ولوج الروح إلى المضغة، ثم الخروج للعالم المادي في العاشر من مارس عام 1932م
في ذلك الزمن الموغل في القدم، كنت روحاً مُعلّقة على عمود النور في حجب الغيب، روحاً أبدية شفافة هانئة حامدة شاكرة، لكن حدث أنه في ذات فجرٍ منير مليء بالبهجة والسعادة، كشف الله لي الحُجُب، فاطلعت على حياة عجيبة مليئة بالتعب والنصب تارة، وبالراحة والهناء تارة أخرى؛ تتقلب ما بين الألم والحزن، ثم المتعة والسعادة، رأيت تفاصيل ست وثمانين سنة في لمحة عين واحدة، وفي خطف البصر، أجل لقد أُختزل لي الزمان والمكان، ثم سمعت هاتفاً يقول: "تلك تفاصيل حياتك الدنيوية وهذا قدرك الذي قدره الله عليك، لكن يبقى تفكيرك حراً، وعقائدك تحت اختيارك، وعملك أنت المحاسب عليه، فانطلق الآن". فكان أن ولجت رحماً طاهرة، وتخللت روحي المنطلقة ما بين حنايا وخلايا جنيناً مضغة، فشعرت بالحبس بعد الحرية، لكن ما إن نظرت حولي حتى تبددت وحشتي، فها هو جنينٌ آخر يقبع بجانبي، وتملّكني الحدس بأنها أنثى وأني ذكر. تسعة أشهر كاملة ونحن نتقاسم الزاد، ونتحمل هزّات العالم الخارجي في أحزانه وأفراحه، حتى آن لي أن أرى النور قبلها بدقائق معدودة، ثم ما لبثت أن لحقت بي، أنا الجلمود وهي الطاهرة، هكذا سُجلت أسماؤنا في العاشر من مارس عام 1932م في مذكرات أبي، الذي دأب على تسجيل المواليد والمتوفين من عائلتنا العريقة؛ ذلك الحدث الجلل تم في مدينة المُبَرز من محافظة الأحساء في المملكة العربية السعودية.
حياة التوأم في البيت الكبير بين الأعوام 1932- 1935م
أخبرتني جدتي لاحقاً أن أبي قد فرح بالتوأم فرحاً شديداً، وكذلك سُعدت بنا أمي الهادئة جداً، والتي لم تضجر يوماً ما من مشقة العناية بنا وتربيتنا التربية السليمة، على الرغم من نحول جسمها وضعفها الشديد. كانت جدتي تتحدث بحزن وأسى، وهي تشرح لنا أوضاع العناية بالطفل الرضيع في ذلك الزمان البعيد: "في زمن ولادتكم، كانت المواليد تموت بكثرة؛ لذلك بذلنا جهدنا في حفظكم من حسد العين بقراءة المعوذات، وعلى الرغم من ظروف الحياة البسيطة جداً، وقلة توفر الأدوية في ذلك الزمن الغابر، فإننا اعتمدنا على الطب الشعبي الذي يجعل مناعة الأجساد قوية من الطفولة حتى أرذل العمر. وقد أوشك الجلمود الصغير على الموت ذات ليلة بسبب الحمى الشديدة، التي لم ينفع معها منقوع الأعشاب أو الكمادات، ولولا أن نحر أبوك خروفاً ووزعه صدقة على الفقراء، لما نجوت من الموت. كما أصابت الطاهرة الحصبة التي نجت منها بأعجوبة أيضاً؛ لأن أمكم قد وفت بنذرها في تفصيل ثلاثة من الفساتين وإعطائها لليتيمات الصغيرات".
