كم هو مؤسف أن تحجز تذكرة للراحة على متن الوسادة ثم تبدأ باستشعار نسائم الراحة، لكن سرعان ما تهبط الوسادة هبوطا اضطراريا لأسباب مجهولة، أعلنت استسلامي وذهبت للمطبخ لتحضير الشاي بعدها صعدت للسطح هناك حيث الريحان الذي أعشقه والسماء الكبيرة التي تشعرني ببقايا العدل لضخامتها!
ولإدراكي استيعابها واحتضانها للجميع استلقيت على ظهري متأملا صنع البديع، كانت السماء صافية وشديدة الظلام وكانت أم كلثوم تقول: "أهل الحب صحيح مساكين"، لا أعلم لكني شعرت وقتها بأن السماء هي من كانت تغني هذا الكوبليه، بديع جدًّا هذا المقطع؛ قد خلق لي فرصة للنوم وكأنه انتشل مني همومي وأشجاني استيقظت ولا أعلم كم الساعة، ما أعلمه أنها لم تكن غفوة طويلة لكن أسكتني الصقيع! أخذت سيجارة وأنا أنفخ بها انتظاري، بدأ النور يتداخل مع الظلام ليشكلا لونا لا أعلم ما اسمه، لكني أتفاءل به وأعشقه وقتها قلت: ودعت القمر ما يقارب العشرين عامًا خذلني خِذلانًا لا يليق بانتظاري وتفاءلي، اللهم عجل لي في الصباح الذي أود القول فيه بصوت مرتفع: صباح الخير!
في بداية صباحي أحضرت ماء لسقاية الريحان وفنجان قهوة قد يعيد لي شعوري المسروق، شكلت رائحة القهوة تحالفًا مع الريحان وصوت فيروز ورحت متأملًا الطيور لوهلة، شعرت بأن هذه الحالة مكيدة أو فخ لوقوعي، لا أعلم ما الحكمة أن تكون أسباب البقاء أصعب من أسباب الوداع، أسباب البقاء أن تعيش سنوات قدرها الله عليك سوف تفارق فيها أحبة وسيمرضون وستمرض وسوف تحلم وقد تدفع عمرك كله في سبيل حلم! من قرر البقاء قد يصل ومن لم يصل قد يوصل أبناءه في أسوأ الحالات، شرف المحاولة نجاح لكل قرار، كان هناك قلب يفيض جنونا بمواصلة القراءة!
من قرروا الغياب كانوا يودون قراءة الرواية كاملة، كانوا يتمنون أن ينقحوها لأبنائهم ويلخصون لهم أهم اقتباساتها، يا ألله أشعر بالفشل فلقد بدأت الرواية تخرج عن سياقها، كم هو صعب أن تروي حياتك على ورق لكني لا أعلم أين مكمن الصعوبة هل لاستهانتي بالقلم؟ تردد فظيع! هل أصحح شيئا؟ هل أبقى واقعيًّا إن كان هنالك من يقرؤني؟ هل أنا كاتب؟ مشوش جدًّا أقسم إن هذه الحروف تكتب ولا أعلم إن كان لها بقية.
بعد يومين من كتابتي لكلمة بقيت قررت أن أبقى وكما قال درويش نحن أحياء وباقون وللحلم بقية عند عودتي، كانت هنالك بوادر للسلم مع صفحاتي، هواجسي باتت تتضاءل، إن كنت كاتبًا أم لا وتساؤلاتي بدأت تتزايد هل سأنجح؟ التساؤلات ستجيب عنها الأيام، أما عن هواجسي فلا أرى فيها ما يعكرني ببساطة لأنه ليس أنا من يكتب الرواية، دون مبالغة أشعر وكأن الحبر تحول لإبرة تسحب من صدري فيضانه ومشاعره دون حتى إذن لكن استهانتي بنفسي لا تزال تحاول إزعاجي، كيف لعشرين رمضان أن تخلق مضغة رواية! يا ألله ما هذا التناقض أو لم أدعِ بأن الرواية هي من تكتبني! ألم أبالغ بقولي إن الحبر تحول لإبرة تسحب مني الفيضانات!
