حَرِيٌّ بصاحِب محلٍّ صغير أن يُصبِح في تلك الحالة من الكآبة إذا تبيَّنَ أنَّ زوجته
ليست بالشريك الوفي؛ فجميع رأس ماله مُستثمَر في عمله، وإذا تركها فسوف ينضمُّ
إلى جموع العاطلين عن العمل في بُقعةٍ ما غريبةٍ من الأرض. لا يمكنه أبدًا أن يتحمَّل
رفاهية الطلاق؛ لذا فإنَّ التقليد العتيق لاستمرار الزواج على السرَّاء والضرَّاء سيسري عليه
لا محالةَ مهما كانت العواقب، ثم تئول الأمور تدريجيٍّا إلى نهاياتٍ مأساوية. بالنسبة إلى
عُمَّال البناء فهم يركُلون زوجاتِهم حتى الموت، والدَّوقات يخونون زوجاتهم، أمَّا صغار
الموظفين وأصحاب المحلَّات، فالشائع بينهم هذه الأيام هو قَطْع رقابهن. وفي ظلِّ هذه
الظروف، فليس من المفاجئ — وعليك أن تتلقَّى ذلك بأكبر قدرٍ من الرِّفق والتسامُح — أن
يُفكِّر السيد كومبز لوهلةٍ بمثل هذه الأفكار اللامعة القريبة من آماله الخائبة، فراح يُفكِّر
بالشفَرَات والمُسدَّسات وسكاكينالخُبز، وماسيُرسِله إلى قاضيالتحقيقات من رسائلَ مُؤثرةٍ
يُدِين فيها أعداءَه ذاكِرًا أسماءهم، والدعاء بخشوعٍ طلبًا للمغفرة. وبعد حين، أسلَمَتْه تلك
الخواطر العنيفة إلى كآبةٍ شديدة. لقد تزوَّج بهذا المعطف الخارجي نفسه وتحته معطفه
الفراك الأول والوحيد الذي يمتلكه. بدأ السيد كومبز يتذكر أحاديثَ الغزل بينهما في هذا
الممشى ذاته، وسنواتِ ادِّخاره المُقتِّر للحصول على رأس المال، وذلك الأملَ الساطع في أيام
زواجه، ثم ينتهي كلشيءٍ على هذا النحو! أليس في العالم كله من حاكمٍ رحيم؟ بعد ذلك،
تحوَّلَ تفكيره إلى الموت.
فكَّرَ في القناة التي عبرَها للتو، وساوَرَه الشكُّ فيما إذا كان عليه ألَّا يقِف مُطلٍّا
برأسه إلى الخارج، حتى في المنتصف. وبينما كان يفكر في الغرق، خطفت بصرَه القَلَنْسوَةُ
الأرجوانية. نظر إليها بشكلٍ آليٍّ لوهلة، ثم توقَّفَ وانحنى نحوَها كي يلتقِطَها، ظانٍّا أنها
شيءٌ جلدِيٌّ صغير، كمِحفظةٍ مثلًا، ثم ما لبِث أن أدرك أنها قَلَنْسوةُ فِطرٍ أرجوانية؛ فِطرٍ
أرجوانيِّ اللون يبدو سامٍّا، وله شكلٌ استثنائي غريب؛ فقد كان لزِجًا ولامِعًا وتنبعِثُ منه
رائحةٌ نفَّاذة. تردَّدَ وهو يمدُّ يديه نحوَه على مسافة بوصةٍ تقريبًا، وخطرت بذهنه فكرةُ
السُّم. بهذه الفكرة في رأسه، التقَطَ الفِطْرَ وانتصبَ مُجدَّدًا وهو في يده.
