كعادتي عندما تبدأ الكِتابة بمناداتي
تصبح جميع الأشياء التي يفعلها البشر بشكلٍ يومي، بتصوري مجرد أشياء للترف ليس أكثر، ولا تؤرجِح ميزان الأرض المهزوز أتحولُ فجأةً لكائنٍ مهمل وكسول يعاني روتينيّة الشهيق والزفير لا أبتسم كثيرًا ولا أكترث بالرواسب العالقة بأضفاري التي كانت تنموّ على كسلي وإهمالي عندما أكتب أتحولّ لقردٍ بائس حتى أمي قد لا تراني ذلك الغزال الشارد كل شيءٍ أشربه وآكله يتضاعف عندما أكتب.
حتى أنَّ الكتابة بدت لي وكأنها علامة الضرب التي نضرب بها أجسادنا فتضاعف ذلك الوجع بطريقة رشيقة وأشبه أن تكون سحرية لا نستطيع التشكيك بها كونها من المسلمات الرياضية يصبح سنقل الإسبرسو الذي اعتدتُ عليه مع كل سيجارة دبل تلدُ العشرون سيجارة التي كنت أطلب منها بهلع أن نحدد النسلّ ونتوقف عند هذا العدد على أمل الإقلاع ذات يوم إذ وجدتُ ما يستحق الامتناع عن التدخين، جوالي وشاحني وسماعاتي وعلب سجائري هذا ما أحمله دائمًا إذ كنت ناوي الكتابة أقصدُ ذلك المقهى بثقلٍ يشبه أول مساء في عيد، أتجنب الجلوس في المنتصف، لأن في المنتصف سوف أكون مرمى للأنظار وهذا ما لا أحتاجه ولا أريده بحجتين دامغتين الأولى الخجل من أن يراني أحد منهمكًا في الكتابة وسط بشر لا يقرؤون الثانية هي بغرض الإلهام لأن عند جلوسي في الأطراف سيكون جميع زبائن المقهى في مرمى ناظري وهذا ما أحتاجه تمامًا أنتشلُ أجزاءً بسيطة من سعادة السعيد وكآبة الحزين وأحلام اليافعين وتجارب الكاهلين أنتشلها بغرض صوغها في ملاحظات هاتفي على أمل أن يأتي يوم يدركون فيه أنَّ خلف كل رواية وجع حقيقي وبشع التهمنا بغزارة شهية، وعندما طال مكوثنا في فكٍّ حالكّ، العتام، نكتب لإضاءة هذا الفك الشرس ليس أكثر، جلستُ في الزاوية المقابلة للحمامّ، ثم قمت بتشغيل أغنية "هيا قل" لإبراهيم تاتليس, الأغنية التي أُفرطّ بسماعها مؤخرًا وعلى الرغم من وجود ترجمة للعربية أسفل الفيديو فأني لا أذكر أن أعرتها الاهتمام ربما لأن الوجعّ يشذُ عن لغات هذا العالم وبالإمكان أن يُزحزحه أي صوتٍ عذب حتى لو كان ينطق بلغةٍ لم تُكتشف قط، هبطَ الإسبرسو على الطاولة وبعد الرشفة الأولى أشعلتُ سيجارتي وبعناقٍ طويل معها أطلقتُ نظرة خاطفة ومتسللة لتعابير الزبائن اللذين داخل كلٍ منهم صندوقُ وجعٍّ لامرئي الجميع يزاود على صندوقه ويدعيّ أنه الأثقل وجعًا انهمكتُ في الكتابة وانعزلتُ عن هذا العالم العائم بالخرابّ حتى أعادني ذلك المستطيل الذي نزلَ بشكلٍ خجول وهو يذكرني بما فاتني طيلة هذا اليوم على موقع “Twitter”
استجبتُ له وبدأتُ بتفقد تغريدات من يهمني أمرهم ثم قمت بتغريد بيت شعر للعبقري نزار قباني"يكرهون الحب،، يكرهون الحياة،، يكرهون الورد،، يكرهون النِساء،، يكرهون النور،، يكرهون السلام"
اطفأتُ الموبايل، ثم اغتصبتُ ما تبقى في السيجارة.
اتصلَ بي (زياد) مدير المكتبة ليبلغني بمواعيد الدوام في رمضان طلبتُ منه إجازة فرفض صمتّ صمتّ
- هل هناك شيءٌ آخر؟
- أبدًا تصبح على خير.
