ملحمة الجلمود
رواية مستوحاة من أحداث حقيقية مع مزيج من الخيال، وقعت أحداثها بين الأحساء والبحرين وقطر بين الأعوام 1932 - 2018م
تنويه
في نهاية عام 2018م، ومن المنامة عاصمة مملكة البحرين، أنا الابن البكر للجلمود، أكتب لك يا قارئي العزيز ما يلي:
تُوفّي والدي الجلمود في العاشر من مارس 2018م، عن عمر ناهز السادسة والثمانين، في الدوحة عاصمة قطر، وكنت للأسف حينها في لندن عاصمة الضباب؛ من أجل علاج زوجتي من حالة مرضية مستعصية، وعندما اعتقد إخوتي أن مَنية والدي قد دنت استعجلوني في العودة، حاولت قطع مرحلة العلاج كي آخذ زوجتي معي، لكن الطبيب منعني، فتركت زوجتي وحيدة هناك، والتحقت بأول رحلة حصلت عليها؛ كي أصل إلى والدي سريعاً في ليلة وفاته، لكن وللأسف الشديد لم ألحق سماع كلماته الأخيرة في ختام رحلته الدنيوية. وعندما دخلت بيته في الدوحة، تفجّرت ينابيع حبي الحقيقي لوالدي في قلبي، وانهمرت دموعي مدراراً؛ وقد قيل لي: "كان يتمنى رؤيتك وتوديعك، ونادى على اسمك مراراً وهو يحتضر"، فقطع ذلك القول نياط قلبي، وهكذا تكون قد تكررت قصة أبي ذاتها مع وفاة أبيه في الأحساء! وجدت أن الجميع قد أخذ نصيبه من الدمع والحزن، ولم يظهر بينهم أي خلاف أو نزاع، فقد قام والدي بتوزيع كل ما يملك من مال وعقار بالعدل والإحسان قبل مماته. وحسب الوصية التي تركها، فقد كلَّفني أن أكون المشرف على استثمار ثلث قيمة بيته الكبير في قطر على أعمال الخير، وحددها في بناء مدرسة في مدغشقر، ومركز صحي في أفغانستان. وعليه فقد قررنا بيع بيته في الدوحة في أسرع وقت ممكن، حتى يتم خصم ثلث ثمن البيت لأعمال الخير التي أوصى بها، ثم نُقسِّم بقية الثلثين من المال على أزواجه وعلينا. قمتُ بعقد اجتماع عاجل من أجل توزيع مقتنيات أبي الخاصة، فكانت المسبحة وهي من العقيق الثمين من نصيب أخته الطاهرة، وقد أهدينا سجادة صلاته الشيرازية إلى زوجته الشريفة، أما خاتمه العقيق فكان من نصيب زوجته في قطر، وقد احتفظ أخي الأكبر في قطر بساعة أبي الخاصة، وعلقها في مجلسه من أجل الترحم عليه في كل حين. أما أخي في الأحساء، فقد اختار العصا التي كان أبي يتوكأ عليها كي يحتفظ بها كذكرى عزيزة غالية عليه. وقد وهبني إخوتي مكتبته العامرة، كوني مُحباً ومُتفرغاً للقراءة، كي أنقلها إلى البحرين، لكني سمحت بأن يأخذ كلٍّ منهم ما ينتقي من كتب دينية وغيرها؛ وذلك حرصاً على تواجد ذكرى أبي الطيبة في منزل كل واحد منهم. احتضنت ما كان أبي يداوم على قراءته من الكتب، حيث وجدت فيها لمسات أبي ورائحته، تحسستها وشممتها مراراً، وغسلتها بدموعي تكراراً.
فتحت درج مكتبه الكبير، حيث وجدت الرواية التي أوصاني بقراءتها ونشرها، وقد أسماها "ملحمة الجلمود"، وكانت بخط يده، وقد ختمها بكلمات مؤثرة في ليلة وفاته. وها أنا ذا أسردها لك يا قارئي الكريم بحذافيرها، كما كتبها دون زيادة أو نقصان. أما التغيير الوحيد الذي كنت مضطراً إليه، فهو تحويل التواريخ الهجرية التي كانت بين متون الرواية إلى ما يوازيها من التواريخ الميلادية السائدة حالياً.
بعد قراءتي المتأنية للرواية، واتتني فكرة تأريخ المزيد من أحوال والدي الشخصية؛ وعلى ذلك تمكّنت من جمع أعضاء مجلس العائلة المكون من جميع أبنائه وبناته وأخته وزوجتيه ومخاطبتهم بما يلي: "بما أن الملحمة تتعلق بتفاصيل حياة أبي الخاصة، وتاريخ تنقلاته على هذه الأرض، فهل يمكنني الطلب منكم، وكلّ حسب قدرته، كتابة أي إضافات مهمة، تختص بشخصية والدي في مراحل حياته المختلفة، أو ما يمكن الإشادة به من أدواره البارزة في حل مشاكلكم أو تكوين شخصياتكم، كما أن لكم الحق في توجيه أي نقد، فيما يختص بعلاقتكم الخاصة به فقط. ولما وجدت موافقة الأغلبية، انتظرت حتى وصلتني تلك الكتابات، وها أنا أرفق كل ما كتبوا بلا زيادة أو نقصان. ولم أنسَ أن أطلب من أخويه في البحرين الطلب نفسه، وكانوا قد حضروا إلى الدوحة للعزاء، وسارت الأمور بيننا كما ينبغي أن تكون. صارحتهما بما كتبه أبي من مسامحة لجميع أفراد عائلته، وطلبت منهم كتابة أي ملاحظات قيّمة لإضافتها إلى الرواية، لكنهم لم يحركوا ساكناً بهذا الصدد، ولعل ذلك كان أفضل لنا ولهم.
الكتابات التي وصلتني من بعض أبناء وبنات الجلمود
أحب التنويه للقارئ الكريم، أنني أنا الابن البكر للجلمود، قد تسلمت كتابات من بعض أبناء وبنات الجلمود ولم أغفل أياً منها، بل ها أنا أنشرها بحذافيرها، وبكل ما فيها من مدحٍ أو ذمٍ لشخصية والدي؛ وذلك حتى أكون مخلصاً ومنصفاً لإخواني وأخواتي، خاصة أنه قد غاب من حياتهم.
أما أنا فقد كتبت في نهاية الرواية (الفصل السادس) شرحاً وافياً عن نوعية علاقتي بوالدي، ورأيي في شخصه الكريم، من وجهة نظري الخاصة.
