غادرت ميرفت المسجد مثل جذوة توشك أن تنطفئ، وعادت إلى المنزل يغمرها إحساس بأنها نالت بدعوات الشيخ كل مكافأة ترتجيها.، ولكن لا يزال الطابع المميز لجوا المنزل هو السكينة. فلعلك تشم رائحة الحداد في كل أثر. أو مختنقا وراء كل صمت. فالهدوء الرهيب هو الذي يخيم على طابع القصر.، وكأنه قصر البؤس. الذي تحدث عنه جوتيه أوديرتيليم الذي تخيله رابليه فلا تلمس هناك رفات ضحكة أو بصمات ابتسام، فالحداد هو الطابع الذي يميز القصر الذي تسكنه ميرفت، والقلب الذي يسكنها فما كانت ترى ميرفت إلا مرتدية سلابًا
. تقرأ القرآن، وما كانت تترك المصحف إلا لتجلس تفكر في أمها مستعيدة شفقتها التي توارت، واندثرت في جوف الثرى إلى غير رجعة. أما ليزا فكانت دائمًا ما تدلف إلى ميرفت في غرفتها كي تواسيها، وهي إذ تواسيها كانت تلتمس من حزنها على أحزانها عزاء، وعلى الرغم من أن ليزا كانت بعد شهرين من موت أمها تقضي حياتها بصورة أقرب إلى ما كانت عليه طبيعتها قبل فقد أمها .
فإن ميرفت كانت أشبه بالصوفية في مواجيدهم. فانقطعت عن بريق الدنيا، وزخرفها، وانطوت على نفسها مكرسة حياتها للعبادة، والذكر لا تعطي أذنًا لأحد، تقرأ القرآن ليل نهار؛ عملاً بنصائح الشيخ التي غزت عقلها في صميمه.
، وكادت تفقد لذة الإحساس بالزمن، والموجودات لفرط تصوفها، وانقطاعها عن الأحياء لولا الجرائد التي كانت تطالعها كل صباح. ثم إذا ما فرغت منها انطوت على نفسها ثانية في غرفتها التي خصصتها للعبادة، وأداء الشعائر التي وجدت فيها العزاء، والسلوى، وما كانت لتتحدث مع خطيبها الذي كان يتردد عليها من آن لآخر إلا بكلمات مقتضبة، وغير دنيوية؛ مما جعله يعترف بفداحة الفاجعة التي حاقت بها فما كان ليشجب نزوعها الديني. أو تطرفها في الآسى، والحزن، استمرت على عكوفها، وانصرافها عن الدنيا قرابة عام. كانت فيه مثالاً للزاهدة المتصوفة، وما إن انقضى عام على رقود أمها في جوف الثرى حتى استأنفت ميرفت حياتها الطبيعة، وتمت دخلتها على الأستاذ هشام الذي قرر الزواج بالخارج، وذلك لما عرف من ميرفت عدم النية على استئناف التعليم، والاكتفاء بالزواج.
، وهنا تمسك عدلي بزواج ميرفت في القصر معه متعللاً بأن القصر أصبح رحبًا، وموحشًا عليه بعد وفاة زوجته. كما أنه لا بد من تواجد ميرفت إلى جوار ليزا..
، ولم يبد الأستاذ هشام ثمة رفضًا أو امتناعًا، كما رحبت ميرفت بالفكرة؛ فوجودها بين آثار أمها، ومع أختها مما يبعث الحبور.
وبالفعل تزوجت ميرفت في القصر. انقضت أول ثلاثة أعوام من زواجها أيام سعيدة لا يعكر صفوها ماض أو حزن أنجبت فيها طفلاً جميلاً أسمته " عمر، و" كان رأسها لا يكف عن الدوران من فرط الابتهاج بمولده. استيقظت فيها إرادة الحياة التي لبثت طويلاً.
كانت تهدهد وليدها الراقد في لفافته.، وهي تنتعش من الفرح.، وكأنها تتحدى شيئًا يؤنبها قائلة إذا كنت ابنة حرام فها أنا قد وضعت حلالاً. إذا كنـت ابنة رجس. فأنا أم عفيفة أنجبت طهارة، إذا كنت ابنة لا تعرف عن آبائها شيئًا فها أنا أم يعرفها ابنها. أيتها السماء لقد نسيت أحزاني إنك لم تجحديني في أي وقت مضى. " ثم التفتت تحدث طفلها، وكأنها تتوسل به " لا تكن عاقًا؛ فالعقوق مما يؤلم قلوب الآباء. فلا تغادر أمك كما غادرها آباؤها. لا تكن قاسيًا فأنا لا أحب قساة القلوب، أفظاظ الأكباد فلعلك تكون الرحمة المهداة ".
کشفت میرفت بعد مولد ابنها عن نفسها كأم؛ فالتدليل، والملاطفة، ودفء المشاعر، والأحضان الملتاعة المحمومة التي حرمت منها قد غمرت فيها ابنها، كانت تشاركه في ضحكه، وبكائه، وكأن بها تبرهن على أن فاقد الشيء هو وحده القادر على إعطائه.
قضت ميرفت إلى جوار ابنها أنعم أيامها، كانت تحتضنه بلهفة المحرومة متمنية أن تعيده ثانية إلى أحشائها! فلا يراه أحد غيرها ولا يسمع حلو بكائه إلا قلبها، كانت تخشى من أن تفقده، وحق لها أن تخشى لقد داعبته ذات يوم بأطراف أصبعها حتى قال على مراحل ما .. ما ..، وإذا بها، وقد تذكرت كلمات أمها حينما قالت " في كلمة ماما التي ينطق بها إليك وحدك ابنك هذه الكلمة المقصودة قادرة على أن تردم الماضي إلى أبد الآباد بعيدًا عن الذاكرة، ومتعلقاتها ".، وقد كان مجيء هذا الطفل في موعده حيث سد عليها منافذ الأحزان.، ومنافذ الماضي بكل سيئاته ..، وصار لعمرها ماض، وحاضر، ومستقبل من أجل ذلك منحها الله قلب أم قلما وجد له نظير، أو ند في كل العصور، ففي الوقت الذي استدعي فيه الله روح أمها كان يعد لها ابنًا آخر، ولكن من دمها، ولحمها ليكون عوضًا عن الأم التي فاتتها، وما إن كان الطفل يحبو ذات يوم حتى استأثر بإعجاب الأم، وإذا به يلتفظ كتابًا صغيرًا موضوعًا على كرسى منخفض، وهنا ضمته الأم بين أحضانها، وهي تهمس في أذنه همسات آسفة، وهي تقول " لقد حرمتني الظروف العصيبة من إكمال تعليمي حتى منتهاه، كانت طموحاتي أرقى من الشهب، وأروع من ناطحات السحاب، كنت أطمح، وأنا في عنفوان الشباب أن أستأثر بزرقة السماء، وأن أحاكي النجوم في تألقها، وعليائها، ولكن نجحت الظروف المعاكسة أن تجرف طموحي، وتعبث بأحلامي، ولكنها لم تستطع وأد طموحي فسأودع فيك شرارت طموحي. سأجعلك تتفصد بشرارات الطموح كالحديد المتوهج. سأصنع منك نابغة عظيمًا.، وسأراعيك بدمي ..، وكلي ثقة في وجه الله أن تصير ابنً بارًا بوالديك ".، وما إن أنهت الام حديثها لوليدها حتى التفتت لتقرأ اسم الكتاب الذي أمسك به الطفل، فإذا به رواية ( اللقيطة ) لمحمد عبد الحليم، وهنا دهشت الأم، وتأخذت، وأنشأت تقول في قلق. يبدو أنك ستجرف في تاريخي إن آجلا أو عاجلا، ولكن لا بأس فلا زلت عند ظني بك من أنك ستصير ابنًا بارًا بأمك قبل أبيك ".