كانت الرائحة قويةً ونفَّاذة بالتأكيد، لكنها لم تكن مُقزِّزةً على الإطلاق. قطَعَ جُزءًا
منه، فوَجَد أنَّ سطحه المكشوف للتوِّ أبيضُ في لون القِشدة، لكنه تحوَّلَ في غضونِ عشْرِ
ثوانٍ فحسبُ إلى لونٍ أخضرَ مُصفر، وكأنه بفعل السِّحر. كان هذا التغيُّر جذَّابَ المنظر،
حتى إنه قطع جُزْأين آخرَين ليراه وهو يتكرَّر. فكَّرَ السيد كومبز في مدى روعة هذه
الفطريَّات، وفكَّرَ أيضًا في أنها جميعًا أشدُّ السموم نقعًا، كما أخبَره والده كثيرًا. إنها سُمومٌ
مُميتة!
ليس هناك وقت أفضل من الوقت الحالي لقرارٍ أهوج. لماذا ليس هنا والآن؟ هكذا فكَّرَ
السيد كومبز. تذوَّق قطعةً صغيرة، قطعةً صغيرة للغاية بالفعل، لا يعدو حجمها الكِسرةَ
الصغيرة. كانت لاذعةً للغاية حتى إنه أوشك أن يَبصُقها، ثم أصبحت حارَّةً فقط ومليئةً
بالنَّكَهات: خردَل ألماني مع لمسةٍ من فِجل الخيل الريفي، وكذلك نكهة الفِطْر. ابتلَعَها في
غَمرَة اللحظة. أأعجبَتْه أم لم تُعجِبه؟ من الغريب أنَّ عقله لم يكن مُباليًا. سيُجرِّب قضمةً
أخرى، لم تكن سيئةً في الواقع، بل كانت جيدة. نسِي همومه لأجل الاستمتاع باللحظة
الحالية؛ لحظةِ العبَث مع الموت. أخذ قَضمةً أخرى، ثم تعمَّدَ ملءَ فمِه بقضمةٍ أخيرة.سرى
في أنامِلِه وأصابع قَدَميه شعورٌ غريب بالوَخز، وتَسارَع خفَقَان قلبه، أما الدم المُتدفِّق في
جرِّب » : أذنيه فراح يَدْوي كتيَّارات المياه التي تُدير الطواحين. قال السيد كومبز لنفسه
استدار ونظر من حوله، ووجد أن قدمَيْه غير ثابِتَتين. رأى بُقعةً أرجوانية «. قطعةً أخرى
تلك الأشياء » : على بُعْد اثنتي عشرة ياردة، وناضَلَ للوصول إليها. همَسالسيد كومبز قائلًا
تقدَّمَ نحوها مُتعثرًا ثمَّ وقع على وجهه ويداه ممدودتان نحو «! اللزِجة المُمتِعة! هناك المزيد
مجموعة القلانِس، لكنه لم يأكل المزيدَ منها، فقد نَسِي على الفور.
تدحرج على الأرض ثم جلس وارتسمَت على وجهه نظرةُ اندهاش. كانت قُبَّعته
الحريرية الممسوحة بعنايةٍ قد تدحْرَجت نحو القناة. رفع يده ضاغِطًا على جبينه. لقد
حدث شيء ما، لكنه لم يَستطِع أن يُحدِّد تمامًا ما هو، لكنه على أيَّة حالٍ لم يَعُد كئيبًا،
بل شعر بأنه مسرور ومُبتهج. أما حلْقُه فقد كان مُلتهبًا. ضحِك السيد كومبز إثرَ هذا
السرور المفاجئ الذي حلَّ في قلبه. هل كان كئيبًا؟ إنه لا يدري، لكنه على أية حالٍ لن
يكون كئيبًا بعدَ الآن. نهضمن مكانه ووقف مُترنحًا وهو ينظر إلى الكون بابتسامةٍ عذبة.
