وما تخيلناه سبيلًا للخلاص.. كان هو شَرَك الموت الحقيقي!
الخلاص الموهوم
تعالت ضحكات "أكرم" عاليًا وهو يسرع بسيارته الصغيرة ناهبًا الطريق للمطعم الفخم -حسبما وصف- حيث كان قد قرر دعوة خطيبته ولأول مرة منذ خطبتهما. تأملت "غرام" مرحه الشديد وكأنه في طريقه لفتح من الفتوحات، حدثت نفسها: (أخيرًا خرجنا.. "أكرم" من يوم ما خطبني وهو بييجي خميس وجمعة يتغدى عندنا ويقعد كتير وعمره ما عزمني بره، ولا خرجني زي المخطوبين وكده، أخيرًا هنخرج سوا بعيد عن ماما و"شهاب" اللي على طول معانا).
قررت مجاملته وشكره فأردفت:
- أنا مبسوطة قوي يا "أكرم" علشان خرجنا، ميرسي قوي على العزومة اللطيفة.
- ما تتعوديش على كدا يا بنت الناس، آه أديني بقولك أهه، أنا ما بحبش الخروج والمرقعة والكلام ده، أنا أموت في قعدة البيت وأقعد وأتخِدم وأتدلع كده، بلا خروج بلا مصاريف ما لهاش لزمة، دا المطعم اللي موديهولك دا أغلى مطعم في مصر الجديدة، آه والله دا الفرخة المشوية بسلطاتها ببابا غنوجها معدية المية وستين جنيه، حاجة افترا يعني.
يمتقع وجهها وتحملق في وجهه في صمتٍ فلم يكن والدها -رحمة الله عليه- ولا أمها رغم خشونة طباعها ممن يبخلون أو يحدثون أولادهم عن المال بتلك الطريقة الفجة، يلمح "أكرم" نظراتها وصمتها فيستطرد بفجاجة:
- بس كله يهون علشان "غرومتي" حبيبتي تبقى مبسوطة وتاكل وتنبسط كده، أصرف وماله مصرفش ليه؟!
- ءءء شكرا يا "أكرم"، على فكرة ماما قالت لي هننزل نشتري الستاير قريب علشان تتفصل وحاجات تانية كتير علشان بيتنا.
- آه وماله.
- تحب أوريك "ديزاينات" الستاير اللي اخترتها علشان تشوف ذوقي؟
- لا بقولّك إيه أنا مش ناقص صداع الحريم ده! مش معاكِ الفلوس يا ماما اتصرفي.
- أنا مش بتكلم في الفلوس أنا بقول ءءء
- ولا يفرق معايا؛ لو حطيتي جرايد على الشباك قشطة معايا.
- جرايد؟!
- أي حاجة يعني يا "غرومتي" ما توجعيش دماغي بشغل الحريم ده، أنا بيس!
تشيح "غرام" وجهها للطريق صامتة محدثة نفسها مرة أخرى: (أكرم أكيد طيب وبيحبني زي ما ماما بتقول، بس أنا محتاجة أفهمه كويس، مش ضروري يعني أطلب منه يخرجني كتير علشان ما يتضايقش مني، أنا لازم أخلص شواري بسرعة علشان نتجوز ويبقى عندي بيت لوحدي، ياااه بيت لوحدي بعيد عن ماما و"شهاب" البيت بعد بابا -الله يرحمه- بقى وحش قوي.
تختلس نظرة أخرى لأكرم ثم تتمتم: (الله يرحمك يا بابا)
*****
يومًا ما اشتهيت قطرات من عذوبةٍ تُحييني أنثى للأبد
فجاءتني طفقات نارك لتروي زهرة على قبر إحساسي بك!
طفقات النار
ما لبثت طفقات نار شهوته أن التهمت مجرى عِفتها الملتهب، في هجمة مباغتة مسرعة لم تمهلها لتشعر بما يجب أن تشعر به أنثى في قلب عاصفة الإحساس، هجمة بربرية سريعة غير مبالية بشعور من تحتاج لقافلة من التقديم والترغيب والحرث لسائر مواضع ملذات جسدها الغارق في الحرمان في عمق استقباله للطفقات الأنانية.