كتب الابن الأكبر للجلمود في الدوحة ما يلي:
كان أبي إصلاحياً بامتياز، يحب النظام والنظافة وإصلاح الأمور جميعها لو مالت عن مسارها الطبيعي، يلتقط ما يقع على الأرض بنفسه، ولو رأى شرشفاً مائلاً على الطاولة فلا بد أن يمد يده ويُصلح وضعه. كان أبي متوسطاً في كل أموره وسلوكه وآرائه، يُطبّق أسس الديمقراطية في كل قراراته ويُشاورنا في كل شاردة وواردة. لم يرفض لنا طلباً منطقياً سواءً كان ذلك الطلب متعلقاً بالسفر أو الدراسة أو الزواج. لكنه انتهج الصرامة عند تعليم الدين والأخلاق لأبنائه، ولم يتخذ موقفاً سلبياً من أي مذهبٍ أو طائفة إسلامية، بل كان منكراً للمنكرات مهما كان مصدرها، وآمراً بالمعروف، مقراً بالفضائل التي أتت بها جميع الأديان. كان متأملاً في تجليات الطبيعة الكونية، وفي جمال الأرض بما كل تحويه، متعمقاً في فهم سلوك البشرية مقارناً ما فيها من تعقيدات وتناقضات. وكثيراً ما كان يتعجب من الأوضاع الغريبة التي أتت بها الحداثة إلى مجتمعنا المحافظ، في هذا العصر المضطرب القبيح على حد قوله.
كان والدي محباً للنباتات بكل أنواعها، وكثيراً ما يأخذنا للحدائق والمتنزهات، كما كان يعتني بزراعة الخضار والورود في أي منزل يحط فيه. كان يرحمه الله حافظاً للكثير من أبيات الشعر التي تدعو إلى الحكمة والموعظة الحسنة، محاولاً بكل جهده تحفيظنا تلك الأبيات؛ لذلك كان يُنظم بيننا المسابقات في حفظ بعض أبيات الشعر وآيات من القرآن الكريم، ثم يمنح المكافأة لمن يفوز منا. أجل كان عصبياً في بعض الأحيان لكنه في الغالب حنوناً ومبتهجاً، بل متلاطفاً معنا أثناء اللعب والمزاح. تميز والدي بالحرص على الإشارة لجميع النعم من حولنا، وتذكيرنا بها دوماً وأبداً ثم حمد الله عليها كثيراً؛ كان رحمه الله يكره الاستهانة بالنعم الصغيرة ويعتبرها فضلاً من الله كبيراً، وكان يرى أن الله قد تفضل علينا بوجودنا في هذه الحياة العظيمة، ولا بد لنا من الاستمتاع بكل نعمة فيها. كثيراً ما كان يتقمص دور القاص أثناء تناولنا القهوة والشاي في مجلسه، ولطالما أمتعنا بمتع عظيمة ونحن نتحلق حوله على سفرة الطعام، فقد يطرح علينا لغزاً ويترك لنا فرصة الإجابة عليه بعد الفراغ من الطعام، ثم يقوم بمكافأة الفائز منا.
يظن البعض أن والدي كان بخيلاً، لكن لا بد أن نتفهم ونقدّر لماذا كان أبي صارماً في إنفاق المال على أبنائه في ذلك الزمن الصعب، فقد جمع هو المال بعد مشقة وتعب شديدين، أجل لقد كان كادحاً، بل إن صرامته في عدم الإسراف بالذات، هي التي جعلت من عياله أفراداً أغنياء مرموقين في المجتمع اليوم. ولا بد أن نتذكر أنه كان شريكاً مع أبيه وإخوانه في التجارة، كحال جميع الأسر في ذلك الزمان، فالمال لم يكن ملكه وحده؛ وقد تميز أبي بخوفه الشديد من الله، وبالذات في هدر القوت والمال؛ لأن ذلك محرّم شرعاً، حتى إن أبي كان ينهي عن الإسراف في استخدام الماء والكهرباء، بالرغم من صرفهما مجاناً من قبل الحكومة القطرية الرشيدة. وبالرغم من ذلك فقد رمقه أخواه بالحسد والغيرة لكثرة عياله وقلة عيالهم، وفي ظنهم أنه يصرف علينا أضعاف ما يصرفون على عيالهم، لكن العكس هو الصحيح، فقد ابتلاهم الله وأبناءهم بالأمراض التي عُولِجت في خارج البحرين بأموال طائلة، كما أن تدليل عيالهم بالصرف المستمر، قد أفسد تربيتهم مما زاد معانتهم منهم.
كما تميّز أبي بحرصه الشديد على تعليم أبنائه أصول الدين وحفظ القرآن الكريم، حتى إنه أدخل الأبكار من أبنائه الكُتّاب أو المطوع، لتجويد وترتيل وحفظ القرآن الكريم، حدث ذلك بالتزامن مع دخولهم المدارس أيضاً، ثم ما لبثت أن توقفت الكتاتيب تماماً عن العمل بعد تلك الفترة الذهبية من الزمان. حينذاك كان المجتمع معادياً للتعليم العالي للمرأة ومجحفاً في حقها بالعمل الحر، بينما أعطى الجلمود بناته كافة الحقوق في التعليم ثم في العمل الحكومي، بل ساوى الاهتمام بتعليم وتربية البنات بالأولاد تماماً.
لكن أغرب ما أصاب أبي هو السحر الأسود! أجل السحر الذي كان يحذرنا من مجرد التفكير به كسبب مباشر للمرض أو الفشل، كان يقول لنا: "نحن السادة من نسل رسول الله محميون من السحر ولا يؤثر فينا أبداً، فلا تخافوا منه فإنه لن يؤثر فيكم، حتى ولو عُمل لأي منكم بشكل خاص". لكن للأسف الشديد لم يَصدق هذا القول عليه، فقد أصاب أبي فجأة هزال شديد، وذات يوم توقف عن الحديث معنا، وكان يبدو عليه أنه مكتئبٌ وحزين جداً. أصيبت الأسرة بصدمة شديدة، كيف تحوّل هذا الرجل المرح إلى شبح صامت؟ هل يخفي الوالد شيئاً عنا؟ حاولت التفرُّد به علّه يُفضي إليّ بخبر ما، أو يبوح لي بمكنون نفسه، لكنّ المسألة باءت بالفشل الذريع. وذات يوم كنتُ في المتجر مع أبي فلم أكن لأتركه وحده وهو على تلك الحال. تزامن ذلك الوقت مع قدوم تاجر صديق لأبي من مسقط، عاصمة دولة عمان، فبُهت مما رأى من أحوال أبي المتغيرة، خرج من المتجر وأومأ لي بأن أتبعه، ولما اختلى بي قال لي والحزن بادٍ على محيّاه: "أنا أعرف أباك لفترة طويلة من الزمان، ولم يكن مضطرباً في أي وقت مضى، وأظن أن أباك قد بات مسحوراً! بل إن هيئته تؤكد لي ذلك". ذُهِلت وقلت متعجّباً: "لقد مرت عليه فترة وهو على تلك الحال المقيتة، لكن كيف ولماذا؟ لا أظن أن له أعداء تعمدوا إيذاءه"، تمهّل التاجر العُماني قليلاً ثم قال: "أستطيع الكشف عن ذلك، أعطني فقط اسم والدته، وسوف أوافيك بالخبر اليقين سريعاً"، فكان له ما أراد، ولم تمضِ إلا عشرة أيام فقط، حتى عاد لي بالخبر اليقين، إن أبي واقع تحت تأثير السحر المعقود تحت عتبة بيتنا! طلب مني التاجر الحضور في منتصف الليل بالقرب من عتبة منزلنا، فكان له ما أراد. وعندما تأكدنا من خلو الطريق من المارة، تم كسر العتبة والحفر تحتها حتى ظهرت لفافة سوداء! تلقفها الرجل وتعهد بفكها لإبطال السحر، ثم قمنا ببناء عتبة الباب كما كانت. ولم تمضِ بضعة أيام حتى عاد أبي إلى طبيعته. لكن ظل السؤال مطروحاً حتى الساعة من هو الفاعل يا تُرى؟ وظللت أنا وأبي محتفظين بالسر دون إخوتي وأهلي جميعاً.