لقد بدأ يتذكر، لكنه لم يستطِع أن يتذكر جيدًا بسبب دوَّامةِ البُخار التي بدأت تدور في
رأسه. أدرك أنه كان كريهًا في المنزل لأنهم أرادوا أن يكونوا سعداء فحسْب. لقد كانوا على
حقٍّ تمامًا؛ يجِب أن نجعَلَ الحياةَ مُبهِجةً قدْرَ الإمكان. سيعود إلى المنزل ويتدَارك الموقفَ
ويُطيِّب خاطِرهم. ولِمَ لا يأخذ معه بعضَ هذا الفِطْر المُبهج كي يأكلوه؟ ما لا يقِلُّ عن
ملء قُبَّعته. وسيأخذ أيضًا بعضًا من هذه الفطريَّات الحمراء المُبقَّعة بالأبيض، والقليل من
الأصفر أيضًا. لقد كان سمِجًا مُملٍّا، عدوٍّا للبهجة، لكنه سيُصلِح هذا الأمر. سيكون من
المُبهج أن يَقلِب كُمَّيْ مَعطفه ويحشُر في جيوب صُدْرته بعض هذه النباتات الصفراء، ثم
يعود إلى المنزل مُترنِّمًا، ليحظَوْا جميعًا بأمُسيةٍ مرِحة.
بعد رحيل السيد كومبز، توقَّفَت جيني عن العزف واستدارت على مقعد الموسيقى
«! يا لها من ضجَّةٍ فارغة » : مُجدَّدًا، قائلةً
ها قد رأيتَ بنفسك يا سيد كلارينس ما اضطُرِرتُ إلى » : فردَّت السيدة كومبز مُعلِّقة
«. تحمُّله
«. إنه مُندفِع بعضَالشيء » : ردَّ السيد كلارينس بنبرةِ مَن يُطلِق حكمًا
ليست لديه أدنى فكرة عن وضعنا، وذلك ما أشكو » : فأردفتِ السيدة كومبز مُسترسلةً
منه؛ إنه لا يَعبأ بأي شيءٍ سوى محلِّه القديم. وإذا دعوتُ أصدقائي، أو اشتريتُ أي شيءٍ
لأحُافِظ على مظهري لائقًا، أو ابتَعتُ لنفسيأيَّشيءٍ ولو صغيرًا من مصروف البيت؛ نشَبَ
وما « الكفاح من أجل الحياة » و « التوفير » بيننا الشِّجار، ثم لا يَفتأ يُردِّد ما يقوله دومًا عن
إلى ذلك. إنه يسهر الليالي ليفكِّر في طريقةٍ يُجرِّدني بها من شِلنٍ واحد. لقد كان يريد لنا
«!؟ أن نأكل زبدة دورسيت ذات مرة، لو أنني استسلمتُ له وقبِلت، أرأيت
«. بالطبع » : علَّقتْ جيني بقولها
إذا » : أجاب السيد كلارينس مُسترخِيًا في المقعد ذي الذراعين ومثبِّتًا عينيه على جيني
كان الرجل يُقدِّر امرأةً ما، فيجب عليه أن يكون مُستعدٍّا لبَذل التضحِيات من أجلها، فأنا
عن نفسي، لن أفكِّر في الزواج حتى أكون قادِرًا على أن أوُفِّر لزوجتي حياةً مُترَفة. إنها
«… أنانيةٌ تامَّة! يجِب على الرجل أن يخوضالصعابَ بنفسه وألَّا يُقحِم زوجته
أنا لا أتَّفقُ مع ذلك مُطلقًا؛ فلستُ أرى بأسًا في أن يحظى » : قاطعته جيني مُعترضةً
«… الرجل بمساعدة المرأة ما دام لا يُسيِء مُعامَلتَها. إنها الإساءة
لن تُصدِّقوا هذا، لكنني كنتُ حمقاءَ إذ » : فقاطعَتْها السيدة كومبز بدَورها قائلةً
«. تزوَّجتُه. كان عليَّ أن أعرف ذلك. لولا أبي، لَمَا تمكَّنَّا من توفيرِ عربةِ الزفاف
