استيقظت "مي" من نومها على صوت أذان الفجر فنهضت من الفراش وتوضأت وافترشت سجادة الصلاة ودعت الله أثناء سجودها وهي تبكي أن يفرج كربها ويخرجها قريبا من السجن.
انتهت من الصلاة وأمسكت المصحف تقرأ به بعض آيات الذكر الحكيم كما اعتادت أن تفعل في الآونة الأخيرة ... أنهت التلاوة وقبلت المصحف ووضعته جانبا وهي تذرف الدموع.
ابتسمت من بين دموعها وهي تتأمل المحبس الذهبي الذي ترتديه في بنصر يدها اليمنى وعادت بذاكرتها إلى ذلك اليوم عندما تركت مؤمن وغادرت النادي وهي غاضبة لتتفاجأ في المساء بوالدتها تدخل غرفتها وهي تخبرها أن تجهز نفسها وترتدي أفضل ثيابها وخرجت بسرعة من الغرفة قبل أن تسألها مي عن سبب طلبها المفاجئ.
استغربت "مي" كثيرا من طلب والدتها ولكنها نفذته وارتدت فستانا جميلا لونه بنفسجي ووضعت على رأسها حجابا باللون الكشميري مما أعطاها مظهرا رائعا وجذابا.
خرجت إلى الصالة لتتفاجئ بوجود "سعاد" صديقة والدتها المقربة وازدادت دهشتها عندما رأت مؤمن يجلس بجوارها ... تطلعت إليه "مي" بعينين جاحظتين قائلة بصدمة:
-"ماذا تفعل هنا؟"
صمت مؤمن وأجابت سعاد بدلا منه وهي تبتسم:
-"جئنا نطلب يدك يا عروس".
مهلا لحظة!! هل مؤمن هو ابن سعاد؟! كيف لم تعلم بهذا الأمر من قبل؟! والسؤال الأهم لماذا تظاهرت والدتها في يوم الحفلة بأنها لا تعرفه؟!
لم تمر سوى ثوان بسيطة استوعبت فيهم مي كل ما حدث وأصبح كل شيء واضح أمامها فقد كانت هذه خطة من والدتها حتى تلتقي بمؤمن وتتعرف عليه ويبدو أن شقيقتها متواطئة معها في خطتها وأنها هي من كانت تعطي مؤمن عناوين الأماكن التي كانت تذهب إليها وهذا يفسر ملاحقة مؤمن المستمرة لها ووجوده في كل مكان تذهب إليه.
جلست "مي" بجوار والدتها وهي تفرك أصابع يدها باضطراب ورحبت بوالدة مؤمن.
لا تعلم كيف نطقت بالموافقة عندما سألتها سعاد مرة أخرى ... أليست هي من تعهدت بأن تقضي بقية حياتها وحيدة وبلا زواج حتى لا تمر بتجربة فاشلة مرة أخرى؟!
أما بالنسبة لمؤمن فقد كان يشعر بسعادة كبيرة بعدما أعلنت مي موافقتها على الزواج.
ذهبوا في اليوم التالي إلى الصاغة وانتقت مي الشبكة وسط فرحة عارمة من جميع أفراد العائلتين ... تمت مراسم الخطبة بعد يومين وحضر أصدقاء مي ومؤمن وباركوا لهما.
-"لا أصدق أنني رأيتك عروس وفي عصمة رجل يصونك ويحميكِ ويكون سند لكِ".
قالتها والدة مي بسعادة وهي تزيل الدموع العالقة بأهدابها والتي هطلت بسبب فرحتها بخطبة ابنتها.
ابتسم مؤمن بودٍ وهو يقول:
-"لا تقلقي أمي ... لن يصيب مي أي مكروه طالما أنا موجود بجانبها".
ربتت على كتفه وهتفت بابتسامة:
-"أعلم جيدا هذا الأمر يا عزيزي ولهذا السبب أنا مطمئنة عليها وهي معك".
مضى بعض الوقت وها قد أتت اللحظة المنتظرة ... نظر مؤمن إلى مي بابتسامة وأمسك بكف يدها اليمنى ووضع المحبس في إصبعها واتسعت ابتسامة مي عندما سمعت أصوات التصفيق الحار من حولها.
انهمرت دموع الفرح فوق وجنتي والدة مي التي تمنت لها أن يوفق الله ابنتها هذه المرة في زواجها ... همست إيمان بضيق وهي تمد يدها بمنديل تمسح به دموع والدتها:
-"أرجوك أمي ... حاولي السيطرة على دموعك لأن مي ستحزن كثيرا إذا رأتك بهذه الحالة".
