لا بد من شيءٍ سليمٍ صحيحٍ نجيده بحياتنا.. لا يمكن أن تكون كلها خَرِبة مهترئة!
الذبيحة
اختفت حرارة شمس الصيف خلف الستائر الداكنة للحمام بعد أن أحكمت "غرام" إغلاقها، بنظرات زائغة تقدمتْ من المرآة وحلت شعرها الداكن الطويل، تأملته بحنقٍ ثم ما لبثت أن أمسكت بالمقصّ وجزّت كل أثر لطوله.. ما لبثت أن أطلقتْ نظرةً ذاهلةً على الخصل الطويلة التي غزت يدها وصدرها وأرض الحمام.. ألقتها على الأرض، ومدت يدها لتمسح دمعةً سقطت على الرغم منها مورثة إياها شعورًا بالحداد على ما فعلت!
خرجت إلى غرفة نومها الملحق بها الحمام، وفتحت الدولاب، ثم أخرجت مفتاحًا تخفيه وسط طيات الملابس، فتحت به صندوقًا صغيرًا أخرجته من أسفل الدولاب حيث كان مخفيًّا هو الآخر.. فتحته ببطءٍ لتخرج منه ما يشبه دفتر المذكرات أو اليوميات.. سارت بالدفتر حتى جلست على فراشها وفتحت أولى صفحاته لتلقي نظرةً على أول ما تصدر صفحاته.
"أحب اللغة العربية كثيرًا.. لطالما كنت متفوقة فيها دائمًا.. أحبها سليمة وموزونة.. بالرغم من أنه ليس بحياتي أي شيءٍ سليمٍ ولا موزون.. إلا أنني قررت سطر مذكراتي باللغة العربية، فلا بد من شيءٍ سليمٍ صحيحٍ نجيده بحياتنا.. لا يمكن أن تكون كلها خربة مهترئة!"
ابتسمتِ ابتسامةً مريرةً، وبصرها يجري على الكلمات، تداعى لذاكرتها ومسامعها صوت "أكرم" ساخرًا: "يا دي أم العربي اللي قرفانا بيه! لغة عربية إيه يا ختي اللي فخورة قوي إنك شاطرة فيها؟! ما تبطلي هبل بقى واكبري".
أشاحت بوجهها عن صفحة المقدمة وكأنها تشيح بعقلها عن الذكرى، قلّبت صفحات الدفتر وفتحت صفحةً جديدةً خاليةً سطرت فيها ما جال برأسها الشارد:
" جززته.. ذاك الذي لطالما أوذيت به.. كرهته.. لم أعد أحبه.. كان دائمًا السبب في أن أُجَر كالذبيحة لمذبحها فلا حاجة لي به بعد الآن.. لا أعلم ماذا فعلت.. لكن عزائي أنه لن يستطيع أن يسحبني به ثانية ولا أن يقتادني للأذى منه!"
في شرودٍ أغلقت الدفتر والصندوق وأعادتهما إلى مخبأهما السريّ ثم ألقت بالمفتاح في أحضان ملابسها الداخلية بالدولاب.. حانت منها التفاتة ونظرة جامدة لنفسها بمرآة غرفة نومها.. تفحصت شعيراتها التي بالكاد صارت تلامس كتفها ثم همست لنفسها مبتسمة في انكسار "هيطوَل.. بس لما مبقاش بتجر منه زي الدبيحة".
***
سقوط
كانت شمس النهار قد كفت عن مغازلة حوائط المنزل حيث شارف المغرب على الغزو بطلته داكنة الظلال، تركت "غرام" الظلام يزحف ولم تضئ أي أنوار حيث جلست بغرفتها.
تداعى لمسامعها صوت باب الشقة يُفتح وصوت "أكرم" الأجش الذي ما إن تناهى إلى مسامعها حتى سمعت نباحًا ارتجف له بدنها:
- "غرام".. أنتِ يا "غرام".. أنتِ فين؟
ظلت جالسة بذات الصمت حتى دفع باب الغرفة وصاح هاتفًا:
- مش بنادي؟ ما بترديش ليه؟
- ما فيش.