«؟ يا إلهي! ألَمْ يُوفِّرها هو » : قال السيد كلارينس مَصدومًا تمامًا
قال إنه يُريد المالَ من أجل المخزون، أو مثل هذه الترَّهات. تخيَّلوا أنه لم يكن لِيقبَل »
بأن أستعين بامرأةٍ تُساعِدني في المنزل مرَّةً في الأسبوع لو لم أتصدَّ له بِعزْم. وكل هذه
الجلَبَة التي يُثيرها بشأن المال؛ إنه يأتيني بالأوراق والحسابات وهو على وَشْكِ البكاء،
فأردُّ «. فقط لو أننا نَستطيع أن نتحمَّل هذا العام، فسيسير العمل على ما يُرام » : ويقول
فقط لو نستطيع أن نتحمَّل هذا العام، ثم تأتيني لتقول فقط لو أننا نتحمَّل العام » : قائلةً
التالي! إنني أعرِفك. ثم إنك لم تَعْهَدني هزيلةً وقبيحة. لماذا لم تتَّخِذْ لك أمَةً إنْ كان هذا ما
««؟ تُريده، بدلًا من أن تتزوَّج فتاةً مُحترمة
حسنًا يا سيدة كومبز. لكننا لن نواصِل مُتابعةَ هذه المُحادثة التي لا طائل منها،
وسنكتفي بالقول بأنَّ مُغادرة السيد كومبز قد وافقَتْ هواهم، فقضَوْا وقتًا قصيرًا حول
نِيران الِمدفأة. ذهبت السيدة كومبز بعد ذلك لإحضار الشاي وجلستْ جيني بِتدَلُّلٍ على ذراع
الكرسي الذي يجلس عليه السيد كلارينس، حتى جاء صوتُ طقطقةِ أدوات الشاي من
ثمَّ «؟ ما هذا الذي سمعتُه » : الخارج. سألتهما السيدة كومبز مُداعِبةً وهي تدخل إلى الغرفة
دار بينهم مزاحٌ عن التقبيل. كانوا يجلسون جميعًا إلى الطاولة الصغيرة المستديرة، حين
سمعوا أوَّلَ إشارةٍ تُنبئُ بعودة السيد كومبز.
سمعوا صوته وهو يتحسَّس بيده مِزلاجَ الباب الأمامي.
ها هو سيِّدي قد حضر. خرج كالأسد وها هو يعود » : بادرتِ السيدة كومبز قائلةً
«. كالحَمَل. أراهن على ذلك
سقَط شيء ما في المحل، وبدا كأنه صوت كُرسي، ثم صدَر صوتٌ كأنه صوت تمرينٍ
مُعقَّد على الخطو في الرَّدْهَة، ثم انفتح الباب وظهر كومبز، لكنه كان مُختلفًا؛ فالياقة
الأنيقة مُمزَّقة باستهتارٍ وقد فارَقتْ عُنقه، والقبَّعة الحريرية النظيفة مُمتلئة حتى نصفها
بحفنةٍ من الفطريات وقد تأَبَّطَها. أما مِعْطفه فقد ارتداه بالمقلوب وقد زَركشَتْ صُدْرتَه
باقاتٌ من نبات القندول ذي الأزهار الصفراء. وبالرغم مما في زِيِّه من غرابةٍ لا تُلائم أيام
الآحاد، فقد طغى عليها ذلك التغيُّر في وجهه؛ لقد كان وجهُه ذا لونٍ أبيضَباهت، وعيناه
لامِعَتين وكبيرتين بشكلٍ استثنائي، أما شفتاه الشاحبتان الزرقاوان فقد ارتسمتْ عليهما
ثم توقَّف عن الرَّقصليفتح الباب، «! مَرَح » : ابتسامةٌ عريضة لا بهجةَ فيها. بادَرَهم بقوله
دخل إلى الغرفة بثلاث خطواتٍ مُذهِلة، ثم وقف «! استمتاع عقلاني! رَقْص » : ثم ثنَّى بقوله
مُنحنيًا.