كتب أخي الوحيد في الأحساء ما يلي:
عندما طلب منا أخي الأكبر كتابة بعض ما يتعلق بشخصية أبي من وجهة نظرنا الخاصة، كانت تلك فرصتي الذهبية كي أعبر عما يعتلج في صدري من الغيظ، أجل ليرحمه الله، لكنه ظلمني أنا بالذات ظلماً فادحاً في عدة أمور؛ أولها تسميتي على اسم جده (الشاهين) فكم "تفكه" أقراني عليّ بقولهم: لقد طار الشاهين، أو ها هو قد هبط الطير من السماء، أو قد يركضون خلفي صارخين: صيدوا الشاهين قبل أن يطير؛ وغير ذلك من المزاح الثقيل والاستهزاء بي؛ فقد كان اسمي حينها اسماً نادراً ومُضحكاً في محافظة الأحساء. وأظن أن أبي كان يحب النفاق والتملّق، حيث اختار لنا نحن أطفاله الثلاثة أسماء أهله المتوفين، أمه وجدته وجده؛ لأن الناس يعرفونهم هنا ويتذكرونهم بالخير بعد وفاتهم، وهكذا لا يزالون يمدحونه على إخلاصه لأهله. بينما قد تملّق أبيه عندما سمى بكره على اسمه، وذلك كي يرضى عليه إثر زواجه في البحرين دون علمه، ولو أسماني على اسم والده لكنت سعيداً راضياً بذلك. أجل لقد ظلمني أبي ظلماً فادحاً عندما تركني أعيش بعيداً عنه في بلد آخر، وقد طلبت مرافقته في بلده الذي يعيش فيه عندما تخطيت سن البلوغ؛ لأني شديد التعلق به منذ طفولتي، لكنه لم يستجب لطلبي هذا، ولم يُقدّره أو حتى يُفكّر فيه جدياً. لقد ظلمني أبي بإهمال تربيتي بين ناظريه، ولم يُقدّر حاجة الولد الشديدة لتقليد أبيه في كل شي فهو ذكر مثله، ويحتاجه ليكون له مثالٌ يُحتذى به وقدوة قريبة منه. ظلمني أبي بتركي أعيش بين أربع إناث (أمي وجدتي وأختين لي) وكلهن يحسدنني على تدليل أمي لي، خاصة بعد وفاة أبيها، فما فتئت تناديني (يا خلف أبويا)، وأجبرت جدتي على مناداتي بذلك أيضاً، خاصة وهن يعلمن كرهي لاسمي، لكن على الجانب الآخر، لم يحب أبي مناداتي بذلك اللقب، ولا سيما أنه كان يكره والد أمي كثيراً، فقد وقف ضده في لحاق أمي به إلى البحرين أو قطر. كانا لا يكفان عن المشاجرة والاختلاف في كل الأمور، وقد عرفتُ سبب تفضيل أبي لإخوتي البنات عليَّ؛ ذلك لأني أشبه والد أمي في الشكل والسلوك كما يقول.
لا يد لي أو له في الشبه الجسدي، لكن أبي هو المسؤول عن طريقة سلوكي، فقد تركني بين يدي جدي الذي كنت أقلده في كل صفاته، العناد والتسلّط والعصبية ونقد الآخرين وكشف عيوبهم. ومما زاد ألمي معايرة جدي لأبي في كل حين، فقد كان يُطلق عليه هذه الألقاب القاسية: (المتملّق، المتغطرس، المتعجرف، المغرور، المتباهي)، وكان يردد لي: (إن أباك هو الذليل الذي باع أصله من أجل بطنه)، أجل يظن جدي أن أبي متملقاً متمسحاً بجوخ الأغنياء. ولم يزل جدي حاقداً عليه طوال حياته، فقد ذكر لي أن أبي أخفى عليهم زوجته وابنه الذي في البحرين، حتى يتزوّج أمي، وهو يعتبره في ذلك الفعل غشاشاً وكاذباً.
لا أحد يعلم أنني كنت بين المطرقة والسندان، وما فتئت أعاني وتزداد عقدي النفسية دون أن يشعر بي أي أحد، حتى تحول عذابي النفسي إلى عقد مستديمة، وسلوك قبيح. ولم يكن لأمي رهافة الحس فيما يخصني من مشاعر، لم تكن قوية الشكيمة؛ لذلك لم تلجم جدي عند حديثه بالسوء عن أبي، بل ربما اقتنعت بحديثه فلم تحاول في يوم ما اللحاق بوالدي، ولو شاءت أمي وأصر أبي لأخذنا إلى قطر، وجعلنا أسرة واحدة مترابطة متماسكة، ولم يكن أبي ليتزوج من قطر. لم يراعِ أحدٌ مشاعري التي تميّزت بالتدفق والفيضان ورهافة الحس، ولا شك في أن الدلال وعيشي بين النسوة قد أفسدني، ولم يشبع عاطفتي تجاه الذكور غير الخضوع لأصحاب السوء، بل صرت أطلب الراحة منهم ومعهم، وهم طمعوا في أموالي؛ كون أبي تاجراً غنياً. أجل لقد عانت أمي من عنادي وسلوكي الانحرافي، وقضاء بعض الليالي بعيداً عن البيت، لكنها لم تخبر أبي بكل ذلك، ربما لأنه قد ضربني سابقاً ضرباً مبرحاً في أول شكوى منها إليه عني، وقد كان ذلك بسبب تافه لا يستحق الضرب. هو لا يملك أي عاطفة تجاهي، ومن قسوته أنه كان يستخدم الضرب كوسيلة وحيدة للتربية! لقد نسي أنه لا يمتن علينا بالزيارة إلا كل ثلاثة أشهر، وحينها يركّز اهتمامه على تزويج البنات ولا يلقي لي بالاً. لا أزعم أني حاولت التقرب منه بعد أن رفض عرضي العمل معه في قطر، وأصر على قطع دراستي لكوني فاشلاً فيها، ثم رتب لي العمل في متجر خاص بي، بعيداً عن منطقة سكن أهلي، مما زاد انغماسي مع رفقاء السوء الذين أتمنى أن ينقذني الله منهم يوماً ما بفضله وقدرته. لكن الآن وبعد وفاة والدي اختفت الشماعة التي تُعلَّق عليها أخطائي، فعسى أن أتوب اليوم إلى الله توبة نصوحاً.
