Za7makotab

Share to Social Media


كان صوتُ الخطيب يهز المنبر هزًّا وهو يروي قصة ذلك التابعي الجليل الفقيه الورع، وكيف كان صبره ومثابرته علىٰ تلقي العلم حتىٰ أصبح أفقه أهل عصره، يقضي نهاره مُنكبًّا علىٰ الكُتب طالبًا للعلم تارة، وعالمًا يُحدث الناس ويفتيهم تارةً أخرىٰ، وفي الليل هو عابد قائم، ثم حكىٰ لنا الخطيب عن حُسن خُلقه وورعه.

أُعجبت جدًّا بذلك التابعي وتعلق قلبي به -وما زال قلبي مُتعلقًا- وتاقت نفسي أن أحذو بشيءٍ من حذوه فكنت مُصغيًا للخطيب وكأن الطير علىٰ رأسي، أنهىٰ الخطيب قصة ذلك الرجل الصالح بنقل صورٍ من عيشته، طعامه وشرابه، هيئته وحاله، أعـجبني منطق الخطيب وقتها وهو يصف مادحًا زُهد ذلك التابعيّ بنبرة يطغىٰ عليها الفخر وأنه كان يلبس الثوب المُرقع والنعل الـمُمزق ويأكل الخبز الجاف!

خرجت من الخُطبة بقلبٍ غير الذي قصدها، حُفِر في ذهني كل تفصيلة من حياة ذلك التابعيّ الصالح، تصورته وكأنني أراه، علت همتي في البداية لكن دوي تلك الخطبة في نفسي بدأ يهدأ مع الأيام، وصوت الخطيب الذي كان يهز المنبر واصفًا علم ذلك التابعيّ وعبادته وحسن خلقه بدا خافتًا، أنستني نفسي بعون قرينها كل الخصال الحميدة التي أحببتُ ذلك الرجل الصالح من أجلها وحاولت محاكاتها، طُمست كلمات الخطيب كلها لكن بقي منها اثنان فقط في ذهني..

مدحه لزهده!
وإعـجابه بفقره!
كبُرت وكبُر ذلك التصور معي..
وهو أنني إذا أردت أن أكون صالحًا.. فلا بد أن أكون فقيرًا!

وما زاد وثاق ذلك التصور في ذهني، هو أن أغلب المواد التي أُخرجت لنا عن سيرة سيد الخلق وأشرفهم الحبيب ﷺ كانت تنقل لنا حادثة ربط المُختار ﷺ حجرًا على بطنه الشريف من شدة الجوع -فداه نفسي-وكأنها جُل حياته، وكان هناك دائمًا طابع المدح والفخر في نقل تلك الحادثة، فاشتد ارتباط الفقر بالصلاح في نفسي.

في الحقبة نفسها.. تعرضت لما يتعرض له الصغار من مواد إعلامية، مسلسلات وأفلام، فكان غالبًا ما يكون البطل فقيرًا، لكنه كان يـجمع مع الفقر صفات طيبة تجذبك إليه رغمًا عنك، الشهامة والمروءة وحب الناس والشرف.

وعلى الجانب الآخر كانت صورة الرجل الثريّ صورة مخزية تُنفرك منه رغمًا عنك، كان لا بد أن يكون فاحشًا، يستعبد الناس ويأكل أموالهم ويغشهم في الصباح، وفي الليل هو ماجن سكير يضيّع أمواله على العاهرات، وبين هذا وذاك هو زوج غليظ وأب فظ!
مضيت في معترك الحياة وتلك الصور تُشكل وجداني..
المال أصل كل شر!
الزهد صفة الصالحين!

النبي ﷺ كان فقيرًا!
والله يُحب الفقراء أكثر!

القناعة رأس مال الفقراء!
والطمع صفة الأغنياء!

والعجيب أني لم أكن وحدي، فكل من حولي تقريبًا كانوا يتبنون المعتقد نفسه، وينادون به فأصبحنا نستعيذ من الغِنىٰ ونـميل لا شعوريًّا للفقر حتىٰ اتخذناه رمزًا للرضا والصبر، مـُخدر مريـح طرحني في سُباتٍ عميقٍ لم أستفق منه إلا على استعاذة النبي ﷺ:

«اللَّهم إني أعوذُ بك من الفقرِ والقِلَّةِ والذِلَّةِ»
أمرٌ عجيب.. أيستعيذ النبي ﷺ من الفقر ونتـقرب نحن إلى الله به؟!
نتحدث عن الفقر مدحًا وقد قرنه النبي ﷺ مع الكُفر باستعاذة واحدة!
«اللَّهم إني أعوذُ بك من الكفرِ والفقرِ»

وكيف يستعيذ المُصطفى ﷺ -مُستجاب الدعوة- من الفقر ثم تُصوَّر لنا حياته على أنه كان فقيرًا؟!!