هل كان ينقض تائه مثلي يبحث عن بقايا ذاته تناقض! هل أستحق شرف المحاولة؟ هل سأنال ثقة من حولي؟ هل سيحترمني القارئ حال معرفته بأنه يقرأ لشخص أكبر شهاداته ثانوية عامة! هل سيحترم نضج عقلي الذي يسبق سنوات الضياع بمراحل كبيرة مشتت!
لكنه ليس ذنبي، ذنب المجتمعات والعقول التي تحكم على المرء ليس عن طريق عقله أو فضاء مخيلته بل عن طريق شهاداته وقبيلته وأولًا وآخرًا ماله!
ينتابني شعور بأن الروائيين خلقهم الله من حجر ليس فخرًا أو تعاليا فأنا لا أرى نفسي إلى الآن منهم! لكن كيف لبشر أن يسرد شتاته وضياعه باللغة العربية الفصحى! كيف له أن يكون كتابا مفتوحا! كيف له أن يثق بقلم حبر ورائحة ورق!
كيف له أن يسلم عنقه للورق في الوقت الذي يكون فيه معزولا عن أهله خجولا مع أصدقائه!
لا أخفيكم راحتي بعد الكتابة أشعر بأن عقلي بدأ يخس وزنه وتناهيد صدري باتت تعود لطبيعتها، أشعر بأن الحبر استوطن دمي ورائحة الورق أصبحت عطري! شعور جميل لن يفهمه سوى روائي بائس لم يجد من متنفس للبوح سوى بالكتابة! لكن في الوقت نفسه أشعر باضطرابات عقلي وأشعر باحتياجه لراحة من كمية عصر أرشيف الحياة وألم السرد الفصيح.
حقا أنا بحاجة لإجازة من واقعي!
يا ألله! كبرت يا أمي بعدما كان هم ابنك الوحيد إجازة أو غيابا عن المدرسة. كبر ابنك وكبرت همومه وأصبح يحتاج إجازة من الواقع! كمية هائلة من الضياع.
تسكنني الآن قصيدة الشاعر الراحل "أحمد مطر" برائعته (مواعيد). تقول: فكم من مرة جئت إلى نفسي على الموعد لكن لم أجدني.
يا ألله! جميع الرائعين رحلوا، والزمان أمره عجيب يودع الرائعين بدم بارد ويستقبل الافتراضيين بصدر رحب كيف للزمان أن يبقى بلا سقيا؟ أو ليس الورد يموت إن لم نسقه بالماء؟ ألا يجدر بالزمان أن يموت إن لم نسقه بالأخلاق وإعمار الأرض؟!
أشعر الآن بأن الأديب الذي بداخلي بدأ يتبلور وينضج وثقتي بنفسي تتزايد لأن ها أنا الآن على مشارف العشرين الأول من روايتي المجهولة مبهمة النور!
بدأت أشعر وكأنها بنتي المدللة التي أخشى على مستقبلها فقط أغذيها بصدق أحاسيسي هذا كل ما يسعني فعله! رغم أنني لا أمتلك الخبرة الجديرة بالذكر فأرشيفي القرائي بضع روايات للمتألقة الجزائرية "أحلام مستغانمي" فوضى الحواس، الأسود يليق بك، نسيانكم، وللرائعة "نبال قندس" يافا حكاية غياب ومطر.
وكانت هذه الرواية هي الأولى لي قرأتها في عمر 17 ربما جذبني عنوانها الذي يحوي المطر ربما لعشقي للمطر ولشعوري بأنني أشبهه.
وقليل من يوميات الراحل "محمود درويش" التي شاءت الأقدار أن يصادف اليوم ذكرى وفاته.
يحضرني الآن قول لـ "جلال الدين الرومي":
"السلام على الضاحكين الذين قرروا العيش ولم تحالفهم الحياة بعد"، لست متأكدا إن كان انتظارا أو وهما!
كما أسلفت بأننا أمة عشقت الوهم أو لعلي ممثل يختبر أداءه بالدخول في الحالة! أما أضعف الاحتمالات أنني أحببت حالي، الانتظار والمأساة والبكاء على الأطلال!
إنها الأضعف لأنني لأعتقد بأنه يوجد إنسان بالغ عاقل يحب حياة الأموات! يعيش على مجموعة صور وذكريات! ينتقد بزمان وحاضر يصارع النوبات!
أشعر باحتياجي لرحلة هروب طويلة، سبات عميق أو بالأحرى غيبوبة لمدة سنتين، أريد أن أتجاوز هذه المرحلة بأسرع وقت دون أن أجبر عقلي على حضورها!
