عادت الأسرة جميعها إلى القصر بعد غياب أربعة أشهر كانت كافية لأن تحدث فيهم ما أحدثته من الوحشة، والغرابة؛ فأخذوا يتأملون مندهشين في كل الأشياء المحيطة، وقطع الأثاث، وكأنهم يرونها لأول مرة، وبدا القصر الأنيق الذي يشابه لونيه الأبيض، والقرمزي خدي فتاة بدا علي غير عادته؛ إذ تزاحمت عليه حبات الأتربة، وإن لم تكن بصورة مزعجة، ولأول مرة يسترعي انتباه ميرفت ذلك السياج المحيط بالمدخل الخارجي للقصر، والزخارف الحديدية التي تشبه ثمرة خرشوف ذات أوراق مدببة قائمة علي أعمدة حلزونية متعانقة شبيهة بخطوط الريشة التي يرسمها الخطاطون علي الورق الفاخر الأملس ... ورأت ميرفت أن ذلك التصميم الجمالي هو الذي منع اللصوص من الوثوب خلال زوايا السياج، لقد كاد هذا المدخل الأنيق للقصر أن يكون ملكيًا في أبهته.
فلقد بدت بعض الزهور، وهي مختلطة بقبوة المعدن نازعة عن ذلك السياج الحديدي مظهره الدفاعي حتى لا تترك الا مظهرًا أنيقًا للغنى، والجاه.
أما عن الجدران الداخلية للقصر فهي مغطاة بأستار مطرزة، ومحلاة بحرير مختلف ألوانه.، والحقيقة أن التصميم الداخلي، والخارجي لهذا القصر يعد آية جمالية تكشف عن براعة فنية نادرة التصميم أبدعتها يد الفن.
عاد أفراد الأسرة من الريف، وهم يحملون معهم أطياف، وذكريات جميلة. انزوى كل منهم يداعب أطيافه في وداعة؛ خشية أن يضيعها أو يسيء لها، أخذت میرفت تقيم مقارنة بين القصر كمثال على المدينة، وبين الريف كمثال على الطبيعة، ولانتهت من هذه المعادلة، وتلك المقارنة إلى إدراك السبب المباشر الذي جعل روسو ينادي بالعودة إلى الطبيعة، وليس إلى المدينة.. أما ليزا فبدت أكثر مرحًا، وشرودًا، وهي تحدث أمها قائلة:
- ليس هناك ما ينقص قصرنا هذا لكي يصبح ريفيًا سوي الجواد الذي كنت أمتطيه هناك.
أما السيد عدلي فقد استلقى على سريره؛ ذلك السرير المحاط من أعلاه بسقف من خشب مشغول شبيه بأعلى العرش، وأخذ يفكر في أمر الأحقاد التي تنبأت زوجته بأنها ستكفل زوال المدينة، وتلاشيها.
وقد بدا الرجل عابسًا مكفهرًا يفكر في جزع واضح؛ فقد أثارت الأم بكلامها قميء السخط لديه، ودفعته إلى التفكير رغمًا عنه رغم عدم فطنته لأي من مرامي كلماتها.
كل ما توصل إليه من هذه الكلمات هو أنه ربما قصدت زوجته أن الحقد الذي يبديه المرء في المواقف المختلفة قد يجعل عناية السماء تعيد النظر في أمر الأرض، وما قدرته لها من أجل ...
(متشككًا)، ولكنها نفت أن يكون هذا الزوال بفعل بركان أو زلزال أو فيضان، لعل سعادتها المتكلفة بالريف جعلتها تتمنى أن تصبح كل الدنيا مزارع، وحقول.. أغلب ظني أن جو الريف أنساها ما للمدينة من هيبة.
ثم عاد يسائل نفسه مرة أخرى عله يجني جوابًا من وراء تساؤلاته الشاذة.
ولما لم يجد جوابًا لخواطره المتوترة عمل جاهدًا على التصدي لهذه الخيالات، فلم تكن طبيعة الرجل من تلك الطبائع التي تحتمل الجدل مع الأفكار، بل إنه قد أعلن عن ضيقه، وحنقه، وخرج إلى زوجته، وهو يتحرق غضبًا سائلاً إياها تفسير ألغازها فلقد أحالت كلماتها أحاسيسه الثائرة إلى شعور عارم بالكآبة.
أما الأم فقد التزمت الغموض مع زوجها، وكانت إجاباتها عليه أنها لا تعرف أكثر مما باحت به.