حادثة ربط حـَجَـر على بطنه الشريف ﷺ من شدة الجوع اختلف في صحة روايتها العلماء، فمنهم من ضعّفها، ومنهم من صححها، ومنهم من قال إنما المقصود ربط (الحُــجُـز) وهو حزام عريض يُـلَـفُّ حول البطن والظهر كعادة العرب حتى يَصلبُوا ظُهورهُم ويشدوا بطونهم..

حتى وإن صـحّت رواية تلك الحادثة، فهي كانت وقت غزوة الخندق، حين اجتمعت قريش مع بعض قبائل العرب (الأحزاب) وحاصروا المدينة، فعسْكر المؤمنون بقيادة رسول الله ﷺ شمال المدينة، وحفروا الخندق مُدافعين عن الدين والأرض، وظل الحصار قرابة الشهر توقفت فيه حركة التجارة حتى نصر اللهُ رسولَه الكريم وصحابته.
فكان الوقت وقتَ حربٍ، والحال حال حصار، فما ظنك بقائد مثل النبي الكريم ﷺ الذي بلغ حد الكمال من الإيثار!

تُـجتزأ تلك اللقطة من حياته ﷺ -إن صـحت روايتها- ثم يُصوَّر لأذهاننا أنه كان فقيرًا وهو الذي قال عنه الله القدير:
«ووجدك عائلًا فأغنىٰ»

وكيف نستعيذ نحن من الغِنىٰ وقد سأله المُختار ﷺ داعيًا:
«اللَّهم إني أسألك الهدىٰ والتُقىٰ والعفاف والغِنىٰ»

ولو كان المال أصل كل شر كما يدعي البعض، فأين نحن من دعاء النبي ﷺ لخادمه أنس بن مالك  حين أتت به أمه صغيرًا للنبي ﷺ وقالت له: يا رسول الله، هذا أنس خويدمك فادع الله له، فقال ﷺ:
«اللهم أكثر ماله وولده، وبارك له فيما أعطيته»

فقال أنس -وهو شيخ- مُصدقًا دعوة النبي الكريم: فوالله إن مالي لكثير، وإن ولدي وَوَلَدَ وَلَدِي لَيَتَعَادُّونَ علىٰ نحو المائة اليوم.
وحين مرض سعد بن أبي وقاص وعاده النبي الكريم الحكيم ﷺ قال سعد: يا رسول الله بلغني ما ترى من الوجع وأنا ذو مال ولا يرثني إلا ابنة لي واحدة أفأتصدق بثلثي مالي؟ فقال له النبي ﷺ: لا.
قال أفأتصدق بشطره (نصفه)؟
فقال له النبي ﷺ لا.
قال سعد  أفأتصدق بثلثه؟
فقال النبي ﷺ: الثلث والثلث كثير، إنك أن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس!

أمّا هو ﷺ فقد بلغ حد الكمال في الإنفاق، يدخر لأهله نفقةَ عامٍ ويُنفق ما زاد عن ذلك، فكان غنيًّا زاهدًا، يمتلك فيزهد، والفرق بين الزُّهد والفقر كفرق الليل والنهار، أيكون جوادًا كريمًا مُنفقًا يعطي عطاءَ مَن لا يخشىٰ الفقر.. ونقول عنه إنه كان فقيرًا!!

جاءه رجلٌ ذات مرة يسأله، فأعطاه النبي الكريم ﷺ غنمًا كثيرة يملكها سدت بين جبلين وقال له هي لك، فرجع الرجل إلى قومه ينادي فيهم: أسلــــموا.. فإن محمدًا يعطي عطاء من لا يخشىٰ الفقر.
وكتب الله له خُمس الخُمس من مغانم الغزوات فكان يُنفقها كلها، وفي عام الوفود قدم إليه سبعون وفدًا من شتىٰ أرجاء الجزيرة العربية يبايعونه على الإسلام، فكان يُكرمهم ويُحسن ضيافتهم من ماله.

كيف يكون فقيرًا وهو الذي اشترى أرض المسجد، وأقام بيته علىٰ جزء منها؟ وكان لديه ناقة تسمى القصواء وهي التي هاجر عليها، وأخرى تسمى الجدعاء وثالثة اسمها العضباء، وكانت ناقته العضباء لا تُسْبَق، وله بغلة تسمى فضة، وفرس يسمى السًّكب.

كيف يكون فقيرًا وهو أصغر من قاد قافلة تجارية في مكة عندما اصطحبه عمه أبو طالب في أول رحلة تجارة معه للشام، وبلغ عدد رحلاته ثلاثة وعشرين رحلة، وعُرف عنه ﷺ قبل الرسالة الصدق والأمانة والكياسة في التجارة، فعرضت عليه السيدة خديجة  مشاركته بالمال في تجارته، فأفاء الله الواسع عليه الخير الكثير.