أريد لعقلي الغياب والغياب الأبدي. مللت قتال الأقدار الجائرة، مللت من حياة الرجاء. تبخرت أحلامي المتواضعة البائسة، وبقي حلم واحد حياة اللا مبالاة!
يرطأ علي الآن حلمي البسيط الذي كان يصوره عقلي بالأبيض والأسود، الآن أيقنت لقد سبقني عقلي بمراسم الوفاة! لقد كان يشيع جثمان حلمي أمام عيني ولم يمنحني واجب التعزية! لكن لماذا لم أعزِّ حلمي الصغير الذي لم يرَ شيئًا من حياته؟ هل لأنه ليس أول حلم بائس ولا آخر حلم يتوفى؟!
تحضرني الآن عبارة قرأتها في رواية "فوضى الحواس" لأحلام مستغانمي تقول: (أطلقوا الرصاص على أوهامي). كم يعشق البشر قتل أحلامنا بل حتى أوهامنا كم يتلذذون بتذويب أحبال الحياة فينا!
حياة جديرة بالسخرية!
أشعر أن روحي تطلب الاستماع لأغنية "تعب المشوار" فهي خير ما تصف حالتي الآن، تعب المشوار، ذلك المشوار الذي غالبًا ما أضرب بحجر كبير بتعليقهم أنني لم أر ربع ذلك المشوار وبقول أمي لم أر شيئا بعد، كنت دائما أقول لها ما علاقة العمر بالمعاناة؟! وليس الطفل المصاب بالسرطان البالغ من العمر سبع سنوات يعاني أكثر من مئة رجل بعمر السبعين!
كانت دائمًا ما تنهي النقاش بتخفيفها من جدية الموضوع: "ليه أنت معاك سرطان؟".
كنت أكتفي بالصمت عندما ينحدر مستوى كلامي متأملا أن يصيب كلام نجيب محفوظ بأن الصمت هو آخر محاولة لإخبارهم بما لم يفهموه.
ذهبت لفراشي للنوم وكانت ساعة الحائط تمام الساعة الحادية عشرة هذا ما أتذكره بعد وضع رأسي على الوسادة لم أعِ إلا هذا التوقيت البائس! كانت غفوة طويلة جدًّا، كانت غفوة لم تكن كما أردتها لكن الكحل أهون من الرمد، غفوة حل بها الليل، مرتان استيقظت وجسمي مضعضع كشعور من صدمته سيارة! لكن الفارق أنني أفتقد الدم.
كنت بحاجة للاستحمام بماء بارد هذه المرة لأستعيد الشعور الذي كاد أن يقتل بداخلي، يا ألله كم استأثروا الحلم فينا!
راودني تساؤل إلى أين يسير بنا "الباص"؟ هل إلى الهاوية أم إلى القمة أم إلى محطة مجهولة أم أن دولايب هذا الباص نائمة، والسائق إلى الآن لم ينتبه؟!
تساؤلات كثيرة بداخلي لكن في تصوري أن أقربها للصواب هو احتمال الآخر إن كان هو الصواب فكم نحن حمقى! كيف لباص يحوي بلايين البشر أن يسير ودولايبه نائمة ولا يوجد مخلوق! انتبه لهذا العطل!
يطرأ علي تساؤل الآن كيف يسير "الباص" دون دولايب؟! كيف يقطع هذه المسافات دون دولايب؟ التفسير المنطقي والوحيد أنه يسير بطريق منحدر نهايته الهاوية!
سبب تفسيري هذا لأن المثل الروسي الشهير يقول: نعم تستطيع العربة الخربة أن تسير إذا وضعت في أعلى طريق منحدر!
قبل إدراكي لعطل دولايب الباص كنت أظن أنه فقط الموت الذي يكون مجهولًا، كنت أعتقد جميع رحلاتنا القصيرة أو بشكل أدق المؤقتة نكون على أتم الاستعداد، ونكون نعرف الوجهة وبيانات الرحلة كافة!
لكن الموت: الرحلة الأخيرة لا نعرف موعدها أو حتى وجهتها، نعرف فقط أنها رحلة فضاء من الخيال كان يراودنا قبيل المغادرة!
