أطَلَّ من خلف شُرْفَتِه، مُغْلِقًا زُجاجها؛ ليَنْظُرَ من خلفها على منظر الساحة الخضراء التي تَطُلُ عليها شقته، وذلك النادي الواسع أمامه.. سارِحًا يُفَكِّرُ، ويُطِيلُ التَّفْكِيرُ في أحواله.
وبعد برهة من الانتظار.. شاهد تلك الفتاة التي ترتدي زيها الرياضي، وتُهَرْوِلُ مُسْرِعَةً؛ لِتَدْخُلَ النادي، وتختفي خلف الأشجار في طريقها الرياضي، وتظهر مرةً أُخرى، وهي تجري مُسْرِعَةً؛ لِتَدورَ حول المُضمار الرياضي، وهو من بعيد يراها؛ ذلك المشهد يوميًا تقريبًا، وتأتي تلك الفتاة في نفس الموعد، وهو لا يفتح زُجاج شُرفته أبدًا، فقط ينظر من خلفها.
تلك المَرَّة.. الْتَفَتَتْ الفتاة في اتجاه تلك النافذة التي يَطُلُ من خلف زُجاجها ذاك الشاب، وهو صامتٌ ثابتٌ لا يتحرَّكُ أو حتَّى يُشير لها بأي إشارة، ولكن ذلك الشاب لم يتغير موقفه.. كل يوم في نفس التوقيت، فقط يقفُ ثابتًا! يَطلُ، ويَطِيلُ الوقوف.
أعجبته الفتاة، أعجبه حركتها، حريتها، انطلاقها؛ لكنه لم يُظهر أي إشارة لإعجابه بها، وها هو يُفَكِّرُ بينه وبين نفسه: ما بال إن كان لها حبيب؟! هل هي أيضًا من المُمْكِنِ أنْ تَشْعُرَ بإعجاب به عن بعد مثلما صارَ معه؟! كيف وهي لا تَعْرِفُ عنه شيئًا، وتكادُ لا تراهُ إلا من خلف تلك النافذة الزجاجية؟! هل من المُمْكِنِ أنْ تَشْعُرَ بإنسان من خلف الجدران، وعلى بعد مسافة منك؟!
يُفَكِّرُ أكثر بينه وبين نفسه: هل أُكَلِّمُها؟! كيف لي أنْ أُكَلِّمَها؟! بالتأكيد هي قد لاحظت انتظاري لها في نافذتي يوميًا.. بالفعل لقد نَظَرَتْ لي.. ألم يأخذها الفضول أن تعرف من ذلك الشاب الذي يرجاها يوميًا؟!
وعلى الجانب الآخر.. تُلاحِظَه بالفعل تلك الفتاة، وتُحَادِثُ نفسها: أيُّ سِرٌ وراء ذلك الشاب الذي يَقِفُ ثابتًا خلف تلك النافذة، ولا يتحرك أبدًا، ولا يُحَاوِلُ أنْ يفتحَ زُجاجها؛ لتراهُ جيدًا.. أهو معجبٌ بها أم مُجرد يقف؛ ليَنْظُرَ خلف نافذته؟! لماذا لا يُحَاوِلُ الاقتراب أو الكلام أو حتي الإشارة لها؟!
احتارت هي.. واحتار هو أيضًا!
من يأخذ الخطوة الأولي ليعرف سر الآخر؟! وهل هو حب أم فضول أم إعجاب عن بعد أم ماذا؟!
"اسْتَمَرَّ الحالُ يوميًا قُرَابَةِ شهرين "
وفي يوم من الأيام التالية.. حاولت الفتاة الوقوف بمسافه أقرب من النافذة؛ لِتَرَ شيئًا غريبًا! تَحَطَّمت عليها كل تلك الحيرة، والانتظار، وأيام الوهم، وحديث النَّفس الفَرْدِي! فزجاج النافذة ليس إلا انعكاسًا لصورة بوستر أحد الفنانين المشهورين مُلْصَقًا عليها من الداخل؛ ليظهرَ وكأنَّهُ ذلك الشاب الواقف بثبات يوميًا.
وبهدوء رجعت الفتاة؛ لِتُكَمِّلَ طريقها للنادي، مثلما تفعل كل يوم، ملقية بأحاديث نفسها خلف ظهرها، وتستمر بحياتها ونظامها اليومي.
ولكن الحقيقة ليست كذلك! فتلك الحيلة قد فعلها ذلك الشاب بالفعل؛ حتى لا يتعلق بتلك الفتاة أو تتعلق به، بالرغم من أنَّهُ قد أحبها عن بُعد، ولكنَّه ليس على استعداد لأي ارتباط بحياته؛ لذلك اخترع تلك الحيلة حتَّى لا تتطور حكايته.
فبِالرَّغمِ من الحُب قد نهرب منه حتَّى لا نظلم من نحب.. ذلك الحُب العُذري الذي قد ينتهي قبل أن يبدأ.
(حدث بالفعل)