Za7makotab

Share to Social Media

عندما تدور الكؤوس


قضبت حاجبيها وتشققت جبهتها وهي تنظر للفتاة التي بجوارها نظرة تفصيلية تجمع بين أخمص إصبعها حتى خصيلات شعرها، ربما هو الآخر مزيف!.... كانت تصورها كجهاز أشعة سينية وتتحقق من صحة باقيها.
لا تدري الأخرى سببًا لتغير النظرات منذ أن سردت قصة حادثة سالفة مرت بها، سردتها دون مبالاة بعواقبها.... فما هي سوى حادثة حدثت لها منذ أكثر من أحد عشر عامًا، تذكرتها عندما سمعت قصة مشابهة لها فقصتها على حماتها المستقبلية مسترجعة منها خبراتها السابقة.
ولكن منذ أن قصتها وكل شيء انقلب رأسًا على عقب ولم يعد إلى سابقه... حينها نهضت حماتها وجمعت حقيبتها بسرعة وهي تلقي حجة للمغادرة لا تعي حتى فحواها ولكن لا يهم... فجُلُّ ما يهمها الآن هو حقيقة زوجة ابنها المستقبلية؛ فقالت في ارتباك وذهن مشتتين:
_أنا مضطرة أمشي ضروري علشان عندي مشوار مهم.
ألقتها فجأة وتوجهت نحو الباب لتغادر.

لم تفهم يارا سببا لتغير حماتها فجأة؛ فقد كان حوارهما يسير على نحو جيد.... ما الذي حدث منذ أن سردت لها قصة حادثها القديم؟!
ولكن في الحقيقة التغيير الذي حدث لم يكن مجرد لحظات متوترة وتمر في سلام بل سحبت معها جانبها القادم بأكمله لتلقيه في باحة من الاضطراب.
ندرت بينهما الأحاديث، وأصبحت حماتها تتملص من مكالمتها الهاتفية, حين ترى اسم يارا يضيء على شاشة هاتفها تتجاهله دون أن تجيب، أما ابنها هيثم فأصبح منذ ذلك اليوم كالقنبلة الموقوتة ينفجر في أي لحظة على أدنى الأسباب.... فزادت حججه ومشكلاته وفر هاربًا منها.
لم تكن تعلم أن قصة قصيرة كهذه ستغير مجرى الأمور وتعبث بحياتها المستقبلية بيد مستهترة خربة....
تساءلت ماذا حدث لخطبتها التي مر عليها عامان؟!.......
لماذا كل شيء تغير لمجرد كونها أصيبت بكسر ومرت بجراحة في ساقها اليسرى واضْطر الأطباء حينها لعمل جراحة متضمنة شريحة وبضعة مسامير؟!

حينها أدركت أنها تحت مجهرهم صاحبة عاهة مستديمة تدفعهم للهرع بعيدًا عنها، وما هي الآن سوى مخادِعةٍ أخفت عنهم حقيقة عاهتها التي عرفوها بمحض الصدفة ليس إلا. ترى كيف كانت ستمر حياته معها إذا تزوجها بتلك الشريحة؟! ألا يحق له أن يتزوج فتاة صحيحة دون زيادة أو نقصان؟!
اتصلت بخطيبها هيثم ليجيبها بعد رنتها الرابعة على مضض:
_نعم، خير؟
_ كنت عايزه أتكلم معاك في حاجة كده.
_ مش فاضي.
_ ما تقلقش، مش هاخد من وقتك كتير... وعموما دي حاجة هتريحك مني خالص وفي مصلحتك.
قالت جملتها وصدرها يختنق ألمًا.
_ ها...... إتفضلي.
_ الصراحة أنا قررت إننا ننفصل، أنا عارفة إني مانفعكش وانت تستاهل واحدة سليمة وأنا صاحبة عاهة من وجهة نظركم... والحقيقة إني مش هينفع أكمل معاك طول ما انت شايفني كده، لأني أنا مش شايفة نفسي كدا ومش هسمح لحد إنه يشوه من صورتي أو يقلل مني.
تنفس الصعداء بعد كلماتها كأنها أزالت صخرة قابعة على صدره وقال دون تعقيب على قرارها:
_ تمام، هاجي آخد حاجتي وكل واحد يروح لحاله.
لم يمانع قط بل استقبل قرارها بترحاب كمن كان ينتظره.... وبالفعل ذهب كل منهما في طريقه.


