استيقظ الأب من نومه، وبدل ملابسه، كانت ملامحه غاية في التجهم، طلب إلى الخادمة أن تأتيه بالفطور، وبعد أن ارتدي سترته كاملة عاجلته ليزا بطلبها مائتي جنيه، ورجته أن يترك لها العربة للخروج عصرًا، ولم يبدِ الأب رغم شديد تجهمه في ذلك اليوم إلا الطاعة الكاملة لمطالب ابنته التي يحبها كثيرًا، ثم طرق غرفة ميرفت التي كانت وقتئذ تقرأ في رواية ستندال الشهيرة "الأحمر والأسود".
فوقف الأب عند عنوان هذه الرواية كشأن كل بسطاء الفكر، والقريحة، ثم طأطأ برأسه:
- مدهش "قالها في غيظ"، إنه لشيء جميل أن يقرأ الإنسان، ولكن أليس هناك ما هو أوقع أثرًا، ونفعًا من القراءة؟
كان هذا التساؤل الأحمق كافيًا بأن ينهي المناقشة، إلا أن حكمة ميرفت حالت بين هذا، ثم أجابته (متململة):
- أفضل من حيث ماذا؟
- أفضل من حيث كل شيء (مستطردًا) لماذا لا تفكرين في العمل؟
- ولكن أليست القراءة عملًا؟
- القراءة هي بمثابة متعة فردية؛ فهي تمتعك أنتِ، أما العمل فهو إمتاع للآخرين فوق أنه يدر عليك الكثير. هل عرفت ما تنطوي عليه القراءة من أنانية، ورغبة في التظاهر، وإيثار للوحدة على المجتمع، فلو كنت قارئًا مثلك لصار حظك أنت من الحياة حرمانًا، وجوعًا.. (ثم قال كلمته القاطعة) أنت تقرئين الأحمر والأسود أما نحن فنصطبغ بهما كل يوم، وعدالة الفكر لا يشجيها هذا التصنيف.
أما ميرفت فبدت، وقد طغى عليها الاندهاش فأعجزها عن الغضب أو الثورة، ثم أجابته بقولها:
- هذا كلام رائع لا أملك له رفضًا، ولكن ماذا تقول في أمر التعليم (قالتها، وهي في هلع، وتخوف شديدين)
- التعليم.. (مقهقهًا). إنه حُجة الكسالى ليوغلوا في الكسل، وهو في اعتقادي التبرير الوحيد لإهمال المسؤلية أو الهروب منها.
- تقول هذا الكلام في الوقت الذي تُسدي فيه النصح إلى ليزا، وتحثها على الاستبسال في التعليم، ما عساني أجدك تشد من أزر "ليزا"، وتعينها على مواصلة تعليمها، وفي نفس الوقت تحقر التعليم في ناظري.
- يجب أن تتحري اللباقة، وأنت تخاطبين من جعلوا منك ابنة، كثيرًا ما أعلنت بأنني لا أستطيع أن أغدق حنان على من لا ترشدني الغريزة للحنو عليهم، لا أستطيع أن أُظهر شيئًا غير محسوب في تكويني.
قالها ليخفف من وقع الكلام عليها. (ثم أردف):
- فالحنان يتطلب معقولية، لابد وأن يكون الحنان معقولًا حتى نمنحه، لابد أن يتعقل كل امرئ في بذل رصيده من العطف لكي يصير عطوفًا.
"توقف قلب ميرفت عن الخفقان، واحمرت وجنتاها من هول التقريع في الوقت الذي واصل فيه الرجل تجريحه، وإسفافه":
-أنا لا أعترف بما يسمونه شفقة؛ فالشفقة تخضع لبند العواطف التي أرفض أن تتقمصني.
لقد كشف الرجل بحديثه الرخيص عمّا يكنُّه لميرفت؛ فهو يتظاهر بالعطف عليها إشفاقًا بحالتها، ولكنه كُشف الآن بما لا يقبل مزيدًا عن عدم انتمائه لهذه الشفقة، فالمشاعر كما يرى هي محض افتراءات، وهواجس فالأحاسيس ذات كفاءة نادرة على الخداع.
