أنا الجلمود أكتب لك يا قارئ العزيز من الدوحة، وأهدي قصة حياتي الحقيقية هذه إلى كلّ مجاهدٍ في هذه الحياة، سواءً كان ذلك جهاداً في تطوير نفسه، في عمله، في تربية ولده، أو في حبه لوطنه.
كما أهديها إلى كل إنسان يحاول التصدي لمشاعره وأفعاله المؤذية للآخرين، يفكر كثيراً ويتأمل في معاني العدل والظلم، ثم يجاهد في أن يكون عادلاً في سلوكه وظنونه ما أمكنه إلى ذلك سبيلاً، حتى ينعم بالحاضرة والآخرة.
كما أهدي هذا العمل إلى كلِّ من أدرك حقيقة أن أخاه الإنسان ضعيف أمام غرائزه وطباعه، وأنه المبتلى بحب النساء والبنين والمال بكل أشكاله وألوانه، وعلى ذلك وجب علينا مسامحة المخطئ، ومحاولة العفو عن المذنب كلما أمكن إلى ذلك سبيلاً.
أجل إن الإنسان لهش أمام غرائزه وضعيف الإرادة أمام متعته، ولا راحة له إلا بتبادل العفو والمسامحة مع الآخرين
وقد صدق أمير المؤمنين الإمام علي بن أبي طالب كرم الله ووجهه عندما قال: "العفو تاج المكارم"، أي أنه تاج مكارم الأخلاق قاطبة، ولا شك في أن العفو هو أفضل مكرمة يعطيها الفرد لنفسه وللآخرين، فهو راحة لجميع الأطراف.
أما النصيحة التي كان والدي يرددها لنا جميعاً لطرد الحقد من قلوبنا على أخطاء الآخرين فهي: "إن من يشيل الأمس على ظهره، يثقل جسده وتغوص قدماه في وحل الحاضر، وقد يموت جزاء ثقله، فلا يتمتع بالحاضر ولا يدرك الغد ليفرح به"، وكم تمنيت لو تم تنفيذ نصيحة أبي! وذلك بتمام التواصل بيني وبين أخويّ، لكن لم تكن باليد حيلة، وذلك أن ما اختلفنا عليه هو المال وهو (عديل الروح) كما يقول المثل الخليجي، وعسى أن يغفر الله لنا جميعاً.
*****
المقدمة
كيف بزغت فكرة هذه الرواية؟ وكيف كانت بداية الكتابة؟
لم أقرر كتابة هذه الرواية مبكراً في حياتي، لكني مذ تركت أهلي وعشيرتي وخرجت من مسقط رأسي في الأحساء متوجهاً إلى البحرين، صبياً مراهقاً في السابعة عشرة من عمري، دأبت على كتابة مذكراتي وتسجيل أحوالي المتقلّبة، فقد كان الفراغ قاتلاً والوحدة مملة. ثم عشقت الكتابة ولم أتوانَ عن تسجيل مشاعري لكل ما يسعدني ويحزنني؛ أجل لقد سجلت كل شاردة وواردة مما أثر في نفسي أثناء مراحل حياتي، كتبت أحياناً بالمختصر المفيد لو كنت مشغولاً، وأحياناً أخرى بالشرح والتفصيل لو كنت سعيداً ومتفرغاً للكتابة. في البحرين بدأت حياتي الجديدة، وقد وجدتها مختلفة عن القديمة كلياً، مما شجعني على تسجيل عبارات مفصلة تتعلق بما يجري لي من أحداث مثيرة وتواريخها في دولة البحرين، حيث تنقلت ما بين المنامة والمحرق. ثم عندما مررت بتجربة الغرام والعشق في قطر لُذت بالكتابة الواضحة الصريحة، وعبّرت فيها عن تفاصيل دقيقة لما يجتاحني من مشاعر جارفة، بحثت عن أبيات الشعر المتعلقة بالحب والغرام، وقمت بتسجيلها يومياً في دفتر مذكراتي، راقني ذلك ومكنني من التعبير عن مشاعري الجياشة بالتفصيل. كنت حديث العهد بالدوحة فلم أجد من أشكو إليه، وكان من الصعب كتمان الشوق في نفسي، إذن لا بد من تفريغ مشاعري على شكل كتابة حتى يهون عليّ الأمر ويرتاح هذا القلب الشجي قليلاً. كذلك كانت كتابة المذكرات فرصة لنقاش النفس ومحاسبتها، فكسبت الشفافية مع ذاتي، مما حبّبني في الكتابة فأدمنت عليها. ثم قررت ذات يوم بعد تقاعدي الجزئي عن العمل، أن أكتب رواية مفصلة عن تاريخ حياتي، بحيث أستنفد ما كتبت من مذكرات، وأضيف عليها من أحداث الماضي القريب والحاضر الجديد، كان لزاماً عليّ أن أكشف من خلال الرواية عن مشاعري الصريحة الخاصة بكل مرحلة من مراحل حياتي، وذلك من أصعب ما يكون. لكن كتابة هذه الرواية شكّلت لي فرصة عظيمة، كي أسجّل تطورات الحياة التي عشتها، وهكذا كانت فرصة لتعريف الأجيال الحالية المرفَّهة، بالمعاناة التي كابدها الأجداد والجدات حتى أسّسوا لهم هذه الحياة السهلة الميسرة.