- إيه هو اللي ما فيش؟! ما تردي عِدِل.. أنتِ إزاي تسيبي العيال عند أمك من إمبارح وما تقوليش علشان أبقى عارف؟ شخشيخة أنا ما ليش كلمة في أم البيت ده؟
بهدوء ودون أن تتحرك أو تبدي أي انفعال أجابته:
- شبطوا في ماما وهي قالت لي سيبيهم يومين ورجعت لقيتك بره، ونمت قبل ما تيجي.
- يا دين أومااااي.. بطلي حوارات.. متصلتيش بيّا ليه تقوليلي؟
- أقول لك ليه؟ فارق معاك وجودهم قوي؟
- يعني إيه.. أنتَ مش هتبطلي أم استفزازك ده؟
- أنا مش بستفزك أنا بسألك.. هو أنتَ مش نازل؟
- نازل ولّا طالع يا روح أمك، أنا راجل البيت ده، وما فيش حاجة تحصل إلا بإذني.
يخلع ساعته وخاتمه الفضي الضخم ثم تتجه يده لحزام بنطاله فيخلعه متمتمًا:
- أنتِ شكلك زعلانة علشان بقالي كام يوم مدتكيش تمامك، وما لك قاعدة متنحة زي الأموات كدا ليه؟
يضيء مصباح الغرفة فيلوح له وجهها الشاحب المحملق فيه بلا أدنى تعبير.
- فيه إيه أنتِ هتستموتي فيها؟ ما لك مبحلقة فيّا كدا ليه؟ تعالي هنا.
تمتد يده خلف رأسها قابضًا على شعرها فيفاجأ بقبضة يده والهواء فيصيح:
- يخرب بيت جنانك أنتِ قصيتِ شعرك؟! دا أنتِ يومك إسود، لو فاكرة مش هعرف أجرّك وحياة أسلافك ما هسيبك .. "أكرم" ما بيغلَبش.
يجرها مما تبقى من شعيراتها فتسقط من بين ثنايا ملابسها أشرطة دواء فارغة فيحملق فيها ويصرخ: "يخرب بيتك.. عملتِ إيه، الله يخرب بيتك".
تسقط أرضًا بجوار الأشرطة غائبةً عن الوعي بينما صوت عويله يعلو ويعلو..
***
بالمستشفى.. تفتح عينيها على طبيبٍ عجوزٍ يتحدث مع أمها و"أكرم"
- الشرطة هتاخد من حضرتك كلمتين تشرح لهم اللي حصل يا فندم وطبعًا لازم هيسألوا المدام لما تفوق.
في قلق تسأل الأم:
- "ممكن تعملها تاني يا دكتور؟ أنا خايفة عليها!
- اتفضلي معايا حضرتك نتكلم في مكتبي.
تتبع الأم الطبيب في صمتٍ مغلقين باب الغرفة خلفهما فتحين التفاتة من "أكرم" الذي تتسع حدقته وهو يرى عينيها المفتوحتين الثابتتين في صمتٍ على وجهه فيبادرها صائحًا:
- دي عملة تعمليها.. حسابي معاكِ بعدين.
تشير إليه بوهن ليقترب؛ فيقترب محاولًا تفسير تمتمتها الخافتة:
- "ما فيش بعدين.. طلقني وإلا هلبسك تُهمة!"
ثم تسقط في الغيبوبة مرةً أخرى وكأن وعيها قد قرر أن تلك هي آخر مرة تتعرض فيها لهذا العذاب.. عذاب قُربه ورؤيته.
***
الفوران البريء
انتهت "غرام" من ارتداء ملابسها في سرعةٍ وسعادةٍ باديين على وجهها الجميل، كان أبوها قد وافق على أن تزور صديقتها "أسماء" والتي تسكن بالقرب منهم، خرجت "غرام" من غرفتها ترتدي "تي شيرت" قطنيًّا أبيضَ بسيطًا تصطف عليه نقوش وردية تجعله جميلًا:
- إيه يا ست "غرام" اللي أنتِ لابساه ده؟!
باغتتها أمها بنظراتها المتفحصة لصدرها الغض البكر البريء.
- إيه يا ماما؟
- ال تي شيرت دا ما ينفعش تنزلي بيه روحي غيري.
- ليه يا ماما؟ دا أنا بحبه قوي؟ دا حلو ومن زمان بلبسه.
- ما عادش خلاص خشي غيريه.
- ليه بس يا ماما؟ يا بابا.. بابا.
- فيه إيه يا "غرام"؟
- بقولك خشي غيريه.. ما فيش حاجة يا "جميل".. يلا خشي جوه، وإلا مش هتنزلي لأسماء.