لقد بدا من حديثه السريع المفاجئ الذي لم تكن لتشاركه فيه ميرفت بحرف واحد "من فرط ذهولها".
إن رفضه لتبني الفتاة قائم على أسس مادية صرفه، وليس لأسباب أخلاقية، فلكم ظهر من الحديث أن الأنانية هي الدعامة التي تحرك هؤلاء القلة الذين اعتقدوا في ذواتهم أنهم صفوة المخلوقات، أما معرفتهم بالعواطف فتكون من قبيل المطالعة في الكتب، أو المواقف البطولية النادرة التي تعج بها أوراق الصحف. فالأنانية، وقهر الغير هما الشيء المعقول في شريعة هذا الرجل، وكم هي تلك المرات التي أشار فيها لزوجته (محذرًا) بأن دس عنصر غريب على أهل الطبقة هو السر الأوحد وراء أخطاء الوراثة، والأمزجة غريبة الأطوار.
هذا الحديث لا يداخل أحدًا شك بأنه من قبيل التحذلق الكاذب الذي لا يمت للعلم بصلة، والتبريرات المرضية لفكرة معتوهة تقوم على أسس مغرضة..، ولكم آخذته "فضيلة" على مثل هذه الأقاويل الانفعالية الجارحة التي ألهبت في البنت عزتها، وجعلت همها الأكبر هو كيف تقدم على الانتحار (لتثأر من اتهام القدر لأصلها، واتهام الأب لها).. هذا في الوقت الذي كان فيه الأب يبرر همجيته بطرق غاية في التقزز، وبكلمات غاية في البرود، والتطرف كتعليله مثلًا بأنه إنما يدافع عن عذرية الأرستقراطية، وذلك بألا يقحم عليها شيئًا ليس منها.
لقد أخذت عليه "فضيلة" تبريراته غير المقبولة، وكادت الأم أن تبكي من فرط الإهانة التي تتلقاها ميرفت دونما إساءة منها، ورأت في تطرف "عدلي" نحو ميرفت، واضطهاده النفسي لها شيئًا يحمل على الحنق؛ فأخذت تتوسل إلى زوجها أن يرحم أمومتها إذا لم يرد أن يرحم ميرفت، وأن يشفق على الفتاة المرهفة من الجنون، ولكنه لم يعرِها جوابًا.
إن حكمة القدر قد توظفت سلفًا على هذا النحو بأن جعل من كل مرهف حس خاضعًا لمن لا حس له، وما من شيء يثقف وجداننا سوى الحنق الأبوي فالإساءة التي يلحقها الأب في نفوس أبنائه يكون لها أثر السحر للنهوض بنفوسهم. على أن عقوق الأب لأبنائه، وإن كان يفل من معنوياتهم مهما كانت قادرة على الصمود إلا أن مذاق طعم الاضطهاد لا يلبث أن يوطد في النفس حب التحدي، كما أنه يثقف الوجدان بالفن، ويؤهله للوقوف أمام حُجب الحياة، ويجعل النفس تغوص في فهم أسرار الوجود كما لو كانت قد شاركت في وضع هذه الأسرار، وما أروع "بلزاك" حين قال:
-"لا يرهف الحس، ويثقف الوجدان مثل معاناة ظلم ذوي القربى".
كانت ميرفت في أغلب أوقاتها متذرعة بالصمت أمام سيل الإهانات المنهمرة، لقد ارتأت أن الصمت هو عنوان القوة في مثل هذه المواقف المضنية. هذا إلا أن الأب لا يزال يخفي حنقًا مستورًا، على أن شخصيته لم تكن من القوة بأن تجعل النفس تتوافر على احترامه، بل كان يرفع صوته في اضطراب، ويغمغم بألفاظ ممعنة في القحة، والنذالة كمن حلت به نائلة.
