كان السيد كومبزضجِرًا بالحياة. سار مُبتعِدًا عن بيته التَّعِس، ولِضجَرِه من وجود الجميع
لا من وجوده فحسْب، انحرَفَإلى زُقاق جاسورك ليتجنَّب المدينة. وحينعبر الجسرَالخشبِيَّ
الذي يمتدُّ عبر القناة وحتى أكواخ ستارلينج،صار وحيدًا في غابات الصنوبر الرطبة، بعيدًا
عن أيٍّ مرأًى أو مسمعٍ مِن البشر. لن يتحمَّل بعد الآن. راح يُردِّد بصوتٍ عالٍ مع سِبابٍ لم
يُعهَد منه أنه لن يتحمَّل بعد الآن.
كان رجُلًاضئيلًا شاحِب الوجه، له عينان داكِنتان وشارِبٌ رفيع فاحِم السواد، يرتدي
ياقةً شديدة الصلابة والانتصاب ومُهترئة قليلًا، فجعلَته يبدو كأنَّ له ذِقنًا مزدوجًا. أما
مِعطفه الخارجي، فبالرغم من كونه رثٍّا، فإنه كان مُؤطَّرًا بفِراء الأستراخان. كان يرتدي
قُفازين باللون البنيِّ الزاهي، مُزيَّنين بشرائطَ سوداءَ تمتدُّ فوق مفاصل الأصابع وتنفصل
عند الأنامل. أما عن هيئته، فقد قالت زوجته ذات يومٍ من الأيام الغالية الخالية التي لا
يُمكنه تذكُّرها — وقد كان ذلك قبل أن يتزوَّجها — إنَّ له هيئةَ رجلٍ عسكري. أما الآن،
فقد وصفتْه — وهو وصفٌ مروِّع إذ يُقال بين زوجٍ وزوجة، لكنها وصفته على أية حال —
ولم يكن ذلك الوصف الوحيد الذي نعتَته به. ،« حشرة ضئيلة » بأنه
نشب الخلاف بشأن جيني البغيضة مُجدَّدًا. جيني هي صديقة زوجته التي تحضر
لتَناول الغداء كلَّ أحَدٍ مُباركٍ دونَ دعوةٍ من السيد كومبز على الإطلاق، وتظلُّ تُسبِّب الإزعاج
طوال فترة العصر. كانت فتاةً ضخمةً صاخبة، تستهويها الألوان الصارِخة ولها ضِحكةٌ
حادة كالصرير؛ وفي هذا الأحد، تجاوزت جميعَ أساليبها التَّطفُّلية السابقة؛ إذ أحضرَت
رجلًا معها؛ فتًى مُدَّعيًا مثلها. فجلس السيد كومبز إلى طاولته بياقته النظيفة المنشَّاة
ومِعطفه الفراك المخصص لأيام الآحاد، صامِتًا وحانِقًا، بينما راحت زوجته وضيْفاها
يتحدَّثون بحماقةٍ بغيضة ويضحكون بصوتٍ عالٍ. حسنًا، لقد تحمَّل ذلك. وبعد الغداء
ما كان على الآنسة جيني إلا أن تجلس إلى البيانو وتعزف ،(« كالعادة » (الذي كان مُتأخرًا
ألحان البانجو للعالَم بأكمله، وكأنه ليس بيوم الأحد! لا يمكن لبَشرٍ أن يتحمَّل مثل هذه
الأفعال؛ لقد أسمعوا الجِيران وأسمعوا المارَّة في الطريق. كان إعلانًا عامٍّا عن سوء سُمعتهم؛
لذلك كان عليه أن يتكلم.
شعر بأنَّ وجهه غدا شاحِبًا وتأثَّر تنفُّسه برجفةٍ أصابته بينما كان يهِمُّ بالحديث.