أزالت والدتها دموعها وتحدثت بتنهيدة:
-"معك حق ... هذه الدموع اللعينة ستفسد فرحتنا".
كانت مي تخفض رأسها خجلا وهي تشيح ببصرها بعيدا عن مؤمن الذي ينظر لها بعشق وهيام لا يستطيع إخفائهما ... ضحك مؤمن بشدة على خجلها وهتف بمشاكسة:
-"لا يوجد داعي للخجل فأنتِ أصبحت خطيبتي وقريبا جدا ستصبحين زوجتي".
بالرغم من تحذيرات عقلها الذي أمرها بعدم النظر له إلا أنه كان لقلبها رأي أخر فقد كان يتراقص بحماس لسماعها منه تلك الكلمات والتي تدل على عشقه الدفين لها واستمرت سعادة مي لمدة أسبوع نسيت به أمر الموساد وابتزازه لها فقد كانت تعيش في عالم وردي لا يوجد به أحد سوى مؤمن الذي استطاع أن يأسر قلبها ويوقعه في عشقه بل وجعلها تنسى كل المآسي التي مرت بها على يد زوجها الراحل.
شتان ما بين خطيبها وزوجها السابق فأيمن كان ديوثا أراد أن يسلمها كوجبة شهية على طبق من ذهب لشريكه القذر لينال منها ما يريده ، أما مؤمن فهو رجل ذو دماء حارة ويغار عليها بجنون حتى من نسمة الهواء التي تلفح صفحة وجهها.
انتهت تلك السعادة عندما اتصل بها مؤمن ذات يوم وطلب منها أن تتجهز في المساء وترتدي ملابسها وتستعد للذهاب معه لتناول العشاء في الخارج.
اصطحبها مؤمن إلى أحد المطاعم التي تتسم بالرقي والفخامة وجلسا على إحدى الطاولات في انتظار النادل الذي حضر بسرعة وسجل طلباتهما ثم ذهب وعاد إليهما بعد قليل ووضع الأطباق أمامهما ثم انسحب وتركهما ينعمان ببعض الخصوصية.
لمعت عينا مؤمن وهو يسألها:
-"هل أعجبك المكان؟"
ابتسمت مي وهي تجيبه:
-"أجل ... هادئ وجميل جدا ولا يوجد به أي مصدر من مصادر الإزعاج".
ابتسم مؤمن قائلاً:
-"أنا سعيد جدا لأنه أعجبك ... كنت أخشى ألا تحبيه".
بادلته مي ابتسامته وشرعت في تناول الطعام ... وضعت قطعة الدجاج في فمها ومضغتها بتلذذ ثم هتفت بسعادة:
-"شهية جدا ... هذه هي أول مرة أتناول بها دجاج بمثل هذه الروعة".
تناولا الطعام وسط أجواء مليئة بالمرح والسعادة ونهض مؤمن عندما أنهى طعامه وذهب إلى المرحاض حتى يغسل يده.
أخرجت "مي" هاتفها عندما سمعت رنينه لترى الرسالة التي وصلتها.
(شيء لطيف للغاية ... أجواء هادئة ورجل يحبك ومطعم فاخر لتناول العشاء)
ابتلعت ريقها بخوف وأخذت تلتفت حولها كالمجنونة حتى ترى من يراقبها ولكنها لم تجد أحد ... نظرت إلى الرسالة مرة أخرى وأكملت قرائتها.
(ولكن تذكري اتفاقنا يا حلوة وأعطني المعلومات التي طلبتها منك وإلا فأنتِ تعلمين جيدا ما سيحدث لكِ إذا لم تنفذي أوامري)
قضمت أظافرها بعصبية وهي تستأنف قراءة المقطع الأخير من الرسالة.
(وقبل أن أنسى ... مبارك لكِ على الخطبة)
مؤكد أنه كتب تلك العبارة وهو يبتسم بسخرية فهو لن يتمنى لها السعادة بالطبع.
انتظرت مؤمن حتى عاد ثم هتفت بعصبية:
-"أريد الذهاب من هنا فورا".
-"لماذا؟!"
سألها مؤمن باستغراب لتجيبه بحدة:
-"لم أعد أحتمل هذا المكان فهو يشعرني بالضيق والاختناق".
هز مؤمن كتفيه بإحباط وهو يرافقها إلى الخارج:
-"ظننت أنه أعجبك".