عندئذ قال عدلي ببذاءته المعهودة، وهو يتحرق غضبًا:
-بدلاً من أن تتكهني تكهنات كيدية بمحو أثر المدينة كان أحرى بك أن تتنبئي بمحو الريف، وليست تنفع النبوءة، بل كان يجب أن تبادري بمحو الريف الذي أصبح أرضًا خصبة لقصص الحب، ونزوات الشباب، ودارًا للعربدة، والبذاءة.
كان الرجل يقصد ميرفت بهذه الاتهامات غير المحسوبة، وعندئذ بدا وجه الأم، وكأنه مسرح لانفعالات متضاربة، وهي تقول:
-إنه من دواعي أسفي أن أراك تطعن ميرفت ثانية هذه الطعنات العشوائية في شرفها، وتتهمها في طهارتها اتهامات مغرضة لا تخلو من دناءة، تريدني أن أبادر بمحو أثر الريف.. فهذا ما سأبادر إليه حقا.. سأقتلع الريف من دنيا المدينة.
كانت ميرفت في هذه الأثناء قد اصطحبت ليزا، وذهبتا معًا إلى المسرح، وقد شكرت الأم عناية السماء لعدم وجود ميرفت بينهما في هذه الأثناء؛ حتى لا تسمع ما تفوه به لسان الرجل من مغالطات، وكلمات نابية.
ذهبت ميرفت هي، وليزا إلى المسرح، وقد بدت منبهرة بكل شيء هناك، وسمع في نفسها لأول مرة صوت البهجة، وأحست بالراحة تخترق قلبها في العمق ثم قالت في نغمة آسرة:
- هذه هي الأضواء، وهذا هو الجمال، والجنون اللذان كانا ينقصان وحدتي.
يعلم الله وحده ما الذي كان سيؤول إليه حال ميرفت لو كانت موجودة في المنزل في هذه الآونة، لقد شاءت عناية السماء إحباط مكائد الرجل، وانتقالها بعيدًا عن هذا المكان
، وقد نجحت ليزا في التسلل إلى قمين الرضا في نفس ميرفت بتعمدها التفريج عنها من الوجوم الذي كبل تفكيرها. وقفت ميرفت تتأمل المسرح وهي تقول لليزا:
- إن اختيارك للمسرح بالذات كان اختيارًا موفقًا؛ فالمسرح یا لیزا هو الحقيقة.. هو نسخ رذائل، وحماقات الإنسان، والعمل على تصحيحها، وتغيير مسارها .... المسرح هو إبراز للعقائد، والتقاليد البشرية، وتقييمها على ميزان المبادئ.. المسرح ينظر إلى الكلام على أنه سحر، ويعمل على تقسيم اللغة، وتوزيعها في الفضاء توزيعًا إيجابيًا ... عرفت إذن لماذا قال أنتونان آرثو إن المسرح هو اللامنتظر الموضوعي؛ فالمسرح بحق يقلب كل تصوراتنا رأسًا على عقب، ويوحي إلينا بمغناطيسية الصور الملتهبة، ويؤثر فينا في النهاية على غرار علاج نفسي لن ننسى مرورنا به أبدًا.
كانت المسرحية المعروضة في ذلك الوقت هي مسرحية "زوج مثالي" لأوسكار وايلد. قالت ميرفت لليزا قبل رفع الستار:
- لم أقرأ من قبل هذه المسرحية، ولم يسبق لي مشاهدتها إلا انني أعتقد أنها عمل رائع.
- إن كل ما يكتبه أوسكار وايلد ساحر خلاب، هو عقل أكثر من واعٍ، وفنان أكثر من مبدع.
- من أين أتاك عنه كل ذلك؟
- لقد قرأت له من قبل "لوسالوميه"، و"امرأة بلا أهمية"، وبعض مقتطفات من "صورة دريان جراي"
وما إن انتهت ليزا من كلامها حتى بدأ العرض، وقد شعرت ميرفت لتوها بالخيلاء، وأخذت ليزا تتجشم المتابعة في عناء ملحوظ.