والفقر ليس عيبًا، إنما تمـجيد الفقر هو العيب، واتخاذه مُسكنًا يثبط العزائم والهمم هو العيب، وإنا لمسؤولون أمام الله عن قلوبٍ كسرها الفقر قهرًا.. ماذا صنعنا لهم؟ هل أغنيناهم عن الحاجة أم زحمناهم فيها؟!
لذلك حين رأى النبي ﷺ رجلًا من الأنصار يتكفف الناس، قال له: أما في بيتك شيء؟ قال الرجل: بلى.. حِلسٌ نلبسُ بعضَهُ ونبسُطُ بعضَهُ وقَعبٌ نشربُ فيه من الماء (والِحلس هو الحصير والقَعب هو الإناء).
فقال له المصطفى ﷺ ائتني بهما، فأتاه الرجل بهما.
فأخذهما رسول الله ﷺ بيده وقال من يشتري هذين؟
قال رجل أنا آخذهما بدرهم..
فقال النبي ﷺ من يزيد على درهم؟ مرتين أو ثلاثًا
فقال رجل آخر أنا آخذهما بدرهمين..
فباعه إياهما الرسول ﷺ وأخذ الدرهمين وأعطاهما الأنصاري وقال: اشترِ بأحدهما طعامًا فانبذه إلى أهلك، واشتر بالآخر قَدوما وأتني به.
(القَدوم هي حديدة يـُنحت بها الخشب ليكون حطبًا)

فاشترى الرجل القَدوم وأتى به للنبي ﷺ فشد فيه عودا بيده ثم قال له اذهب فاحتطب وبِع ولا أرينَّكَ خمسة عشر يومًا!!
فذهب الرجل يحتطب ويبيع فجاء وقد حصل عشرة دراهم فاشترىٰ ببعضها ثوبا وببعضها طعاما، فقال له المُختار ﷺ: هذا خير لك من أن تجيء المسألة نُكْتةً (سواد) في وجهك يوم القيامة، إن المسألة لا تصلح إلا لثلاثة؛ لذي فَقرٍ مدقعٍ أو لذي غُرمٍ مُفظعٍ أو لذي دمٍ موجعٍ.
الزهـــــد!
كان سفيان الثوري -- إمامًا في الزهد وهو من أكبر علماء المُسلمين قدرًا وعلمًا، لُقب بأمير المؤمنين في الحديث لشدة إتقانه وحفظه لعلم الحديث، وكان من العلماء العُباد، يُقيم الليل كله لله، قال عنه تلميذه مرة: رأيت الثوري في الحرم بعد المغرب سجد سجدة فلم يرفع رأسه حتىٰ نودي للعشاء!
لكنه مع ذلك كان غنيًّا كثير المال، فعاب عليه أحدهم كثرة ماله مُستنكرًا كيف يجتمع الزهد مع المال!!

فقال له سفيان الثوري: اسكت.. لولا المال لتـمندل بنا الملوك، (أي جعلوا العلماء كالمناديل في أيديهم) ثم قال: ليس الزهد بأكل الغليظ ولبس الخشن، لكن الزهد أن تكون الدُّنيا في يديك لا في قلبك، لا تُبالي بها إن أقبلت أو أدبرت.

وحين رأى الفاروق عمر بن الخطاب  رجلًا في المسجد مُنقطعًا للعبادة لا يغادره، فسأل عنه الناس فقالوا: زاهدٌ عابد، فسألهم من يُنفق عليه، فقالوا كُلنا، فقال : كلكم أعبد منه.
ورأى أحد الذين يدّعون الزهد الإمام أبا الحسن الشاذلي وهو يرتدي ثوبًا فـخمًا غاليًا فقال له مُستنكرًا مظهره: أهذا ثوب يُعبد الله فيه؟ فــقال له أبو الحسن الشاذلي: ثوبي ينادي عليّ بالغِنىٰ عن الناس، وثوبك ينادي عليك بالفقر إليهم!!

ذلك لأن الزهد عملٌ من أعمال القلوب، عبادة قلبية.. لا دخل لحالة الجوارح بها، فأنت يُمكن أن تملك الدُّنيا كلها وأنت عند الله زاهد، لأن قلبك مُتعلق برب الدنيا وحده، وربما لا تملك قوت يومك وأنت عند الله جاحد، لأن قلبك ساخط على الله ، فليس الزهد ألا تـملك شيئًا.. ولكن الزهد ألا يـملكك شيء!

لذلك كان من دعاء الصالحين: اللهم زهدنا في الدنيا، ووسع علينا منها، ولا تَزْوِ بِهَا عنا فَتُرَغِّبْنَا فيها.

ألم تسمع خبرهم.. تعالَ أُحدثك عنهم!

إنهم أغنياء الجنة!!
0 Votes

Leave a Comment

Comments

Write and publish your own books and novels NOW, From Here.