كان يجلس على أحد المقاعد المجاوِرة للنافذة؛ إذ كان الضَّيف الجديد قد استولى على المقعد
قالها بتلك «! يوم الأحد » : ذي الذراعين. أدار رأسه مُشيحًا به فوق الياقة، وبنبرةِ تحذيرٍ قال
«. يوم الأحد » :« بغيضة » النبرة التي يراها الناس
استمرَّت جيني في العزف، أما زوجته التي كانت تتصفَّح بعضالمقطوعات الموسيقية
ما الخطب الآن؟ أَلَا نستطيع الاستمتاع » : المتراكمة فوق البيانو، فقد حدَّقَت فيه قائلةً
«؟ بوقتنا
أنا لا أمُانع الاستمتاعَ العقلانيَّ على الإطلاق، لكني لن أسمح » : رد كومبز الضئيل
«. بعزف ألحانِ أيامِ العمل يومَ الأحد بهذا المنزل
قالت جيني مُتوقفةً عن العزف ومُستديرةً فوق مقعد الموسيقى في انتفاضةٍ عنيفة
«؟ ما المشكلة في عزفي الآن » : مُتكلَّفة
عرف كومبز أنَّ الأمر سيتحوَّل إلى شجار، فانخرط فيه بقوَّةٍ زائدة كما هي عادةُ
توقَّفي عن الدوران بالمقعد؛ » : جميعِ الرجال الخجولين العصبيِّين في العالَم أجمع، فقال
«. فهو لم يُصنَع للأوزان الثقيلة
دَعْ عنك أمرَ الأوزان؛ فهذا ليس من شأنك. ماذا » : قالت جيني وقد استشاطت غضبًا
«؟ كنتَ تقول عن عزفي من وراء ظهري
قال الضيف الجديد وهو يميل بظهره في المقعد ذي الذراعين، بينما ينفخ غيمةً من
لا شكَّ بأنك لا تُمانع عزفَ بعض الموسيقى » : دُخان السيجارة ويبتسم بشيءٍ من الشفقة
لا» : وفي الوقت نفسه، قالت زوجته شيئًا لجيني من قبيل «؟ في يوم الأحد يا سيد كومبز
«. تهتمِّي لأمره واستمرِّي في العزف يا جيني
«. بلى » : رد السيد كومبز مُخاطبًا الضَّيف الجديد
فتساءل الضيف الجديد، وهو يبدو عليه الاستمتاع بسيجارته وبانبِثاقِ الجدَل الذي
بالمناسبة، كان هذا الضيف شابٍّا «؟ أيُمكِنني أن أسأل عن السبب » : تَلُوح نُذُره في الأفق
نحيلًا وطويلًا، بدا شديدَ التأنُّق وهو يرتدي ثيابًا فاقِعةً ذات لونٍ بُنيٍّ فاتح، مع ربطة
عنقٍ بيضاء ودبُّوسٍ من اللؤلؤ والفضة. أما السيد كومبز، فقد رأى أنه لو حضربمعطف
أسود لكان أفضلَ هِندامًا.
لأنَّه لا يُناسبني؛ فأنا من رجال الأعمال وعليَّ أن » : استهلَّ السيد كومبز الحديث قائلًا
«… أتحرَّى علاقاتي بدقة، فالاستمتاع العقلاني
علاقاته! هذا ما يقوله دومًا، علينا أن نفعل » : قاطَعَته السيدة كومبز قائلةً بازدِراء
«… هذا وعلينا أن نفعل ذاك
إن كنتِ لا تَنوين تحرِّي علاقاتنا، فلماذا » : فقاطعها السيد كومبز بِدَوره مُتسائلًا
«؟ تزوَّجتِني إذن
«! أتساءَلُ مُتعجِّبة » : قالت جيني وهي تَستدير ثانيةً إلى البيانو
«. إنني لم أرَ رجلًا مثلك قَط » : فردَّت السيدة كومبز
«… لقد تغيَّرتِ تمامًا منذُ أن تزوَّجْنا. قبل »
ثم بدأت جيني في العزف مُجدَّدًا، تِرن، تِرن، تِرن.
فَلْتسمَعوا » : نهض السيد كومبز وقد دفَعَه الوضع أخيرًا إلى الثَّوَران، فقال صائحًا
وراح المعطف يَختلِج إِثرَ سُخْطه واستيائه. «. جيدًا! أحُذِّركم بأنني لن أقبل هذا
«. لا نريد عنفًا الآن » : قال الشاب الطويل ذو الثياب البُنيَّة وهو يعتدِل في جِلسته
«؟ ومَن عساك أن تكون أنت » : فردَّ السيد كومبز بِعُنف
جيني « خطيب » ومن ثَمَّ بدءوا جميعًا بالكلام على الفور. قال الضيف الجديد إنه
وعليه أن يحميَها، فأجابه السيد كومبز بأنه يُمكنه أن يفعل ذلك على الرَّحْب والسَّعة في أيِّ
مكان، على ألَّا يكون ذلك في منزله (أيْ في منزل السيد كومبز)؛ فتدخَّلت السيدة كومبز قائلةً
إنَّه حَرِيٌّ به أن يخجَل من إهانةضيوفه، وإنه (كما ذكرتُ من قَبل) يتصرَّف بدناءةِ حشرةٍ
ضئيلة كما هي عادَتُه. وانتهى الموقف بأنْ أمَرَ السيدُ كومبز ضيوفَه بمغادرة المنزل، إلَّا
أنهم أبَوْا ذلك، فأخبرَهم أنه سيُغادر هو. سار السيد كومبز، بِوَجهه المُتَّقِد غضبًا، ودموع
الانفعال في عينيه، إلى الرَّدْهة. وبينما كان يُواجه صعوبةً في ارتداء مِعطفه الخارجي — إذ
تكدَّسَ كُمَّا مِعطفه الفراك في أعلى ذراعَيْه — ويمسح قُبَّعته الحريرية، بدأتْ جيني في
العزف مُجدَّدًا على البيانو، وهي تَزُفُّه بطريقةٍ مُهِينة إلى خارج المنزل. تِرن، تِرن، تِرن!