إلا أنه، وبعد انقضاء ثلاثة أعوام على زواج ميرفت عندما أصبح عمر وليدها عامين، ونصف كانت المفاجأة، وذلك عندما شاهد عدلي الطفــل يمشي أمامه استشاط غيظًا، وأخذ يصر على أسنانه صريرًا مرعبًا، وهو يتطلع إلى الطفل بنظرات وحش كاسر.
حيث قرر أن يوظف غيرته في تعكير جو السعادة الذي خيم على ميرفت، وزوجها، وطفلها، وإذا به يقول بصوت ينذر بالشر " يجب أن تكون معاناتها، وهي أم.
" يقصد ميرفت " بالمثل كمعاناتها، وهي عذراء لا بد، وأن يبقى إحساسها بالذنب على ثباته دون تغيير، وإذا كان مما يؤسفها أن لا يكون لها آباء فمما يؤسفني أن يكون لها زوج، وابن، من أجل هذا سأفعل أمورًا لا أدري بعد ما هي، ولكنها ستكون رعب الدنيا كلها! "
أما ما هي الأمور التي فكر فيها هذا الحقير؛ فهي أن يكاشف زوجها بحقيقة مولدها، وأصل منبتها، وبالفعل أقدم الرجل على هذا التصرف المريض، وما إن كاشف " هشام " بحقيقة زوجته، حتى صدم الرجل، ولم يصدق، وانتابه الذهول الشديد فكيف له أن يصدق ما يسمعه عن ميرفت من الرجل الذي ظنه إلى آخر لحظة أبًا لها، وإذا بهشام يهرع إلى ميرفت ليتبين منها مواضع الصواب في كلام أبيها، وما إن أخذ الزوج يسألها عن حقيقتها حتى اسود وجهها.، وشحب لونها.
-، وقالت نعم أنا زوجة لقيطة.، وأم لقيطة ثم نظرت إلى عدلي، وقالت إن هذا التصرف ينطوي على بشاعة في عقلك، وقلبك. لقد أعماك الحقد، والجشع عن سبيل الخير، أكثر مما يعمي الأطفال ضعف حداثة عمرهم، إن في طبعك أيها القذر، نواقص متأصلة ... فأنت لن تبلغ من وراء مسلكك هذا سوى تحطيمي. ثق أن الطبيعة سوف تغير سنتها، وتعذبك بدلاً مني كما حذرتك من ذلك أمي .
- أما هشام فقد أنشأ يقول لعدلي أمامها كيف لكم أن توافقوا على خداعي بهذا الشكل؟! كيف لي أن أتزوج من إنسانة من زبانية الشر، وخلاصة الرجس.
ثم أخذ يكيل الاتهامات العريضة لميرفت مشككًا في فضيلتها، وشرفها. راميًا إياها بالخيانة، والفجور.، وهو يقول. أغلب الظن أن تكوني فعلت بابني كما فعل آباؤك بك؛ فجمعت ثمرته من تلقيحات عدة، تبًا لك من خائنة.
ظلت میرفت تستمع إلى اتهامات هشام لها مولهة العقل شاردة الخاطر، وقد ارتد وجهها شاحبًا، وبدت اتهاماته لها طعنات من الخناجر لا تملك لها دفعًا، وأخذت ترغي، وتزبد من إهانة تستحق مسخ الوجود، وأخذت تقسم مغلظ الأقسام بأنها طاهرة. انصرف هشام دون أن يعير دفاعها اهتمامًا.
- التفتت ميرفت تحدث عدلي بلهجة سامية مترفعة، وهي تفظ غيظا، وقد انتفخت أوداجها بالحمرة.، وصار الشر وحده هو الذي يسيطر على انفعالها، وقالت:
لقد جرحت شعوري كأقسى ما يكون الجرح عمقًا، ونفاذًا، وأشعت في صميمي الرغبة لاحتقارك، لقد أعنت عليّ الألم، والسهد، والماضي، ولم ترحم وحدتي يومًا، ولم ترحم الطفل الصغير، لا أدرى لماذا تقودك المكائد إلى تحطيمي؟ لا أعرف لماذا توسوس لك نفسك دائمًا بتشريدي؟ ألم تأخذك الشفقة بابني؟ لماذا أعلنت على طفولته الحرب. هل براءة الأطفال يمكنها أن تصمد لمبارزتك؟! لماذا اخترت لابنى الشقاء كما اخترته لي من قبل؟! لقد عددت الطهارة لونًا من الخيانة، ووصمت امرأة عفيفة بغير حق. إنك كالجرذان اللئيمة التي تكرس وقتها لقرض الروابط المقدسة التي هي أمتن من أن تحل. ثق أن الله سوف يغير سنته، ويذلك، وسترى الإذلال في حينه .
كان الرجل يستمع لكلماتها، ووجهه مملوء بالحيوية الشديدة، يحمل رسم الصراحة، والبلادة التي تخفي الشجاعة البالغة، إنه التعبير الذي لك أن تتصوره مرسومًا على وجه ريتشارد الأول قبل أن يمضي إلى حربه الصليبية. فلم تستطع انفعالاتها أن تذيب فيه التشامخ أو تفتت عزته المتطرفة.
- بل أنشأ يقول هل تريني يا ميرفت فقدت صوابي، ونطقت بمهاترات صبيانية ألم تكن هي الحقيقة؟! أليس كل ما تفوه به لساني هو عين الصدق؟!
قال هذا متعمدا أن يلقي دعابة على تلك الكلمات العنيفة.
لقد ضاقت میرفت ذرعا بتلك الأنياب السامة. أنياب الحقد التي تعض في قلبها الشريف. فهذا التآمر، وهذه المصائب الثقيلة كفيلان بإفساد أفضل الشمائل في الوجود.، وإذا بها تنهر الرجل نهرًا أيقظه من لا مبالاته، وجموده، ولكنه لم يحرك فيه الشفقة قيد أنملة. ثم أخذت قواها تتدافع في تحفز من أثر الاهانة.
