فكرت ميرفت في قبول الماضي على علاته، ولكن سرعان ما اتخذت قرارها الخطير بالتنازل عن الماضي، والحاضر، والمستقبل؛ فالحياة مع الماضي هي محض لعنة فكيف لي أن أقبل الوجود على علاته، فوجودي ليس إلا عقوق لقانون الحياة فأنا زائدة على الوجود، وموتى زائد فالحياة تملؤني ثقة في الموت؛ لذا فسوف أستعير الموت للحظة واحدة لكي أجربه ثم أرده لأصحابه، إني لا أشهد وجودي، إنني لم أكن بشروعي في الموت يائسة من رحمة الله. لا.. بل ... أصبحت أملّ انتظارها؛ فرحمة السماء ليس لها ميعاد مقدس على عكس غضبتها.
لقد تحطمت ميرفت من أثر الخطوب، وليس أمامها إلا أن تجرب الموت فتتخلص به من عذابها كله، فليس هناك ماض مع الموت بعكس الحياة لقد فكرت ملء رأسها في ميتة بشعة تهلع لها النفوس الرقيقة إلا أن العقل كان لموتها القادم بالمرصاد للحيلولة بينها وبينه، وقف العقل ليدفع عنها شهوة الموت الملحة الطاغية التي تلتمس إشباعًا في وجودها إلا أنه لا يجدر الظن أن فرارها إلى الموت كان عن اقتناع فما عساها تفعل، وكل المنافذ المشروعة التي تظنها مهربًا من الوجود تؤدي إليه، وليس هناك سوى باب واحد، وهو باب الموت الذي لا يؤدي إلى الوجود أو شيء من قبيله، فلا بأس سأطرقه فها هي قادمة لتبدد حياتها التي لا تزدري شيئًا عداها.
بعد ما استهلكتها المصائب عن آخرها، وغاصت فيها سهام الفرقة، والفزع، وصارت كلها قلبًا، وقالبًا كبش فداء للماضي الذي لم تفهمه.
لقد تجشمت الكثير من أجل محو صورة السنين السوداء من ذاكرتها إلا أنها لم تستطع أن تحرف في ماضيها.
آه ما أقسى نفوذ الذكريات؛ فهي تثير دومًا تمردها.
وقفت تقول، وقد بلغ بها المضض أقصاه: لن أستطيع مهما اجتهدت أن أبلع ماضيّ، كما لن أستطع أن أنشد سلامًا معه، وحتى لو استطعت، وأنسيت الماضي، وغسلت جمجمته بالسنين الجديدة التي أنثرها فوقه " فما عساني صانعة مع بوق عدلي الشرس الذي يكيل إلى السباب، والزرايا " هل تبقى ما شاء لها أن توجد تسمع النذر التي يحملها لها هذا البوق السليط؟ إنها إن تسترجع عبارات الرجل لها حتى يحفل قلبها رغم أنفه بالغضب، والمضاضة من وفادة كلماته، وتواردها التي تتساقط على قلبها كإبر حادة تصدعه في صميمه..
وإذا بها تجري ملء رئتيها إلى مخدعها، وهي تبكي ملء مآقيها بصوت مسموع، وبدموع غزار، وقد تسمرت الدموع على وجنتيها بصورة تفتت الأكباد تاركة إرسابًا نهريًا؛ ليكون شاهدًا على المعاناة، وما لبثت ميرفت أن سقطت على ظهرها فوق الوسادة، ونشجت نشيجًا حاميًا تهتز له الأكباد، ثم أخذت تناجي ربها مناجاة كانت من الغموض بحيث لم يتضح كنهها من البدء أهي تعاتب الله؟ أم هي تداعبه؟ هل تشكو إليه أم توقعه في الشكوى؟! كانت تتحدث إلى الله في ضراعة محضة، وأدب جم، وتشتكي منه إليه، وما هي إلا لحظات قليلة حتى بدت عيناها، وكأنها مختنقة بلون الدماء.