كانت الأفكار تتابع في براعة نادرة، وبطريقة تستوجب الانبهار؛ فقد أحسن هذا المؤلف التعبير عن أفكاره. ظلت میرفت، وحتى منتصف المسرحية في نشوى غير محسوبة غير أن إحساسها بالسعادة لم يلبث طويلا فسرعان ما تأخذت، وقد تملكها شعور خاطف بالارتباك، وبدت فزعة كفزعة القرد في الغاب حينما اكتشفت أن الزوج المثالي يطوي وراء مثاليته المصطنعة أفاك قذر، ثم همست لنفسها قائلة:
حتى المثالية تستطيع أن تغالط.. لقد أصبح كل شيء قابلًا للتحريف حتى لغة الروح ... ثم أشارت إلى ليزا التي تتابع العرض في صمت:
- انظري يا ليزا إلى هذا الصعلوك الرجيم (مشيرة إلي الزوج في المسرحية) لقد ظننته إلى آخر لحظة مثاليًا حقًا، لقد خال عليَّ سلوكه كما خال على زوجته.. يا لهذا الخداع ليس هناك رجل مثالي إلا، ويخفي وراءه فضيحة نكراء.
خرجت میرفت، وليزا من المسرح، وقد أثقلت أفكار المسرحية رأس ميرفت أيما ثقل، وبدا وجهها، وكأنه مسرح لانفعالات متضاربة بعكس ليزا التي لم يأخذها التأثر أو حتى الكلف بهذه الأفكار؛ لاعتقادها بأنها أمور مألوفة، ويبدو أن مطالعتها للمسرحية قبل رؤيتها قد ضبطت انفعالها
وهنا قالت ميرفت، وقد تملكها السخط:
- لا.. لن أهيم حبًا، وولعًا برجل مثالي.. فالمثالية جحيم.. المثالية هيستريا.. مرض نفسي ... لقد تسترت المثالية على دجال، وأظهرته في خيال زوجته نبيًا، يبدو أن المؤلف قد ضحك ضحكة ساخرة حينما انتهى من كتابته سطور هذه المسرحية التي أراد أن يسخر فيها من قدرة طبيعتنا نحن البشر على الخداع، والمناورة كما أنه رسم صورة ساخرة، ومشوهة للمرأة بافتراضه إياها كائنًا يحتوي في تكوينه الفطري على سذاجات مقنعة، وعلى أية حال فإنني أشكر أوسكار وايلد؛ فلولاه لظننت كل أفاق قديسًا، وكل شیطان ملاكًا موقرًا.
عندئذ أخذت ميرفت تستعيد في ذاكرتها كلمات آرتو "المسرح يقلب كل تصوراتنا رأسًا على عقب، ويوحي إلينا بمغناطيسية الصور الملتهبة، ويؤثر فينا في النهاية على غرار علاج نفسي لن ننسى مرورنا به أبدًا".
نعم فالمسرح كان لي علاجًا نفسيًا لن أنسى مروري به أبدًا.
فأي امرأة مهما كانت قدرتها على الفكر هي بحاجة إلى المسرح؛
فالمسرح هو مسح شامل لجبلة البشر، وإيجاز للطبيعة البشرية في بضع سطور ...، وهو كذلك الوسيلة المثلى للانتفاع بالحياة، فأحداثه غاية في العمق، والدقة فبعد الذي شاهدته، وسمعته يمكنني الاعتراف بأن قلبي أصبح يجد معاناة في استيعاب فكرة الحب، لقد تحايل الرجل، وخدعنا جميعًا باسم المثالية.. فالخداع هو الأكثر شهرة في الحياة من كل العواطف، أما المبادئ فهي محض خرافة عند البعض، ومحض ذكرى عند البعض الآخر، والحب خدعة مادام كل زوج مثالي ماهر في الخداع، ومحيط علمًا بأساليب الالتواء، وفنون التمويه "في أسف" لن أركض بعد الآن وراء مثالية هي الزيف عينه، وسأهجر عجرفة مشاعري هجرًا مادام كل شيء قابل للتقليد، والمحاكاة فينبغي أن يكون الزوج المثالي غير مثالي لكي يقاوم إرادة الحب فيه، أرايت يا ليزا إلى أي مدى يمكن أن يخلق الغش دونما عناءً أو كللًا؟ فالغش، والنفاق أساليب خفيفة الظل، وقابلة للتسرب في غير جهد، أما المبادئ فهي طنين أجوف ليس له أي معالم تدل عليه، كما أنه ليس هناك حتى الآن ثمة براهين تثبتها المبادئ القابلة للتقليد، والتزييف يجب القضاء عليها، ورفضها رفضًا مبرمًا؛ لأنه ليس هناك مبدأ مكرر.