وذات يوم، وبينما كانت ميرفت تشرع في الخروج من المنزل فاستوقفها "السيد عدلي":
- انتظري.
قالها في لهجة قاسية كأقسى ما تكون اللهجة، وبصوت مدوٍ كأعنف ما يكون الدوي.
فلم تكترث إلا قليلاً، وواصلت سيرها بخطى مترددة فنهرها نهرة مفزعة أوقفت فيها الدم، والحركة.. فوقفت، وقد أدارت إليه وجهها.
- إلى أين أنت ذاهبة؟
ميرفت (في أسى):
-ذاهبة أبحث عن عمل.
- والتعليم ماذا ستصنعين في أمره؟
- "متهكمة" لا التعليم: هو حجة الكسالى ليوغلوا في الكسل، وهو في اعتقادي التبرير الوحيد لإهمال المسؤلية أو الهروب منها.
- لا بل إن التعليم هو المستقبل، وهو المسؤولية التي لا ينبغي أن تلتمسي منها مهربًا، فلتمضِ مع التعليم بعزيمة لا يعبث بها التردد، ولسوف ألبي إليك كل ما تحتاجين إليه..، ولتلتمسي لي المعذرة عما أسلفت قوله في هذا الخصوص.
كانت هذه العبارات كافية لأن تبعث فيها إرادة الحياة، وعادت أدراجها، واستشعرت الصدق أو بعضه من هذا الكلام.
واقتربت امتحانات ميرفت، وعملت الأم جيدًا لتحفيزها، وإحياء ارادتها، أما ميرفت فلم تستوعب من دراستها إلا القليل بفعل الإهانة التي تتلقاها صباحًا، ومساءً فلو أنها صخرة صماء لشققتها الألفاظ المغرضة.
فكأنها قد أتت بنفسها إلى الوجود بطريق الخطأ أو أنها تواطأت مع حظها التعس على أن تكون على هذا النحو، على أن طهارتها، ونبلها يجعلان من المغالطة، والإسفاف مساسها بالقول الجارح، إن براءتها، وجلالها كانا من الممكن أن يقدرا لها التقديس إلا أنها ماذا تفعل في الأصل القذر، والمنبت الكريه، والطريقة غير اللائقة التي أتت بها إلى الوجود؟
أخذت ميرفت تغالب دموعها، وقالت تحدث أمها:
-سيكون مستقبلي حافلًا بالشقاء المرير إذا قدر لي أن أفارق هذا الصدر الحنون، وستكون حياتي لا طعم لها ما لم تنفذ تجاربك العتيقة إلى أسباب احزاني البريئة.
الأم "ماسحة على شعرها الغزير، وفي لهجة دافئة":
-اعلمي أني لن أضن عليك بحياتي، وإذا كان في موتي سعادتك فسأقرضك إياه، أنت ابنتي وحدي، وما تكابدينه من ألوان المرار يلهب عزتي، وينفطر له قلبي، إن بركانًا تتلظى ناره في أعماقي متى أدركك الأذى "مكررة "، أنت ابنتي، وسأضحي بعمري الذي تراوده النهاية من أجل راحتك.
انتزع الذعر هذه الصرخة من ميرفت في عصبية، وهلع:
-"لا يا أمي لا تقولي هذا لا تقولي هذا ابدًا، بل أنا التي تريد أن تموت في ظلك، وفي حضنك، بل تحت أقدامك"
ثم انقضت في حضنها كالسكيرة..، وما من شك أنها شعرت لتوها بسكرة خالدة، وعزاء مقدس في هذه الأم، وفي ذلك الحضن، ثم تركتها الأم مودعة، وانصرفت بعدما حثتها على بذل مزيدٍ من الجهد في الاستذكار مع وعدٍ بمفاجأة مدهشة إذ هي حصلت على مجموع مرتفع.