وتبدلت جبهتها بفعل الشحوب، وانفجرت تنوح نواحًا يفتت الأكباد، نواحًا أملاه عليها الغضب، فالغضب الذي يحرق صدرها كان أشد ويلاً من بركان فيزوف
رباه باركني؛ إن الكلم ليعجز عن وصف عبوسه الحاقد، وقسوته التي تنهش في مشاعري كمخالب نمر، إن خصائله معي لهي أبغض ألوان الرياء؛ فأحاديثه إليّ زاخرة بألفاظ ممعنة في القحة، فهو يرميني بالسباب، والتجريـح على طريقة البارتيين ثم قالت في لهجة ساخطة فلو أن هذا الوقح تمكن من أن ينسى اسمه فلن ينسى ماضيّ؛ فمولدي بغير اسم أغلى عنده من اسمه، رباه إن الالم ليخنقني، ويكاد يزهق أنفاسي؛ فآلامي كمطارق الصلب تدق رأسي، وتكتم نفسي فلا ترميني بالعذاب إن أنا وضعت نهاية لوجودي ها أنا آتية إليك، ولن أكون ضيفة ثقيلة ..، وما إن خلصت من هذه المناجاة حتى أخذت تفكر في أمها ( فضيلة )، وما عساها صانعة إن هي قد تحالفت مع الموت على ذاتها، ثـم أخذت تتذكر كلمات أمها إليها " إذا كان نصيبك من السعادة هزيلاً فإن نصيبك من الألم لن يتفاقم"، وأردفت تقول لا يا ماما إنه يتفاقم باستمرار، وبصورة مزعجة يتفاقم باتساع، وأخالني أرى أحزاني إن أنا استمرأت الوجود ستصير أكثر اتساعًا، وعمقًا من المحيط؛ فالذكريات المريبة التي دفنها أبواي في رأسي تتعارك دومًا، إني أسمع صوتها من هناك، رباه باركني، إلى متى سأظل مقبرة طويلة لأموات لا يكفون عن الثرثرة، فأمواتي يقتلونني بحياتهم إلا أنه من العسف التعويل على الماضي وحده ما لم يشفع الحاضر أو يدين.، وكما لا يقبل الإنسان وجود بقعة في ثيابه. بالمثل لا يقبل بقعة في ماضيه.
لقد قررت ميرفت الإجهاز على روحها، وكانت خطتها القادمة أن تبدد نفسها، ورأت أن تتخذ من الحبوب طريقُا لموتها فليست هناك من بين صنوف الموت، وصوره ميتة أكثر جرأة، ورزانة سوى الموت بالحبوب، وبالرغم من تصميمها على هذه الخطوة إلا أن إرادة الحياة كانت لها بالمرصاد، فحتى الموت الذي تهيب به أن يسكن جسدها يتلكأ، ولا يجيب فقد عثرت "ليزا" على إحدى الأرفف في غرفتهن على الحبوب القاتلة التي وضعتها ميرفت تأهبًا للمبادرة الجديدة، وفي الحال انتشلت هذه الحبوب للحيلولة بين وجود میرفت، وعدمه "، ووقفت تهمس لنفسها، وقد هزها الموقف:
- إلى هذا الحد يتحكم فيك الألم، والمضاضة، إلى هذا ضقتي ذرعًا بالوجود، ولكن الموت يا أختي، ووحيدتي يزخر بمتاعب أكثر من تلك الموجودة في الحياة " فإلى من تتركين حياتك ؟ لا لن أتركك تودعين الحياة. فصياحنا لا يقدر على بعث الموتى.، ودموعنا لا تصلح قربانًا لفدائهم بالعودة. سأجعلك تعيشين معي، وسأحمل عنك وزرك الذي يؤسفك.
وسرعان ما هرعت إلى ميرفت التي كانت جالسة في غرفتها تفكر في "ليزا، وأمها فضيلة"، وكيف سيقابلان موتها، وماذا سيكون وقع موتها عليها، وإذ ذاك ابتدرتها "ليزا"، وهي تشير بالحبوب التي دبرتها ميرفت لموتها وهي تئن:
-"ما الذي كنت تنوين فعله بهذه الأقراص يا ميرفت؟
(وإذا بميرفت تقول في دهشة)، وهي تستدير استدارة تكشف عن شعور بالذنب، وتصميم عليه، وهي تتمتم لنفسها قائلة:
-"ما أشقاني. حتى هذه الأقراص العاجزة تعتذر عن وضع حد لآلامي.