"أستطيع الآن أن أجزم بأنه لا شيء ينفع سوى الصدق؛ فهو كلمات لا تسمع، ولكنها تحس؛ فالصدق لا يمكن اختراعه أو تصنعه، كما أنه لا يمكن تكذيبه؛ فالصدق يا ليزا كلمات لا تنطقها شفاه، ولا تتدخل في نظمها لغة، والإنسان الصادق حتمًا سيجد صدقه أثر السحر في قلوب مستمعيه.
ولكنني لا أنفي أن النفاق أكثر رواجًا إلا أن نفاق المشاعر مما يخزي، والإنسان الذي يوظف أعظم معانيه في مهمات حقيرة لا شك أنه إنسان بلا معني، فإسقاط المشاعر في درك الكذب عمل غير لائق، وسلوك مستهجن فوق أنه وسيلة بربرية في استخدام المشاعر، فادعاء الحب أسوأ من الكراهية؛ ذلك أن الكراهية إحساس واضح، أما ادعاء الحب فهو سلوك غير أخلاقي.
الحب ليس موقف يقتضي اللباقة، وإبرام الكلمات، بل إنه مما يخص القلب، الحب يا ليزا طبع عاطفي يطغى على كل الطباع، فليس من الحب ادعاؤه، كما أنه ليس من الأخلاق تزييفها.
الأخلاق لا تستورد، وكذلك الحب لا يمكن استيراده أو ترشيده أو إحباط مهامه، الحب تصرف غاية في العقلية، والقلبية، وهو عمل حكيم، ومدبر تدبير روحي رغم خلوه من مهام الإرادة التي نعرفها؛ فهو يستعصي عليها فالحكمة والتدبير أعمال تتعلق بالإرادة إلا في الحب فهو تصرف بعيد كل البعد عن أعمال الإرادة، فلا تستطيع الإرادة خلق الحب، كما أنها لا تستطيع تغييره؛ لذا صارت أطماع المحب في الكراهية أمرًا مستعصيًا، ومستحيلاً.
إن مشاعري مجللة بالعار، وطموحات قلبي باتت أمرًا مرفوضًا، لن أتعلق بأهداب الحب المتردد، ولن أركض وراء أغراض مجهولة؛ فالحب عمل غير مطمئن، کما أن انتظاره غیر مأمونة عواقبه.
(في ألم) إني أتنبأ بالأسى للحب؛ إذ إن الأسى للحب منذ الآن يلزمه.
- ميرفت إن ما حدث على المسرح لم يزد عن كونه أمرًا عارضًا؛ فلا ينبغي أن نبدد كل أفكارنا، وآمالنا، وتعلقاتنا من جراء موقف مبغض أو عمل غير صادق؛ فالحياة تعج بمظاهر النفاق الا أن هذا النفاق لم يشغل سوى حيز محدود فيها، فالمثالية إذن ليست وهم أو محض خدعة، بل هي تجاوز للواقع بكل سيئاته، إن ما يميزك يا ميرفت هو رغبتك الأكيدة في تجاوز الواقع أو محاولة تغييره، إنك تتجنين على الواقع، وهذا ما يميزك.
أما أن يشجب الإنسان مميزاته فهذا تصرف بعيد عن الوقار، كما أنه يخلو من موضوعية. ينبغي على كل امرأة أن تسلك سبلاً متطورة، وأن تفكر مليًا في امتلاك النجوم، بل وينبغي عليها كذلك أن تتمرد على خطواتها لكي تحسن السير، فأنا كما ترين أحيا حياة مرحة إلى حد بعيد، حياة تجمع بين الصخب، والهدوء إلا أنه ليست هناك امرأة عاقلة لا تفكر في حياة الصمت، والفكر التي هي محض قداسة.
وقد علت وجهها دهشة، ثم لماذا كل هذا الانبهات، والانفعال اللذين تبديهما من رؤية عمل مسرحي، وكأنك "تالي" المسئولة عن إلهام الشعراء بكتابة المسرحيات آه لو أن "تالي" موجودة بيننا الآن لتبرأت لتوها من كل ما يذل صوابها من أدب المسرح، ولخرجت من دهشتها، ولم تكن لتتعامل مع ذاتها بكل هذه القسوة، وهذا الانفعال.
- أنا أتعجب من الطبيعة الإنسانية، وهل بإمكانها ان تغالط بهذا الشكل، وهل لها أن تغالط في أمور كهذه، ومن ذا الذي شرع لها حق المغالطة ...؟
ثم عادت تتذكر ادعاءات "روبرت تشيلترن" بطل المسرحية، وقد غلبتها لوعة مضنية.