- وأردفت تقول يا لك من ندل، أحط من الكلاب فهمًا، ومن الوحوش طبعًا، أيها السوقي الرجيم ثم بصقت على وجهه بصقة أشعلت ثورته، وغيظه، وأصابت في نفسه مواضع الأذى.، ولكنها رغم ذلك ملأته إحساسًا بالندم، والحيرة، وجعلته يعيد النظر في مكائده، وإذا به يعترف لنفسه بأن هذه المرأة التي هي أكثر طهارة من حوريات الجنة ما كانت لتستحق منه كل هذا التحامل، ولكن ندمه الصامت السريع لم يكن قادرًا على إصلاح ما أفسدته أحقاده، ومكائده، ولم تكد تمر ثلاثة أيام على هذه الحادثة حتى أرسل " هشام " لميرفت وثيقة طلاقها.
، وما إن تسلمت الوثيقة حتى احتدت، وصاحت، وأخذت تصر على أسنانها لتمنع نفسها من البكاء، ولكنها لم تستطع أن تحبس دموعها فبكت بكاءً حارًا سخينًا، لقد بلغ بها التأثر لفقد زوجها حدًا لم يسمح للغضب أن يتملكها، ولكنها وقفت برهة ترغى، وتزبد، وإذا بها، وقد جمعت ملابسها، ومتاعها في حقيبة كبيرة.
، وحملت ابنها بين ذراعيها ذاهبة به إلى عزبتها في الريف؛ لتنكفئ هناك على تربيته، وتعليمه، ولكن قبل أن تغادر القصر قبلت ليزا التي وقفت منهارة مولهة العقل لا تستوعب كل النكبات التي تكابدها میرفت وحدها.
ثم توجهت ميرفت ببصرها إلى " عدلي "، وأنشأت تقول له. لقد اخترت لي العذاب، والوحدة، واخترت لابني المصير المجهول، أنت الذي لم تفتأ تضطهدني لأني لقيطة، وصمت ابني بما شجبته في. لن أسترحمك؛ لأنك قلب لا يفهم الرحمة تركتك لله.، ولن يسئ الله فهمك. كما أسأت فهمي، ثق بحق عذابي، وغربتى أن غضب الله آت ليلتهمك، سيعذبك الله بكل ما لديه مـن عذاب، سيمطر عليك سخطه الذي لن تستطيع له صدًا؛ إن روحي التي شردتها لن يقبضها الله قبل أن يمتعها لذة الشماتة فيك، وأنت جثة بين الأحياء، حتى الموت لن يزود عن حياضك، سأخترع لك عذاب الضمير، وأنت نزيل القبر بحق السموم التي زرعتها في وجودي.
ثم وجهت حديثها إلى ليزا التي وقفت تقظ غضبًا:
- إني هاربة يا ليزا من ظلم أبيك، واضطهاده غير نادمة على شئ عداك. إنى راحلة، وأنا أشعر بالنار في السويداء من قلبي.
قالت هذا، وهي تغلي لفرط إحساسها بالخزي لما نالها، ثم غادرت القصر في طريقها إلى الريف؛ لتقضي هناك بقية عمرها مع طفلها.
هذا في الوقت الذي تركت " ليزا " المنزل لأبيها قائلة:
- إذا كانت ميرفت قد زج بها إلى الوجود بغير أب متجردة من النسب، وأواصر الرحم. إذا كان آباؤها قد تبرءوا منها. فسأكون أنا الابنة التي تتبرأ من أبيها. فأنا لست فخورة بانتمائي لك.
لقد سمحت لنفسك بتخريب منزل كان لا بد له أن يظل عامرًا. لأجل ميرفت التي عانت من الالام أكثر مما ينبغي. ثم ذهبت لتقيم عند خالتها " كوثر " بعيدًا عن هذا الأب الجائر، وقد تستقر بها المقام هناك، أما ميرفت فراحت تعيش في الريف النائي عن الحضر حيث يسود هناك الاعتقاد بالقضاء، والقدر، ولكنها صارت في ريفها وحيدة هم، وطريدة غربة تتمنى المتناقضات في آن واحد أن تموت، وأن تعيش إلى جوار ابنها، والطبيعة، أهو العقاب، والتكفير عن ذنوب لم تقترفها يداها. أم أنها عثرات الحظ، ودوراته الباغية؟ فملائكة السماء مهما بلغ تفاؤلها وسعة صدرها. لو وقع عليها القدر كل دروب المأساة، والعذاب لأصابها الإحباط، والخيبة، ولهجرت السماء إلى غير عودة، أما ميرفت فلم تكن سوى إنسانة غير أن تجلدها على البلى، والشقاء جعلها أكثر انتماءً للملائكة منها إلى المخلوقات الفانية.
لقد تغير في الريف كل شئ أمام ناظريها. فبدت الطبيعة كأنها منفى محكوم عليها بالعيش فيه، كما بدت السماء موحشة لا لون لها، ولا بريق كالورد على جسد رجل يموت جوعًا؛ فأمست أكثر عتمة، واحلولاكًا، وأكثر ترويعًا. أما السحب التي كانت من قبل رائعة أخذت تتحرك حركات غير محسوبة كالأبله الذي يسير بغير عقل، فالجمال صار، وكأنه يلفظ النفس الأخير مودعًا الحقول، والحياة.، والنهار ظهر، وكأنه يشكو نزعُا عميقًا؛ ففداحة الخطب أفقدتها لذة الإحساس بالجمال أو الطبيعة التي كم عشقتها من قبل، وبدت لها حياة الريف في أول الأمر حياة غريبة، ومعقدة رغم بساطتها. إلا أنها سرعان ما ألفت الحياة هناك مستعينة بخادمة ريفية تجاورها لمساعدتها في شئون الضيعة، كما أنها استعانت بالمؤلفات الأدبية لتيشخوف، وزولا لتضفي على طابعها الإحساس بالبداوة، وكأن بها " حواء " تعيش بمفردها في الطبيعة لا تدري عن أفكار المدينة شيئًا، لقد أقامت ميرفت هناك في بيت متواضع بعيدًا عن أسباب الفخامة، والرياش أن جو الريف قد حذقها العبادة، والتأملات السامية، كما علمتها الحياة هناك البساطة، وإزالة الكلفة، وصارت تضمر الغيظ للأسر الأرستقراطية.، وباتت ترى أن الصعود إلى مستواهم هو محض تردي، وإذا تحدثت عن المدينة كانت كلماتها كالشهب الراصدة تتساقط من علياء السماء لتحرق القصور، وتضيء العشش، والأكواخ؛ فلم تعد تهضم الأسر العريقة، وحق لها ذلك، وليس لها ثمة ما تفخر به سوى ابنها، والطبيعة، فقد جعل هذا الطفل سنين عذابها الطويلة سائغة للذكرى؛ فكانت تهدهده بصوت خافت، تجري أنفاسها المداعبة على جبهته فتمنحه الأمان، كانت تقوم هناك بتربية الأبقار، ورعايتها، كما تعلمت إمساك ضرع البقرة، وإخراج ما به من لبن، كما كانت تنتزع القشدة بأصابعها من قدور اللبن، وتطعمها لصغيرها، وأتقنت صناعة الجبن. كل هذا قد تم في أيام قصيرة، وذلك بفضل ذكائها، وألمعيتها، وإحساسها الفطري بالحياة البسيطة، وسرعان ما تمرست حياة الريف، واستطاعت أن تكسب ود الفلاحين، والفلاحات، وكانت تحنو على صغارهم، وتعاملهم جميعًا كما لو كانوا أبناءها، وأخواتها، كانت ذات كرم حاتمي؛ مما جعل سيرتها عبقة على كل الألسنة.