كتبت أختي أصغر البنات في الأحساء ما يلي:
لم يكن أبي الجلمود مقصراً معنا في الزيارات أو الإنفاق وتلبية جميع احتياجاتنا، لكن وبالرغم من ذلك عشنا حياة بلا أبٍ يُحبنا ويُعطينا من عطفه وحنانه، وكلما احتجنا الدلال فإن الأم والجدة والجد هم الملجأ والملاذ، فنحن نعيش معهم وبينهم.
تفتّح سمعي على مناداتي باسم (لعيا)، لم أحب ذلك الاسم الغريب، وعرفت لاحقاً أنه اسم جدتي لأبي، وقد أصر أبي على تسميتي إياه رغم معارضة الجميع من حولي، بل ما فتئ يقنعني أنه اسم جميل ويعني المرأة الجميلة، وقد سمع من مرجع ديني، أنه اسمٌ لإحدى حوريات الجنة، التي يتكرر ظهورها لبعض زوجات الأنبياء للمساعدة أثناء الولادة! طلبت منه مراراً تغيير ذلك الاسم، وفي كل مرة كان يغضب مني ويقول: "لقد ورثتِ جمال جدتك ولا بد أن ترثي اسمها النادر أيضاً"، ثم يعيد لي القول إنه لا بد من تخليد اسم جدته التي ربته بعد موت أمه مبكراً، وكانت له خير حضن وملجأ ومعين، ولن يتمكن من رد أفضالها عليه إلا بتذكر اسمها والترحم عليها في كل حين.
كان ذلك الاسم مشكلة حياتي، في المدرسة كانت البنات يضحكن ويتغامزن عليّ ويقلن لي: "لعيا، لقد لاعت أكبادنا من اسمك الغريب"، ولطالما رجعت من المدرسة باكية حزينة. فازت أختي الكبرى بالاسم الجميل لوالدة أبي، وكذلك حصلت باقي أخواتي في قطر على أسماء حديثة وجميلة، وكان ذلك سبباً كافياً لإشعال غيرتي من أخواتي كلهن.
أصبحت عندي عقدة كراهية لمن يناديني باسمي الغريب، وفرضت على أمي اسماً آخر لمناداتي به. طالما كررت السؤال لنفسي: لماذا أنا بالذات تقع عليّ الطامة الكبرى؟ ويكون نصيبي من الأسماء غريباً عجيباً.
أمي لم تحرّك ساكناً لفك عقدتي، بل كانت تلجمني بالقول: "لن يكتمل إيمانك بالله إلا عند الرضا بالقضاء والقدر، قدر الله لك هذا الجمال المرتبط باسمك فكوني شاكرة له"، أجل كان هذا ديدنها، الرضا بأي شيء في الحياة، ربما لأنها امرأة مستكينة قليلة الحيلة، ضعيفة البنية والمناعة.
وبالرغم من عشقها الكبير لأبي، فإنها لم تجادل والدها المستبد في أي أمر قط، وإني لأعجب كيف رضيت أن ترضخ لأمر والدها القاسي وتعيش بعيدة عن أبي طيلة عمرها؟ لماذا لم تعمل حساب مغبة حرماننا من أبينا، كيف ضاعت حقوقنا بسهولة عندهم، وكأنهم قد تآمروا علينا، وأين حق أبي في الاحتفاظ بالعيش قرب زوجته وعياله؟ وكلما سألت أياً منهم تلك الأسئلة؟ لم أجد الإجابة الشافية غير أن الظروف منعتهم من لمّ الشمل!
دائماً يتهمني من حولي بالمشاغبة والتمرد، ولا يقدرون لي شجاعتي في خرق المألوف من العادات غير الصحيحة المتأصلة في مجتمعنا. ليس اسمي فقط هو ما لا يعجبني، بل جُل ما يحدث في مجتمعنا الغارق في الزيف والخرافات والمجاملات. وكلما تناقشت معهم في أمر غير منطقي مما يُفرض عليّ، لووا رؤوسهم بعيداً عني، وسدوا آذانهم بأصابعهم، فهم للأسف لا يعقلون ولا يفقهون! هكذا أصبحت كما يقول المثل: "أنفخ في جربة مقطوعة".
تمنيت أن أرتبط بشخص متحرر من الخرافات نسبياً، يؤمن بالعقل والمنطق، يدور معي ضد فلك الممنوعات التي تحاصر مجتمعنا المستسلم لكل ما يتناقله الأجداد، من مفاهيم مغلوطة دون إعادة التفكير فيها. ثم يجعلني سعيدة وأنا ألف معه بلاد الدنيا. رفضت الزواج ممن تقدّم لي، حتى تخرّجت من الجامعة، ثم ارتبطت بعلاقة حب مع موظف كان زميلاً لي في عملي، حيث كنت أعمل معيدة في أحد المعاهد، كان حباً عن بُعد، لكنه هاتفني كثيراً وشرح لي أنه يؤيد جميع أفكاري وقناعاتي؛ فرحت وظننت أني وجدت ذلك الرجل الذي طالما حلمت به. أصررت على الارتباط به، رغم أنه على غير مذهبنا الطائفي، لم يعارضني أبي فقد كان كل همه أن أتزوج والسلام. وللأسف الشديد خاب ظني في طليقي، فقد سخّرني جارية عنده في البداية، ثم أقنعني بنهب راتبي! والأدهى من ذلك أنه كان يعيرني بمذهب أهلي ويستهزئ بطقوسهم. حطم ذلك قلبي لأنه تعمّد التقليل من شأني وأهان أهلي، كما تنصل من جميع وعوده لي في لف بلاد الدنيا. لم أتحمله أكثر من عام واحد، والحمد لله أني لم أنجب منه فطلبت الخلع، وكانت أول حالة من نوعها في أسرتنا المحافظة جداً. خاب أمل أهلي في أنني سوف أهدأ بعد ذلك الطلاق، لكنهم لاحظوا زيادة تمردي، ونكران مذهبهم، وعلى ذلك ازدادت غربتي بينهم.