تقى أنني لم أتمكن من كشف طوايا الرجل، وحقيقته إلا بعد أن كشفت "مسز تشيفلي" عنها في مهارة، ثقي أنه قد خالت عليَّ مثاليته المصنوعة من قصور أفهامنا يا ليزا، هل صدق رهين المحبسين حينما قال:
كأن حواء التي تزوجها آدم لم تلقح بشخص أريب..
قد كثرت في الأرض جهالنا، والعاقل الحازم فينا غريب..
أما وايلد " فقد أراد من وراء فلسفته الكيدية أن يقول:
كأن آدم الذي تزوج حواء لم يلقح امرأة أريبة.
إنها ليست أفكار كيدية، وهذا ما كنت تؤمنين به، بل هي تعبير عن الطبيعة الفاسقة، ومحاكاة للخداع المحشور في الجبلة الفاسقة هذه هي جبلة المخلوقات، وطبيعتنا نحن البشر ولا أدري أهو أمر الله أم أمر الشيطان الذي نفذ فينا إلى هذا الحد؟
- لم أر من قبل فتاة يكبلها الغضب بهذه الصورة من رؤية عمل سنيمائي أو مسرحي.
لا أعرف ما إذا كانت غضبتك هذه قد افتعلها الندم، ولا أدري على وجه الدقة إذا كان هذا الندم يتعلق بفقدك أدهم أم لمعرفتك به؟!
- ليس الغضب هو ما يكبلني، ولكنه الغثيان من الطبائع البشرية الملتوية.
وهنا تذكرت ميرفت في التو كل الحماقات التي صادفتها في أطوار عمرها، تذكرت بقايا الماضي، وأشلاء الذكريات، ورأت صورة طفولتها المنكودة مرسومة في وضوح أمام ناظريها، تلك الطفولة التي جرعتها كؤوس الحرمان؛ فلقد كانت طفولتها بائسة كأقسى ما يكون البؤس، عرفت ميرفت من خلالها الويل، والشك وذاقت فيها الفاقة، والمسغبة ذلك لكفر والديها بطفولتها، وذلك بإجرامهما السافر، وإساءتهما الباهظة في حق الطفولة إجرامُا لا يغفره الطفل؛ لعدم إلمامه بالثواب، والعقاب، ولا يغفره الشاب؛ لأن الطفولة بعض من آیات عمره.
كان حريًا أن يأخذها الشك في عاطفة والديها اللذين تجهلهما، ثم الشك في عدل الرجل الفظ الذي لم يفتأ يسمعها صوت العار الذي تركه والداها وانصرفا، ثم الرجل الذي حاول تقبيلها في الفندق، وأخيرًا تذكرت المسرح، وما جناه عليها من إحساس بالكآبة، وما لبثت، وأن فاقت من كل هذه الذكريات، وهرعت إلى غرفتها تجر قدميها، وأفكارها جرًا حثيثًا متثاقلاً؛ فقد ثقل رأسها، وباتت تزعجها أي ذكرى، وسرعان ما شكت إلى ليزا من رأسها التي لا يقر له قرار.
- ليزا سامحيني؛ إن في العالم همومًا أقسى من أن يتحملها عقل امرأة أيًا كانت هذه المرأة، أريد أن أتخلص من رأسي فورًا، ما عاد في هذا الرأس المنكود فكرة واحدة لا تسبب لي الفزع، إنني أكره نفسي، وعقلي، ووجودي بهذه الطريقة السوقية المخجلة، إني أحس بنفسي ضائعة منسية في عالم ليس لي فيه مكان لقد دخلت بالتزوير، والعقوق لقانون الحياة إلى عالم حكم على بالبقاء فيه، وكان يخيل إلي أن سري الرهيب قد ترك بصماته على قسمات وجهي، وكان يكفي أن يثبت إنسان نظره علي لكي يطحنني العذاب.. آه لقد جرؤ القدر على تهديدي، وإلحاق العار بي، فقد عشت واثقة من أن الكارثة ستهوي في النهاية على رأسي، وما إن كبرت، ونضجت حتى تضاعف عذابي، ولم أكن أجرؤ على مصارحة أحد بسري، كما لم أجرؤ كذلك على أن أخفيه إلى الابد (وقد غلبها البكاء لحالها) .....