، ومرت الأيام، وسرعان ما كبر ابنها، وأصبح في السنة السادسة من التعليم الابتدائي. كان دائمًا ما يسأل أمه هذا السؤال الذي ما كانت لتجيب عليه دون أن تنحاز للكذب، وهو أين بابا؟ أنا لم أره. أكاد أحس بنقص فأين بابا؟
كانت الأم تلجأ للمراوغة، فليس أمامها سوى اختلاق جواب، فلا بأس من أن تنحاز للكذب إذا كانت الصراحة قد تؤذي لديها آخر أمل، وهو ابنها الذي لم تعد تعرف أحدًا سواه ولا تعيش لكائن عداه.
- فإذا بها تقول بابا في إعارة بدولة الإمارات، وهو عائد قريبًا لا محالة؛ لأنه يحبك كثيرًا. لقد ذهب يحصد لنا ثروة تكفل لنا أن نعيش في أضواء المدينة بعيدًا عن رتابة الريف، ثم هرعت تأتي لأبنها بخطاب كانت قد أعدته من ذي قبل استعدادًا لمثل هذه الأسئلة. ثم مدت يدها تعطي الخطاب لابنها قائلة اقرأ ماذا يقول بابا في خطابه
:- -، وإذا به يقرأ قائلاً
- " أي حبيبتي، ويا قرة عيني، ويا زوجتي، وأم ابني الذي أحبه كثيرًا اعلمي أننى ما تركت مصر إلا من أجل أن أجمع لك ثروة لا يتسرب معها قلق إلى استقرارنا؛ كي تتمكني من تحقيق جميع رغائبك مهما كانت مكلفة، فأنت لا تستطيعين، وأنا لا أستطيع أن نتخلى عن لذات الحياة التي نحياها. إلي الأعمال، وإليكما المسرات، إلي الغربة، وإليكما السعادة. فلتحققي جميع رغبات عمر، ومهما كانت باهظة الثمن، أما أنا أيتها الفكرة الأبدية الغالية فسواء حين أكون مغتربًا أعمل من أجل كلينا، وأواجه صعابًا يجب مغالبتها. أم حين أكون مضنىً أستريح في مداعبة آمال العودة، فإني سأفكر فيك، وفي عمر، والذي أشتاق لرؤيته كثيرًا، والذي هو حياتي الجميلة ".
- اطمأنت نفس عمر، وسكنت حيرته بعدما قرأ هذا الخطاب؛ فقد حرصت الأم على أن تجعل كل شيء يتواتر إلى ذهن " عمر" بصورة منظمة، وكان من الممكن أن تحكي له سيرتها، وحقيقتها، وحقيقة الظروف المتشابكة، التي رسمت لها هذا الطريق؛ كي تتخذه نصيرًا في محنتها.، وبلسمًا يطفئ غضبها، ولكنها لم تشأ أن تغمسه في مثل هذه الأمور المعقدة إلى أقصى حد؛ لأن ذهنه لا يتسع لفهم هذه التجربة، وقد يسيء فهمها أو يسؤوه فهمها. فأفضل له أن يلهو، ويلعب مثل أقرانه؛ لذلك كانت تعمل على تسليته، وملء حياته بمظاهر البهجة، وكثيرًا ما كانت ترسم له على صفحات الورق صورًا مسلية لتسأله عن كنهها، كما كانت تكتب له على لحاء أشجار "البلوط"، و"الزيزفون" كلمات مثل " حب الله الواحد الأحد ..، والإبقاء على الدين، والعبادات، والحياة من أجل الأخلاقيات، والفضائل "، وعلى كل أم تريد أن تربي جيلاً أن تكتب لصغارها. اسم الله على لحاء الشجر لتعلمـهم الإيمان. بالحجة الدامغة، ثم إذا هي انتهت من وعظ صغيرها أخذته مـن يده، وانسلت كالقطة بين لفائف الزهور تتلون يداها، وجلبابها بلعاب الحشرات، وأحلاب النبات، تنكسر القواقع تحت قدميها.، ويرف سفير الشجر تحت أقدامهما، وتخضب ذراعيهما آفات الزرع التي تبدو على جذوع الشجر. ثم تعبر الطريق الرملي الطويل المتجه صوب البيت، حتى إذا دخل المساء احتضنت ابنها، وأخلدت لنوم عميق، وكثيرًا ما كانت تسمع، وهي مغفلة عينيها عويل الرياح، ورطوبة الحديقة، ونباح الكلاب الضالة الذي يفيض من الظلام مجلجلاً كالأجراس .. كانت تعلق على ما بالحديقة من رطوبة قائلة : إن هذه الرطوبة إنما هي بكاء الحديقة لما آل إليه مصيري من شؤم، ثم تفسر نباح الكلاب، وعويل الرياح بأن الطبيعة تضيق ببكمها فتعهد إلى عويل الرياح، ولولولة حيوان وفي للتعبير عن آلامها.
ثم ترسل ببصرها تراقب الرياح المتمـردة، وبزوغ نجم القمر، وفي تلك الأثناء تتضاءل أمامها مأساة وجودها إلى أضأل ما ترى، فها هي الآن أم وفقط. كما أن ابنها ينمو، ويترعرع تحت سمعها، وبصرها، وإن كان أبوه قد أهمله، وتبرأ منه، ومنها فالأيام قادرة على وضع الحقائق في نصابها الصحيح .
لقد مرت عشرة أعوام قضتها ميرفت مع ابنها في الريف لم تحفل بأية أحداث كبرى. لقد أصبح الآن عمر ابنها ثلاثة عشر عامًا، وإذا بالأب الذي تنكر له طفلاً يعود الآن من غربته الطويلة التي قضاها معارًا بالخارج. يعود ليسأل عن ميرفت، وابنها فيعرف من " عدلي " أنهما يعيشان في ضيعتهما بالريف فيشد الرحال إليهما، وهو مكفهر عابث ينطوي على شر لعين. يحمل بين جوارحه ثأرًا، وانتقامًا. لا شوقا، وإحسانًا، وما إن رأته ميرفت التي كانت جالسة تنظم شؤون الضيعة. حتى قطب جبينها، وغمر وجهها حمرة القلق ارتباكًا، وسرورًا معًا.
- وأشارت إلى عمر، والذي كان واقفًا بالقرب من دراجته. قائلة: "ها هو أبوك يا عمر".