في قهرٍ تتراجع الفتاة لغرفتها وتجلس على سريرها باكية وهي تستمع لأمها تتحدث لوالدها بصوتٍ خفيضٍ: "هو إيه اللي فيه إيه؟ وإنتَ مش شايف بنتك كبرت إزاي وخراط البنات خرطها.. ما تفوق يا راجل وما تبقاش طري معاها ما عادتش تلبس السخام التيشيرتات دي تاني لازقة في صدرها اللي كبر راخر ربنا يستر على ولايانا، ما عادتش تلبس لبس البنات الصغيرة دا تاني خالص".
في استسلام يردف الأب: "معاكِ حق يا "ناهد" بس بالراحة على البنت فهميها بالراحة".
- ياخويا أنتَ كمان إيه اللي بالراحة طريقتك دي ما تنفعش مع البنات إحنا زي ما اتربينا "اكسر للبنت ضلع يطلع لها أربعة وعشرين" هو أنتَ عاوزها تفضحنا قدام الناس وتنزل كده؟ يقولوا بنت "جميل" لابسة المحزق والملزق وصدرها متجسم؟
- طيب طيب أنا هدخل لَها.
- ولا ما تدخلش هي كلمة خلاص وإتقالت!
يدق الأب باب غرفة ابنته التي تهتف: "ادخل" ثم تتحرك من على سريرها وتمسح دموعها فيتقدم منها متسائلًا:
- إيه يا حلو ما غيّرتش ليه؟ أنتَ عايز الشاويش"ناهد" يرجع في كلامه ويحبسك ويحبسنا كلنا معاكِ؟
- يا بابا أنا ءءءءء ...
- ما فيش يا بابا.. أمك خايفة عليكِ يا بنتي وإنتِ حلوة وكبرتِ وفرتِ وعيون الناس ما بترحمش ولازم من هنا ورايح تعملي لهم ألف حساب وتاخدي بالك من كلامهم وبصتهم ليكي.. إحنا مش حِمل الناس يا بنتي.. يلّا غيري وروحي لأسماء.. يلا.. فين حاضر يا بابا؟
- حاضر يا بابا.
يخرج الأب من الغرفة تاركًا الفتاة في بحرٍ من السخط والحيرة بل والعار.. تحملق في صدرها وجسدها بالمرآة وهي تخلع ال تي شيرت لتلقيه جانبًا في غضب لترتدي بلوزة واسعة لا تظهر ملامح جسدها وقد اختفى كل مظهر للشغف للزيارة قد كان يحتل وجهها من قبل!
القطاف المبكر!!
تعالت أصوات الأم والأب ترحابًا بالضيوف الذين ما إن تحققت "غرام" من أصواتهم حتى عقدت حاجبيها في صمتٍ وربما غضب.
كانت الأصوات لزوجة خالها وأولادها "سيد" و"سليم"، غزت أمها باب غرفتها كعادتها فلم تكن تعرف معنى طرق الأبواب مع صغيرتها كِبرًا وتجاهلًا.
- مرات خالك وولاد خالك هنا يلا تعالي علشان تعملي الشاي يا بنتي وتقعدي مع ولاد خالك.
- هو أنا لازم أخرج يا ماما.. ما هما صبيان مع بعض يقعدوا مع "شهاب" أخويا وخلاص.
- بقولك يلا يا بنتي هو أنتِ لازم تناهدي وتوجعي لي قلبي، مش ممكن تعرفي الذوق لوحدك.. أووف.
تترك الأم باب الغرفة فتتبعها الصبية مرغمة فتسلم على زوجة خالها وأولاد خالها وتخرج متوجهة للمطبخ لعمل الشاي وتقديم الحلوى للضيوف.
تلمح "سليم" ابن خالها على باب المطبخ فتتوتر ويكفهر وجهها، تظل منغمسة في تحضير الضيافة للضيوف في حين يدخل هو المطبخ الذي يقبع بآخر الممر الطويل الذي يحوي غرف النوم ويبعُد عن غرفة الضيوف والفرندة التي كانت الأم تستقبل ضيفتها فيها. بينما كان شقيقها قد اصطحب "سيد" على مسمعٍ منها ليريه طائرته الورقية التي صنعها فوق سطح المنزل.