لكن أراد الله هدايتي إلى الصواب، بعدما قرأت الموضوع التالي: "للشاعر العربي دُرَيْدُ بْن الصِّمَّة أبيات يرثي فيها أخاه عبد الله، وتظهر في الأبيات تقاليد عربية ممدوحة شرعاً وأخرى ممنوعة، ومنها المسالك التي سادت بعض القبائل العربية إبان الإسلام، مثل العصبية للقبيلة وإن خالفت الحق! وفي ذلك يقول الشاعر دريد بن الصمة مشيراً إلى قومه:
أمَرْتُهُمُ أَمْرِي بِمُنْعَرَجِ اللِّوَى
* فلَمْ يَسْتَبِينُوا الرُّشْدَ إلا ضُحَى الغَدِ
فلمَّا عَصَوْني كنْتُ منهُمْ وقد أرَى
* غِوَايَتَهُمْ وأنَّني غيرُ مُهتَدِ
ومَا أنَا إلا من غَزِيَّة إنْ غوَتْ
* غوَيْتُ وإنْ تَرشُدْ غزَّيَة أَرْشُدِ
هذا الشاعر يُجسّد مصدر افتخاره ألا وهو ذوبان رأيه في رأي جماعته، وإن خالفت الحق واقتفت أثر الضلال، وهكذا أضحى معيار الأخلاق لديه ما تقوم به القبيلة، ويجتمع الرأي إليه منهم؛ رجعت إلى صوابي وفكرت عميقاً في تلك القصة، وأُلقي إليّ أن ما يقوله الشاعر سليم ومنطقي جداً، وإن لأهلي واجباً عليَّ، بل إن مساندتي لهم حق ومنطق، وليس هناك من سبيل صحيح إلا أن أتحد معهم في رأي واحد، لن ينفعني الحياد عنهم؛ لأنه مجلبة للهزء والعار لي، مثلما فعل طليقي معي.
وعلى ذلك أصبح سلوكي وكلامي يوافقهم في ظاهر الأمر، أتجنب نقدهم ومخالفتهم، حتى أرضيتهم جميعاً، لكني ما زلت أعتقد ببطلان بعض ما يعتقدون في مذهبهم، وتركت ذلك بيني وبين الله.
كتبت أختي الكبرى من الدوحة ما يلي:
كنت أول بنات أمي وفرحة أبي الثانية في عدد بناته، رحم الله والدي الحنون العطوف؛ فقد كان يحبُّ البنات حُباً جماً، ولن أنسى دفاعه المستميت عني عندما ضربني أخي الأوسط، بل استدعى أبي الشرطة للقبض عليه، ولولا تدخل أمي لوقع أخي بين قضبان السجن.
ونظراً لعدم وجود الخادمات والأجهزة المنزلية في ذلك الزمان، كان لا بد أن يقع عليّ قسط كبير من المسؤولية، فأنا من يتعاون مع أمي في ملاحظة العيال وحفظهم من الأخطار في المنزل والشارع، وتنظيفهم والحرص على استحمامهم، وغسل ملابسهم وتجهيزهم للمدارس.
لم أنزعج يوماً لأن عدد أفراد أسرتي في منزلنا قد تنامى، فأنا الأخت الكبرى وبديلة الأم لو غابت؛ بل طبخت لهم الطعام وأنا في العاشرة من عمري، وذلك عندما كانت أمي تعاني من آلام المخاض في المشفى. وعندما لاحظت أمي أني أنشغل أحياناً بالمذاكرة، كانت تصرخ عليّ قائلة: "لن تنفعك الدراسة ففي النهاية ستعملين في بيت زوجك لا في المكتب، انهضي وتعلّمي الطبخ معي"، ويا ليتها اعترفت لاحقاً بأنني كنت الأم البديلة، بل أنكرت فضلي كما أنكره معظم إخوتي.
أجل لقد عشت في زمن لم يعرف الخادمات في البيوت، بل كان الجميع يتعاون في خدمة البيت الكبير، حتى إن أبي كان يجهّز لنا طعام الإفطار في كل يوم، ويحثنا على النظافة والترتيب. أكننت له الحب والاحترام، وبالرغم من فورة أعصابه السريعة، وزجره لنا في أحيان كثيرة، فإن عطفه وحنانه كانا ظاهرين للعيان، فعندما نمرض يسهر بنا الليل بطوله، يسقينا من الأدوية الشعبية ثم يداوم على قراءة الأدعية والقرآن الكريم حتى يتم شفاؤنا. وأذكر أنني كنت أصرخ من وجعٍ في أذني، يتكرر كثيراً في منتصف الليل، ولم يجد أبي دواء إلا بغلي الزعتر البري ثم تقطيره في أذني، بعد تصفيته في طرف من غترته! تلك الغترة ناصعة البياض والتي كان يربط طرفها أحياناً كي يتذكر شراء طلباتنا من السوق.
ولا أزال أتذكر هذه الواقعة الغريبة التي تدل على عطف أبي الشديد وحنوه حتى على الحيوان؛ فقد طلب منه إخوتي الصغار شراء عنزة بيضاء صغيرة للتسلية بها، وعلى الفور هيأ لها حظيرة صغيرة في ركنٍ من حوش المنزل، ولم يتأخر في شراء العنزة؛ رغبة منه في رؤيتنا فرحين ومسرورين بها.
وكثيراً ما تناوبنا على إطعامها وتنظيف حظيرتها واللعب معها. إلا أن الفئران ظهرت فجأة في حوشنا، مما سبب غثاء العنزة ليلاً خوفاً وفزعاً من تلك الفئران.
تأثر أبي كثيراً عندما لاحظ عضات تلك الفئران على سيقان عنزتنا البيضاء العزيزة. لكن في اليوم التالي وبينما كنا نلعب مع العنزة مساء، لاحظنا أنها منهارة، ثم فرت فجأة عندما فتحنا باب الحظيرة، ودخلت صالة المنزل، تكومت تحت رجلي والدي، كأنها تريد النجدة منه بالذات.
كان أبي أول من لاحظ تشنجها وشدة غثائها، فأمسك بها واحتضنها بحنان، والألم يعتصر قسمات وجهه، وأصبح يكرر: (اسم الله عليك لقد كنت بخير هذا الصباح). لكن ما لبثت العنزة أن خرت ميتة من بين يديه، صرخ إخوتي الصغار، واكتسى وجه أبي بالحزن والأسى حتى دمعت عيناه. لم نعرف سبب تأثر أبي الشديد بموت العنزة، إلا بعد أن أمر بتنظيف الحوش والحظيرة سريعاً، وبعدها قال: "لقد وضعت سماً للفئران على الخبز الجاف خلف خزان المياه، وأظن أن ذلك الخبز قد تسرب للعنزة بفعل فاعل، لكن الفاعل ليس ملاماً فأنا لم أحذركم من وجود السم في الخبز".
لاحظ الجميع كثرة انشغال والدي عنا عندما كبرت تجارته، وافتقدنا مراجعته المسائية للدروس والواجبات، كانت جلساته المسائية جميلة جداً مع مزاحه وضحكه معنا في غالب الأحيان. وأذكر أني بعد التحاقي بالمدرسة الابتدائية، حكيت لرفيقتي عن دور أبي في حياتنا وإعداده الفطور لنا في كل يوم، فتعجبت كثيراً، وازداد عجبها عندما أعلمتها بمعرفة أبي للقراءة والكتابة؛ فقد غلب على المجتمعات الخليجية في ذلك الحين سمة البداوة والأمية، وعندما ذكرت لها أن جدي يعرف القراءة والكتابة أيضاً، لم تصدقني بتاتاً.