-، وإذا بالأب، وقد تلكأ حنينه. فلم يكن سريعًا نافذًا، وبدت عواطفه متلعثمة في الوقت الذي كان فيه الابن يغالب مشاعره متربصًا بما سيكشف عنه الموقف.
- وما كان منه إلا أن كتم فرحة ابنه المتربصة بقوله أنا لست أباه كما تدعين (موجهًا حديثه للابن) نعم أنا لست أباك.
- وقفت میرفت مولهة العقل. تكاد تتهاوى من الهول؛ فيا له من مشهد فاجع مثير فقد اختطف لونها فجأة، ووقفت ساهمة لبرهة ثم أنشأت تقول هذا ابنك.
. -، ولكني لا أشعر بإحساس محدد حياله
- تبًا لسوء فهمك. إن شيئًا فيك نام، وحان الوقت لإيقاظه. "، وقد اتسعت عيناها، واتقدت " إن ابني أكثر طهارة مني.
. - لا تنسي أنك متهمة في طهارتك. فدللي بشئ آخر
- إني امرأة عفيفة هذا اعتقادي في ذاتي، وإذا كان الإنسان يتهم بطهارته .
في هذه الحالة سيصبح الاتهام عليّ، وابني عادلاً. لقد عددت الطهارة لونًا من الخيانة، ووصمت زوجتك العفيفة بالتبذل بغير حق، ودون بينة، إني لا أطمع في شئ سوى أن تراجع الفكر، وتتفهم المشكلة على حقيقتها. لقد خانك الفهم لشرفي، فلا زالت آثار اتهامك مما أنطوي عليه، وأكابد، فالطعنة التي سددتها برحيلك لم تشف بعد.
-، وهنا هب الابن يسأل، وهو يرسل نظرات حادة في كل من أبيه، وأمه حدثوني يا آبائي ابن من أكون؟
-، وإذا بالآب يقول في إيجاز، واقتضاب " ابن حرام "، لقد ارتكبت أمك فرية شنيعة لا يسعني أن أجعلك بها جاهلاً أبدًا، وددت لو أرويها لك همسًا؛ كي لا تصل إلى مسمع الهواء، ولكن البذاء شـيء ذائع الصيت. لا يستتر صيته أبدًا، ما كنت أستطيع مصارحتك بالحقيقة أو الكذب عليك؛ ففي الحالتين ثمة وزر يغشاني الإحساس به "
ثم ارتفع صوته قليلاً عن ذي قبل:
" أنت يا عمر ابن حرام، وقد أشار إلى الأم التي وقفـت ساهمة مذهولة " ابن امرأة نكرة، هل تجد لذة لان تصبح ابنًا لنكرة، امرأة سيئة السمعة، الشائعات تحوم حولها؛ لذلك فرت من الناس، وكأنها هاربة من قصاص، هربت إلى الريف لتكفر فيه عن جريمتها. جريمتها التي تركت آثارها على عظامی، وشرفي إنها الجريمة التي أنجبتك، والعار المؤبد الذي زف مولدك.
العار الذي جاء بك إلي الوجود، وسيظل ملتصقًا بك ما دمت حيًا، لقد تركت لك العار، ولي الفضيحة فقد دست في وجودك العار كي يؤاخذك الناس به، فلماذا لم ترحل، وتترك هذه الإبليسة تقرض وجودها، وتمحو عارها (، وقد زادت حدته ) أمك عققتك، وذلك بأن تركت لك ميراثًا من الخطايا .. ذنوب باسمك فهيا شق عليها عصا الطاعة، وأعلن تمردك، حرض الموت عليها أو توسل به. لتغسل العار الذي لن يمحى إلا إذا غسلته محيطات من النار الهوجاء.
- أما ميرفت فوقفت تستمع إلى هذه الكلمات، وهي صديعة القلب.، واستحالت مشاعرها المتراخية إلى عصبية، واشمئزاز، وأخذت تصيح بصوت مرتفع اهتزت له الجدران. ثم أمسكت يدها بحنجرة الرجل تريد قتله، فهي تنتحب، وتتشنج في تأوهات ضارية ثكلى كمن تلقى طعنة مميتة في أغوار قلبه، وقد غلبتها موجة من الأنين المكتوم، فتساقطت سحابة مليئة بالدموع من عينيها فخضل البكاء وجنتيها.
-، وإذا بها تقول بصرخة مسموعة " كفى لقد تجاوزت بإهاناتك لي كل حد، فيجب أن تخجل من نفسك إذ تظن بي هذا الظن "، وهي تستحثه " لا تمضي في عنادك بحق طفلنا البريء، وإذا بها تقسم بكل مقدسات الوجود إنها طاهرة لا غبار على شرفها.
- وهنا ابتسم الزوج ساخرًا، وهو يقول المومسات يتحدثن عن المقدسات، وكأنها لعب أطفال.
-، وإذ تسترسل في البكاء لم تشفع دموعها الغزيرة عند الابن الذي أصبح طعامًا لغضب أبيه المخدوع فأنشأ يزدريها بصوت هادر مجلجل قائلاً :
- أنا الذي يستخف بالعصاة، ويتوعدهم بلعنته، وازدرائه، لازلت لا أعرف من أي الأرحام قدمت، ومن أى المعادن نفيسة أكانت أم خبيثة تقومت، لازال يلتبس علي وجودي، وسر نشأتي، وميلادي. "، وهو يزفر غضبًا " لذلك فقد ربطت عقوقا ماض القواطع كالصقر، ها أنا أضمر من العقوق أوحشه، وأقبحه، فعقوق أبناء الحرام هو معلمهم المثالي. فالعقوق معلم ماهر يفوق في مهارته نار برومثيوس، وللعقوق قلب لا يرق للضارعين. سأذيق آبائي ما دمت حيًا عقوقي عن استحقاق.
، وإذا استثنينا السلف الصالح، ونساء المؤمنات الصالحات، والعفيفات في كل الأوطان، وهن قلة فلي أن أقول بأن البقية عاهرات. "، وهو يصرخ مديرًا ابهامه في وجه أمه ". عاهرات، وأنت خصوصًا أيتها المذنبة، لقد جعلت مني همزة. لقيطًا حرفًا لا ضروره له .
- كفاك بحق السماء؛ فقد جاوزت المدى، أنا أمك.
- (، وإذا بعمريقول ) أم الذنب منجبتي، ولست أمي، لا أعرف هل أصب عليك لعناتي، أم مرثياتي؟ هل يستحق وجودي اللعنة أم الرثاء. لتختاري عقابًا عن تبذلك. فأي العقاب يناسبك. ليكن عقوقي العظيم عقابًا لك.