وما إن خرجت الأم حتى انزوت ميرفت في سريرها، وأحكمت بيديها على ركبتيها، وأخذت تسبح في أفكار قاتمة، وهي تستعيد المسالك العدوانية من ذلك الأب المتجهم الصارم، والحق أن شكواها كثرت، وطالت، لقد أزعجت بشكواها السماء، وهي تلعن حظها العاثر كأشد ما تكون اللعنة، ولقد حذا بها الكرب هذا الحذو، وأخذت تردد في شيء من الهم بهذه الكلمات:
-"إلهي بأي شكل تعاقب الخطيئة إذا كانت أحلام البراءة تلقى منك هذا الجزاء، أيها الدهر مهما كانت الآلام التي ترميني بها قساوتك فإنني لا بد مستخرجة من حنظلها عسلًا شهيًا، على أن السماء إذا أبت إلا أن تذيقنا جورها فأنا وحدي أملك ما يخيفني ولا أملك ما أتمناه، وإذا كانت ثمة أماني فالواجب يريني أين أتوجه بأمانيّ".
وما أن فرغت من نجواها، وشكواها حتى طرقت ليزا العائدة لتوها من خارج البيت باب غرفتها فقد ذهبت هي، واثنتان من صديقاتها إلى محلات ليزابيلا لعروض الأزياء، واشترت لميرفت فستانًا كما اشترت رواية "الأب خالد" لبلزاك، وما إن طرقت عليها غرفتها حتى وجدتها غارقة في خيالات يبدو أنها مضنية؛ فأردفت تسألها ما عسى أختها الجميلة تاركة دروسها، وغارقة في لجة الغيبيات، والأفكار التي يُهيأ لي أنها قاتمة إلى حد كبير.
ميرفت في نغمة تجمع بين الأسى، والسعادة:
-أين كنت يا ليزا؟
- ماذا بك يا ميرفت هل من خطب أصابك؟
- لا لا شيء، ولكنها الوحدة أضنتني، الوحدة المؤلمة التي كادت أن تقطعني؛ فالوحدة وحدها هي الشاهدة على قصة صراعي مع الأسى، والذكريات الحزينة التي تطل من رأسي رغمًا عني.
- العزلة أظنها مما يسلي أمثالك ممن أتحف الله عقولهم بالموهبة، وأسبغ عليهم آيات الكمال، وأنا أعلم أن العزلة تأبى أن تفاجأ، وهي متجردة لذلك تغرس حولها جميع أنواع العقبات ولا يتسنى لمن هم دونك في المواهب تخطي هذه العقبات (مشيرة إلى نفسها) أما ذوينا نحن من الطبقة المؤثرة فهن ينظرن إلى الوحدة على أنها شيء مخيف، ومفزع لأنها تمثل لديهن علامة مقت، وغضب.
- إلا أن من مثالب العزلة أنها تحول بيني، وبين مجالسة أختي التي أحبها.
ليزا (مشيرة) إلى ما أتت به من الخارج إلا أن ميرفت لم تلتفت إلى الفستان رغم لونه الزاهي الموشى بالترتر، وإنما انجذبت بكل قواها نحو الكتاب، وأثنت على ذوق ليزا، وحُسن اختيارها قائلة:
-لكم تمنيت قراءة هذه الرواية، (ومضت تحدث أختها) أفلو كان بلزاك يعيش في عصرنا أو في بيتنا اترين أنه كان سيخلع صفة الخلود على أي أب؟ "معقبة" فأبي لم يكن خالدًا في أي وقت مضى، وأبوك "لحظة صمت" خلد المأساة في عقر أعماقي "متأملة"، ولكن ما جدوى أن يتلقى الإنسان ثقافة أعلى من مستوى وضعه في الحياة؟ "مشيرة إلى الكتاب" أعطني الكتاب فالكتب هي أصدقاء أمثالنا، ونحن نجد فيها خير سلوى، وتعزية.
ليزا:
-إن الأهداف السامية لعقلك تملؤني احترامًا، فذهنك لم يعد تلك القوة الخاوية إن عقلك لو أحسنت صقله لعاد عليك، وعلينا بأعمال عظيمة "مستطردة" إن المرأة التي لها مثل مواهبك لتشبه النعجة ذات الذيل الطويل. التي لا تقدر بثمن لما تمتاز به.