ومن أكثر اللحظات الجميلة والمؤثرة في حياتي مع أبي، كانت وقت امتلاكي سيارتي الخاصة، وعندما صعد أبي إلى السيارة ليباركها لي، تبسّم لي بعذوبة قائلاً: "يا ابنتي كم أنا سعيد من أجلك، ذلك أن القيادة تعطيك الحرية الكاملة، وتسهّل لك أمورك، فقط تذكري على الدوام أن قيادة السيارة تحتاج إلى فن وذوق وأخلاق".
في ذلك الوقت كانت قيادة البنات للسيارات شبه نادرة، لكن أبي أثبت للجميع أنه ديمقراطي بامتياز، وذو ثقة عالية ببناته، بل ويملك عقلاً منفتحاً مناسباً لتلك الفترة من الزمان، وأعتقد أنه لولا وجود تلك النماذج الشجاعة من النساء، والعقول المتفتحة من الرجال في ذلك الزمان، لم يكن أي سبيل للمرأة كي تسير في طريق النجاح والتقدم على كافة الأصعدة، وبالذات في دول الخليج العربي.
وعادة ما كنا نذهب إلى زيارة إخوتي الذين يقطنون الأحساء، أحياناً في عطلات الربيع، لكن دوماً في عطلات الصيف؛ وما أدراك ما طبيعة الأحساء لقد كانت جنة الدنيا في فترة السبعينيات. ولأني لم أرَ غيرها من البلاد في ذلك الزمان، ظننت أنها الجنة الوحيدة على ظهر الأرض. كنا وإخوتي نعيش في كنف طيبة قلوب هؤلاء الناس وكرمهم غير المحدود، وكنت أستأنس بحديثهم وأحاول تقليد اللكنة في كلماتهم، وهي اللهجة الأحب إلى قلبي. عشقت التسكع بين غابات النخيل، والقفز في عيون الماء الحارة أثناء الشتاء، وفي الجداول الباردة أثناء الصيف، تلك التي سبحنا فيها بحرية دون أن يراقبنا أحد.
وكم تجولنا في تلك الحقول اليانعة المليئة بالثمار والخضار، تمتعنا بقطفها وأكلها وهي نضرة وطازجة. وأحياناً كنا نركب البغال ونتسابق بمرح وسرور، وما أجمل تسلق النخلات الصغيرات وجني تلك الرطيبات الغضة سكرية المذاق. أما فرحتي الحقيقية فتكون عندما نقرر المبيت في عشة وسط النخيل، حينها تسترخي عروقي على موجات النسيم المتطاير من عبق التربة الطينية الحمراء، وتنتعش روحي مع ضخات أريج الأعشاب والزهور، التي لم تتلوث بالمبيدات والمخصبات الصناعية. ولو كانت فسحتنا في موسم الربيع فما يسكرني حقاً هو عبير حبوب اللقاح، ورائحة الطلع الخاص بذكر النخلة، وما أجمل تلك الحبيبات الأنثوية البيضاء المصفوفة بعناية وهي تنبثق من جرابها على شكل سلاسل مصفوفة إلى جانب بعضها البعض
كنت كما يقولون طفلة مرحة لكن بروح امرأة ناضجة، أحب الأطفال بصورة خاصة، وأعتني بهم عناية شديدة، والحمد لله أني استمتعت بالعيش مع جدي لفترة طويلة قبل وفاته. جدي الحبيب الذي كان ذا عذوبة نورانية، يزداد وجه الصبوح إشراقاً عندما يبتسم، وتبدو أسنانه بيضاء كاللؤلؤ المصفوف، والغريب أن سماته الجسدية كانت على النقيض من سمات والدي في كل شيء تقريباً، كان جدي أبيض البشرة مشرباً بحمرة، عكس والدي أسمر البشرة، كان طويلاً ونحيلاً، ووالدي يميل لأن يكون مربوعاً، كان شديد الهدوء ذا صوت خافت جداً، عكس والدي شديد الصخب والمرح، كانا يشتركان فقط في قوة النشاط البدني وفي حب العمل.
لطالما اعتقدت أن جدي كان متصوفاً، ذلك أن كل من يراه يحب ملامح وجهه البهية المشرقة، ويعشق الوقار والطيبة البادية على محياه. وللأسف لم أرث منه ملامحه، بل اكتسبت ملامح أبي، لكني أخذت من جدي الهدوء الشديد والصوت الخافت.
شعرت معه دوماً بانسجام كبير وطمأنينة غامرة. كان يقول لي: "كم تشبهين جدتك أم أبيك إنك نسخة مصورة عنها، فإن في وجهك صفاء رباني وبهاء وإشراق"، ثم تبتل عيناه بالدموع وهو يقول: "تلك المسكينة لم تهنأ بحياتها، ولم تسعد بأولادها".
كان كثيراً ما يجلس بيننا ويُحدّثنا عن ماضيه الجميل في طفولته وصباه، ثم عن سفراته الكثيرة إلى الشام والعراق للتجارة عندما بلغ مبلغ الصبا والشباب، كان يقول رحمه الله: "لقد سارت بي الأحداث شرقاً وغرباً في أنحاء العالم، لكني ظللت شديد التعلّق بغوطة الشام، أعشق هواءها البارد، وخضرتها اليانعة التي ليس لها مثيل"، وقد وعدنا أن يصطحبنا معه ذات صيف إلى غوطة الشام ذات الجو الجميل والثمار والخضار المتنوع، والمختلف عن كل ما تنتجه بلادنا؛ وعندما يذكر لنا ذلك يمتلئ الجو بنسمات التشويق والإثارة، وتكثر الأسئلة على غرار: "متى وكيف يا جدي يكون ذلك؟ نحن عددٌ كبير فهل تأخذنا كلنا معك؟"، فيجيب: "قريباً إن شاء الله، سوف آخذكم معي على دفعات حسب أعماركم"، ثم تشرق ابتسامته وهو يقول: "اللهم لك الشكر والحمد والثناء الجميل، أن متعتني بالجنة أنا وأولادي وأحفادي في حياتنا الدنيا، وعسى أن ننعم بها جميعاً في الآخرة". وقد صدق وعده معنا، كما استمر في زيارة بلاد الشام في كل صيف هرباً من السموم القاتل في الأحساء، وكان يقضي فيها وقتاً طويلاً كلما أمكنه ذلك، لكنه لم يتقاعد عن عمله التجاري، وظل محافظاً عليه حتى يوم وفاته.