قالها بدهشةٍ ناشزة ربما تعجب من لا مبالاتي أو كان ينتظر مني أن أجادله أكثر حتى نتشاجر كأي موظف ومديره ليفعل ما يفعله كل مدير وهو أن يخصم من المرتب البائس لهذا الموظف اليائس.
نزلَ هذا المستطيل ثانيةً، وأنا أضحكُ ببؤس نقرتُ عليه دونَ قصد كانت رسالة من (فيروز الهاشم) حروفها
- من هم، وهي تُشير لتغريدتي السابقة.
- لو كان سؤالك من ليس هم لربما كانت الإجابة سانحة.
- أنتَ بخير؟
- سيمضي كل شيء.
- ماذا تفعل؟
- كعادتي عندما يوخزني الوجعّ أكتبه على أمل التخلص منه وعندما أشارف على نهايته يتناولني وجعٌ آخر .
- قد تكون لغتك الأدبيّة هشة إلى حدٍ ما لكن في الحقيقة أنت تتمتع بأسلوب آسر عندما أقرأُ شيئًا لك أشعر بأنك ترتطم بي بعنف مستعينًا بنصّ يترجمه فراغي بوخزةٍ في القلب لستُ أدري إنّ كانت صحةٌ أمّ سقمْ.
- أعتذر لذلك، كما أني أضيف لعلّ هذا هو سبب عزلتي، لستُ النموذج المُحبب للبشر فأنا من النوع الذي لا يجيد الهرب دائمًا، عاجزة تلك الأيام عن ردمِ قبوري، كما يفعلون هم ويردمونها بأحاديث هزيلة وركيكة لن تصمد كثيرًا وسوف تنفجر مِرارًا، وتكرارًا.
- لم تهرب من قبل؟
- قط، ليست شجاعة، أراها حماقةً وفشل، أذكر في امتحانات الثانوية العامة بعد أنّ انتهيت من الفترة الأولى كان الصباحُ ناديًا، شوارع مُبللة، وصوتُ مطر جرفني لنوايا الهروب، زملائي تسلقوا حائطًا عجزتُ عنه لشحّ لياقتي، توجهت بعدها للبوابة المجاورة لمكتب المدير والخاصة بالمعلمين، وأنا أتسلّل بثقةٍ مهزوزة، أطاحَ بي المدير على عتبات الطريق بعد أنّ لاحَ لي نصف الهروب كان الطريقُ جميلًا رغم أنه عاديًا كان حرقتي لدرجة أنني تجولت به قبل ساعتين كتعويض لفشلِ أو ربما لاكتشاف سر جماليته المنزوعة.
- الحرية، نحنُ متيمون بكل ما لا نستطيع فعله أو ما ليس لنا، أعتقد، ماذا تكتب، هل هي رواية؟
- نعم، فيروز سوف أعود بعد سبع دقائق الفجرُ موشكًا، سأوقد النار وأضع الشاي.
وأنا أراقب حركة غليانّ إبريق الشاي كنت أحاول تهيئة نفسي وترويضها لذلك السؤال المعهود من فيروز السؤال الذي لم يحدث أن أجبتُ عليه ربما لأني لا أمتلك له من جواب أو ربما لأن الإجابة أصعب من السؤال بذاته، فيروز وعلى الرغم من أنها تبعدُ عني قارةً من الجغرافيا فأني أكاد أجزم أنها تعرفني أكثر من نفسي تعرف عزلتي وقوقعتي ووحدتي تعرف خجلي وانطوائي على نفسي.
ودائمًا كانت تُبدي هذا التساؤل بنشوة:
" ما أعرفه عن مهنة الكتابة إنها حليفة أولئك اللذين نشأوا في زمان حرب أو تحتَ طقسٍ ملبدّ بالكوارث اللاطبيعية أو أولئك اللذين يعاشرون كل من يبصقهُ القدر على رصيفّ سيرهم كيفَ لك أنْ تُمارس الكتابة وأنت معدوم مصادر الإلهام، البشر، القصص المختلفة، والمتباعدة، الأسرار المدفونة، الدموعّ الصامدة، الوقائع الطليقة في فضاءٍ لا تلتقطه أعين هيئات الرقابة، الحقيقة النتنة التي لا تتربصّ بها أيدٌ مجهولة، مهنتها الفسحّ عن خيالٍ وردي وحظرّ جميع ما يخطرّ ببالنا ونحنُ نعتصرّ الفضلات في التواليت.