وهنا بادرتها ليزا قائلة، وقلبها يرتعد من الموت المنتظر على الرف:
-" ميرفت حبيبتي.
قالتها، وعيناها تذرفان بدمع سخين كادت تندفع منه أبخرة بيضاء من فرط سخونة:
- لقد اخترتِ طرقًا محرمة للوصول إلى عالم لم تخبرينه من قبل، للوصول إلى مجهول ليكون عزاءً لك عن ذلك المجهول الذي تفرين منه، (ومضت تقول) هل يستطيع تاريخ أي إنسان أن يقف حائلاً بينه، وبين وجوده. کلا یا ميرفت لأن البارتيين شعب عملي عاش في شمال اوروبا وآسيا ( ٢٢٥ ق.م ٢٢٤ ) كان يتظاهر بالفرار أمام أعدائه ثم يرميهم من فوق الجياد بالسهام التي يلقيها من فوق أكتافه موجهة للخلف.
التاريخ بذلك يهدم نفسه. هل بلغ بك حقدك على ذاتك حدًا جعلك ترفضينها.
- إنني أحقد على نفسي في الوقت الذي لا أضمر فيه حقدًا لأحد.
- لا يا ميرفت إن الثرى لا يصلح مسقطًا لذلك العقل الذي طالما فاض إلهامًا، وكشفًا (وهي ترمي عليها باللائمة من فرط ألمها) تريدين الفرار من ماضيك لتبقي في ذاكرتي ماضيًا لا يحل عقدته إلا الموت. ألم تفكري في ماما التي يقتلها موتك. ألم تفكري في.، وكيف سيسلمني موتك إلى الوحشة، والاغتراب؟ فكري جيدًا في ذلك الموت قبل إقدامك على شـرائه.
واعلمي أنك إنما تشترين باختيارك الاضطراري هذا ماضيًا أشد سوءًا من الذي تفرين منه. قد تجدين العزاء عن جريمة آبائك في أنك بيننا هنا، ولكن خبريني إذن فيمن ستجدين العزاء عند الانتحار؛ فالله لا يعزي الهاربين من رحمته ولا يصافحهم على أبواب جناته، بل يشعلهم وقودًا لناره؛ سيكون حساب الله لك أشد إيلامًا من قدره عليك. وقتها لن تكون الجريمة تلك التي تركاها أبواك. بل تلك التي تركتَها لهم ولك؛ فالشرك والانتحار مما لا يغفرهما الله أبدًا..، وحتى أنا يا ميرفت ما كنت لأغفر لك هذا الموت أبدًا. رغم أننى كنت سأقتفي أثرك، وهرعت تبكي بكاءً حارًا، وكانت دموعها لشدتها كفيلة أن تميت الموت كمدًا، وإرهابًا؛ وإذ ذاك هرعت ميرفت وراء " ليزا " تواسيها بكلمات مليئة بالاعتذار، والأسف:
- سامحيني يا أختي، ووحیدتي علی خواطري العاصية لأمانيك، وثقي بكل مقدسات الوجود أنه إذا كان عدمي سيثير عليك الاستياء، وحرقة الندم فما أخف على قلبي أن يتحمل تعاسة وجودي..
إن موتي لن يسبب لي تعاسة. إلا لأنك تبغضينه. فسوف أموت ألف مرة، وأنا مضطجعة في لحدي. فندمك لفقدي هو الصوت الوحيد الذي ستصلني زفراته رغم انقطاع خطوط الاتصال بين الأحياء، والموتى؛ ستصلني لتعاقبني عن أخطائي في القبر إذا لم تجد لي أخطاء في الحياة سأعيش لحسرتي، وإسعادك.