صفَق البابَ بعنفٍ حتى ارتَجَّ المنزل. كان هذا الموقف، باختصار، هو ما شكَّلَ مِزاجه
الحالي، ولعلَّك ستبدأ إذن في فهم السبب من اشمئزازه من الوجود.
بينما كان يسير عبر الممرِّ المُوحِل تحت أشجار التنوب — وكان ذلك في أواخر أكتوبر
حيث بدَتِ القنواتُ والأكوام التي كوَّنتها إبرُ التنوب في غايةِ الرَّوعة بما عليها من كُتَل
الفطريات — راح يَستعرِض بإيجازٍ تاريخَ زواجه الكئيب، وقد كان مُوجَزًا ومُبتذلًا بما
يكفي. لقد أدرك السيد كومبز الآن بوضوحٍ تامٍّ أنَّ زوجته لم تتزوَّجه إلا بدافع الفضول
الفطريِّ وهرَبًا من حياتها المُقلِقة الشاقَّة غير المُستقِرَّة في المشغل الذي كانت تعمل به.
وقد كانت أغبى من أن تُدرِك أنَّ مِن واجبها أن تُعاوِنَه في عمله، مثلها في ذلك مثل مُعظم
بنات طبقتها. اتَّسمَت السيدة كومبز بشراهةٍ إلى المتعة، وحُبٍّ للثرثرة، وعقليةٍ اجتماعية.
ومن الواضِح أنَّه قد خاب أملُها حين وجدَت أنَّ قيودَ الفقر لا تزال تُكبِّلها. كانت مخاوِفه
.« التذمُّر » تُثير حَنَقَها، وأدنى محاولةٍ منه لضبط تصرُّفاتها لم تكن تؤدي إلا إلى اتهامه ب
لِمَ لَم يَعُد لطيفًا كما كان من قبل؟ كان كومبز رجلًا ضئيلًا غير مؤذٍ، تشبَّعَ عقلُه
بمفاهيم الاعتماد على الذات وتنميتها، مع طموحٍ هزيل لإنكار الذات والمنافسة، أدَّى في
ثم جاءت جيني كشيطانة، وظلَّت تُثرثِر بالكثير من الحكايات عن .« الكَفاف » النهاية إلى
وترغب دومًا في أن تذهب زوجتُه إلى المسارح (وكل تلك الأمور)، ثم هناك عمَّات ،« الرجال »
زوجته وأبناء عمومتها (من الرجال والنساء) الذين كانوا يلتَهِمون المال ويَسبُّون شخصه
ويُفسِدون ترتيبات الأعمال ويُزعِجون العملاءَ المهمِّين، ويُفسِدون عليه حياتَه عمومًا. لم
تكن تلك هي المرَّة الأولى التي يُغادِر فيها السيد كومبز منزلَه غاضبًا وحانقًا، وهو يشعر
بشيءٍ من الخوف ويتوعَّد بغضب، بل بصوتٍ عالٍ أيضًا، بأنه لن يتحمَّل ذلك، وهكذا يظلُّ
يُفْرِغ طاقته بطريقةٍ تُجنِّبه المواجهة. لكن السيد كومبز لم يبلغ قطُّ قدْرًا من الضَّجر
بالحياة كذلك الذي كان في عصرهذا الأحد. ربما كان لغَداء الأحد دَورٌ فيما يَشعر به من
يأس، وكذلك السماء الرمادية، وربما أيضًا لأنه بدأ يُدرِك خَيبته غير المُحتملَة كرجل أعمالٍ
نتيجةً لزواجه. فها هو الآن يُواجه الإفلاس، وبعد ذلك ربما تلقَى ما يدفعُها إلى الندَم بعد
أن يكون الأوان قد فات. وأمَّا القدَر، فكما أشرتُ سلفًا، فقد ملأ الطريق الذي يمتدُّ عبر
الغابة بالفطريات الكريهة الرائحة؛ إذ زَرَعها بكثافةٍ وبأشكالٍ مُتنوِّعة، ولم يكتفِ بِزرْعها
على الجانِب الأيمن فحسْب، بل على الأيسر أيضًا.