كانت أمي يتيمة الأب والأم وليس لها إخوة، وقد ورثت من أهلها المال الكثير، لكنها تُوفِّيت ونحن بالكاد قد جاوزنا الثالثة من العمر، وهكذا ورث أبي منها كل أموالها بعد وفاتها. أحبتها جدتي حُباً جماً، وكم تحدثت عنها بالخير ومدحت أخلاقها ومزاياها، وقد كانت أثيرة لديها من بين كل نساء البيت الكبير، حدثتنا جدتي عنها قائلة: "أهملت أمكم كل شيء يخصها فيما عدا رعاية التوأم، ولم تسمح لأحد بمعاونتها في ذلك المجهود الكبير غيري أنا، لكن عند الضرورة القصوى فقط، وقد لامها كل فرد في بيت العائلة الكبير. لم توجد المربية الخاصة في ذلك الزمان، ولا "حفاضات" الأطفال المصنعة، ولا حتى للمراضع الزجاجية أو اللهاية البلاستيكية، لا شيء كان يعين الأم على تلك التربية الشاقة غير إيمانها وصبرها اللامحدود. أما حبها وتدليلها لضناها فيظهر عند هدهدته بالغناء الشجي، وهو شرط ضروري لإسكات بكاء الرضيع، تسريع نموه، ولكل وقت أغنية، فعندما تهدهده للنوم مساءً تقول: "هلولو يا بعد عمري هلولو، نام يا وليدي نومة الهنية، نومة الغزلان في البرية، نومة اميمتك يوم هي بنية (الفتاة قبل الزواج)، بنطرك (سوف انتظر) يا وليدي تغسل شقى عمري، بك أنت بشد الظهر لين انحنى ظهري". وما زلت أتذكر تلك الصباحات الهانئة حين غنت أمي وجدتي لنا: "صباحك صباح الخير، قبل ما يطير الطير، والطير له جناحان، وأنت ملقاك الخير، صباحك من الغبشة (بداية طلوع الفجر)، مثل الذهب في البقشة (الصرة)، والحنة ذي من نقشه، نقش الحبيب الغالي، صباحك يا صباحك، لؤلؤ البحر مسباحك، والبين (الفراق أو الموت) ما يندلك (لا يستدل على مكانك)، ولا يسمع صياحك (بكاؤك)، صباحك ألف مهرة وجَمال وراعي، وأُبيك فوق صهوة، يراعي في المراعي" أو تقول: "وأُبيك مع الغاصة يجيب لأمك لؤلؤ، وللعدو رصاصة".
كم وكم ترقصت ونقزت مع توأمي، وجدتي تنشد غناوي الصباح الشجية باللحن الجميل: "صباحك الصباحي، والورد والتفاحِ، وعيونك الزينة سلابة الأرواحِ، صباحك صباحين، صباح الكحل في العين، صباح يطرد الفقر، وصباح يوفي الدَّين (السلفة)، صباحك صباحين، لا مغبر ولا شين، صباح النخلة أم عذقين (عذق الرطب)، والعنزة جابت تويسين (تيس)، وأنا قريت اليوم جزئين من القرآن الكريم، وأكلت اليوم قرصين (قرص الخبز)، صباح الناس مرة، وأنت صباحك ألفين، وحلاتك حلاة الكحلة في العين"؛ أما عندما تصحو الأم من منامها، على بكاء طفلها فما أجمل أن تقول له: "يا عمري من نام وقعد، والنوم في عيونه بعد، بالخير صبحنيه، من المرقد نبهنيه، من الأول أنا في الحوش دواره، والحين يمك قعدنيَه"، أو تقول: "حبيبي يا حبيبي، يا بعد مسكي وطيبي، يعل المسك يعدم، ويسلم لي حبيبي".
وإذا جاء المولود بنتًا، تغني الأم عليها قائلةً: (بنية على بنية، ولا قعود بطالي (دون ذرية)، بنية تطبخ الغدا، وبنية تعاون الجارِ، وبينة تقول يابويا، اليوم لفانا خطارِ (جاءنا ضيوف).