أشعر بتخمة من كمية البؤس الناخرة في هذا العالم، فكيف لراكب أن ينتظر ويضيع سنوات من عمره في رحلة مجهولة الوجهة! رحلة كان يزيفها بقوله رحلة سعيدة ليتفاجأ في منتصف الطريق ويشك في اختياراته هل اختار الحافلة الخاطئة!
ثم ماذا؟ ثم يقضي سنوات من أجله متسائلا: هل يرمي نفسه من الحافلة التي تسير بسرعة جنونية دون الوقوف! رغم فرقعة دواليبها! لكنها تسير بطريق منحدر نهايته الهاوية! هل يبقى منتظرًا أن يهوي مع الجماعة؟ أم يلقي بنفسه مواجها هاويته ليصبح وحيدًا في الهاوية!
يا ألله لقد بدأ ينهار جسر تسلسل أحداثي، لا أعلم ما السبب لكن ربما لأنني انتقلت إلى رائحة الورق! فهاتفي بدا يعاني من تعليقات وامتلاء بالمساحة التخزينية! مما دفعني للانتقال للورق، أشعر بمعاناة روايتي البائسة وهي تنتقل من مكان لآخر، أشعر بها وهي تصارع من أجل البقاء! بل تكاد تحتضر فمؤلفها يتدين علبة السجائر! كيف له أن ينفق على ابنته التي يبكي انتظاره عليها بصدق من أكثر من شهر! كيف له أن يضع النور على انتظاره!
أشعر بأنني غريق روايتي؛ فقبل أن أكتبها كانت تساؤلاتي مشتتة ومبعثرة لا أشعر بضخامتها! أما بعد أول سطر كتابة إلى آخر رائحة حبر وصلت إليها أشعرغرقي بضخامة تساؤلاتي بازدياد ضياعي!
الآن أيقنت لمَ معظم الروائيين بؤساء فهم فئة من البشر لديهم القدرة على تذكر جميع أوجاعهم وتوثيقها باللغة العربية الفصحى!
ما الهوس الذي دفعني للكتابة؟ إن كان هوس الشهرة فالكتابة هي أبطأ سبل الشهرة! هل هو الثراء المادي؟ قطعا لا لأننا في زمان يرتفع به كل شيء إلا القراءة والثقافة تزهد! هل هو مجد أدبي هل هو مظهر (برستيج) كما هو حال الروايات اليوم.
أشعر بأن تساؤلاتي تغرق البحر بعينه لضخامتها! ربما والأقرب لمشاعري أنها جينات تولد في بعض البشر لأولئك البشر الذين يعصى عليهم الكلام غالبا لا يتأقلمون مع من حولهم، ينسجمون مع القلم ويبوحون له بهواجسهم، بمشاعرهم، بأحاسيسهم! كم أود لو كان ينطق القلم لسألته هل أنا كاتب؟ هل ستسامحني وأنا سبب في جفافك؟
بعد مراجعة سريعة لكامل الرواية كانت حروفها كثيرة وأسطرها أكثر، كان بعض من عباراتها محفزا، وكان البعض الآخر بائسا! انتابني لحظتها شعور الأب الذي كان يحمل ابنته وهي صغيرة، واليوم يراها عروسا تحمل أطفالًا، شعور المهندس الذي يتسلم أرضا خاوية ثم ينجزها لتكون بناءً ضخما وجميلا! شعور المعلم الذي يأتيه تلاميذ سنويًّا لا يعرفون الحرف! ثم بعد مدة وجيزة يعلمهم الحروف والجمل والقواعد والبلاغة! كان شعورا جميلا لكن كما جرت العادة لم تخلُ جملي من تساؤل! هل ستكون روايتي تلك البنت التي كان يحملها ويرفعها للأعلى مداعبة لها، وهل سأكون أنا ذلك الأب! هل ستحملني هذه الرواية، هل ستكون ملاذي ذات يوم.
يسرقون رغيفك، ثم يعطونك منه كسرة، ثم يأمرونك أن تشكرهم على كرمهم يا لوقاحتهم!! "غسان كنفاني"
حياة يندى لها الجبين! كم كنت أحب الطيران والتحليق لكنهم كانوا متيمين، وعاشقين لقص أجنحتي! ماذا يريدون فالأرض تكفي لجميع البشر، والرزق يكفي للجميع أيضًا.