لم يكن البوح الصريح من صفاتي يوماً ما، لكني لم أطمئن إلى أحدٍ سواه، فكنت أكاشفه بكل ما يجول في خاطري، وقد صدقته القول بأني أود العيش معه في الأحساء وزيارة الغوطة معه كلما أمكن إلى ذلك سبيلاً. لكن كيف لي أن أترك مسقط رأسي؟ كم ترددت في ذلك؟ لكنه شجّعني بابتسامة عريضة وقال لي: "لقد تمنيت يا ابنتي أن تكوني بجانبي، خاصة أنك شبيهة جدتك، هيا احزمي أمرك يا بنيتي ولا تترددي في الزواج من الرجل الحساوي النبيل الذي سوف أختاره لك، ولا تضيّعي عمرك كما يقول الشاعر عبد الله الخفاجي:
ومشتت العزمات ينفق عمره
* حيران لا ظفر ولا إخفاق
ولحسن حظي حققت لي الظروف كل ذلك، حيث إن معدلي لم يمكنني من دخول الجامعة في قطر، كما كثر الخطاب من حولي، فقررت الزواج بشرط أن أعيش في الأحساء، لكن لم يوافق على شرطي أي خطيب؛ لذلك خطط لي جدي أن يكون زوجي من أقاربي في الأحساء، وقد فرح بقدومي كعروس فرحاً كبيراً، ومن حظي السعيد أن سكنت معه في المنزل نفسه بعد أن هجرته زوجته إلى البحرين.
ومن المفارقات الغريبة أنه قد كثر في تلك الآونة الاعتقاد بفكرة التقمص وتناسخ الأرواح، وتردد ذلك الاعتقاد في دورات التنمية الذاتية وفي العلاج بالثيتا وغيرها، وما لبث أن سمع جدي بها من محطات الراديو والتلفاز، وعندما ناقشني في تلك الفكرة، قلت له ضاحكة: "أجل تلك حقيقة ثابتة، والدليل أنني روح زوجتك أو جدتي المتوفاة، تناسخت حتى لحقت بك أخيراً في الأحساء، ولأن جدتي في الماضي لم تعمر أو تهنأ بأولادها، أنجبت أنا الكثير من الأبناء وتعلقت بهم وبك دون الأهل في قطر"، وقد ظن جدي أني أمزح معه؛ لأن التناسخ لم يكن ضمن عقيدتنا، لكني اعتقدت به شخصياً من خلال قراءاتي المتعددة ومشاعري الخاصة، وعليه فقد كنت واثقة من صدق كلماتي! قد يلومني البعض بسبب تدليلي الشديد لأبنائي، وحرصي على ملازمتهم أينما ذهبوا بطريقة مبالغ فيها. ولمن حولي العذر الكامل فهم لا يعرفون أني فارقت توأمي في حياتي السابقة، فارقتهم بالحسرة والألم، وتركتهم للعذاب والقهر، وها أنا ذا أحاول التعويض عن ما حصل في الماضي، بفيض الحنان على أطفالي في حياتي الحالية.
أجل لقد حرصت على رعايتهم والعناية بهم، لدرجة أني نسيت التواصل مع أهلي في الدوحة! ولولا اتصالات أبي الذي لا يرتاح حتى يطمئن علينا، والذي كان يلومني على قطع صلة الرحم، لكنه لو عرف الحقيقة التي أعرفها جيداً لعذرني كثيراً.
أختي الصغرى تكتب لي من الدوحة ما يلي:
لقيت من الحب والدلال ما لم يلقه أحدٌ من إخوتي، فأنا الجميلة جدا في كل ملامحي، بشرتي بيضاء وشعري طويل ناعم، هادئة السلوك مطيعة لأوامر أبي، مما جعلني على قمة المعزّة والتقدير والاحترام في عيون الجميع. لكن للأسف الشديد، كل تلك المظاهر الخارجية الجميلة، كانت مجرد قشور صفراء واهية؛ لأن النفس سوداء خبيثة، والقلب فاسد جداً، كنت شديدة الزهو في داخلي واعتقدت أنني الأفضل من بين الجميع، ولي الحق في فعل ما أريد، تغلغلت الأنانية بشدة داخل نفسي، حتى قمت بتدليلها وإعطائها كل ما ترغب فيه، ثم تولدت عندي الرغبة في التسلّط على الجميع، وقد أتاح لي الكل فعل ذلك، أنا الوحيدة التي كانت طلباتي أوامر لا بد من تنفيذها دون تردد، أجل إن للجمال سلطة وسحراً لا يُقاوم.
أمي هي الوحيدة من أفراد أسرتي التي كانت تغار مني لجمالي وحب أبي وإخوتي الشديد لي. ولا بد لي من ذكر هذه الحادثة كي أثبت غيرتها الشديدة مني منذ طفولتي. ذات يوم تشاجرت مع إخوتي بسبب سطوهم الدائم على مجموعة تخصني من صور الممثلات، والتي حرمت نفسي من الملذات من أجل شرائها بمصروفي اليومي، واللعب بها مع صويحباتي. وفي كل مرة كنت أسترد الصور من إخوتي بالقوة والصراخ، فما كان من أمي ذات يوم إلا أن أخذت الصور من يدي وقامت بسكب "الكاز" عليها أمام ناظري وحرقتها كلها! هي تعرف كم أن هذه الصور عزيزة وغالية علي! يا لها من صدمة قاسية! وما زلت من حينها أكره أمي وإخوتي جميعاً، وقد استمر الحقد عليهم جميعاً، حتى بلغت مبلغ النساء وعرفت أسرار الهوى، وحينها تمنيت لو أشفي غليلي بالتسبب في فضيحة لهم كلهم.
أما أبي الساذج فكان مُغيّباً عنا، ولم يظن بعياله إلا الخير، كيف لا؟ ولِمَ لا؟ هو يعتقد أنه قد رباهم أحسن وأفضل تربية.
تنطبق على صاحبه الصميدح فهو يمد أبي بالضلال والخيال، يلقنه كيف يتصيد الأحلام من الهواء، يطلب منه التسامح والعفو وتعليمه لنا! بينما أعتقد أنا جازمة أن التسامح يُشجّع الآخر على التمادي في الشر والظلم، وهذا ما حدث لأبي مع أخويه، عندما سامحهم على ظلمهم فنهبوا حقه.
تباً لتلك الأفكار التي تبيع الأوهام والظنون الكاذبة للمثقفين بالذات، تخدعهم بمعسول الكلام وترشدهم إلى ما لا ينفعهم أو يحقق أحلامهم، حتى تضيع حياتهم هباءً منثوراً.