كما حدثني أبي عن عناية أمي وجدتي بنا قائلاً: "عندما يستيقظ أو يبكي التوأم معاً، تهرع جدتك لتحمل أختك، وتتركك لأمك حتى تفرغ من إرضاعك وتنظيفك، فالصبي له الأولوية في كل شيء. كان يتم الغسل بالماء ومسحوق أوراق السدر، ثم تطييب كل منكما بمسحوق أوراق الغَسِل (تُؤخذ من شجر الآس أو الياس وهي أوراق طيبة الرائحة ناعمة الملمس). ولأن أمك ضعيفة البنية، فعادة ما يقل أو يتوقف إدرار الحليب لديها، عندها يتم البحث عن مرضعة أخرى، وأظن أن لديك الكثير من إخوان وأخوات الرضاعة في الأحساء، لذلك وجب علينا التذكر والحذر الشديد عند البحث عن عروس لك".
وحيث لم يظهر في الأحساء الإرضاع بالزجاجة المثبت عليها مصاصة بلاستيكية، إلا في نهاية أربعينيات القرن العشرين، فقد كان الرضيع في زمننا يُسقى الحليب أو الماء بالفنجان الصغير، أو يُستخدم كوب زجاجي له قمع طويل ينتهي بفتحة ضيقة مخصصة للإرضاع، وربما استخدم البعض جراباً جلدياً صغيراً يشبه القربة ينتهي بعنق ضيق جداً. بالتأكيد لم توجد اللهاية أو المصاصة البلاستيكية، بل كان يحل مكانها قطعة صغيرة من قماش رقيق أبيض شبيه بالشاش، في وسطه تمرة أو حلوى لينة، ثم يربط القماش على شكل عقدة صغيرة توضع في فم الرضيع، بينما تمسكها المرضعة من الطرف الآخر، حيث يمصها الرضيع هنيئاً مريئاً. وفي ذلك الزمان كان يتم إطعام الرضيع بعد إكماله ستة أشهر، بالحمص المطبوخ والمدقوق جيداً كبديل عن السيريلاك الحالي، كذلك كان يستخدم دقيق الأرز الناعم المطبوخ بالحليب وقليل من دبس التمر، وعند بداية ظهور الأسنان اللبنية، يُقدم للرضيع جميع أنواع الطعام، بشرط أن تكون مطبوخة ومهروسة جيداً.
ما الذي يحويه البيت الكبير؟
ضم البيت الكبير أبي وجدي وجدتي وعمة واحدة شقيقة لأبي، وهي أرملة لها ولد واحد يكبرني بعدة سنوات، كما عاش في ذلك البيت ثلاثة أعمام وزوجاتهن وما لهم من بنين وبنات. البيت يضج بالحركة وبمرح الصغار وصراخهم، ويتعاون الجميع على تنفيذ أشغال البيت التي لا تنتهي، وأحياناً يتشاجر البعض على أتفه الأسباب، ويتوسط جدي في إصلاح ذات البين بين الرجال، أما جدتي فقد تركنا لها مهمة تأديب البنات والنساء، وكنا ننادي عليها بـ (أمي الحجية) تمييزاً لها عن أمهاتنا اللاتي ولدننا.
