاذبة وهي توجه بصرها نحو الجيران المجتمعين حولهما يشاهدون الموقف بأسف وشفقة على حال العروس المسكينة التي لم تهنأ بزوجها:
-"كنا بالخارج نشتري له هدية بمناسبة عيد ميلاده وعندما عدنا وجدناه هكذا ملقى على الأرض ووجهه ملطخ بالدماء".
اقتربت سيدة عجوز من "مي" وتحدثت بألم وهي ترمقها بشفقة:
-"ألهمك الله الصبر يا حبيبتي ... تحملي واحتسبي الأجر عند الله سبحانه وتعالى وإن شاء الله ستكون هذه أخر الأحزان".
أومأت "مي" من بين شهقاتها:
-"ونعم بالله يا خالة ... شكرا لكِ".
أحضر أحد جيرانها ملائة وأردف بأسى وهو يغطي جثة أيمن:
-"البقية في حياتك يا بنيتي".
أجابته "مي" باقتضاب فهي لم يعد بإمكانها الحديث:
-"حياتك الباقية".
حضرت قوات الشرطة لمعاينة مسرح الحادث ونقلت سيارة الإسعاف جثة أيمن إلى المشرحة ليتم فحصها من قبل الطبيب الشرعي وكشف سبب الوفاة الحقيقي وبالطبع لن يغفل عنهم أن أحدهم ضرب "أيمن" بالمزهرية وليس هو الذي تعثر وارتطمت رأسه بها كما زعمت مي.
وحدث ما توقعته إيمان فقد اكتشف الطبيب السبب الحقيقي للوفاة ولهذا السبب جهزت مسبقا مبلغا كبيرا من المال وأعطته له حتى يكتب لها في التقرير أن سبب الوفاة كان حادثا عرضيا.
لمعت عينا الطبيب بطمع عندما رأى المبلغ الكبير الذي سيحصل عليه من إيمان ولم يشعر بتأنيب الضمير لأنها تحدثت معه وأخبرته بما فعله أيمن بشقيقتها وقد وافق الطبيب على مساعدتها.
بدل الطبيب التقرير قبل عرضه على النيابة وهو مرتاح البال وتجاهل نداء ضميره الذي يخبره بأنه هكذا يخون أمانة مهنته ، وأقنع نفسه مرارا أنه لم يخطئ عندما استمع إلى نداء عقله الذي أخبره أنه لا يفعل شيئا خاطئا فأيمن ديوث ويستحق كل ما جرى له.
انتهى الأمر ومر عشر سنوات ونسي الجميع أمر أيمن وما حدث له عدا "مي" التي لا تزال تتذكره فهو يطاردها باستمرار في كوابيسها ويأبى أن يتركها وشأنها.
تقدم لخطبتها الكثير من الرجال طوال السنوات الماضية ولكنها لم تقبل بأي أحد.
تذكرت ذلك اليوم عندما فكرت كثيرا وحسمت أمرها وأخبرت الجميع بقرارها الذي صدمهم وحطم آمالهم.
نظرت لها والدتها بمقلتان تتلألأن من الدمع وهي تردف بحسرة على حال ابنتها التي تريد البقاء وحيدة طوال حياتها:
-"هل تظنين أن أيمن سيعود للحياة عندما تمتنعين عن الزواج!!"
قلبت "مي" عينيها بسخرية من حديث والدتها المسكينة التي لا تعرف حقيقة الأمر فهي تظنها تمتنع عن الزواج من أجل ذكرى زوجها الراحل ولكنها في الحقيقة لا تريد أن تمر بتجربة زواج مأساوية أخرى.
لن تحتمل أن تكون على ذمة رجل ديوث يريد أن يبيعها لغيره كما كان يريد أيمن أن يفعل بها.
قضت السنوات الماضية وأفنتها في عملها وبسبب تفوقها وإخلاصها الشديد نالت شرف العمل في هيئة الطاقة الذرية المصرية التي تأسست عام 1955 وتقوم بعمل الأبحاث الوطنية والتطوير في مجال الأبحاث النووية السلمية.
هي ليست مجرد مهندسة عادية بل أصبحت الآن تشغل منصبا حساسا ولديها الكثير من الملفات الخطيرة المتعلقة بأبحاث المفاعل النووي وأيضا الكثير من المشاريع التي يقومون عليها في الهيئة.
اتصلت بها "إيمان" وأصرت عليها أن تحضر حفل عيد ميلاد ابنتها وهذا ما قامت به مي بالفعل فهي بالطبع لن تحرج شقيقتها وترفض طلبها.
ارتدت فستانا محتشما كعادتها وأحكمت وضع حجابها ثم ذهبت برفقة والدتها إلى شقة "إيمان" التي رحبت بهما بشدة.
وقفت "مي" بعيدا عن الجميع وظلت تراقب أفراد عائلتها وهم يطفئون الشمع ويتمنون السعادة لابنة شقيقتها ورغم أجواء المرح التي كانت تطغى على المكان إلا أنها شعرت بالانزعاج عندما لاحظت ذلك الرجل الذي كان يراقبها بعينيه طوال الوقت ... اقتربت من والدتها وهمست بترجي بجوار أذنها:
-"دعينا نرحل ماما ... لم أعد أحتمل البقاء هنا".
رفعت والدتها حاجبيها باستنكار:
-"ولماذا لا تريدين البقاء؟"
أجابتها "مي" بغيظ وهي تنظر نظرة خاطفة نحو الرجل الذي يراقبها واتسعت عيناها بغضب عندما رأته يبتسم لها:
-"إن بقيت هنا دقيقة أخرى سأضرب هذا السمج الذي يبتسم لي وكأنه يعرفني ... لم أرَ في حياتي رجلا وقحا مثله".
انسلت ابتسامة خبيثة على شفتي والدتها وأردفت:
-"أعتقد أنه معجب بكِ ويريد التعرف عليكِ".
صاحت "مي" بغضب ولم تنتبه إلى صوتها الذي ارتفع وجذب انتباه جميع المدعوين في الحفل:
-"وأنا لا أريد ذلك ... أقسم لكِ أنني سأضربه بحذائي على رأسه إن لم يتوقف عن تلك الأفعال الصبيانية".
رمقها الجميع بدهشة وذهول عدا هذا "السمج" كما تسميه فقد اتسعت ابتسامته بعدما تأكد أنها نمرة شرسة وليست قطة وديعة كما يبدو على ملامح وجهها البريئة.
نكست "مي" رأسها بحرج واعتذرت بخفوت وتمنت أن تنشق الأرض وتبتلعها حتى تتخلص من نظرات الاستنكار التي يرمقها بها الجميع ... تنهدت بضيق عندما لاحظت ابتسامة هذا الرجل وعلمت أنها ستواجه الكثير من المتاعب في الأيام المقبلة.
#توقعاتكم
#batol