استعنت بأُختي الطاهرة كي تُذكرني ببعض ما نسيت من أحداث طفولتنا الحلوة منها والمرة، كما طلبت منها أن تكتب هي أيضاً بعض ما لديها من مشاعر مؤثرة عن تلك الحقبة من الزمان الفريدة من نوعها لكلينا. وكان من حُسن حظي أن زودني أبي بمكتبته العامرة حين شعر بدنو منيته، وتم نقلها من الأحساء إلى الدوحة حينذاك، وقد وجدت من ضمنها بعض المذكرات بخط يده، وفيها إشارات إلى ذلك الزمن القديم الذي يشمل طفولتي وصباي وشبابي، وقد أذن لي قبل وفاته باستخدامها من أجل إثراء هذه الرواية. كذلك بذلت جهداً كبيراً جمع الكثير من المعلومات التاريخية عن الأحساء والبحرين وقطر قبل البدء في الكتابة، كما تأكدت من تزويدها بالكثير من المعلومات الاجتماعية السليمة. وكم تمنيت أن يقرأها جميع الأولاد والأحفاد، وتكون فيها العبرة والفائدة، ففيها توضيح لما عاناه الأولون من شظف العيش، ولما سعدوا به من البساطة والهناء في الوقت نفسه. وقد طلبت من ولدي البكر في البحرين، وهو ذو الثقافة العالية، أن يكون أول من يقرأ هذه الرواية بعد وفاتي، حتى يتعرف على حقيقة ما خفي عليه من مشاعري في حياتي الخاصة والعامة، ولا سيما أنه قد ولد وأنا في الثامنة عشرة من عمري، وأنا الآن في بداية السادسة والثمانين من العمر، أي أنه قد عرفني ما يقارب الثماني والستين عاماً حتى الآن. طلبت منه أن ينشر هذه الرواية نيابة عني، دون أي تغيير في المضمون أو المحتوى، حتى الأخطاء في قواعد اللغة العربية، طلبت منه أن يتركها كما هي؛ وذلك بهدف عدم حدوث أي تغيير غير مقصود في المعاني الدقيقة للأحداث. أخبرت ولدي البكر أنه سوف يجد الرواية بعد وفاتي في درج مكتبي في منزلي بالدوحة العامرة، وقد أسميتها "ملحمة الجلمود".
الفوائد التي جنيتها أثناء كتابة هذه الرواية
مرت عليّ أعوام عدة وأنا مستغرق في الكتابة، اكتشفت خلالها أني في شخصي الظاهر للعيان مجرد تاجر، وكما قال أرسطو: "نحن نمثل فقط ما نكرر فعله دون توقف"، أجل لقد قامت مظاهر حياتي الخارجية على تكرار العمل بالتجارة في كل يوم، لكن تفاصيل ذاتي كانت مُخبّأة بداخلي، ولم ألتفت إليها إلا في ثنايا البوح والإقرار بأخطائي أثناء هذه الكتابة الصادقة؛ ذلك أني سبرت أغوار نفسي الدفينة، وسار عقلي في تجاويف نفسي وروحي كي يستخرج منها كل ما كان غامضاً عليّ من قبل. قمت بمراجعة أخطائي السابقة والحالية وبدقة شديدة حتى تم الإقرار بها يقيناً وكتابة؛ ذلك أن الاستغفار يستلزم الاعتراف بالذنب أولاً، ثم التحوط من تكراره، وأخيراً تُستخلص العبرة والعظة للذات وللآخرين، لو كان هناك من معتبر؟ ولن ترتقي النفس إلا بمعرفة العبرة والحكمة من أحداث الحياة التي عاشتها، كذلك لن تتحصل النفس على الثواب الوفير والأجر العظيم إلا بالعفو والتسامح .
