دخل مراد قريته ليلا عائدا من المدينة، والهدوء يلف المكان، والقرية تتشبث بجسده النحيل، وذكرياته الخالدة عالقة في كل الطرقات، والبيوت القديمة تبدو للزائرين أو العائدين على الأطلال ساكنة لا حراك فيها، ومن يمعن النظر فيها يخيل له بأنها باتت قطعة واحدة تؤنس بعضها البعض.
وفي صبيحة اليوم التالي ارتفع صياح الديك في كل مكان، فاستيقظ مراد ثم جلس مع نفسه، وغرق في ماضي الريف الجميل، وانتابه شعور عظيم، ولقد تمادى به الشعور، وسرح أمام نوافذه الصغيرة التي كان يرصد معها المارة.
فقد ولد مراد في هذا البيت الصغير، وكان هذا البيت المهجور مليئا بالحياة، والقرية مليئة بالذاهبين والعائدين.
ولم تكن تخلو ساحة منزلهم من الضيوف والأقارب مع كل عصرية حيث تدار بينهم الأحاديث في مواضيع متنوعة، وباب منزلهم الصغير كان يقرع كثيرًا.
عادت الذاكرة بمراد إلى الوراء حيث تذكر كم كانت أصغر المناسبات يشارك فيها الصغير والكبير، ويفتقدون من يغيب عنهم، ويتزاورون كل صباح ويشربون الحليب والقهوة، ويتنفسون رائحة الخبز المحترق من التنانير التي يرتفع دخانها عاليا فيشاهده من في أقصى القرية، ومن ثم يذهبون إلى مزارعهم الخضراء التي تفوح برائحة العشب، وجميل هو صوت خرير الماء بعد هطول الأمطار حيث تسقى المزارع، ومع زقزقة العصافير، وتحت ظلال الأشجار يتناولون الإفطار بعيدا عن الترف والبذخ، وتتعدد الأعمال بين من يرعى قطيعه من المواشي، ومن يقطف ثمره، وهناك من يسقي أرضه.
استسلم مراد لهذا التخدير الصباحي، وظل يراقب العصافير التي تبني أعشاشها، وهي تلحن لحنا مفعما بجمال وعذوبة وهدوء الريف، ثم نهض عقب ذلك، وأخذ يتجول ويسير بين البساتين، والسماء صافية، والهواء عليل يطيب لكل من يريد الإقامة بمناظر هذه القرية التي تشرح الصدور وتشدو طربا بصوت الطيور فوق قمم الأشجار.
طرق المساء أبوابه، وتلبدت السماء بالغيوم، وصوت الرعد ينادي السحب، وحينها أدرك مراد بأن فصل الشتاء قد دخل فالمطر ينهمر بشدة، ورغم برودة الشتاء الذي ينعم علينا بشدة البرد وفي ذلك حكمة لنعرف قيمة الدفء.
في أقصى القرية تسكن ليلاف، وفي وقت متأخر من الليل، السكون يخيم على سكان القرية، وكانت ليلاف تجوب الطرقات الريفية دون مظلة تخفف من شدة الأمطار، وتسير بعشوائية، بحثًا عن منزل مراد الذي يقوم بدور طبيب القرية، ويقدم العلاجات لأهل القرية.
وصلت ليلاف إلى وجهتها بعد قرابة الساعة سيرًا على الأقدام، ويبدو عليها أثر الإرهاق, والتعب الذي يكاد يغطي على جمالها، ومفاتنها الحسناء، وبيدها الناعمة قرعت الباب ثم سقطت مغشية.
سمع مراد الذي يبلغ من العمر إحدى وعشرين سنة صوت دقات ليسير نحو الباب .
سأل مراد:
- من في الخارج؟ من الذي يطرق الباب؟
لم يسمع سوى زخات المطر على كوخه، وارتبك قليلا وشعر بالخوف، فلربما محتاج، ولربما عابر سبيل يبحث عن قوت في هذا الليل.
وأخيرًا، فتح مراد الباب وإذا بفتاة مغشية عليها.
قدم لها الإسعافات الأولية.
فاقت من غيبوبتها وهي في وسط منزله الصغير.
سألها مراد: هل أنت بخير يا عزيزتي؟
- لا أنا بخير، ولكن أمي مريضة في المنزل, هل تقدم لها العلاج؟
مراد: بكل سرور نعم.
أخذ مراد حقيبته الطبية التي أحضرها من المدينة، وهرع مسرعًا على الأقدام برفقة ليلاف التي ترتجف من البرد كما هو حال الأرض التي ترتجف بردًا، ومن ثم لفّ مراد حول عنقها وشاحه الثقيل حتى لا يلفح الهواء البارد تلك البراءة.