ها أنا يا آبائي أعلنت كراهية وحشية لكل الأمهات حتي العظيمات منهن لا تستحق مودتي. فهن كثيرًا ما يخن براءتنا، ونحن في رقدة كالرصاص، فالماء الساكن يجري عميقًا، لقد ظننت بأمي سوء حينما أعماني حياء الطفولة، وبراءتها عن تبذلها ( مكررًا ما قال بصوت مرتفع ) لقد ظننت بأمي سوءًا حينما أغراني حبي لها بأن أحشرها عن سوء تقدير في زمرة النبيلات. كانت قديسة ( في نغمة سخرية تألمت لها أمه ). قديسة رجيمة. ثم أشار إلى أبيه، وأنت كنت قبل أن أعرفك نبي، والآن، وبعد أن عرفتك .. أنت نبي رجيم.
ثم وجه دفة النقاش إلى أمه، إن الأمومة مزعجة، وكل الأمهات عاهرات ماجنات، سلم الله مقاليد وجودنا إلى داعرات لا يقدسن الأمانة. أسلم الله مقاليد وجودنا إلى سيدات خن وجودنا لن أقل شراسة عـن " أجريـوس "، و" أريوس " لن أقل إحتيالا عن " ايجنسكي " الذي امتلأ قلبه بالمكر والتحايل "، وهو يبكي " سيكون موتك مروعًا كمولدي، ستذهبين إلى العالم الآخر بطرق بشعة رديئة كتلك التي أدخلتني بها إلى العالم الأرضي، عليك لعنتي، ليت خروجي من رحمك قد فعل فيك ما فعله خروج. هير من رحم أمه. لماذا اخترت لطفولتي أن تكون دنسة. لماذا ألقيتني بسفالتك بين أطفال الرجس. لماذا لم تنجب بطنك توأمًا لي يشاطرني عارك؟ لماذا لم أقض عمري في بطنك بعيدًا عن أعين الفضيحة. اللعنة على كل أم عقت وليدها، اللعنة على كل الأمهات اللاتي يعققن أولادهن، اللعنة على كل من تواطأ في إیجادي.
-، وإذا بالأم تستصرخه بحنان يهز العواطف.، وهي تقول لا تكن جافًا كالتراب، لا تكن قاسيًا على أمك التي أنجبتك، وأرضعتك.
- "، وهو ماض في عناده " شهوة الكلاب، والخنازير تلك التي أرضعتني إياها، بالله ما أقسى الذنوب!! كيف لا تريدنني قاسيًا، وأنا ذنبك.
-، وإذا بالأم، وقد احتدم غيظها فمحقت مشاعرها محقًا، وأخذت ترغي، وتزبد كبحر ثائر، وهي تتصبب عرقًا كالفرس غير مصدقة ما تسمعه.، وإذ ذاك صفعت ابنها على وجهه صفعة مؤلمة؛ فجرى لتوه الى غرفته ليجهز حقيبته، وإذا هو يهم بترك المنزل حاولت الأم امساكه، ولكن دون جدوى فنظر إليها نظرة، وكأنه يعزيها على فقدها إياه.
-، ولا زالت تستصرخه بحق الأمومة، بحق الملائكة " في تهكم حاذق " أي ملائكة؟ الملائكة التي أخطأت، أم التي أخفت الخطيئة، ثم واصل استرساله دعيني، وشأني، واتركيني أبحث عن رفاق جريمتك.
- (، وهي تنظر اليه بقلب واجف، وقد أوشكت أن تموت في جلدها ) أي جريمة یا عمر؟
-، وهو ماض في تجبره، وعناده " أنا .. ألست جريمتك، جريمتك هي التي ستثأر لك، وما إن هم بالانصراف، ومغادرة المنزل حتى أخذت الأم تستصرخه صرخات تقطع نياط القلوب أن يعود أو ليأخذها معه.
، وإذا تستصرخه كان قد تجاوز نطاق السمع غير مكترث بصرخات أمه، وتوسلاتها.
ما جريرة هذا الابن ليجد مأساة أمه، وقد طبعت على حاضره، يطارده شـبحها، إن ما كانت تندبه ميرفت، وتزدريه من ماضيها. أصبح الآن قدر ابنها يكابده فإذا كانت أمًا لقيطة فابنها ليس كذلك، ولكن ها هو أبوه الذي أنجبه من صلبه يتنكر له، ويتبرأ منه، هل اصطفى الله هذه الأم، وفصلها على هذه الشاكلة لتكون ألعوبة في يد الألم، وعثرات الحظ. لقد أنكرها آباؤها طفلة، والآن، وبعد أن صارت أمًا لا تجد رغم برها سوى لعنة ابنها، وجحوده.
- ظلت الأم بعد رحيل ابنها عنها تعيش في " الدسكرة " وحدها فريسة للخذلان، والوحدة بعدما قطعت الإهانة أحشاءها، وعذبتها الإساءة، واستولى عليها الرعب، فلو وضعت أذنيك على ثقب الباب لاستطعت أن تسمع نشيجها المكبوت، وما أكثر ما كانت تقصر الليل تزرع أرض حجرتها جيئة، وذهابًا، وهي مستطارة القلب، شاردة الفكر. حتى يطل نور الفجر، وهي تضرب كفًا على كف، وتعتصر راحتيها اعتصارًا مروعًا غير أنها اعتادت الوحدة مع مرور الوقت، وألهمها الله صبرًا واسعًا على فراق ابنها، وأملاً خالدًا على عودته إليها ثانية، ولاحت على وجهها تلك السمة التي يطبعها الشقاء على الوجوه المعروفة، وظلت هكذا وحيدة مزدراة طيلة أربعة سنوات قضتها في عبرات، وتقرح جفن، وحسرات تقض المضاجع، فلقد أحال غياب ابنها جمال الريف قبحًا، واستحالت غبطتها ألمًا، ودميت نفسها، واستهلكتها الحسرات عن آخرها؛ فصارت خائرة القلب، والجسد .
فقد استحالت جسمًا ناحلاً، ولونًا حائلاً، وضاع شبابها في شيخوختها التي فرضتها عليها المحن، والفجائع لا دورة العمر، كان بوسع دموعها التي تغلي في مآقيها أن تجعل رطوبة الضيعة قيظًا لا يطاق، إن وجنتاها اللتين كانت في استدارة التفاح، وحمرة الورد صارتا هزيلتين صفراوين، وبعد أن كانت تطف في مشيتها كالغزال في فتوة، ونشاط. صارت تجر رجليها جرُا في تخاذل وإعياء، كادت تزوي حياتها بعدما كانت ناضرة مزهرة، وها هي ممدودة معمودة، دكها المرض لفقدها ابنها الوحيد، وأضنتها الوحدة. إن نفسك لتذهب حسرات إذا رأيتها؛ لأنك لن تملك أن تبعث في هذا الجسم الضارع المنحل بقية من العزاء، وأثارة من الحماس، والإرادة فقد سحقت حياتها سحقًا شاملاً، وأجزعتها الصدمة، وصارت آلامها قادرة على أن تسطح كروية الأرض.