بعد ستة أعوام وقفت يارا وهي تمسك بيد ابنتها شذى, وخالد زوجها يقف بجوارها حاملًا بين يدية ابنته الأخرى رودينا ينتظرون وصول الأتوبيس، وما إن لمحه خالد حتى أشار له فتوقفت عجلات الأتوبيس أمامه وهدرت أصواته.
صعدوا من الباب الخلفي بحذر ومروا بين المقاعد إلى أن وصلوا لمقعدين شاغرين فجلسا ووضعا الفتاتين على أقدامهما.
نظرت يارا أمامها وخالد منشغل بدفع رسوم التذاكر فلمحت نصف وجه لشخص يجلس في المقعد الأمامي لها مباشرةً وبجواره سيدة، كانت تعرف هذا الوجه جيدًا وبالطبع لم تجهل شخص السيدة، كان يحمل بين يديه ملفا يبدو أنه طبي مدون عليه اسم أحد المعامل الطبية يحوي بعض الأشعة والتحاليل.
لحظات ووصل لها صوت والدته وهي تميل على ابنها وتقول:
_ ماتزعلش نفسك يابني... دي إرادة ربنا.
فقال في حسرة:
_ الدكتور قالي مافيش أمل من العلاج خلاص، وإني أوقفه وأبطل آخده.... وهي قالتلي إنها عايزه تتطلق علشان مش هتستحمل عيبي ده, ونفسها تخلف.
_ طلقها يابني... خليها تغور وماتزعلش نفسك.
فابتسم ساخرًا وقال بصوت يملؤه الحزن:
_ يعني أنا هفضل لوحدي علشان مش بخلف؟!... ومافيش واحدة هترضي بيا.. ولا في أمل في علاجي!
شعرت يارا حينها ببعض الأسى حين علمت حالته وضمت ابنتها إلى صدرها وهي تشكر الله على كرمه وهمست لنفسها قائلة:
"رُبّ ضارة نافعة"
هنا ارتفع صوت زوجها قائلًا:
_ هنا يا اسطى.
ثم نهضوا وتوجهوا نحو الباب ولكن تلك المرة كان الأمامي، فمروا من أمامهما فتلاقت الأعين والتقط هيثم نظرة خاطفة عن حياتها فلمح في عينها نظرة شفقة فهم منها علمها بما آلت إليه أموره فلم يستطع أن يمنع الدمعة التي سقطت من عينه وهو يهمس لنفسه في لوم:
"دنيا دوارة".
*****