أما السيد كلارينس فقد جلس مُتحجِّرًا فاغِرًا فاه. «! جيم » : صرخَت السيدة كومبز
الشاي. يا له من شيءٍ رائعٍ هذا الشاي! وهذه المقاعد أيضًا » : أضاف السيد كومبز
«. يا صاح
لكنها لم تَرَ من قبلُ مِثلَ هذا الشُّحوب الشديد «. إنه ثَمِل » : قالت جيني بصوتٍ واهِن
ولا ذلك الالتِماع في العينين واتِّساع حدَقَتَيْهما في غيره مِن الرجال الثَّمِلة.
أمسك السيد كومبز بحِفْنةٍ مِن عَيش الغراب القُرمزيِّ وقدَّمَها إلى السيد كلارينس
«. إنه رائع، فَلْتجرِّبه » : قائلًا
حتى تلك اللحظة، ظلَّ السيد كومبز لطيفًا، لكن هذا اللطف ما لَبِث أن تحوَّل، في
سرعة التحوُّلات الجنونية، إلى غضبٍ مُستبِد، وذلك عند رؤية وجوههم الذاهِلة. بدا كأنه
تذكَّرَ فجأةً الشجارَ الذي تسبَّبَ في مُغادرته، فصرخ بصوتٍ مدوٍّ، لم تَسمعْه السيدة كومبز
صاح بتلك الكلمات بلا «! إنه منزلي وأنا السيد هنا. تناوَلْ ما أقُدِّمه لك » : من قبل، آمِرًا
مجهودٍ وبلا عُنفٍ فيما يبدو، بل وقف ساكنًا وكأنه يهمِس، مُمسِكًا بحِفْنة الفِطر.
أثبَتَ كلارينس أنه جبان؛ فلم يستطع أن يُواجِه الغضب المجنون في عينَيْ كومبز،
وإنما نهض، دافعًا مقعدَه إلى الخلف، ثم استدار مُنحنيًا بجسده. وحينَها، اندفع كومبز
نحوه؛ فرأت جيني أنَّ تلك فرصتها واندفعت نحو الباب وقد انطلَقَت أصداءصرخة.
تَبِعتْها السيدة كومبز، وحاوَلَ كلارينس أن يُفلِت؛ فقد عبَرَ من فوق طاولة الشاي،
لكنه اصطدم بها، وإذا بالسيد كومبز يُمسِك بياقَته، ويُحاوِل أن يحشوَ الفِطْر في فم
كلارينس. لم يُمانع كلارينس في ترك ياقته خلفه، واندفع إلى الرَّدْهة وبقايا حمراءُ من
«! احبساه بالداخل » : عيش الغراب الذُّبابيِّ لا تزال عالِقةً بوجهه. صاحت السيدة كومبز
وهمَّت بإغلاق الباب، لكنَّ رفيقيْها تخلَّيا عنها؛ فقد رأت جيني بابَ المحلِّ مفتوحًا فانسلَّتْ
خلالَه مُختفيةً وأغلقتْه من خلفها؛ أما كلارينس، فقد هُرِع إلى المطبخ بسرعة. جاء السيد
كومبز مُتثاقِلًا نحو الباب، وحين وَجَدت السيدة كومبز أنَّ الِمفْتاح بالداخل، هربَتْ إلى
الطابق العلوي وحبست نفسَها في غرفة النوم الإضافية.