فلا فرح مع غياب وحيدها ليس لها إلا عذاب الذكرى، وألم العقوق الجارح البغيض. أليس خيرًا لها أن تموت فتتخلص من هذا كله؛ فها هي الأحزان الخالصة تملك عليها شعورها، وتنتزع منها كل شعور سوي، لقد تفطرت جنوبها من الأحزان.، وصارت تستشعر الألم في السويداء من قلبها، وبدا لها، وكأنما ألقي بها من بين السحب إلى الوحل.، وحق لها أن تعاني، فليس ثمة أغرب ولا أعجب من فورات غضب الأم لفقد ولدها.
لقد أشعرها هذا الفقد بأنها وحيدة في هذا الكون الشاسع الرهيب. اجتثت من جذورها. منبوذة إلى الأبد حتى من ضناها الذي توافرت العمر على رعايته.
فإحساسها بالعار، والهزيمة، لا يفتأ ينقض عليها، ويفترسها كانقضاض حجر كبير منحدر من سفح تل محدثًا حركة اضطراب مباغت، وباتت تتصور الحياة معضلة خطيرة ليس لها حل، وهوة سحيقة ليس لها قرار، وأدمنت التفكير في بحر لجي من الأفكار الحزينة، لقد استنزفت الخطوب عصارتها، وأوهنتها، ولم تبقها إلا " مومياء " فضعفت ملامحها، وانكفأ وجهها من طول الفكر بتمثال الموت، وضمرت كما لو كان هناك فم يمتص منها الحياة، وبات ينطبق عليها قول " أبي نواس " ( دب في السقام سفلًا، وعلوًا، وأراني أموت عضوًا فعضوًا ).
إنها الآن وحيدة.، وهي أم، كما كان حالها، وهي ابنة، وعلى الرغم من أن ليزا كانت تعاودها من وقت لآخر في أول عهدها بالريف إلا أنه سرعان ما ضرب الدهر بينهما، وصدع البين شملهما؛ فتزوجت ليزا من موظف يعمل في سفارة مصر بهولندا، وعاشت هناك؛ فانقطعت عنها أخبار ميرفت تمامًا. إلا أنه في الوقت الذي كانت صدمة ميرفت على أشدها. كانت " ليزا " قد أرسلت خطابًا لميرفت تخبرها بأنها قدمت إلى القاهرة، وسوف تأتي اليها غدًا هي، وصفاء، وبالفعل جاءت ليزا، وصديقتها، وما إن دخلتا على ميرفت حتى وجدتاها ملقاة على فراشها، وتبدل حالها عما ألفتا. فبكتاها كثيرًا
.، وأخذت ليزا تمسح عليها بيد العزاء، وهنا طلبت ميرفت من ليزا أن تذهب إلى مسجد عمر المختار.، وتسأل عن الشيخ يوسف، فإذا كان لا يزال على قيد الحياة فتسأله المجيء.
- ذهبت " ليزا " تسأل عن الشيخ يوسف في المسجد، وبالفعل وجدت الشيخ لا يزال على قيد الحياة فتنفست الصعداء، وإذا بها تقترب من الشيخ، وهي تقول لقد أرسلتني إليك ميرفت " الفتاة اللقيطة " التي أتت إليك منذ عشرين عامًا إنها الآن، وقد صارت أم لشاب صغير انفصل عنها زوجها، وجحدها ابنها، وصارت الأحزان تملك عليها حياتها، ولا أكذبك؛ فأبي، وأبواها هما سر بلائها، وسر وحدتها.
إن آلامها كمطارق الفولاذ تدق رأسها، وتكتم أنفاسها فهلا ذهبت معي إليها، إنها متشوقه لرؤيتك، إنها عطشى لكلماتك.
- أخذ الشيخ يتحرى عن الابن.، وكلف بعض الشباب بمهمة البحث عنه، ولم تمض ستة أيام حتى أدرك الشيخ الفتى فجاءته الأخبار بأن " عمر هشام متولى الجمال "، وهو اسم الابن كاملاً. طالب بالسنة الأولى بكلية الزراعة جامعة القاهرة.، ويقيم بأحد الأحياء الشعبية في غرفة رديئة فوق أحد الأسطح؛ فذهب إلى الابن الذي كان منكبًا على دروسه وقتها فقال الشيخ عندما رأى الشاب يستذكر:
- بسم الله ما شاء الله .. السلام عليك أيها الشاب.
- التفت عمر فجأة، وقال يرد التحية، وعليك السلام سيدي الشيخ.
- أنت عمروهشام؟
- نعم أنا هل من خدمة يمكن أن أؤديها لك؟
- بل من خدمة يمكن أن تؤديها لله،
، ولأمك.
- كيف تطلب مني الانصياع إلى دعوة امرأة، لوثت بالعار اسمي، ودنست في الطهارة قبل أن أعيشها، وإذا به يبكي ارثُ لشقائي أيها العجوز من غير أن تأمرني.
- لا يا بني فإذا استغني قلبك عن الأمومة. فأقل ما يجب فعله هو أن تتحرى الحياد إزاءها (، وهو يقسم مغلظ الأيمان )، بحق السنون الكثيرة التي أحملها على كاهلي أمك لم تسء إلى مولدك قط، أمك لم تكن زانية تقاضي الناس، وتعشق النظر في المرآة؛ فقد حلاها الله بجمال الأدب، كما أخلاها من الأهل، والنسب، صدقني القول فأنا شيخ تملؤني السنون، ليست مهنتي تزیین القول، وتزييف الذنب، فمن الخطيئة أن تزدري أمًا توافرت على تربيتك، وتعليمك، من الخطيئة أن تزدري أمًا قبلت المنفى لتبقي على وجودك، وحريتك، من الخطيئة أن ترمي أمك بالخطيئة (، وقد بسط يده على كتف الشاب )، إن المرأة التي أنجبت مثل هذا الرجل ما كانت وقحة، ولا فاجرة، إنها مجني عليها بعقوق آبائها، وعقوقك أكثر منها جناية، فما كان سقوطها في ردأة الفحش أو سفالة الخلق.، وإنما في هوة الحقد، والازدراء العميق. قم، واذهب إلى أمك، ولتكن بلسمًا لشيخوختها المفترى عليها، فهي الآن حبيسة الرجاء يكاد يفرغ فؤادها فلم يعد وضح النهار ينير لها شيئًا مذ تركتها فهي الآن مثكلة تنادي عليك بالويل، والجزع فاذهب، وأجبها. ها هي هناك في القرية تجلس وحدها فاقدة السيطرة على عقلها، وقلبها متجلدة لعقوبتك التي لا تستحقها صامتة، ساكنة الأوصال فالانفعال العنيف، والحزن اللعين قد هدا بدنها فلم يتركا لها قوة لغضب أو لغفران. كيف لم يتصور خاطرك الطاهر أن أمك طاهرة بريئة فهي لم تقترف شيئًا يحطم منك قلب الطاعة.
- استطاعت كلمات الشيخ أن تلين قناة الابن عن آخرها، فشرعت دموعه تتساقط حاملة معها أنينًا مكتومًا، وكأنها تقدم اعتذارًا.