- (وإذا بليزا، وقد هدأت ثورتها) إن فاقد الشيء لا يعطيه. فليس في وجودك تعاسة لوجودك ما دمت أسعد به. إن اختلاف ميلادك عمن حولك هو الدافع للإحساس بأنك تعيشين هذا العمر مرغمة. إننا جميعًا لم نوقع على وجودنا، ولا أحد يسأل إذا كانت الطريقة التي أوجدته تبعث على الملل أو على الحبور، حتى العظاميين من أهل جلدتنا لم يحللوا الدم الذي أوجدهم ليتفرسوا حقيقة كنهه. إننا نتساخف يا ميرفت حين نؤنب العمر بدلاً من أن نعيشه؛ فينبغي أن نعيش حياتنا بمنأى عن الحسرات، حتى لو كنا أبناءها.
- (وهي تبتسم، حسنًا ياليزا إن كلماتك الثائرة بددت الموت ثم رفعت قامتها عالية، وبدت عيناها مبرقتين من قوة تألمها) فها أنا أبصر مغيبة سأقتفى أثر الحياة أينما وجدت، وسأعيشها بكل ما أوتيت من قوة، سأنزع جراحي؛ حتى لا يعشش عليها الموت، وسأغرس محلها الإرادة، سأدفن الموت؛ لانه لم يعد يفتنني بل أصبح يؤرقني، سأدفنه في قبر عاري؛ ليبصره الأحياء، والموتى، أعدك بأنني سأقطع صلتي بالموت، سأبيع الموت للحياة، ولن أقبل ثمنًا.
- وهنا عانقتها ليزا، وهي تقول أنتِ اليوم أكثر كياسة، وفطنة من أي وقت مضى. ثم ضمتها لصدرها في سعادة للتقدم الذي حدث لموقفها من الموت.
وما إن علم الأب من ليزا بالانتحار الذي أوشكت ميرفت أن تقدم عليه حتى هزه الانفعال، وأضناه الشجن، وشرعت دموعه تنهمر بصورة متأنية، وكأنها تكتب اعتذارات على الهواء؛ فقد كانت هذه هي المرة الأولى التي يهتز فيها لويل يحيق بميرفت، إن هذه الدموع التي أتت بعد حقد طويل لم تكف لمحو إساءاته القديمة، كما لم تنطلِ على أحد رغم كونها دموع حقيقية.
وفي اليوم التالي جلست میرفت تحدث لیزا، وشاب كلامها مسحة أسى، واعتذار، وهي تقول:
- أقسمت لك بأنني لن أستثير الموت من رقدته، ولن أفكر ثانية في الانتحار، وقد ابتهجتِ جزلاً بهذا الوعي، ولكن ماذا أفعل مع أبيك الذي يجحف معاملتي من دون سبب؟! فإذا كان الموت يخطف الروح، والجسد فأبوك يخطف راحتي، وكأنها حق مكتسب له.
- أعرف يا ميرفت أنه يفرق في معاملتنا تفريقًا بينًا، وهذا مما يؤلمني مثلك تمامًا، ولكن ألا تجدي في عدالة ماما عزاءً عن جوره؟
- ماما، قالتها، وكأن الكلمة قد أسكرتها لو خُيِّرْتُ بين العدالة، وبين أمي لاخترت أمي.
- تحملي نفور بابا، وغلظته معك لأجلي، ولأجلك، وسأتفنن مع الوقت في استئصال شكيمته إلى غير عودة، إن مشاعره الرقيقة نحوك محدودة إن هي قيست بفداحة قسوته؛ فعواطفه الرقيقة ضئيلة للغاية حتى لا تتسع سوى لمخلوق واحد، فليس لديه متسع من العاطفة أو مزيد من الحب ليعطيه، ولو أن له ابنة أخرى من فلذة كبده، وعصارة دمه فلن يكون لها أبًا دون أن تمل أبوته، ليس بمقدوره أن يكون أبًا لابنتين دون أن تمله إحداهما، كذلك فإن أبي -كما تعرفين- لم يوفق في تعليمه، ولم يطو مراحله حتى النهاية؛ لأنه لم يحرز فيه نجاحًا، فلديه هو الآخر ماض يبغضه؛ لأنه خط فيه فشله بيده، ثم الخسائر التي تتوالى تترى على المصنع الآن، والتي ربما كانت سببًا في إعلاء غيظه، واحتدام ثورته، ثم كونك .... لا أب لك سول لسوء فهمه أنك أنت المسؤولة عن وجودك، وصار يرفض عن جهل أن يكون لك أبًا، ما أشقاك ميرفت!! الآن فقط أصبحت أدرك حجم عذابك "أن تكوني ابنة غير شرعية لا أب لك، ثم تودعك العناية الإلهية في حيازة أب لا يقدر على حب أبنائه؛ وهذا هو عين العذاب"، ولكن خففي عنك عبء عذابك؛ فالرب الذي أسكنك البيداء قد شق لك فيها نهرًا " تقصد أمها " فأنا، وماما سنغطي المساحة الشاغرة التي تركها نقص الأبوة فيك، وسوف تبرهن الأيام القادمة لأبي أن الكراهية التي يضمرها لك هي تعسف لا معقول.