انزاح "أكرم" بجسده الضخم من فوقها بغتة غير مبالٍ بالتعبير المرتسم على وجهها الذي اصطبغ بحُمرةٍ قانيةٍ تلائم أنفاسها التي لم تكن قد هدأت بعد!
التقط أنفاسه مستلقيًا على ظهره دون النظر إلى "غرام" التي كانت قد دفنت وجهها في الوسادة بلا حراك يُذكر سوى أنفاسها المتسارعة بشدة، تحرك على الفور إلى الحمام الملحق بغرفة النوم فألقى بنفسه تحت مياه الدش مغتسلًا وهاتفًا "حضري لي غيار يا غرومتي".. "غرام" يلا يا بت متناميش.
في دقائق معدودة أنهى اغتساله وعاد للغرفة متشحًا ببشكيرٍ كبيرٍ لم يستخدمه في تجفيف المياه التي غمرت جسده فكان يقطر ماءً على أرض الغرفة..
كانت لا تزال بالسرير وحانت منها اهتزازة مفاجئة حين عاد للغرفة صائحًا
- "أووف على كسلك يا ولية.. أنتِ لسًّا في السرير.. يلا قومي هاتي لي هدومي واعملي لنا لقمة ناكلها علشان نازل.. يلا ياختي دا أنا راجل شقيان وراح من عمري أسبوعين آه دا أنا بضحي والنعمة"
لا يجد ردًّا على مزحته السمجة فيستطرد:
- "زي ما قال الدكتور اللي جه ف التليفزيون مع الولية المذيعة دي اسمها إيه؟ ما تقولي قال إيه؟ مش قال كل مرَّة بتنقص من عمر الراجل أسبوعين بحالهم هههههههه علشان تعرفي بس إني بضحي علشانك وبعمل معاكِ واجب".
في بطءٍ تحركت "غرام" من مكانها فالتحفت بروبها الحريري مغمغمة
-"هدومك في الدولاب.. أنا هاعمل الأكل.. وشكرًا على الأسبوعين مش عارفة كنت هعيش ازاي من غير تضحياتك".
- يا بت أنتِ لازم تقلبيها عكننة؟ دا أنا بهزر.. ما حدش يهزر معاكِ يا غم أنتِ.. يلا حضري الأكل بسرعة علشان نازل..
في خيبةٍ تتوجه للحمام لتلقي بنفسها تحت مياه الدش التي كانت حيلةً ممتازةً لتغطية دمعة سالت حدادًا على مشاعرَ لم تكتمل، وشبقٍ لم يجد أبدًا طريقه إليها!
*****
الحرام
في توتر فركت "غرام" كفيها.. ألقت نظرةً على شاشة هاتفها الذكي الذي أشار إلى الساعة العاشرة مساءً.. حدثت نفسها "اتأخرت وأكرم هيتخانق معايا.. أووف أعمل إيه؟"
ألقت نظرة على اللافتة التي تحمل اسم الطبيبة "هالة السيد" طبيبة أمراض الذكورة والطب الجنسي".. ما لبثت أن حدثت نفسها: "مش همشي.. لازم حل".
مضت نصف ساعة أخرى قضتها "غرام" في مزيدٍ من التوتر والنظر لدقائق على شاشة هاتفها وما لبثت الممرضة أن هتفت باسمها مشيرة إلى باب غرفة الطبيبة فتحركت في لهفةِ مَن ينشد الراحة والحل والغوث خلف هذا الباب.
ابتسمت لها الطبيبة ابتسامة مُرحِّبة:
- اتفضلي يا مدام.. خير إن شاء الله؟
- ءءء.. أنا عندي مشكلة كبيرة يا دكتور.
- بشويش.. خير اشرحي لي.