-، وإذا بالشيخ يقول لعمر سأثبت لك بالحجج الدامغة أن أمك أكثر السيدات عفافًا، وطهرً .. هيا معي إلى أبيك، وسآخذك أنت، وهو إلى الرجل الذي أساء لأمك.
- ذهب الشيخ إلى " هشام " الذي لم يكن قد تزوج طيلة هذه السنوات بعدما أصابته عقدة من النساء فقال له الشيخ. إن ميرفت زوجتك طاهرة يا هشام، وبريئة من كل ذنب، وكل رجس فهي ضحية حقد، وإساءة من عدلي فهلا استأذنتك لتأتي معي إلى هذا الرجل؟
-، وذهبوا جميعًا ( الشيخ يوسف، والأستاذ هشام، والابن عمر) إلى عدلي الذي أصبح جسده منكمشًا تتدلى منه ساقان هزيلتان لا حراك بهما، فقد كان مشلولاً معوقًا يتحرك بدراجة بعدما فقدت إحدى قدميه الحركة، وصار زورق روحه، وكأنه قد طفا بعيدًا عن شاطئ الحياة فهو وحيد في قصره لا يقوم أحد على رعايته بعد ما توفيت زوجته، وتبرأت منه ابنته، وفقر، وأفلس بعد ما باع مصنعه ليصرف منه على علاجه، يا لها من مفاخر سيئة!! أين ذهبت؟! لقد انقلبت المباهاة الصارخة في ومضة واحدة الى ضعف بالغ، وخور شديد فهوى من علوه، ومرغت أنفه في الحضيض، وسرى التخدر، والتناقل، والإعياء إلى جسده، وقلبه، وصارت ذخائره لا تنضب من الكآبة، والتعاسة، والإملاق فهو الآن وهن شیخوخته، هرم متداع.
- دخل عليه كل من الشيخ، وهشام، وعمر، وهو يتحرك حركات عشـوائية بدراجته فألقى عليه الشيخ بالتحية.
ثم أشار إلى عمر، وأردف يقول هذا " عمر ابن ميرفت " أيها الجد العجوز.
فلتكشف له النقاب عن حقيقة أمه التي طالما عقها من جرائك. هل شفيت غلیل هذا الابن، واعترفت له بالصراحة هيا انطق قل الحق، واشعر بوطأة الزيف، وضجعة القبر.
- لقد نجحت كلمات الشيخ في إذكاء بارقة إحساس مركز في عيني الرجل
-، وإذا بعدلي، يقول .. ميرفت .. "ثم بكى" ميرفت أمك "محدثًا عمر" أكثر طهارة من براءة الأطفال. ثق بحق وهني، وشيخوختي، والموت الذي ينتظرني، أنها لم تقترف أبدًا شيئًا مرذولاً يحطم منك قلب طاعتها، نعم هي لقيطة. إلا أنها لم تنقد وراء جلدها، وتقع في أحبولة مريعة، وهو يؤكد ما يقول " أنا واثق أنها طاهرة منذ ولادتها لا غبار على شرفها " موجهًا حديثه ناحية هشام إن ميرفت لم تزاول أي عمل مرذول يسيء إليها، بل أنا الذي أسأت إليها، وها أنا أتجرع الآن نخب عقابي، فأنا أقف الآن شيخًا مسكينًا عليلاُ مزدرىً حتى من ابنتي، هل يكفي هذا ثأر عن حقدي، وشر حفيظتي، فحقدي، وضعتي هما اللذان قدرا عليَّ العذاب، والوحدة " محدثًا هشام الذي وصمت ابنك بما شجبته فيها " ثم أخذ يبكي بحرقة، لقد قالت لي " إن روحي التي شردتها لن يقبضها الله قبل أن يمتعها لذة الشماته فيك، وأنت جثة بين الأحياء.، وإنه لشرف عظيم لها ألا تجد غير الألم الذي أعانيه، ثم قال " لعمر" هيا اذهب إلى أمك، والتمس لي عندها المغفرة.
-، وإذا بعمر يقول، وهو يبكي أيها النذل الحاقد لو لم تكن شيخًا مزدریً لسُمْتك سوء الهلاك.
ثم تركه، وجرى هو ، وأبيه ملء رئتيهما أسرع من الريح إلى الريف حيث ميرفت.
، وسار في ركبهما الشيخ الذي هتف يقول الآن حصحص الحق.
-، وما إن اقتربا من بيت ميرفت حتى صاحت میرفت سمعها تحاول أن تستبين صوت انبعث عن بعد. ثم اعتمدت وجهها بيديها، ولبثت طويلاً لا تتكلم، وما إن رأت ابنها الوحيد، حتى بعثت بزفرة عميقة، وهاجت أشجانها، وخفت آلامها، وتجددت دماءها، وعادت إليها الإرادة التي طالما عادتها، وبعثت فيها الروح التي كادت تفريها الوحدة. إنه لمشهد يزلزل العروق الرخامية، ويدفع بالنبض فيمن كان قلبه من صوان معتم، ويرهف أكثر المشاعر خشونة. ثم ضمت الأم ابنها إلى صدرها ضمة معذبة، وهي تستصرخه ألا يتركها بعد اليوم، وسرعان ما أخذت تتبدد من وجهها معاني القلق، والاضطراب. ثم أضافت تقول إن عودتك أحيت في الإرادة، واستلت الأسقام، والآلام من صدرى الشاحب الموحش فلا هم لي بعد اليوم .
-، وإذا بعمر، وقد أخذ ينشج نشيجًا حاميًا، وهو يبكي بدموع غزار، وبصوت مسموع يقول سامحيني أيتها الرقيقة العظيمة. سامحيني أيتها القديسة العفيفة. ثم ركع على ركبتيه بجانب سريرها، وأخذ يلثم قدميها، مكفرًا عن عقوقه الجائر البغيض.
- أما الزوج فقد غلبه التأثر، وأخذ يحتضنها احتضانات عطوف أسف، وهو يقبل يديها، ورأسها.
-، وإذا بالشيخ يوسف يقترب منها، ويقبل رأسها، وجبهتها فأمسكت بيده، وقبلتها، وأنشأت تقول :-
- لقد عاد إلي زوجي، وابني اللذين أساء فهمي، وعدت إلى الله، والطبيعة اللذين أسأت فهمهما، ثم أشارت إلى ليزا التي كانت تجلس بالقرب منها.
-، وأنت يا ليزا هيا اذهبي إلى أبيك، وبريه؛ فأنا لا أحتمل العقوق حتى لأعدائي، اذهبي فقد جربت مرارة العقوق فهو غث لا يحتمل، وأخبرى أباك بأنني قد غفرت له لأجلك.
-، والآن لقد أيقنت أن الله لا يظلم أحدًا، وفي الوقت الذي نتجنى فيه على حكمة السماء يكون الله ماضٍ في تحضيره لعدله.
- فإن الله لا يظلم أحدًا، ولكن الناس أنفسهم يظلمون.
تمت