حساء بنكهتها


سار على هوادة يتلصص ويراقب، يتخفى وراء العشب يموه ألوانه كالحرباء، يسير بخطوات حذرة بين فواصل كلماتها المبعثرة المدونة على صفحتها الشخصية والتي تلقيها في الطرقات من حين لآخر كالأشواك وتكتب على بعضهم "مقصودة" لترسلها لصاحب الشق على رأسه والبعض الآخر يئن على العمر الضائع والقلوب الخاوية من الحب والتقدير.
تارة تصرخ وتغضب وتارة تبتئس وتحزن، تلوم الزمان والقلوب، فالمشاعر مضطربة والقلب متقلص والخذلان في أعلى مراتبه.
اشتمَّ رائحة فرصته الشهية، فهمس لنفسه: "ألا ترى حياتها تنقلب رأسا على عقب؟!، يبدو أن فرصتك الذهبية تقترب لتصل لمراد قديم كنت قد فقدته بين أطلال الماضي".
الفرصة تقترب مع كل كلمة تكتُبها، يرى الضعف والانكسار قد بلغ أَوْجَه، ظل يراقبها بتمعن، اقترب أكثر منها..... شعرت بوجوده حولها في إعجاب على منشورات الحكمة أو وجه حزين يبكي على منشورات اللوم، يسمع صوتها العالي وهو يصيح في الوجوه حولها، وتحول الأصدقاء إلى أعداء، وكذلك الأحباء!
الأحباء الذين مالت غصونها لهم في السابق، الذين هرعت إلى أحضانهم وتركته يتلوى وحيدًا، ها قد خابت آمالها وهدأت حماستها التي وارت منذ أعوام حلمًا قديمًا لديه خلف التراب.
توقفت في المنتصف تنظر للوجوه حولها في صدمة، سقطت الأقنعة وتجلى القبح الحقيقي المتخفي، لم يعد هذا القطيع يناسبها، لن تكمل سيرها معهم يجب أن تتوقف...
وبينما هي تقف في المنتصف حائرة كان هو يعد شبكته، القطيع يكمل سيره دون أن يعبأ بها وكأنها لم تنتمِ له يومًا، التفتت خلفها فالتمس اليأس ومرارة الندم في عينيها، وهنا ألقى بشبكته عليها وخرج من بين العشب معلنًا عن نفسه بعد أن ارتدى قفازات السلام مواريًا خلفها بصماته التي تسعى وراء الثأر لروحه، مد يده لها محاولًا إنقاذها وكتب على لوحة الحاسوب:
_ "إزيك"، ثم أرسلها لها.
فأرسلت مستجيبة ليده الممدودة بالمساعدة:
_ تمام.

ما زالت كعادتِها التي لم تُبدلها الأيام كما بدلت حُبها له منذُ أَعوام، تنطِق بتلك الكلمة حين يكون الصفو متعكرًا والمياه آسنة.
أخذ فريسته بين يديه ووضعها في وِعاء وأشعل من تحته الموْقد حرصًا على أنْ تكون نيرانه هادئة لتذيبها في تَأَنّ وتُخْرِج عُصارتها المكبوتة بالداخل.
ثم أرسل:
_ما لك؟
لا بد أن يدغدغ حواسها الغافلة لأعوام ويرش على لحمها حبات الملح والفلفل ليضفي عليها نكهة يرى أنها تفتقدها وهي الاهتمام والاحتواء والذي يبدو أنها في أمسّ الحاجة إليهما الآن.
فأجابته:
_ما فيش....
يبدو أن اللحم تشرب الطعم وذاب بين نسائره، ستتمنع الآن وهي تحاول أن تتماسك وأن تمنع عصارتها من الخروج، فيزيد هو شعلة النار قليلًا وهو واع جيدًا لخطواته ويرسل:
_ لا في، أنا عارفك كويس.... إحكيلي.... ما لك؟
احتقنت عيناها بالدموع وأرسلت:
_ عادي مشاكل.
ابتسم نصف ابتسامة وهو يراقبها تنضح بعصارتها، فضغط أكثر يعتصرها وأرسل.
_أنا حابب أسمعك.. ممكن تفضفضي معايا زي زمان، إنتي عارفة إني بحب أسمعك.
قبضته عصرت قلبها بشدة، فأخرج كل ما كتمته بغرفة الأربعة، أو أعوام زواجها الأربعة.
انخرطت في نوبة من البكاء وهي تسرد له صراعاتها مع زوجها، مشكلاتهما التي باتت كالأحجار المتراصة كحائط بينهما، وهي ترسل:
_ مابقاش يحبني زي الأول أو يهتم بيا.
تخبره أن الحياة معه أصبحت جحيمًا لا يحتمل، فلم يعد يكنّ لها أي مشاعر وكذلك هي.
أرسلت كلمات لا تعد ولا تحصى من الغضب والحزن وهو يستمع لها بإنصات تمنته يومًا ما من زوجها ولو لدقائق.