- جوزي عنده مشكلة وأنا تعبانة مش عارفة أعمل إيه؟
- أيوه مشكلة إيه فهميني؟
- ممكن أسأل حضرتك سؤال الأول؟
- اتفضلي.
- هو فعلا كل مرة جوزي بينام معايا فيها عُمره بيقل أسبوعين؟
ارتفع حاجبا الطبيبة في دهشة وغالبت ضحكتها هاتفة:
- بتقولي إيه؟ مين اللي قال لك الكلام دا يا مدام؟
- جوزي.. جوزي هو اللي قال لي كده.
- قالك إيه بالظبط؟
- قال لي إنه سمع في برنامج تليفزيوني إن كل مرة جماع بتقلل من عمره أسبوعين، ومن ساعتها كل مرة بينام معايا فيها بيقول لي كده بعدها.. بقيت بحس بالذنب وبستنى الجملة دي كل مرة حتى لو بيقولها بهزار.. قولي لي من فضلك.. دا حقيقي؟
- لا طبعًا ما فيش الكلام ده.. يا مدام العلم بيقول إن الرجالة النشيطين جنسيًّا هم أصحاب العمر الطويل طالما كانوا أصحاء مش أصحاب أمراض مزمنة أو إعاقات تمنع أو شيء من هذا القبيل .. يعني عكس اللي بتقوليه دا خالص.
- مش أنا اللي بقول ..
- تمام.. هو بس واضح إنه فيه مشكلة.. قولي لي أنتِ قلتِ لي بتعاني من مشكلة.. قولي لي التفاصيل.
- ءءء هو أنا مش عارفة أشرح لحضرتك إزاي.
- على مهلك وفهميني..
- أنا ما بحسش إن علاقتي بجوزي كفاية.. حاسة نفسي كأني مش متجوزة.. مش......
- كملي حضرتك....
- ءءءءءء
- ممكن تهدي وتشرحي لي بصراحة وبالتفصيل؟ أنا طبيبة ولا حياء في العلم.. فهميني.. عنده مشكلة في الانتصاب مثلا؟!
- لأ.
- أومال في إيه؟
- مش.. مش بلحق أحس ءءءء
- آه.. عنده سرعة قذف؟
- أيوه و ءء هو مش حنين يعني مش..
- لا بشويش عليا بس يا مدام، نتكلم في تخصصي علشان حكاية الحنية دي عايزة طبيب نفسي مش أنا خالص، خلينا في مشكلتك الأولانية واللي هي مش مشكلة قوي يعني.
- إزاي؟!
- رجالة كتير قوي عندهم المشكلة دي يا مدام ودي حاجة ليها أسباب كتييير متعلقة بالكبت الجنسي وإدمانهم العادة السرية قبل الجواز وأمور تانية وبياخد لها علاج عادي وبشويش عليه كدا في العلاقة متقفشيش عليه بسرعة شكلك جامدة عليه حبتين هاهاهاهاها
- أنا ءء.. هو مش معترف إن عنده مشكلة.. مش عارفة أشرح له أصلا.. أنا عمري ما حسيت معاه بorgazim .
- عمرك؟ نهائيًّا؟ ولا مرة؟
- ولا مرة.
- أومال بتحسي بإيه؟
- ممممممم.. بحس بانبساط.. زغزغة كده.. بحس إني مُثَارة.. عايزة أكمل .. لكن ده ما بيتطورش أكتر من كده ولا بيوصل لرعشة؟
- مش يمكن بتحسي وأنتِ اللي مش فاهمة نفسك ولا إحساسك؟ على فكرة دي مشكلة شائعة عند ستاتنا، لازم نقول الحق برضو كتير بيبقوا مش فاهمين إحساسهم ولا بيساعدوا أزواجهم على .......
- بقول لحضرتك مش بحسه.. أنا عارفة إحساس الرعشة وعمري ما حسيته مع جوزي.