- أنت تعرفين جيدًا أنه أصبح يحد من حريتي فلا يخرجني من المنزل إلا بميعاد مسبق، وإنه إذ يفعل ذلك يرمي من وراء تلك القيود التي یحیطني بها أن ألتمس فرارًا بعيدًا يتجاوز الحدود التي رسمت لي، إنه يحجر على حريتي، وكأنها إحدى أملاكه، وهو إذ يرفضني ابنة له أراه يرتضيني عبدة.
- (مخففه عنها) لا تأسفي يا أختي فكل هذه الغلظة، والصلفية أمور واردة من أب لم ينجبك من صلبه ثم إننا نتصدى لظلمه لك، لقد عققته من أجلك؛ لأنك لا تستحقين عقوقه.
- ماذا أقول. فأنا إن قابلته بالابتسامة أراه يفسر ابتسامتي بأنها مکیدة أرمي بها سخرية منه، فأنا كما يعتقد أستخفه بابتساماتي، وإن حاولت ذات يوم أن أخفف عنه وعثاء العمل، ومشقته، وأن أحمل عنه ثيابه لم يقابلني بالشكر بل يرميني، وهو في سكرة عجرفته، وبلهجة تنم عن عزة النبيل التي بلغت عنفوانها بأنني إنما أمالئه لغرض في نفس يعقوب، وإذا به ينعت مبادأتي برد الجميل بأنها تدليل مغرض، أنسيت ذلك اليوم الذي قصدك لأن تهمي بكيّ قميصه، ومتى عرف أنني التي قمت بكيه زأر كالأسد، وقرر أنه لن يرتديه مدى الحياة ثم هداياه الكثيرة التي كان ينفقها عليك يأتيك بها متعمدًا تقديمها أمامي؛ لیقیم بیننا فجوة، ويدفع بي إلى الشكوى، ثم إصراره على نشر قصتي مستغلاً رغبتي السريعة في الشهرة ليورطني في الندم، وإن قدر لي أن أنسى كل هذه الإساءات فلن أنس حتى لو ضمرت ذاكرتي رغبته في إخراجي من المدرسة رغم ولعى بها متوسلاً بالحديث الشريف لا تعلموا أولاد السفلة العلم، إننى لم أسمعه طيلة حياتي يتحدث عن الله أو أنبيائه إلا بهذا الحديث الذي أراد به تشريدي؛ فهو إن تحدث عن الله إنما يرمي من وراء ذكر اسمه تشريد مخلوقاته البريئة (وهي تئن) آه! ارثي لشقائي يا لیزا من غير أن تأمريني.