وهكذا انطلَق ذلك المُعتنِق الجديد لمبدأ الاستمتاع بملذَّات الحياة إلى الممر، وقد تبعثرَتْ
زِينته قليلًا، لكنَّ تلك القُبَّعة الموقَّرة المملوءة بالفطريَّات كانت لا تزال تحت ذراعه. تردَّدَ
في أيِّ طريقٍ من الطرُقِ الثلاثة يذهب، ثم قرَّرَ الدخولَ إلى المطبخ حيث كلارينس الذي
كان يتحسَّس الِمفْتاح وقد تخلَّى عن مُحاولة حبس مُضيفه وفرَّ إلى غُرفة غسْل الآنِيَة،
فلم يَرُعْه إلا السيد كومبز يُمسِك به قبل أن يتمكَّن من فتح الباب المُؤدي إلى الفناء. كان
السيد كلارينس كتومًا للغاية بشأن تفاصيل ما حدث، لكنْ يبدو أنَّ حالة الغضب العابِرة
التي انتابتِ السيد كومبز قد اختفتْ مُجدَّدًا، وعادَ مرَّةً أخرى رفيقًا لطيفًا. ونظرًا لوجود
السكاكين وسواطير اللحم بالقُرْب منهما، فقد آثَر كلارينس، بسماحةٍ كبيرة، أن يُجاريه
ليتفادى وقوعَ حادثٍ مأساوي. لا شكَّ في أنَّ السيد كومبز قد داعَبَ السيد كلارينس كما
يحلو له، وما كان لهما أن يَستمتِعا بهذا القدْرِ من المَرَح والأُلفَة لو كان يَعرِف أحدهما
الآخَر منذُ سنوات. لقد أصَرَّبمرحٍ على أن يُجرِّب كلارينسالفِطْر، وبعدَ شِجارٍ ودِّي، أحسَّ
بوخزِ الضمير لما تَسبَّبَ فيه من فوضىبِوجهِضَيْفِه، ويبدو أيضًا أنه سحَبَ كلارينستحت
الحوْضِوفرَكَ وجهَهُ بفُرشاة الأحذِية. ظلَّ كلارينس عازمًا على مُجاراة هذا المَخبول بأيِّ
ثمن، وأخيرًا، ساعدَه السيد كومبز على ارتِداء مِعطفه وهو على حالته تلك بِشعرِه الأشعث
وثِيابه المُمزَّقة ووجهه المُمتَقِع، ثم صحِبَه إلى الباب الخلفي، إذ كانت جيني قد أغلقتْ باب
المحل. اتَّجهت أفكار السيد كومبز الهائمة بعد ذلك إلى جيني، التي لم تتمكَّن من فتح باب
المحل، لكنها دفَعَتْ مِزلاج الباب مانِعةً مِفْتاح السيد كومبز من فتحه، واستحوذَتْ على
المحلِّ لبَقِيَّة الأمُسية.
يبدو أنَّ السيد كومبز قد عاد بعد ذلك إلى المطبخ، وهو لا يزال في مَسعاه إلى الجزَل
والسرور، وبالرغم من أنَّه عضوٌ مُتشدِّد في تنظيم فرسان الهيكل الأخيار، فإنه شرِب (أو
سَكَب على مِعطفه الفراك الأول والوحيد) ما لا يَقِلُّ عن خمس زجاجاتٍ من الجِعَة القويَّة
الداكِنة التي أصرَّتِ السيدة كومبز على الاحتفاظ بها من أجل صِحَّتها. أطلق السيد كومبز
أصواتًا مُبهجةً وهو يكسِر أعناق الزجاجات باستخدام عددٍ من أطباق العشاء التي تلقَّتْها
زوجته كهدايا زفافها، وفي أثناء الجزء الأول من هذا السُّكْر العظيم، راح يُغنِّي بعض
الأغاني العاطفية البهيجة. جُرِحَتْ إصبَعُه بشدَّةٍ بينما كان يكسِر إحدى الزجاجات، وتلك
هي الإصابة الوحيدة في هذه القصة، وبِسبَبِها، وكذلك بِسبَب ما انتابَه من تَشنُّجاتٍ مُنتظِمة
نظرًا لعدَم اعتيادِ جسدِه على جِعَة السيدة كومبز، فربما يكون ذلك كلُّه قد خفَّفَ إلى حدٍّ
ما من الآثار الخبيثة لسمِّ الفطريات. لكننا نفضِّل أن نُسدِل الستار على تلك الأحداث التي
اختُتِم بها عصرهذا الأحد؛ فقد انتهتْ بنومٍ عميقٍ وهنيءٍ في قَبوِ الفَحم.