- عارفة؟ عارفة منين طالما عمرك ما حستيه مع جوزك؟
تطرق غرام في صمتٍ فتعاود الطبيبة حثها على الحديث:
- بصي يا مدام.. أنا بحاول أساعد حضرتك.. مش بشكك في كلامك ولا مش مصدقاكِ.. بالعكس.. بحاول بس أسمع منك وأفهم علشان أقدر أشخّص وأعالج.. ممكن تشرحي لي بالظبط علشان أقدر أساعدك؟ ممكن تجاوبي سؤالي علشان أقدر أحدد حجم المشكلة؟.. فهميني.. عارفة منين بقى إحساس الرعشة؟
- ممممم عارفة من نفسي..
- من نفسك؟! آه فهمت..
- كل مرة بيخلص في دقيقة ويقوم يجري على الحمام.. لا بياخدني حتى في حضنه ولا بيفكر يسألني حاسة بإيه ولا اكتفيت زيه ولا لأ.
- وبعدين؟
- ءءءءءء.. ولا حاجة أنا بفضل في السرير وب ءءءء بريح نفسي.
- مفهوم..
- عارفة إن دا يمكن يكون مش صح؟
- هو ما بيحسش بده؟
- لا.. عمره ما حس بيا.. بيخرج من الشاور يلاقيني قتيلة في السرير.. ما بيركزش ويمكن ما بيهتمش.. بيترمي جنبي على السرير ويسحب الغطا وينام فورًا!
- وأنتِ؟
- بفضل مرمية مكاني زي ما أنا.. كتير بعيط من غير صوت.. ببصله وبيبقى نفسي أصحيه أقوله حس بيا.. في الآخر بقوم من جنبه آخد شاور وأصلي وأعيط لربنا علشان يرشدني وبرجع أنام.
- بصي هي الحكاية مش بالدراما اللي بتوصفيها دي.
- دراما؟
- قصدي أنتِ باينك ست حساسة زيادة عن اللزوم.. دي مشكلة ستات كتير ومش كلهم بييجوا يحكوها بإحساسك ده.. كان لازم يتعالج بدل ما تسكتي وتتعاملي مع نفسك والوضع يتفاقم.
- أنا قلت له.. قصدي لمحت له مرة إني ما خلصتش ومش مكتفية.
- وقال لك إيه؟
- تجاهلني ودخل أخد شاور ونام.
- وبعدين؟
- ومرة لمحت له إنه محتاج علاج و.....
- وإيه؟
- زعق معايا وضر..... قصدي كان هيضربني وقال لي مفتحش بقّي تاني.
- يمكن طريقتك يا مدام.. قصدي يعني مش بتعرفي تثيريه كويس.. الراجل محتاج شوية دلع برضه دي أمور نفسية بتساعد جدا.
- حضرتك أحلف لك إني بعمل كل اللي أقدر عليه معاه وبلبس حلو وبتدلع و...
تبدأ دموع "غرام" في الانفجار في صمتٍ على وجهها الذي يصطبع باللون الأحمر
- مممممم ... ممكن تهدي وتبطلي عياط، أنا مش بتهمك بحاجة علشان تدافعي عن نفسك.. بصي.. أنا هتكلم معاكِ كَسِت قبل ما أكون دكتورة.
- اتفضلي.
- هو في الأمور التانية عامل إزاي؟
- أمور تانية؟!
- يعني في البيت، في الصرف.. عندك أولاد؟
- وعد وأحمد.
- طيب ومع ولادك؟
- هو أب معقول الحقيقة بحسه بيحب الولاد.
- بتحسي؟!
- هو مبيقعدش في البيت خالص أصلًا بس أكيد بيحب الولاد؛ دول ولاده.
- ولو إني حاساكي مصرة تجملي الشكل الخارجي للحقيقة بس هقول تمام أكيد بيحب ولاده وحكاية القعاد في البيت دي قصة ستات البلد كلها مش وقت كلام فيها خالص .. قولي لي.. بيصرف؟
- بيصرف أيوه.. حريص شوية بس دا علشان بيتنا ومستقبلنا أنا عارفة.