- ما أوفى ذاكرتك للألم! إن المآسي، والخطوب هي وحدها التي تدفع الذاكرة إلى الوفاء، ولكن لن تبقى آثار الألم، والشكوى محفورة في ذهنك طويلاً، لن يبقى لك من الألم رصيد ما دمت حية؛ فكل أحزانك سأجلوها بأظافري، إن لم أجلِها بحیلي، فلتنفضي عن نفسك الشعور بالذنب، والضآلة، وتحري السعادة، اذكري أن بابا في البدء كان عطفه عليك بغير حساب، وخلت مشاعره من أي غلواء أو كبر، تداركي هذا كي تستريحي قليلاً، ولكن ما يبذله نحوك الآن من قسوة راجع لشعوره بأنه أب رغم أنفه، ثقي أن أبي لا يقر في صميمه تصرفاته معك ولا يقبل إسفافه لك بل هو يؤنب نفسه كلما سنحت له فرص الإدانة؛ فهو إذ ينتبذ لنفسه مكانًا قصيًا في غرفته يسترجع أخطاءه، وإذا به يرد اللائمة التي شرع يرميك بها إلى نحره؛ فهو يعاقب نفسه على عقابه لك، أما رأيت كيف شجبت دموعه تصرفاته، وثأرت منه لك منذ عرف برغبتك في الانتحار، فمزاجه متوتر فهو إن قسا عليك، وأهانك لم يقل صراحة بأنه يكرهك .
- ليته قالها، وأراحني، ولكن الذي يحقد لا يكره، والذي يحب أو على الأقل يتهيأ للحب لا يضمر نية العدوان، الأبوة أكبر من أن يعرفها أبوك؛ لأنها لا تحتمل كل مغالطاته، الأبوة لم تكن يومًا مساومة، فأبوك يقايض عاطفته بعبراتي، وإذا بي أمعن في النحيب فلا أجد سوى قسوته تنتظرني.
- لا يا ميرفت إن قسوته لم تبلغ معك كل هذا المبلغ، وهذا التصوير أبلغ من أن يصدق؛ فأنت تبالغين كل المبالغة الآن بتصويرك لأبي، وكأنه أحد كبار مجرمي الحرب في كل العصور، وأن شره المستطير، وحقده الماكر قد فاق غرائز هتلر، وسالزا العدوانية، سأحلل لك شخصية أبي في إيجاز.
- "أبي بطيبعته عاش حياته منذ شرخ شبابه من أجل هدف واحد هو جمع المال، وتكديسه، وأراك تدركين هذا بوضوح؛ فقد خاض صفقات أشبه بالحروب من أجل تحصيل هذا المال، وكم كلفته مشاريع جزافية الكثير، والكثــير مما ادخره، ولعل مراد كراهيته لك خشيته من أن يصبح لك حقوق مشروعة في ثروته، وأملاكه، وهو مخطئ فيما يفكر فأي جريرة إذن في أن تكوني صاحبة حق في أموالنا، أنا أقدر تمامًا ما تكابدينه من أسى لأنك لم تكوني ابنة لأب بار، ولم تقعي في حضن أب يفهم حاجتك الملحة لقلبه؛ فأبي لم يكن نموذجيًا لك في أي وقت، وليس هو بالوصف الرومانسي الذي كنت تحتاجينه، وتتمنيه ( محاولة إضحاكها )، ولكن ما أجدره بلقب الأب المثالي، وهو يهم أول كل شهر بمنحنا المصروف؛ فهذه هي المثالية كما يراها أبونا لا كما نراها نحن".
- ليته يفهم أن الأبوة عاطفة، وليست مصروفًا يُعْطَى مع دخول الشهر، إنه لن يتوانى عن استعارة عاطفة لأجلك إذ هو قد جرد من كل العواطف أما أنا ...
-وقد قاطعتها " ليزا " حسبك أن تقولي أما أنا فأبي لا يجد فيك إشفاء لقسوته ربما هو يجد معاناة في أن يحبك الآن، ولكن ثقتي أن لديه العزيمة الصادقة على أن يحسن إليك إحسان أب، وعلى ذلك فمتى شعر بالمعصية لا تقابلينها بغير التوبة.
- لن يحدث من أبيك شيء مما تقولين؛ فليست لديه العزيمة الصادقة على أن يحسن إليّ كما تعتقدين، فأنا أقدر منك على التكهن بما تخبئه الأيام من محن، وآلام؛ لأنه كما أنك ابنة أبيك فأنا ابنة الأيام.
- لا تتعجلي في إصدار أحكام نهائية على أبي، ولننظر معًا عما تكشفه الأيام القادمة.