زفرت بعصبية ولم ترد فهي ليس لديها طاقة كافية للحديث معه لأنه حينها ستضطر إلى أن تخبره بحقيقة موت أيمن وأنها قتلته دون أن تقصد.
أوصلها مؤمن إلى المنزل وغادر دون أن يتحدث معها وهذا ما جعل والدتها تسألها بدهشة وحيرة:
-"ماذا حدث؟ هل تشاجرتما؟!"
هزت "مي" رأسها بنفي قائلة بصوت مبحوح:
-"اطمئني أمي ... الأمور تسير بيننا بشكل جيد".
توجهت "مي" إلى غرفتها وهي مثقلة بالهموم والأحزان وفكرت كثيرا في الشيء الذي يرعبها ويجعل قلبها على وشك أن يتوقف ... أيعقل أن يبتعد عنها مؤمن ويتركها إذا أخبرته بكل شيء أم أنه سيقف بجانبها ويدعمها حتى تجتاز تلك المحنة.
الطريقة الوحيدة التي تضمن لها أن يظل سرها في أمان هي مساعدة الإسرائيليون وإعطائهم المعلومات التي يريدونها.
أغمضت عينيها بعنف وحركت رأسها بالنفي وهي تردد بعزم:
-"مستحيل ... لن أفعل هذا الأمر حتى لو كانت حياتي هي الثمن".
هزت رأسها بتأكيد فهي على الأقل إذا ماتت فستموت ورأسها مرفوع أما إذا خانت وطنها فستجلب العار لعائلتها وسيوصم اسمها بلقب خائنة إلى الأبد.
أنهكت رأسها بالتفكير حتى استنفذت جميع مشاعرها ولم يعد بإمكان عقلها الذي لطالما ساعدها من قبل لتتجاوز المحن الصعبة التي مرت بها أن يسعفها بإحدى أفكاره.
حانت الآن لحظة القرار الحاسم والذي ستختاره من أجل نفسها فقط بغض النظر عن جميع العواقب التي تنتظرها ... ستقدم على تلك الخطوة حتى تنال روحها السلام الذي لطالما أرادت الحصول عليه فقلبها لم يعد بإمكانه تحمل المزيد من الضغط والخوف.
خرجت من المنزل في الصباح الباكر ودون أن تتناول فطورها وذهبت إلى المقابر لزيارة قبر والدها الذي اشتاقت له كثيرا فهو كان سيقف خلفها ويدعمها في تلك الخطوة التي ستتخذها ... تأملت القبر بعينين دامعتين وقرأت الفاتحة ورددت بعض الأدعية قبل أن تغادر ولم تغفل بالطبع عن تلك الأعين التي تراقبها كالصقر وتترصد جميع تحركاتها.
مسحت على صفحة وجهها وتنهدت بعمق وهي تخرج هاتفها وتتصل بوالدتها فهي ستنفذ الخطة التي نسجها عقلها خلال دقائق.
أتاها صوت والدتها التي أجابت على اتصالها فهتفت مي بسرعة قبل أن تغلق والدتها الخط:
-"أهلا ماما ... أردت إخبارك أنني سأتأخر اليوم لأنه يوجد أمامي اليوم الكثير من الأعمال المتراكمة والتي يتوجب عليَّ إنجازها".
همست والدتها بحنو:
-"لا بأس حبيبتي ... اعتني بنفسك ولا تستنفذي طاقتكِ كثيرا في العمل".
ابتسمت مي بحزن وأنهت المكالمة وهي تتنهد بمرارة واستحوذ عليها شعور بالذنب نحو والدتها التي تهتم لأمرها وبدلا من أن ترد لها الجميل كذبت عليها وأخبرتها أنها ستتأخر في العمل وهي لن تذهب إليه من الأساس.
توجهت إلى أحد المولات المتكدسة والذي يعج دائما بالزبائن واستطاعت أن تشتت انتباه مراقبيها وتندس وسط الناس ... تنهدت بارتياح عندما تأكدت بأنها لم تعد مطاردة من قبل رجال الموساد وغادرت المول وأوقفت سيارة التاكسي القادمة نحوها وطلبت من السائق أن يبتعد عن المكان بأقصى سرعة.
توقفت سيارة الأجرة بالقرب من مبنى المخابرات العامة المصرية فخرجت منها ووقفت تتأمل المكان ... تنفست "مي" بعمق في محاولة لبث الشجاعة والطمأنينة داخل صدرها قبل أن تتوجه نحوه بخطى واثقة.
#توقعاتكم
#batol