وليست الأرض وحدها التي ترتجف بردًا, حتى القلوب ترتجف بردًا والنبض يبحث عن الدفء.
وفي أثناء السير كشفت ليلاف عن هويتها واسمها وسيرتها الذاتية وأحلامها الوردية التي لا تتوافق مع إمكانياتها المادية فهي تحلم بالانتقال إلى المدينة، وإكمال دراستها الجامعية في الطب أو التمريض فهي في السنة الأخيرة في المرحلة الثانوية حيث تبلغ من العمر سبعة عشر عامًا، وتعمل في أوقات فراغها في إحدى مزارع القرية برفقة والدتها.
وكم يأمل مراد الذي بدأت نظرات الإعجاب تجذب عينيه، ويأمل بصمت أن تطيل ليلاف الخطوات نحو المنزل، وأن يسير الليل ببطء.
لم يكن الشعور بالشتاء أكثر من الوقوع في الإعجاب، فمراد أمام تلك الحسناء التي يسير تارة عن يمنيها، وأخرى عن يسارها يتمتم بالحروف.
وصلا إلى المنزل وقدم مراد واجب الإسعاف لوالدة ليلاف التي تبلغ من العمر ثلاثة وثلاثين عامًا، والنحلة لا تنجب سوى العسل.
واطمأن مراد على نبضها ومنحها العلاج اللازم، وأمرها بالبقاء في المنزل طيلة أيام الأسبوع المقبل خشية الانتكاسة، فموجات البرد ستكون مضاعفة في حال قررت أم ليلاف العودة للعمل.
أصرت ليلاف ألّا يغادر مرادٌ إلا على شعاع الشمس بعد أن استأذنت والدتها، وحتى يبدأ الجو بالتحسن تدريجيا.
ومن ثم أمرت أم ليلاف ابنتها أن تعد للضيف كوبا من الحليب الساخن بحثا عن الدفء.
بينما يرى مراد المعجب بأن الدفء في عيني ليلاف الزرقاوين، وبدأت أفكار مراد تعرض على مسرح المستقبل وليست عقارب الساعة التي يسمع دقاتها بل يسمع مراد دقات قلبه تتسارع.
سرح مراد مع نفسه قليلا وفي حديث خيالي.
يسأل ليلاف عن فصل الشتاء وماذا يمثل لها
ليلاف تجيب:
-يؤلمني برد الشتاء ويؤلمني أكثر حين أبحث عن حضن يسكن ألمه، وقلبٍ صادقٍ يروض موجاته المتقلبة فعلى نافذتي تتناثر قطرات المطر كل ليلة، وكأنها تهمس بصوت خافت يا ليلاف تفاءلي سيأتي نصيبك من الحظ ذات يوم!
يرد مراد:
-الحياة مستمرة يا ليلاف، وما زال الأمل موجودًا وستطرق تلك القطرات نافذتك بلطف ذات يوم، ولن تستأذنك في الدخول إلى قلبك، وستنسين همومك، وسينمو قلبك بحب زاهر.
لا تشعري بالبؤس فالأوقات الحزينة والليالي القاسية ستنتهي وتتلاشى حين تكون أحلامك واقعا فتحتويك رائحة الحنان الرائعة والتي ستجعل من نافذة غرفتك بابا من الأمل، فالقلوب الصادقة وطن وملاذ دافئ للحب والسلام.
استبدلي الألم بالأمل، ازرعي الورود حول نافذتك، وسيتكفل المطر ببث الحياة فيها.
سطعت الشمس، ولم ينته عزف مراد الخيالي، وهو يتأمل تلك العينين البراقتين، ويرسم عليها ملاحم عشق قادم. أم هي ثورة إعجاب قد تنطفئ سريعا، وواصل مراد حديثه الصامت ويروي في مخيلته فصلا للدفء.
يشعر مراد برعشة البرد في جسده بينما ليلاف ذهبت إلى أمها لتطمئن عليها قليلا.
عادت ليلاف وأشعلت الموقد بحثا عن الدفء.
بينما مراد ما زال يعيش جوا خياليا وسط جو هادئ، وازرقت أطرافه وبدأ قلبه يخفق، وكآبة الوحدة التي يعيشها تمحى وتنبئ بربيع زاهر.
الشتاء ما زال مختبئًا بالنسبة إلى ليلاف فهي تفكر في أمها.
يسرق الوقت لحظات مراد الخيالية والجميلة واليوم عطلة نهاية الأسبوع مما يعني مزيدًا من اللقاءات والصباحات الرومانسية.