- تمام.. بصي أنا هكتب لك دوا.
- وأديهوله؟
- لأ.. دوا ليكي.
- أنا؟!!
- أيوه.. اسمعيني بس.. هكتب لك دوا يهديكِ شوية.
- يهديني؟!
- أيوه يا حبيبتي يعني يخليكي أهدى من كدا شوية.
- أنا هادية.. بس أنا بتألم وتعبانة من اللي بيحصل لي.
- يا مدام افهميني أنا هكتب لك دوا يهدي الهيجان اللي عندك دا شوية فترضي بقى بنصيبك وتحمي بيتك من الخراب.
- أحمي بيتي من الخراب؟! أنا اللي هخرب بيتي؟! مش مفروض حضرتك دكتورة وأنا جيالك علشان تتكلمي معاه وتعالجيه؟ أومال الحالات الكتير اللي بتتباهي بيها في التليفزيون إنك عالجتيها وخلتيهم أُسر سعيدة دي إيه؟ كذب؟! كل دا كذب؟!
- لا مش كذب يا مدام.. دي حالات بييجوا بنفسهم علشان يتعالجوا.. يعني مريض جاي يتعالج مش مريض رافض يتعالج وأدخل أنا في مشاكل وشوشرة على سمعتي.. اسمعيني.. إحنا في مجتمعنا الشرقي دا أصعب حاجة على الراجل إنك تتهميه في رجولته كده، وتحسسيه إنه ما بيكفيكيش.. طالما مش هو اللي حاسس بأزمة وعاوز يتعالج يبقى حكايتك خلصانة ومقدرش أعمل لك حاجة.. نصيحة.. طالما أب جيد وبيصرف يبقى عيشي وخدي الدوا اللي هكتبهولك ده، هيريحك قوي ولا هتحتاجي حتى تريحي نفسك بنفسك من وراه..
- بس.. بس دا حرام!
تنهي الطبيبة كتابة الوصفة الطبية وتمد يدها لغرام بالروشتة متمتمة:
- آسفة بجد، أنا متعاطفة معاكي جدًّا بس مقدرش أعمل لك أكتر من كده!
تنتفض غرام متجاهلة يد الطبيبة ووصفتها الغاشمة وتندفع لباب الغرفة والدموع تغرق وجهها ومنه لباب العيادة ثم للشارع حيث يبتلعها الزحام فتضيع وسطه ويضيع أملها في مخرج.
*****
البرد الدافئ!
في سرعة أزاحت "غرام" القفل الرابض على باب شقتها وأفسحت المجال لطفليها حيث تقدماها في خطوات مترددة قاطعتها هي بحماس مصطنع حاولتْ بثه فيهما مبادرة إياهما:
- حمدا لله على السلامة يا حلوين، أخيرًا في بيتنا لوحدنا.
ابتسم "أحمد" متبادلًا نظرات مترددة مع شقيقته "وعد" فأكملت الأم:
- يلا يا حبايبي على أوضتكم ووضبوا هدومكم في الدولاب وأنا هحط حاجتي في أوضتي وهاجي أساعدكم.
في تردد تتساءل "وعد":
- ماما، هي تيتة "ناهد" هتفضل زعلانة مننا علشان سيبناها وجينا هنا؟
يرمقها شقيقها بنظرة معاتبة مردفًا:
- بس يا "وعد" متضايقيش ماما، تيتة "ناهد" بتحبنا ومش هتفضل زعلانة مننا.
تذعن الفتاة لنظرات شقيقها فتغمغم:
- إحنا اتعودنا نقعد مع تيتة بس، لكن خلاص يا ماما هنتعود على بيتنا ده.
تُفلت "غرام" الأمتعة التي تحملها وتقترب من أولادها محتضنة أكتافهم فتجلس بهم إلى أقرب أريكة مردفة
- بصوا يا حبايبي، أنا عارفة إننا نقلنا فجأة من بيت تيتة، بس هو الطبيعي إننا يبقالنا بيتنا لوحدنا اللي نبقى فيه براحتنا، مش كدا ولا إيه؟
يغمغم الفتى وتتبعه شقيقته: "كدا يا ماما".