وأذكر أنه في زمن الطفولة والصبا، كانت الحياة اليومية تبدأ بالصحو باكراً، البعض يصلي الفجر ولا يرجع إلى النوم ثانية، بل يقضي الوقت في قراءة الأدعية والقرآن الكريم، حتى يحين وقت الفطور. أما بقية أفراد الأسرة فتصلي الفجر ثم تواصل النوم، ومع خيوط الشمس الأولى، أي حوالي السادسة صيفاً والسابعة شتاءً، يستيقظ الجميع، ومن يستغرق في نومه أكثر من ذلك لن يجد له طعاماً يفطر به. بعد ذلك يقوم كل فرد بعمله الخاص به والمناط إليه مسبقاً، يكون أولها حلب الماعز أو البقرة التي تعيش غالباً في مكان خاص بها يسمى السمادة (الزريبة)، وعادة ما تكون في طرف الحوش القصي عن غرف النوم والمعيشة. وبالقرب منها يوجد قفص الدواجن، حيث تتم تربية الدجاج الذي يؤكل طازجاً في كل بيت، ولا بد من جمع البيض في كل صباح، لكنه يؤكل عادة عند الغذاء أو العشاء. ولا بد من زعب الماء بالدلو أي جلب الماء العذب من الجليب (البئر) الذي يشترك فيه عادة معظم سكان الفريج (الحي)، وتتفرد البيوت الكبيرة فقط في حفر بئر خاص بها، في ركنٍ من حوش منزلها، وهذا ما كان متوافراً في بيتنا الكبير. يُصب الماء العذب في جرار كبيرة مصنوعة من الفخار تسمى الجحال (مفردها الجحلة)، وتوضع على حوامل خشبية مصممة لحملها، وتتوزع في أركان من حوش المنزل، ومن الجحلة تُملأ القلل الصغيرة (مفردها قُلة) وتسمى في الأحساء (المسخنة)؛ ربما لأنها تسحب السخونة من الماء، وعادة ما تُوضع واحدة منها في كلّ من غرف النوم والمعيشة، كما يُعلق أو يربط بكل منها كوب معدني صغير يُصنَع عادة من الألومنيوم، له عروة ويُسمى (البالدي أو الدولجه)، ويستخدم للشرب أو لغرف الماء. كما كانت تستخدم (البرمة) وهي إناء من الفخار له فم واسع يسمح بتخزين كمية كبيرة من الماء، أو حفظ بعض الأطعمة الطازجة أحياناً. وفي إحدى زوايا المنزل وبالقرب من البئر يتم بناء المغتسل وهو مكان الاستحمام السريع، كما يتم بناء (العسيلة) وهي خزان للماء يُستَخدم في مد المغتسل بالماء، وقد يوجد خارج أو داخل المنزل، وهو عبارة عن فجوة عريضة منبثقة من الجدار الخارجي للمنزل متصلة بجدار داخلي له مصب داخل المغتسل مع سدادة خشبية لقفل المصب من الداخل، ويتم إعادة ملئها بالماء كلما أراد أحدهم الاستحمام السريع أو الغسل. وعادة ما يوجد في حوش المنزل ركن صغير مبلط لغسل الأواني والمواعين ويُسمى (جباية)، وقد يستخدم لغسل اليدين والقدمين أو للوضوء.
كل المياه الوسخة المستخدمة تتدفق بعد استخدامها إلى خارج المنزل؛ وذلك لانعدام أنابيب الصرف الصحي والمجاري العامة، ولا يتم الاستحمام الكامل إلا حيث تتواجد عيون الماء الساخنة بين النخيل في المزارع، أو حيث تُبنى برك الماء بين البساتين، وعليها لا بد من تهيئة أماكن خاصة للنساء فقط، كما جرت العادة على أن يُنظف البدن والشعر، باستخدام الليف الطبيعي مع مسحوق أوراق شجر السدر (النبق أو الكنار).
يُبنى المرحاض (التواليت) في ركن قصي من كل بيت، وعادة ما يكون ملاصقاً لسور المنزل، يأخذ حيزاً صغيراً من الأرض التي يُبنى لها ثلاثة جدران من الطين، ويكون له باب خشبي خاص، لكن ليس له سقف مُحكَم، وذلك بغرض التهوية؛ المرحاض عبارة عن حفرة عميقة ضيقة المساحة تُحاط بالحصى الكبير أو بالطابوق، وله عدة أسماء منها: المستراح، المختلى، السنداس، والشائع منها مُسمى (الأدب) في الأحساء؛ وفي بيتنا الكبير بُني منها ثلاثة؛ واحد للنساء وآخر للرجال، والثالث للأطفال وذلك لكثرة أفراد الأسرة.