إن المتع اللذيذة هي دنيوية مادية بلا شك، أما السعادة المعنوية الوهمية فهي طعام الفقراء، ومناسبة فقط لأصحاب النفوس الضعيفة، ودليل العجز عن تصيد اللذة الجسدية؛ وقد صدق الشاعر عمر بن أبي ربيعة وهو قدوة الكثير من الشعراء الماديين حين قال:
ليت هنداً أنجزتنا ما تعد
* وشفت أنفسنا مما تجد
واستبدت ليلة واحدة
* إنما العاجز من لا يستبد
وقد اقتنعت تماماً بالمقطع الأخير، وقررت أن لا أكون عاجزة، بل مارست الاستبداد على الجميع.
أما أبي فقد كان ظالماً، حيث مارس التفرقة الواضحة بين عياله، لم يكن عادلاً معهم في العطاء المادي، ولا حتى في المودة وتجاذب أطراف الحديث، والدليل أنه كان غارقاً في التودد إلىّ ومحادثتي كثيراً وتأمل وجهي طويلاً، حتى ظننت أنه منجذب لي جنسياً، فيا عجباً من قوة تأثير الجمال الأنثوي، تلك التي تسحر معظم الرجال مهما كانت قرابتهم من تلك الأنثى، أو تديّنهم، أو حتى عُمق تفكيرهم وقيمهم ومبادئهم.
وبالرغم من ذكائي الاجتماعي فإني كنت غبية في الدراسة، وما إن تخرجت من الثانوية بمعدل ضعيف جداً، حتى عرف الناس أني لن أدخل الجامعة، فتهافت علي الخطاب من كل حدبٍ وصوب.
تقدّم لي شاب قطري وسيم ذو خلق قويم لكنه لم يكن يملك المال فرفضته، ثم تقدم لي اثنان من أهلي من الأحساء وهم قمة في الغنى والأخلاق؛ رفضتهم لأن المرأة هناك لم تكن تملك الحرية الكاملة بعد. لم أهتم بالدين والخُلق، كنت أبحث عن الحرية المطلقة، وعن الرجل القطري الثري والوسيم في الوقت نفسه، ولم أرَ حرجاً في أن أبحث عنه بنفسي، تعددت علاقاتي العاطفية حتى حصلت على مبتغاي وتزوجت به وسيطرت عليه سيطرة تامة. لم يعرف أحد من أهلي أنني المُحرّكة لأحداث حياتي من بدايتها إلى نهايتها، وما زال أبي يُقدسني فأنا البنت الطاهرة المؤدبة.
لكن الله لم يغفر لي نفاقي وكذبي، عاقبني أن أنجبت طفل معاق إعاقة كلية؛ ولإن ذلك لم يحدث في عائلتنا من قبل، فقد أصبح الكل ينظر إليَ نظرة التعاطف، لكن لم تزل أنانيتي وقسوتي تبعدني عن ابني المريض، كنت أرفض علاجه في خارج البلد، حتى لا أتعب معه! وعلى ذلك تولى أبوه وجدته مسؤولية السفر لعلاجه عدة مرات لكن دون فائدة تُذكر؛ بينما كنت أعيش حياة الرفاهية والمشاركة في الحفلات والسهرات وشراء أغلى الماركات العالمية، وكأن شيئاً لم يكن، وقد أرحت ضميري بممرضة خاصة ترافق ابني ليل نهار. ثم ألحّ عليّ زوجي للإنجاب من جديد، لكني رفضت خوفاً من تكرار ما حدث! ولم أُقدر حاجته للذرية، وأظنه مات قهراً مني ومن تسلّطي، فقد توفّي بالسكتة القلبية بعد ثلاثة أعوام من عمر ابني. ورثت منه الكثير من المال لكني صرفته كله على ملذاتي، وحتى ميراث ابني تصرفت فيه كما أريد.
بالطبع لم يتقدّم لي أحد؛ كوني أرملة وأماً لطفل معاق، لكني وضعت عيني على عم ابني، ذلك الرجل الطيب الذي يزوره ويسأل عنه في كل حين، غازلته حتى أحبني، ثم سلبته من زوجته وعياله، وعندما تقدم لخطبتي، لم توافق أسرتي عليه، كونه كثير العيال، وزوجته طيبة جداً، قالت أمي: "هي لم تؤذنا قط فلماذا نؤذيها؟".
لم استسلم وبحثت عن آخر، وكان يريدني لزواج المتعة الذي يُعتبر ساري المفعول في مذهبنا، لكني ضحكت على سذاجته وقلت له :(أنت غير محترم فهذا الزواج يكون في الغربة فقط، ولا تنسى أن مذهبنا يعتبره عمل مكروه ولا تقوم به السيدات المحترمات).
أما الحبيب الأخير فتمادى في طلبه وكان صريحاً ولم يُغطي شهوته بغطاء زواج المتعة، بل طلب تجربة الجنس قبل الزواج، وكما هو سلوك الناس في الغرب أصبحت تجربة الجنس قبل الزواج مقبولة في الشرق أيضاً، وافقت لأن شخصية الرجل وصراحته قد أعجبتني جداً. فقدت إيماني وأخلاقي بالتدريج، وأحس الطرف الآخر بذلك، لأني بالغت في علاقتي المحرمة به! ولم يرني قط أركع ركعة واحدة، فكانت النتيجة أن لعب بي ولم يتزوجني. وهكذا استمرت حياتي على هذا المنوال، وكنت أعرف الكثيرات ممن يلعبن نفس لعبتي، ويتغطين بغطاء النفاق الديني، فلماذا ألوم نفسي؟ بل أعطيتها الحبل على الغارب بحجة الوناسة والمتعة.
عادة ما يتردد المرء الوقوع في الحرام لأول مرة، وقد يشعر بالذنب والألم النفسي، لكنه يستسهل نفس الفعل في ما بعد، بل قد ينسى حرمته، وهذا ما حدث لي بالضبط، وكما قال الشاعر:
مَنْ يَهُنْ يَسْهُلِ الهَوَانُ عَلَيهِ
* ما لجُرْحٍ بمَيّتٍ إيلامُ
أعتقد بجزم أنني الفاجرة الوحيدة في أسرتي كلها، لذلك لم يعلم بفجوري أو حتى يشك في سلوكي الملتوي أحد من أهلي، بل حصلت منهم على المزيد من نظرات العطف والتقدير؛ كوني أُماً لطفل معاق، بالأخص أبي الذي كان مُغيّباً تماماً عما يفعله أبناؤه بالسر دون العلن، ويظن أنه قد أنجب الملائكة. لكن بعد وفاة أبي صحوت من غفلتي ومن جهلي، عرفت أن جسدي أمانة كان يجب عليّ صونها، وأن ابني هو اختبار صعب من الله قد وقع علي، ومسؤولية وجب عليّ الاهتمام بها.
الآن أعترف بذنوبي كاملة حتى تكون توبتي إلى الله توبة نصوحاً، فلن تُقبل التوبة إلا بعد الاعتراف بالذنب، ها أنا ذا أعترف، وإن لم يسامحني من حولي، إلا أني أطلب العفو من الله ، فهل سوف يسامحني الغفور الرحيم؟