تحتضنهما "غرام" مغمغمة:
- حبايب ماما، دا أنا ناوية أعمل أوضة لكل واحد فيكم بس نخلص ترتيب حاجتنا ونشتري أوضة تانية ليكم، إيه رأيكم؟
تتهلل أسارير "أحمد" هاتفًا:
- أيوه أنا عايز أوضة لوحدي.
- عيون ماما يا سي "أحمد"، أوعدكم إن الأيام اللي جاية هتكون أحسن كتير من كل الأيام اللي فاتت، يلا يا حبايبي عندنا ترتيب كتير، "أم محمد" مرات البواب منضفة الشقة بس لازم نرتب حاجتنا في الدواليب ونرتب كل حاجة على مزاجنا، تمام يا حلوين؟
- تمام يا ماما.
تشرع "غرام" في ترتيب الأغراض ومساعدة طفليها في الاستقرار بغرفتهما حتى ينقضي النهار وسط الترتيب واستقبال عامل توصيل السوبر ماركت وتحضير الغداء واستقبال زيارة مفاجئة من "أم محمد" زوجة البواب التي جاءت لعرض خدماتها أو استقصاء الوضع وهو ما استشعرته "غرام" من نظرات المرأة الفضولية فصدتها وأعلنت شكرها على جهدها بتنظيف المنزل وأنها سوف تتصل بها لدى الحاجة مرة أخرى.
***
تتأمل "غرام" طفليها النائمين من فرط الإرهاق فتحكم الغطاء على أجسادهما الصغيرة في تلك الليلة الشتوية شديدة البرودة، تبتسم لدى تذكرها لاعتراض ابنتها للنوم بعيدًا عنها هاتفة قبل النوم:
- ما إحنا عند تيتة "ناهد" كنا بنّام جنبك في السرير الكبير يا ماما.
تبتسم غرام لدى تذكرها لوجه ابنتها حين رضخت لرغبتها في الاستقلال كلُّ بغرفته فتستقبل سريرها وبطانيتها على مضض ثم لا تلبث أن تذهب في عالم الأحلام خلال دقائق قصيرة.
تدلف لغرفتها التي تفننت في ترتيبها منذ ساعات الظهيرة فتبتسم سعيدة راضية متأملة مكتبتها الصغيرة وجهاز الراديو فتديره فيصدح بالموسيقى فتخفض "غرام" صوته حتى لا توقظ طفليها، تخلع الروب الثقيل الذي كان يغطي جسدها فترتجف من برودة الليلة وكأن البرد يراجعها بقرارها، فتقرر في حزمٍ سحب كتاب لتقرأه بفراشها الواسع الذي يذكرها اتساعه بوحدتها، تجلس بالفراش وتبدأ في القراءة باستمتاع إلا أنها تشعر بالبرودة الشديدة فتقوم لإحضار غطاء آخر تضيفه للفراش، تحين منها نظرة للجزء الفارغ من الفراش فتتذكر "أكرم" بجسده الضخم الذي كان رغم فظاظته ووحشيته يجعل من وجوده بالجوار سببًا في شعورها بالدفء!
تهز رأسها منكرة الفكرة وكأنها تتمنى لو تُسقط كل ذكرى له برأسها، أن يعود عدمًا كما كان قبل أن تعرفه! تضيف طبقة ثالثة من الغطاء بالفراش فيبدأ شعور الدفء بالاقتراب قربًا حثيثًا، بينما يتسرب إلى مسامعها صوت الراديو الخفيض بكلمات لمطربها المفضل
(( على بالي عيد اللي عشته معك بس مش معك
وحسّ اللي حسّيته إلك بس مش إلك
مشتاق للطريقة اللي حبيتك فيها بس مانّي مشتاقلك!! )
أتلمس حريتي بحذرِ عُصفورٍ قد اعتاد أسر قفصه!