مرَّت خمس سنوات، ومرَّةً أخرى سار السيد كومبز عصريومٍ من أيام آحاد أكتوبر
في غابة الصَّنَوبر التي تقَعُ وراء القناة. كان لا يزال مُحتفِظًا بهيئته التي عرفْناه بها في
بِداية القصة، بعينيه الداكنتين وشارِبه الأسود وحجمه الضئيل، لكنَّ ذِقنه المزدوج لم يَعُدْ
وهميٍّا تمامًا كما كان من قبل. كان مِعطفه الخارجيُّ جديدًا بطيَّةِ صدرٍ مخمليَّةٍ وياقةٍ
أنيقةٍ بِرُكنَين مقلوبين كما أنها لم تكن يابِسةً وخَشِنة كما كانت الياقةُ الأصلية المُستديرة.
كان يرتدي قُبَّعةً لامِعة وقُفازين جديدين، بالرغم من أنَّ إحدى الأصابع كانت مَشقوقةً وقد
أصُلِحتْ بِعناية. يمكن لِمَن يُلاحِظه عرَضًا أن يرى استقامةَ قامتِه وانتصابَ رأسه، وهو ما
يُميِّز الرجلَ المُعْتَدَّ بنفسه؛ فها هو الآن قد أصبح صاحِبَ عملٍ ولديه ثلاثة مُساعِدين، وإلى
جِواره سارت صورةٌ أخرى منه قد لفَحتْها الشمس؛ ذلك هو أخوه توم، الذي قد عاد لتوِّه
من أستراليا. كانا يَسترجِعان شجاراتهما القديمة، وكان السيد كومبز يتحدَّث عن حالته
المالية.
إنه عملصغير جيِّدٌ للغاية يا جيم. في ظلِّ التنافُسالموجود » : بادَرَ الأخ توم أخاه قائلًا
في هذه الأيام، أنت محظوظٌ للغاية إذ تمكَّنْتَ من تحقيق كلِّ ذلك، كما أنك محظوظ للغاية
«. إذ لديك زوجةٌ مُستعِدَّة لمساعدتك، كزوجتك
دَعْني أسُِرُّ إليك يا توم أنَّ الأمر لم يكن كذلك دائمًا. لم يكن الأمر » : رد السيد كومبز
«! هكذا دائمًا. ففي البداية، كانت زوجتي طائشةً بعضالشيء. غريباتٌ هؤلاء النساء
«! يا إلهي »
أجل، لن تُصدِّق هذا، لكنها كانت مُبذِّرةً للغاية، ودائمًا ما كانت تُوجِّه إليَّ الإهانات. »
لقد كنتُ مُتساهِلًا معها ومُحبٍّا وعطوفًا أكثر من اللازم، فظنَّت أنَّ الكون كلَّه يدور حولها.