فرحة بالأخت في بداية عام 1934م، ثم تتابع الأحزان حتى نهاية عام 1934م
ما لبثت أمي في غضون عامين من ولادتنا، أن أنجبت بنتاً جميلة نحيلة ضعيفة، لكن لم يمهلها القدر فماتت وهي لم تكمل العام الأول من العمر. ولم تزل أمي منذ ولادة تلك الطفلة وحتى وفاتها تعاني من حمى النفاس، ثم عانت من داءٍ لم يُعرف له دواء، فلحقت بالطفلة سريعاً، وكنا نحن التوأم بالكاد قد أكملنا الثالثة من العمر. وكل ما أذكره من أطياف أمي سرير المرض الذي نامت عليه قرابة السنة، وحرصها على أن نكون بجانبها في معظم الوقت. يا لها من فاجعة ما زالت عالقة في نفسي، دموع أبي المدرارة التي بللنا بها وهو يحتضن التوأم معاً، عويل جدتي التي كانت تحب أمي حباً شديداً، وصراخ كل من كان في البيت الكبير على وفاتها. لقد ساعدت قوة إيمان أبي على إعطائه صبراً تعجز عنه الجبال الرواسي للعناية بنا، وذلك لمدة عام كامل، لكن بعد تخطينا الرابعة من العمر لملم أبي جراح قلبه وبدأ في البحث عن امرأة أخرى.
كان أبي رقيق الحاشية، هادئ السلوك، منخفض الصوت، يبتسم ولا يقهقه، طويل القامة نحيل الجسم، أبيض البشرة مشرب بحمرة. وعندما كبرت وجدت أني لم أرث من أبي أي صفة من تلك الصفات الراقية، بل كنت أحمل من كل صفة له عكسها تماماً! وكنت أظن أنه لا يحبني بسبب صفات جسدي المناقضة له تماماً. أما الطاهرة فقد ورثت منه جُل صفاته، ما عدا كثرة الضحك والقهقهة التي ورثتها من جدتها على الأرجح.
نشأنا في بيت العائلة الكبير، حيث كانت والدة أبي التي يشبهها لا تزال نشيطة وبصحة ممتازة، وعند ولادتنا كانت قد أكملت الأربعين من عمرها، جميلة مبتسمة ضحوك، هي مدبرة البيت في كل شؤونه، وهي المكلفة بإعطاء الأوامر لجميع نساء وبنات المنزل، كذلك كان عليها التأكد من توفر مؤونة المطبخ كاملة، ولن يبدأ إعداد أي نوع من الطعام إلا بإذنها، ولا يتم الطبخ إلا تحت إشرافها، لكن يا ويلها من جدي لو نقص شيء من الطعام الذي لا بد أن يكون متنوعاً وكافياً للجميع. تكفلت جدتي برعايتنا بعد موت أمي، وأغدقت علينا من عطفها الكثير، بل فاقت رأفتها بالتوأم اليتيم حنان الأم الرؤوم وحب الأب المكلوم. جمعتنا مأساة اليتم أنا وأختي معاً وبشدة، حتى إننا لم نفترق عن بعضنا طرفة عين، وكان لكلٍّ منا في الآخر عزاء وسند في ذلك المصاب الأليم.