ميرفت:
-إن لفظة هجاء واحدة من هجاءات أبيك لي لتثقل أتفه العقول، وتجعله يلتمس الراحة في الهاوية مما ينوء به من حمل.
- أرجوك يا ميرفت اغفري لأبي قسوته، وفظاظته "مخففة"، واعلمي أن خير قلوب البشر قد تكون أكثرها إيغالا في البطش، والقسوة.
في سخرية قاسية:
-إذا كفلت لي قسوة أبيك أن اكون إنسانة خالدة، فإن القسوة المصيرية التي اقترفها أبي ستعيدني مخلوقة فانية فانية إلى الأبد فأي من القسوتين أختار "مستطردة في عنف، وغيظ:
" أبي لم يترك لي اسمًا أو نسبًا يا ليزا، بل ترك لي أخطاءه تعذبني فهي اسمي، أما أنتِ (قالتها، وهي تغمغم بالبكاء) فالاسم، والنسب، والوسط الأرستقراطي، والثراء الفاحش، أفيديني بحق الإله ما الذي فعلتِه لتكون لك كل هذه المميزات "لحظة صمت" لم تفعلي سوى أنك تفضلتِ على العالم بميلادك.
لقد قضت ميرفت أول خمس أعوام من عمرها، وقبل أن تتبناها الأم "فضيلة" سنوات إهمال، وعوز، وفقر مدقع، فهي لم تنس أنها كانت ترتدي الثياب المنحولة حتى آخر فتلة، والتي تحتوي على أجزاء مقطوعة عند المرفقين فقد بدا النسيج، وكأنه يضحك إلى حد الانفجار مبديًا أسنان خيوطه، ولكن التمزقات، والثقوب كانت أفواهًا تجهر بأسباب الشرف، وقد تخلصت ميرفت من هذا الزي البالي الرث حينما أتت إلى ذلك القصر كما يخلع دود الشرانق الجلد الرمادي المنطفئ حين يحلق صوب السماء متحولًا إلى فراشات ذات أجنحة.
ليزا:
-انسي ما ارتكبه أبوك من حماقة.
- حتى لو كنت أنا ضريبة هذه الحماقة؟
ثم تأوهت بنغمة تثير الرثاء بينما أخذت الدموع تنحدر على وجنتيها قائلة:
-ليزا ليس في جسمي بوصة واحدة لا تسبب لي الفزع، إنني أكره نفسي، وأكره وجودي، وأتمني أن يصبح كل شيء بعد موتي، وكأنني لم أعش يومًا (مستطردة) أي كائن أو حيوان إن خيرته لوافق أن يوجد بهذه الطريقة الرديئة التي تتكفل وحدها بخراب وعيه، وجره إما إلى اليأس أو التصوف أو الرذيلة.
ليزا (محدقة في ميرفت بنظرة ملؤها الإشفاق، وقد تغرغرت عيني كل منهما بدموع تجمدت في محاجرها:
-لن أساعدك بعد اليوم على تذكر ذلك الماضي البغيض الذي لم تشاركي فيه من قريب أو بعيد بأي قول أو فعل إن ماضيك يحز في نفسي أما حاضرك فيملؤني إكبارًا، وإجلالًا؛ لك فطموحك أشمخ من أن يصعد عليه ماضٍ، وكبرياؤك أصلب من أن يهتز من تجريح أبٍ يحبك.
في هذه الآونة كانت ميرفت قد أنهت امتحان السنة الثانية من المرحلة الثانوية بمجموع قدره أربعمائة، واثنان، وتسعون من المجموع النهائي خمسمائة، وبذلك صارت الأولى على قريناتها، كما تجاوزت ليزا الإعدادية، وأصبحت مؤهلة للصف الثانوي، ولم يكن نصيبها من الدرجات يعادل حظ ميرفت، وكانت الهدية هي أن يقضوا جميعًا الصيف كاملاً في العزبة وسط المراعي، والحقول، ومباهج الطبيعة إجلالًا، واعترافًا بتفوق ميرفت، وليزا.