زاد ضمته أكثر فاعتصرها أكثر وأكثر وأرسل ضربته القاضية:
_ حد يبقى متجوز واحدة زيك وما يهتمش بيها أو يبطل يحبها؟!... دا أنا ندمان إني ماحفظتش عليكي زمان وعرفت غلطتي كويس، وبدعي ربنا إني آخذ فرصة تاني أَصلح بيها غلطتي وأعرف أرجعك ليا.
لمح خط النهاية يقترب من بعيد، فازدادتْ حماسته ونظر في ترقب للحظة الانتصار.
وهي صامتة تعيد حساباتها وتسترجع الحنين لحبها الأول.....
كيف كانت بهذا الغباء لتتركه؟!....
لو كانت معه الآن لعاشت في نعيم أبدي لا ينتهي.....
معه لن تذوق مرارة الإهمال وانعدام الحب...
صدره الرحب سيظل مفتوحًا لها دومًا ليستمع لها دون كلل...
لقد أرسله لها القدر في أسوأ لحظاتها كالنجدة لينقذها، فلولا مداهمته هذه لكانت في مستنقع المفقودين، فكيف لا يستحق منها فرصة أُخرى؟!
_ إحنا فعلا محتاجين فرصة تانيه، أنا فعلًا محتجالك..... محتاجالك أوي الفترة دي تبقى جنبي.
تَهلل وَجهه وهو يُمْسِك بالشوكة في يسراه والسكين في يمناه ويستعد ليلتهم ما صنعته يداه، فلقد نضجت فريسته على نيرانه الهادئة واستسلمت لشهيته فتشربت براعم تذوقه التي تفترش لسانه نكهتها... بل تلذذت بها، وهي تلتقط يده الممدودة إليها لتنقذها من السقوط في الهاوية مُعلنة بدء فُرصة جديدة.

*****


مجرد شكوى


دلفت صباح جارتي إلى منزلي بنحيب وعويل لا ينتهيان، تندِب حظها البائس على الدوام كعادتها.
جلست بجوارها فلمحت كدمات وجهها الزرقاء وجفن عينها الأيسر المتورم فالتاع قلبي في استياء وسألتها:
_ إيه اللي حصل؟
ازداد نحيبها وتساقطت دموعها بغزارة كأن سؤالي قد دهس جرحها وأجابت في لوم:
_أنا اللي عملت في نفسي كده.
ثم لامت نفسها والأيام وأهلها وهي تستطرد في استسلام قائلة:
_ ضربني..... رجع من عند أمه متعصب!... أيوا بعد ما سخنته عليا زي عادتها.... كل دا علشان قولتلها مش عايزه حد يدّخل في حياتي!.... قامت كلمته وقالتله مراتك عايزه تبعدك عني وتفرق بينا ومثلت عليه إنها تعبانة وضغطها عالي.

كنت أستمع لها دون تعجب، فكنت أعي جيدًا درجة انحشار والدته في حياتهما ولكني آثرت الصمت حتى لا أزيد الطين بلة.
ظلت تنعى أيام صباها قبل أن يقذف بها الزمن في بئر الزواج، وتمنت لو أن الأيام تعود بها للخلف حتى لا تختار الارتباط بوالدته ثم به، فهي الأولى في كل شيء في حياته بعد أن فرضت نفسها كالضرة لها وكأنها هي الزوجة الأولى له، وقررت أن تقتسم معها زوجها ولم تمنحها منه سوى حقها الشرعي وسلبتها الباقي.
ربتُّ على كتفها ونهضت لأعد لها كوبًا من عصير الليمون لتهدئتها وحين عدت به وجدتها تنهض في عجالة وهي تلملم هاتفها ومفاتيحها فسألتها متعجبة:
_ رايحة فين يا بنتي؟! استني اشربي العصير.
جففت ما تبقى من دموع على وجنتيها بحذر حتى لا تؤلمها الكدمات وقالت جملتها المعتادة بعد كل معركة لها مع زوجها:
_لازم أروح علشان ألحق أحضر العشاء قبل ما يرجع من القهوة.
0 Votes

Leave a Comment

Comments

Write and publish your own books and novels NOW, From Here.