نبذة عن سيرة والدي بين الأعوام 1910 - 1935م
كان والدي يحدثني كثيراً عن تاريخ العائلة العريق، ويمدني بالكثير من المعلومات عن منطقة الأحساء، وقد طلبت منه تسجيل كل تلك المعلومات الدقيقة على شريط كاسيت في أواخر عمره، فسجل لي ما يلي: "ولدت في مدينة المُبَرز من عام 1910م، في أسرة كبيرة مثقفة متدينة محافظة، عريقة في أصولها حيث يمتد نسبها إلى علي بن الحسين زين العابدين حفيد رسول الله (ص)، وكنا نتوارث شجرة العائلة أباً عن جد، ونفتخر بالنسب المبارك الشريف جيلاً بعد جيل. هكذا نشأت معتداً بنسبي وثقافتي الفريدة، لكن الطيبة والوداعة والتقوى طغت على شخصي قلباً وقالباً. هاجرت عائلتي التي تعمل بالتجارة، من المدينة المنورة إلى واحات الأحساء منذ زمن بعيد، ولأن لديها ما يكفي من المال فقد تمكنت من شراء العقارات والمتاجر في الأحساء، ثم ما لبثت أن شاركت مجتمع الأحساء بالعمل في زراعة النخيل أيضاً. ومن ميزات تلك الأيام أنه لا وجود لأي عمل خاص بالفرد وحده، بل لا بد من عمل جميع أفراد العائلة في التجارة والزراعة معاً، وعادة ما يكون الجد الأكبر هو مالك المال كله، ومدبر شؤون المعيشة بأكملها، وبعد وفاته يكون الولد البكر خلفاً له. كذلك لا بد للعائلة من المساهمة في كافة شؤون المجتمع، في المناسبات العامة والأعياد، وكذلك المشاركة بالمال والجهد في الأفراح والأتراح للجيران والأقارب مهما بعدت أراضيهم. وعندما قدمت أسرتي من المدينة المنورة كانت الأحساء كبيرة جداً تضم مئات الآلاف من البشر، غالبيتهم عربٌ قحاح جاؤوا من مختلف أنحاء الجزيرة العربية أو من اليمن، ولم يكن في الأحساء متسعٌ لغير أهلها، فلا وجود للأعاجم أو الأجانب إلا فيما ندر؛ لذلك تعلم رجال الحساوية كل الحرف وخدموا بها أنفسهم، عملوا بها وعلّموها لأبنائهم جيلاً بعد جيل، وعليها تُطلق ألقابهم وأسماء عوائلهم، نحن نلقّب بعائلة التاجر نظراً لانشغالنا بالتجارة، أما غيرنا يُسمى على سبيل المثال؛ عائلة الحايكي وهم من يحيكون الثياب والبشوت والبسط وغيرها، وعائلة الحواج وهم من يبيعون الأعشاب الطبية والبهارات، ثم عائلة الصفار وهم من ينظفون ويلمّعون أواني النحاس والحديد المستخدمة في الطبخ في ذلك الوقت، كما يعتنون بأواني الفضة التي يستخدمها الأغنياء في تقديم الطعام، أما عائلة الصايغ فهم المختصون بصنع المشغولات الذهبية والفضية، وعائلة الخراز هم أصحاب الحرفة الخاصة بتصليح النعل والأحذية، كذلك توجد عوائل كثيرة أخرى مثل النجار والحداد والخياط، وكل حسب مهنته.
الهفوف هي المدينة الأكبر في المساحة وعدد السكان بالنسبة لمحافظة الأحساء؛ لذلك تعتبر العاصمة، وتليها في الحجم والأهمية مدينة المبرز التي تبعد حوالي 40 دقيقة بالعربة التي تجرها البغال. والجدير بالذكر أن كلتا المدينتين فيهما الكثير من واحات النخيل والمزارع وعيون الماء العذبة. وبالرغم من ذلك فإن مدينة الهفوف كانت محاطة بصحراء قاحلة تكثر فيها الذئاب والضباع، وكنا نسمع عواءها من بعيد جداً، مما يمنع الناس من الخروج ليلاً في كلتا المدينتين.
وُلدت وعشت في مدينة المبرز، وهي مدينة وادعة ذات أسواق متنوعة، وزرع كثيف وغابات من النخيل؛ لذلك كان جُل أهلها يزاولون العمل بالزراعة أو الإشراف على المزروعات في الفترات الصباحية، ثم مزاولة الحرف المختلفة والتجارة بعد آذان العصر وحتى صلاة العشاء. في تلك المدينة السعيدة، يتزوج الشباب ما بين الثامنة عشرة والعشرين من العمر، ولا يؤجل الزواج إلا الفقير جداً أو من يُتهم بعدم الرجولة، كذلك تتزوج البنات ما بين الرابعة عشرة والسابعة عشرة، ومن تتأخر لما بعد ذلك توصم بالعنوسة".