يُلقي "سليم" عليها التحية فتجيبه دون النظر إليه متظاهرة بالانشغال.
- عاملة إيه يا بنت عمتي.
- الحمد لله.
- وحشتينا.
- أنتم كنتم هنا من أسبوعين!
- ما وحشناكيش يعني؟
- عادي.
يقترب"سليم" ممازحًا:
- إيه الغلاسة دي يا "غرام"؟
لا تجيبه ولا تستدير له وتشعر بأنفاسها تتسارع وكأنها تختنق في حين يقترب هو حتى يلتصق بجسدها وهو يضحك.
- طب والله غلسة ووحشتيني.
تعلو أنفاس الفتاة بينما تشعر "بشيئه" ينغرس بجسدها كجسمٍ غريبٍ ينتهك براءتها ويعبث ببكارتها الإنسانية!
تترك البراد الألومنيوم بمائه المغلي على رخام المطبخ بحركةٍ مفاجئةٍ فيُحدِث صوتًا عاليًا ويتطاير الماء المغلي بكل مكان فيكون ليديها نصيبٌ من هذا اللهيب فلا تشعر به إذ يكفيها لهيب قهر براءتها.
يتعالى صوت الصبي "إيه ده؟ أنتِ اتحرقتِ وريني إيدك"
تبتعد عنه وتركض باتجاه غرفتها بينما تأتي الأم على صوت ارتطام البراد بالرخامة وصياح الصبي فترى الفوضى ويد الفتاة فتصيح:
- "يا دي الخيبة! إيه يا بنتي اللي حصل، كدا برضو مش عارفة تعملي كبايتين شاي للناس؟!".
تختفي "غرام" داخل غرفتها وتجلس على سريرها صامتةً باكيةً في صمتٍ غير آبهةٍ بحرق يدها إذ يبدو أنها قد هدأت لدى ابتعادها عن الصبي والأم.. تتحرك عيناها جيئةً وذهابًا بغرفتها وكأنها ترى فيها الملاذ الآمن وليس غيره.. الملاذ من الفتى الذي دأب على المزاح معها والاقتراب منها بشكلٍ غريبٍ لا يريحها كلما أتى برفقة أمه وأخيه، والملاذ من أمها التي لا تكف عن تقريعها لأي سبب وكل سبب ولا تكف ليلًا ونهارًا عن التصريح بأنه "يا ريت كنت جبت أخ لشهاب بدل البت اللي فارت بدري دي وهتجيب لنا الكَفْيَة"
كانت دومًا تفكر بجملة أمها الأثيرة "أنتِ هتجيبي لنا الكَفْيَة" وتتساءل عن معنى "الكَفيَة" التي سوف تحضرها لأهلها بل وسألت أباها ذات مرة عن معنى الكلمة فأراد أن يخفف عنها الأب الطيب وقال إن الأم تمزح ولا تقصد شيئًا، إلا أن الفتاة أصرت عليه أن تفهم معنى الكلمة وأربكه إصرارها فقال لها مترددًا: إن الكلمة أتت من "أن ينكفئ الإنسان على وجهه" وهو ما يحدث حين يرتبك أو أن يركض من العار مثلًا!
لم تنطق الفتاة ببنت شفة لحظتها، ابتعدت عن أبيها بهدوء موجع وهي لا تعلم لماذا تصر أمها على أنها قد تجلب لهم العار فقط لأنها فتاة ولأن جسدها يكبُر يومًا بعد يوم!
سحبت الفتاة -التي كانت يدها قد أصابها الاحمرار من الماء المغلي- دفترًا صغيرًا يبدو ككراسات المدرسة لكنه كان مزينًا من الخارج بصور كارتونها المفضل ورسوم للشياطين ال 13 والمغامرين الخمسة
فتحت الدفتر والتقطت قلمها فبدت علامات الألم على وجهها جراء استخدام القلم، انتقت صفحة فارغة فكتبت في صدرها:
"يومًا ما سأكبر وأكون أمًّا جيدة وسأقول لبناتي إني أحبهن ولن أقول لهن إني أنتظر أن يجلبن العار بلا ذنب أو خطأ ارتكبنه، وإن أخطأن سوف أساعدهن في إصلاح أخطائهن، سأكون أنا حائطهن وسندهن لكيلا يركضن بعيدًا عني بحثًا عن ملجأ!".