كاشفت الأم ميرفت بهذه المفاجأة أثناء تناول الأسرة للغداء، وهنا أشرق وجه ميرفت سعادة، ولم تستطع أن تقاوم رغبتها في الانطلاق، وسعدت ليزا بهذا الاقتراح أيما سعادة.
أما الرجل فقد أخذ يموه تمويهات عرجاء كمن يتحدث إلى طفل:
-"سأذهب خصيصًا لأجل ميرفت رغم كل ما يربطني بالقاهرة من أعمال" (ثم مضي يتحدث في لهجة أقرب إلى الاستغفار) ربما خفف جو الريف من آلامها التي خلفها بطشي، وقسوتي، وسوء فهمي لرهافة حسها، ونبل مشاعرها.
كان "عدلي" بارعًا في المغالطة، غشاشًا كأخبث ما يكون الغش؛ لذا فلم تغير كلماته المعسولة شيئًا في مشاعر ميرفت، ولم تحرك فيها أي ساكن لما تضمره تلك الكلمات من خبث دفين، أما ميرفت فأخذت تتناول طعامها دونما اكتراث بأي مما يقول، فما تراه في هذا الرجل هو صرامة مغرضة، وطيبة مغرضة، أما الرجل فلم يوقفه عدم اكتراثها عن الاستمرار في الحديث؛ فحاول أن يجذب انتباهها:
-ومن أجل ذلك سأذهب بنفسي الآن لكي أشتري لميرفت ملابس لهذه الرحلة.
جمدت ميرفت في مكانها، وانتابتها مشاعر متباينة، وفي الوقت الذي أوشكت فيه أن تصدق هذه الحيل أخذت تتذكر في غضب تصرفات الرجل السابقة معها، ورغبته الملحة في إخراجها من التعليم.
ثم تركت لفكرها العنان، ومضت تحدث نفسها إن كل وحشية تحرص على أن تتستر وراء اللطف، وبلاغة القسوة تكون في حسن اجادتها لفنون التدليل. إن هذه العواطف التي تنهال الآن بلا داعٍ سبق، وأن تبرأ منها بلا سبب.
فلم تنس ميرفت أنه هو الذي أراد حرمانها من تعليمها، والحيلولة بينها، وبين ما تصبوا إليه من تطلعات.
عجبًا ما أرى أن الذي دفعه الحقد للإطاحة بكل أمانيّ، وتحطيم كل طموحاتي، وإسقاطها في الوحل هو الذي يبادر الآن ليرفعها (متسائلة) ربما يبادر الآن برفعها ليعيد قذفها بطريقةٍ أكثر عنفًا؟، وهذا ما يستوجب الحيطة لقد تحول الرجل من وحشٍ كاسر يؤرق مضاجع ميرفت إلى إنسان وديع غاية في البراءة كان هذا التحول كافيًا لإثارة شكوك ميرفت.
هذا الرجل الذي بلغ به عنف السلوك، وغلظته كل مبلغ، وأراني صنوف الذل، والإرهاب، وكاد يضيع من عمري مرحلة هي الوحيدة التي اخترتها بنفسي هل تراني أغفر له؟ لا لن أغفر له سألتزم الصمت، سأقتله بالصمت كما قتلني بالكلمات؛ فالسكوت في مثل هذه المواقف التي تزينها الألاعيب يكون طريقة مدهشة في الردع.
ترك الأب المائدة، وأخد يتلكأ في مشيته متظاهرًا بإعياء كان بعيدًا عن أن يكابده، إنها الحيلة التي دارت فجأة في رأسه ليختبر ما آلت إليه عاطفة ميرفت تجاهه، فطن الرجل إلى أنه ما دام إطراؤه المطصنع لم يحرك على لسان ميرفت كلمات الشكر فتصنعه المرض قد يحرك فيها أكثر مما يريد؛ لذلك لم يجد بدًا من تعليق صحته قليلًا من أجل إعلاء مكره.