جعلت من البيت نُزلًا دائمًا لمعارفها وصديقاتها مِن المَشغَل وكذلك رِجالهن. اعتادوا عزفَ
الأغاني الهزليَّة في أيام الآحاد، وكان ذلك مُزعِجًا كما أنه كان يَضرُّ بالتجارة. وفوق كل
«. هذا، كانت تَتغزَّل بالرجال! أؤكِّد لك يا توم أنَّ المنزِل لم يكن منزلي
«. لم يكن ذلك ليَخطُر ببالي »
إنني لستُ » : حسنًا، لقد كان الأمر كذلك، لكنَّني تَناقشتُ معها بعقلانية، قلتُ لها »
بدَوقٍ كي أعامِل زوجتي كحيوانٍ أليف؛ فقد تزوَّجتُك لتُساعديني وتكوني رفيقتي. عليكِ
لكنها لم تُعِرْني اهتمامًا؛ فما كان مني إلا أن «. أن تُساعديني وتدعميني لكي ينجح العمل
لكنها لم «. حسنًا. إنني رجلٌ ودِيع حتى أثور غضبًا، وإنني على وشكِ ذلك » : أردفتُ قائلًا
«. تَعبأ كذلك بمثل هذه التحذيرات
«؟ حسنًا، ثم ماذا »
هكذا هنَّ النساء. إنها لم تعتقِد بأنني قد أستشيط غضبًا. إنَّ مَن هنَّ على شاكِلَتها »
من النساء — وَلْيبقَ هذا الحديثسِرٍّا بيننا — لا يَحترمْنَ الرجلَ حتى يَهبْنَه؛ لذا فقد ثُرتُ
واهتَجتُ لكي تَعرِف أنني قد أفعل. جاءت فتاةٌ تُدعى جيني، كانت تعمل معها، بصُحْبةِ
فتاها. دار بيننا شِجارٌ بسيط وخرجتُ إلى هنا — كان يومًا كهذا اليوم تمامًا — ثم عدتُ
«. وانهلتُ عليهمضربًا
«؟ أحقٍّا فعلت »
أجل، لقد كنتُ غاضبًا بجنون، أؤكد لك. لم أكن لأضربها لو أمكنَني ذلك؛ لذا فقد »
اندفَعتُ إلى هذا الفتى، فقط لأرُيها ما أنا قادرٌ على فعله. كان فتًىضخمًا، ثم تركته ورحتُ
«. أحُطِّم الأشياءَ من حولي، فجعلتُها تصرُخ رُعبًا وفرَّتْ وحبست نفسها في الغرفة الإضافية
«؟ حسنًا، وماذا بعد »
«. الآن تعرفين كيف أبدو وأنا غاضب » : هذا كل ما حدث. في الصباح التالي، قلتُ لها »
«. ولم أضُطرَّ إلى قولِ أيِّشيءٍ أكثر من ذلك
«؟ ثم عِشتُما معًا في سعادةٍ تامَّةٍ منذ ذلك الحين، أليس كذلك »
أجل، إنْ صحَّ هذا التعبير. إنَّ الحلَّ الأمثل هو أن تكون صارِمًا؛ فلَولا عصرُ ذلك »
اليوم، لَكنتُ الآن مُشرَّدًا في الطُّرُق، ولَظلَّتْ هي مُتبرِّمةً مِنِّي هي وجميع عائلتها شاكين
من إفقاري لها؛ فأنا أعرِف طُرقَهم الوضيعة. لكننا الآن على ما يُرام، والعمل كذلك يسير
«. بشكلٍ جيِّدٍ للغاية كما كنتَ تقول
«! غريبات هؤلاء النساء » : تابَعا طريقهما مُتفكرَيْن، ثم قال الأخ توم
«. يجب أن تكون صارِمًا معهنَّ » : فأجابه كومبز
ما لهذه الفطريَّات الكثيرة هنا! لستُ أدري ما فائدتُها في » : علَّق الأخ توم في الحال
«. هذا العالَم
«. أعتقد أنها قد بُعِثت لسببٍ حكيم » : نظر إليها السيد كومبز قائلًا
وقد كان ذلك مِقدارَ ما نالَتْه القَلَنْسوةُ الأرجوانية من شُكْرٍ لإثارةِ غضبِ هذا الرجل
التافِه الضئيل إلى الحدِّ الذي دفعه إلى اتِّخاذِ إجراءٍ صارم؛ ومن ثَمَّ تغيير مسار حياته
بأكمله.