وإذا كانت ثمة قلوب رحيمة ترثي لحالي، فإحساسي المستمر بفداحة الذنب يخنق نصف رحمتها، إن التوحش يلقي بظله الكثيف على العالم المحيط بنا هل كانت هذه الآلام التي تنازعت قلب الفتاة هي ثمرة لشعورها بالسقوط في عين الآخرين فحسب أم سقوطها في عين نفسها أولاً، وأخيرًا؟، وما السقوط؟، ولماذا أخاف منه ما دمت لم أتواطأ مع والدي فيما أقدما عليه؛ فلم تكن لي يد في سقوطهما، ولم أسقط معهما لا بل أنا برهان سقوطهما، والبرهان كما تعرفين دليل مقدماته.
أنا دليل إدانتهما أنا التي أوقعتهما في الشرك، والخطايا، ثم أردفت في ذهول لا بل أنا الشرك الذي أوجداه بحماقتهما، بيد أني إنسانة واعية فكيف أصبح إذن ثمرة للحماقة.
- معذرة يا ميرفت فأنا لا أستطيع أن أتابعك في تقلباتك.
ثم أخذت ميرفت تردد مقطعًا من قصيدة شعر غاية في التشاؤم هي قصيدة الصدفة لتوماس هاردي ...
لو أن إلهًا حانقاً صاح بي من سمائه
أيها الشيء المتألم اعلم أن أساك لي غبطة،
وأن ما تخسره في حبك أربحه في بغضائي...
إذن لتجلدت لذلك، وطويت النفس عليه، ثم مت متذرعًا بالشعور بالظلم الذي لم أستأهله مستشعرًا بعض الراحة من علمي بأن كائنًا أقوى مني قد ارتضى لي هذه الدموع التي أسفحها، وقدرها على تقديراً.
، ولكن ليس الأمر كذلك فلم تتحطم السعادة، ولم تذبل خير الآمال التي نغرسها، إنه القدر الأخرق يسد الطريق على الشمس، والمطر، والدهر يلقي من نرده بعد فرحه، وما كان ضر تلك القوى المتحكمة الخرقاء لو نثرت النعم بدل الآلام في طريق حياتي.
ومضت تعلق على هذه الكلمات في كلل واضح، وشبه يأس:
-ما كان ضر تلك القوى المتحكمة الخرقاء لو نثرت النعم بدل الآلام في طريق حياتي..، وسرعان ما عادت إلى رشدها..
ولكن لماذا نتجنى على الرحمن الرحيم؟! لماذا نصدر أحكامًا واهنة من صنع عقول مخلوقة لتلقي باللائمة على الخالق؟ كيف نسوغ لهذا الفكر الباهت المتعب حرية الاحتجاج على حكمة سماوية أرادها العلي القدير؟ لنمعن التدبر في قدرنا، وسنرى أن ما قصده الله من قضائه هو سعادتنا نحن الكائنات الفانية التي لا تملك لنفسها وجودًا أو عدمًا. ثم ألا يكفيني سعادة شعوري بالتفرد عن الآخرين رغم كوني ابنة للخطايا، والوريثة الوحيدة لجرم .... " لو كان الله جائرًا لما أحال فتاة كانت في البدء نزوة، وأخرجها من حضيض المولد لتصبح حياتها ترجمة للفضيلة، لو كان الله جائرًا لما انتشلني من براثن التشرد، والفاقة، ولما رفعني من مستنقعات الاسترخاء الروحي القديمة التي تموج بالأبخرة العفنة إلى مكانة سامية بين بني البشر، إن الرب الذي يجعل من اللقطاء عظماء هو لا محالة رب عظيم لا يجري على عظمته جور "، وفي عزيمة مشوبة بالقلق " ينقصني أن أتحرر من رق مولدي ينقصني أن أخرس الشيطان الذي يجرني إلى هذه القضية ليعكر صفو سعادتي، ولكني جديرة بأن أطيح بكل مساعي هذا الشيطان اللقيط، وأن أروض الموت بكل عزم؛ فالحياة مما يغبطني مادامت هذه هي إرادة خالقي.
وقد كانت هذه هي المرة الأولى التي تعترف فيها ميرفت صراحة بأهمية الحياة، والوجود، وكان هذا الاعتراف الصوفي ثمرة لمشوار التأمل الناجح الذي بدأته هذه الفيلسوفة الصغيرة، وقد وجدت عوضًا لأحزانها المتخمة حينما فتحت قلبها على مصراعيه مناجية ربها، ومقبلة لإرادته، ولكنها تناشده وضع حدود لتلك المأساة
التي لا تعرف لها نهاية.