لطالما تباهى والدي بأهمية المملكة العربية السعودية في العالم العربي والإسلامي، وكثيراً ما حدثني عن تاريخ الأحساء ودورها في الحربين العالمية الأولى والثانية، وقد سجل لي تلك الأحداث على شريط كاسيت كما يلي: "كانت الأحساء تحت سيطرة الدولة العثمانية التي سقطت نهائياً في عام 1924، أجل لقد كان سقوطها مدوّياً بعد مواجهتها للكثير من الثورات والمشاكل السياسية الداخلية والحروب الطائفية والانفصالية. لكني لا أذكر شيئاً من حكم العثمانيين إلا فرقة الموسيقى التابعة للفرقة العسكرية التركية، وهي تعزف الموسيقى في مناطق متفرقة من الأحساء، حيث كنا نلاحقهم نحن الصبيان في كل مكان لنستمع إلى معزوفاتهم العسكرية وأناشيدهم الوطنية الجميلة، والتي لا نفقه منها شيئاً. زعم أولياء الأمر آنذاك تأييد الخلافة العثمانية الإسلامية، حتى فضحتهم الحرب العالمية الأولى التي (بدأت في الثامن والعشرين من يونيو من عام 1914م، وانتهت في الحادي عشر من نوفمبر من عام 1918م)، وقد عشت تلك الفترة بقلق شديد مع كل أهالي الأحساء، ففي بداية الحرب كنت طفلاً أخطو إلى الرابعة، وفي نهايتها بلغت الثامنة من العمر، لكني لا أذكر من أهوال الحرب العالمية الأولى شيئاً غير حرص أهالي الأحساء على توفير المؤونة الغذائية، والتقتير على أنفسهم إلى حد الجوع، وإلى درجة أن الناس قد لعقت أكياس التمور بعد أن فرغت من محتواها، كما أكل البعض بقايا الثمار التي كانت سابقاً تُوضع للماشية؛ حدث ذلك لأن الحكومة فرضت على الأهالي التبرع بالتمر والفواكه المجففة وكافة أنواع البقوليات والحبوب لصالح عتاد الحرب ودعماً للإنجليز. وبسبب الخوف من التفتيش والنهب، تم إخفاء بعض المحاصيل في مخازن سرية تحت الأرض في الحقول أو البيوت؛ ثم ما لبث المخزون أن قارب على النفاد، وهكذا انتشر الجوع وأصبحت المدينة شبه خاوية من الناس الذين قبعوا في بيوتهم. وعليها توقف الناس عن العمل الجاد في المزارع؛ لأن محاصيلهم سوف تصادر على أية حال، بينما عمل بعض المزارعين على العناية بالزرع بعيداً عن أعين الشرطة والجواسيس؛ حيث كان اجتياح الجلاوزة أو الفداوية (حراس الحكام) للمزارع والحقول، معتاداً عليه في أي وقت من الليل، كما قد يحدث فجأة أثناء النهار، حتى يتم تسجيل أنواع المزروعات وكمياتها، ثم تفتيش المنازل بعد الحصاد وأخذ ما فيها، هكذا أصبح النهب والسلب عادة لهم بذريعة تزويد عتاد الحرب، وأصبح ظلم الناس متوقعاً في أي زمان ومكان من أحسائنا العزيزة. ولم يعد الموت غريباً علينا، بل أصبح مألوفاً جداً فهو يمر في مدينتا كل يوم ويلتقط أطفالاً وعجائز ومرضى وجوعى.