تقف ليلاف أمام النافذة، وما زالت قطرات المطر تنهمر، وتراقب الطقس.
مراد يراقب بصمت، ومن ثم يقوم من على الكرسي ينظر إلى جمال المطر الذي تحتضنه الأرض.
سأل مراد ليلاف عن الأم وعن ساعات عملها الطويلة ولا بد لها من الراحة والاهتمام بها في الفترة القادمة.
ليلاف ترد:
-إنها أمي التي حملتني تسعة أشهر وليس لي شيء غيرها سأعتني بها ولن أدعها تذهب إلى العمل مرهقة.
عاد مراد ليطلب من ليلاف أن تسمح له بالذهاب لكنها تكرر الرفض بسبب الطقس.
تجرد مراد من الموقف ثم سبر أغوار حياة ليلاف الخاصة، وحاصرها بهيئة محقق بوليسي
- هل عشت قصة غرامية؟
فردت ليلاف:
-ليس على بالي مثل تلك الأمور فأنا أدرس وأعمل ولا أفكر في شيء سوى راحة أمي ومساعدتها وتحقيق حلمها وحلم أبي الراحل.
مراد:
-أصدقائي في الجامعة يروون لي قصصًا غرامية ما بين قصة ناجحة، وأخرى فاشلة جلبت المرض لأصحابها حتى بات الطبيب النفسي الملجأ الأول لفتيات وشباب صغار في السن.
ثم تحدق ليلاف في عيني مراد فتقول:
- لا يهمني هذا الحديث الآن يا دكتور
مراد يحاول جر ليلاف إلى الحديث العاطفي فيقول:
- قرأت في كتاب بأن الأنثى تأخذ وقتًا طويلا لنسيان علاقة عاطفية، وقد تمتد إلى فترات طويلة فلربما لا ينفطر قلبها مرة أخرى، بينما الرجال يواصلون حياتهم بشكل طبيعي.
والنسيان المتدرج يفتح لهم آفاقا جديدة، وسرعان ما ينغمسون في علاقة جديدة أو البحث عن شريك مناسب.
ترد ليلاف:
-يا دكتور، كلامك كبير وأنا لم أفهم شيئا عماذا تتحدث وماذا تقصد؟
يتحدث مراد بحديث يفوق عمر ليلاف وسط تركيز وإصغاء من ليلاف لفك شفراته دون جدوى.
تطلق ليلاف على مراد لقب الفيلسوف.
مراد يبتسم:
- كلا لست فيلسوفا, أنا طالب طب فقط.
فيعود مراد للحديث غير المفهوم إلى ليلاف فيقول لها:
- الألم الجسدي، والغدر، والخيانة، والتخلي عن شريك لسبب ما يتركون جراحا غائرة ونزفًا مستمرا تحتاج حواء إلى سلسلة من الجلسات، وإعادة الحسابات فهي انتقائية في اختيار شريك جديد، وقد تعيش حواء في تدمير ذاتي ربما يقضي على أحلامها كافة.
ليلاف فتاة فطنة ولبقة ما زالت منصتة.
ما زال مراد يعيش عالما آخر ويتحدث:
- الكثير لا يحب مواجهة الحقيقة، والعلاقة العاطفية مثل الورد كلما زاد الماء سيحيا وتعيش مدة أطول، وحين يجد الجفاء سيذبل حتى تموت، والتعافي من العلاقات العاطفية يحتاج نوعًا من التركيز، والعمل العقلي وبعد فراغ القلوب، التفاهم هو أحد الركائز الأساسية التي تقوم عليها العلاقات فالبناء ليس كالهدم في الحب.
كان ذلك مشهدا صامتا يداعب خيال مراد حينما سجل إعجابه ببنت الريف ليلاف من اللقاء الأول والذي استمر لساعات قليلة تمكن من خلالها من مساعدتها في أزمة أمها الصحية المفاجئة.
تشير الساعة إلى السابعة صباحًا وهو موعد عمل ليلاف في الإجازة للذهاب إلى المزرعة بينما الإرهاق يسيطر عليها وقد بدأ الجو في التحسن قليلا.
خرج مراد وليلاف سويًّا, مراد الذي ينوي الذهاب إلى كوخه الصغير، والذي يعيش فيه وحيدًا، فيما تريد ليلاف التي تتحامل على التعب والإرهاق الذهاب إلى المزرعة للاستئذان لأمها فالأمر يبدو صعبًا في ظل مرض الأم مما يتطلب منها تعويض ساعات عمل لاحقا لتفادي الخصم.
كان مراد قد ترك عنوانه في منزل ليلاف على الطاولة.