تمهّلت في كتابة روايتي هذه رويداً رويداً، فلم تزل عندي الفرصة حتى يومي الأخير في الحياة، كي أفرغ كيس حياتي كله، وأقلبه رأساً على عقب، وبذلك أُقيّم مسارات حياتي جميعها. هكذا أصبحت الذكريات تباغتني في كل حين، وتخرج هواجسي بروائحها الطيبة والمنتنة، تلك التي خزنتها على مدى أزمنة متفاوتة، وفي أمكنة مختلفة. تمكّنت من الرجوع إلى الوراء لأنظر إلى أعمالي من الخير والشر بالنوايا الحقيقية لها، لأجد في النهاية أنني لم أظلم أحداً من الناس كما ظلمت نفسي! بل كثيراً ما ضبطت نفسي متلبساً بجرم التقصير في حقها، وفي حق من أعول من عوائل ثلاث. وأنا من البداية حتى النهاية رجل أهلكه الكفاح، وأضناه الجري في جمع المال لهذه الدنيا الفانية، حتى ضاع عمره دون راحة ثابتة، أو مسرة حقيقية، أو حتى تحصيل كنز كبير من الأعمال الصالحة للحياة الآخرة. لكن لا بد من استثناء وحيد، فقد كانت مسرتي الحقيقية هي رؤية أولادي وأحفادي بصحة جيدة، وهم يكبرون ويتعلمون على أحسن ما يكون.
لم تختلف أحداث حياتي كثيراً عما يحصل للآخرين من مصاعب ومسرات وغرائب ومفارقات، لكنها اختلفت في نهج التفكير وحديث النفس، وقد كتب المتصوف الكبير ابن عربي هذه العبارة الذهبية: "إن مقياس تقواك مع ربك، هو نوعية حديثك مع نفسك"، ومنذ اكتشافي واقتناعي بتلك الكلمات أصبحت جملتي المفضلة لأي شخص هي: "اتق الله في نفسك".
وكم قبضت على نفسي متلبسة بالرغبة في إذلال الآخرين، أو البدء في عداوتهم لأي سبب من الأسباب، سواء كانت مهمة أو تافهة، فحرصت على نهيها عن ذلك، كي أجنبها الظلم والطغيان.
ولطالما حدثت نفسي أن لدي أجمل هبة قد يهبها الله للإنسان، ألا وهي ذلك المزاج الداخلي الشاكر المتفائل الهادئ المطمئن، لكن وللأسف لم تنعكس هذه الهبة الإلهية على طباعي الخارجية، بل أظهرت بعض الشدة والعصبية والتقتير على نفسي وعيالي. لكني عودت نفسي بمرور الأيام على التيسير في الصرف والبذل في الإنفاق، كذلك حاولت دوماً كبت غضبي الأرعن، وتوقع الخير من الآخرين بدلاً من سوء الظن، والصبر الجميل على سلوك الآخرين، كما تعلمت عدم التعجُّل في الحكم عليهم أبداً.
وعند وقوع الكوارث الشخصية لم أتحسر كثيراً، بل تقبّلتها بالثبات والصبر ورباطة الجأش، كما كان يفعل والدي، رحمة الله عليه، والذي كان له بالغ الأثر في مسيرة حياتي بكل تفاصيلها. كذلك كان لي في البحرين المدرس والصديق المسيحي، مثل المرآة التي تعكس لي أخلاقي الحسنة والسيئة على حدٍّ سواء، ثم تواجهني بعيوبي وتحاول إصلاحها؛ وهكذا ساعدني النقاش معه على تسجيل انطباعاتي عن صراعات نفسي مع الحياة، كما ساهم قربي منه في شرح بعض الغموض وحل الألغاز التي كنت أعيشها في ذلك الوقت. وقد وجدت في الدوحة الشبيه المماثل له وهو صديقي (الصميدح) الصادق الصدوق، الذي واجهني بعيوبي وشكر لي ميزاتي، وزوّدني بالكثير من حقائق العلم والمعرفة، كما قوى علاقتي بأهلي وأقاربي؛ ولهما أوجه خاص الشكر وعظيم الامتنان.
ندمت كثيراً على بعض ما فعلت، كما هنّأت نفسي على النجاح والإنجازات، وتأسفت على عدم تحقيق بعض الأماني، لكن العبقري المتنبي طلب منا عدم التأسّف إذا تأخّر الزمان في تحقيق الأماني، حيث قال:
ما كلّ ما يَتمنّى المرءُ يُدرِكه
* تَجرِي الرياحُ بمَا لا تَشتَهي السفُنُ
لا تَلْقَ دَهْرَكَ إلّا غَيرَ مُكتَرِثٍ
* ما دامَ يَصْحَبُ فيهِ رُوحَكَ البَدن
أما الشاعر نضال جابر فقد عارض تلك الأبيات بقوله:
تجري الرياح كما تجري سفينتنا
* نحنُ الرياحُ ونحنُ البحرُ والسفنُ
إنّ الذي يَرتَجي شيئاً بهِمّته
* يلقاهُ لو حارَبَتْه الإنسُ والجنُ
فاقصد إلى قِمم الأشياءِ تُدرِكْها
* تجري الرياحُ كما أرادتْ لها السفُنُ
وأترك لك عزيزي القارئ حرية الاختيار بين تلك النصائح الشعرية.