قادت ليزا أباها في قلق بالغ، وبدت ميرفت مأخوذة على الرجل، أما الأم فبدا واضحًا أنها وحدها التي فطنت إلي ما ينطوي عليه الأمر من نفاق.
هرعت ميرفت وراء الأب، وقد بلغت لهفتهما عليه حدًا كبيرًا؛ فقد أتقن دور المريض إتقانًا فريدًا، ومتميزًا يتعذر على المرضى الحقيقيين أن يأتوا بمثله، وقفت ميرفت إلى جوار سريره، وأنشدت تقول:
-بابا ألف سلامة عليك.
"ثم وضعت يداها فوق رأسه" التي بللها الجهد، والتقمص الناجح، أما الأب فقد أقفل عيناه في شبه موت؛ كي يستدر من لهفة ميرفت المزيد.
أخذت ميرفت تتحدث إليه، وهو لا يزال مستغرقًا فيما أبداه من إجفال، وشبه نوم:
-لو أنني السبب في آلامك المفاجئة فيتعين على أن أرحل، أما إذا لم تحتج هذه الآلام للانقضاء أكثر من مغفرتي فقد غفرت لك.
وعندئذ هب الرجل من مرقده مبتسمًا ابتسامة نابضة، وبرغم تكلفه الابتسام إلا أن ضحكته كانت من طرف أسنانه كضحكة الكلب.
ثم قبل رأس ميرفت قبلة حارة بدا فيها الصدق، والأبوة واضحين مما أبقياها في نظرها قبلة تاريخية إلى حين، وهو يقول في غباء مفرط، وقسوة مقصودة:
- أرجو أن تغفري لي إساءتي لك، واذكري أن إساءتي هذه مهما بلغت قسوتها فلن تعادل قسوة والديك في إساءتهما إليك.
كانت هذه الكلمات كافية لإقصاء أفضل الشمائل في الوجود، فلقد رسم الملل الشامل المغرض على وجهها رسمًا دقيقًا، وأفعمت الكآبة على صدرها حتى فوهته، وأخذت تعيد النظر فيما أبدته من تعاطف تجاه قساوة الرجل، فما إن أطلق "عدلي" هذه الكلمات التي حركت أعماقها في الصميم حتى غالبت الفتاة في شجاعة جبارة دمعة نبتت خفيفة في ركن عينيها، ثم عقب الرجل كمن لا يدري ما أحدثته كلماته في نفس من يخاطبه من أثر، وأخد يطنطن بكلمات بعيدة كل البعد عن صدمة الفتاة، وأرقها:
-إن حزنك لألمي المزعوم كان واجبًا عليك، وهذا يملؤني على الدوام ثقة في إخلاص ونبل مشاعرك التي تقيس الأمور بميزان الواجب، وتقدر الأهل حق قدرهم.
مستطردًا في حماقة:
-ولو كنتِ ابنة شرعية ما كان العقوق ليعرف طريقه إلى قلبك فليس الجحود مما يتورط فيه أمثالك نحو آبائهم.
لقد دفعها هذا الكلام الدقيق في تسلطه للعودة إلى الماضي، وسأمه بعدما كادت أن تودعه، ولكنها قررت بعد طول رؤية أن تلقي بكلام الرجل جانبًا، وألا تحفل بشيء مما قاله من غير أن تنسى هذه الإهانات أبدًا.، وفي الوقت الذي كان فيه الأب مستغرقًا في حديثه الجاف كانت الأم تستمع في قلق، وحيرة إلى هذا الحديث الدائر بين الأب، وميرفت مما دعاها لاستدعاء الأب حتى لا يتورط أكثر من ذلك مع ميرفت، وتعللت في طلبها إياه بأنها تريد حثه على الاستعداد للسفر.