ظهر انحياز أولياء الأمر للإنجليز جلياً واضحاً، وقد بذلت الحكومة البريطانية كافة الجهود مع محاولات متكررة، ومارست الضغوط على شعب الأحساء كي يعلن التمرد على الخلافة العثمانية قبل سقوطها، وطلب فرض الحماية البريطانية عليهم، إلا أن كافة الأهالي تمسكوا بالخلافة الإسلامية السنية، بالرغم من أن قسماً كبيراً من شعب الأحساء كان على المذهب الاثنى عشري الجعفري. وأمام ذلك الصمود والتمسك بدولة الخلافة، لم يجد الإنجليز بُداً من إعطاء الضوء الأحمر للقيام بالمحاولة الثالثة من طرف قبيلة (آل سعود) للسيطرة على الجزيرة العربية كاملة في عام 1913، ومنذ ذلك الوقت صارت الأحساء تحت الحماية البريطانية، وكان ذلك ضد إرادة الشعب. وفي عام 1915م وقّع آل سعود معاهدة دارين مع الإنجليز، وتنص على الاعتراف بهيمنة بريطانيا على كل إمارات الخليج مقابل اعتراف الحكومة البريطانية بحكم آل سعود على الجزيرة العربية فقط، وضمان الحكم لذريتهم أيضاً، وهكذا بسط آل سعود حكمهم على الجزيرة العربية بأكملها في عام 1932م، وهي السنة نفسها التي وُلدتَ فيها يا بُني.
وقد سجل التاريخ أن آل سعود حكموا الجزيرة العربية بعد طرد والي مكة حينذاك، وهو الشريف الحسين بن علي الهاشمي إلى الأردن، ثم قاموا بتنصيب ابنه عبد الله والياً على عاصمتها عَمان. ولهذا الشريف قصة تاريخية طويلة أسردها عليك كما يلي: في العاشر من يونيو عام 1916، اندلعت الثورة العربية الكبرى بقيادة شريف مكة (الحسين بن علي)، والذي هدف إلى تأسيس خلافة دائمة له ولأبنائه من بعده، وعلى ذلك خطط مع الإنجليز على دحر الخلافة العثمانية، وكانت إمبراطوريتهم الكبيرة قد تفتتت إلى دويلات صغيرة. وللأسف فقد صدّق شريف مكة وعود ملك إنجلترا آنذاك، في إعطائه السيطرة التامة على الجزيرة العربية والشام وفلسطين. وقد أمده الجنرال الإنجليزي (إدوارد لورانس) بالمال والسلاح (واحد وسبعون ألف بندقية وأربعون مليون طلقة)؛ كي يقاتل العثمانيين. وقد تمكّنت قوات الشريف من القيام بغارات مدمرة على ممتلكات وجنود العثمانيين، وكذلك تخريب سكة القطار التي تصلهم بالحجاز.
كان هدف بريطانيا وفرنسا الأول والأخير إلغاء دين الإسلام وجعل المسلمين ضعفاء غير متماسكين. وقد فرضت بريطانيا انتدابها على فلسطين وقامت بتوطين اليهود وتسليح عصابات الصهاينة فور انتهاء الحرب العالمية الأولى. وعندما رفض الشريف توقيع معاهدة "فرساي" التي نصّت على تقسيم الوطن العربي، انتهز أمير نجد (عبد العزيز بن سعود) الفرصة، وتحالف مع الإنجليز ضد العثمانيين وضد شريف مكة، حتى يتمكّن من السيطرة على الحجاز كاملاً، فحاصر شريف مكة حتى فر إلى العقبة، لكن لم يُسمح له بالبقاء، وتم طرده إلى قبرص، بعد استخدامه معول هدمٍ للخلافة الإسلامية. كما تم لاحقاً طرد ابنه من سوريا التي احتلتها فرنسا، ولم يجد له بداً من اللجوء إلى الأردن، حيث نصب ولده حاكماً عليها. وقد تقاسمت بريطانيا تركة العثمانيين بقيادة (الجنرال مارك سايكس) مع فرنسا بقيادة (الجنرال فرانسوا جورج بيكو) حسب الاتفاقية المعروفة باسم (سايكس بيكو) في عام 1916م. أجل يا بُني سقطت الخلافة الإسلامية العثمانية عن الجزيرة العربية بفضل معاونة حكام العرب للإنجليز، ومساندتهم لهم طوال فترة الحرب العالمية الأولى. وقد عم الحزن والأسى على جميع أهالي الأحساء بعد سقوط الدولة العثمانية الإسلامية، ومن أجل ذلك كان أبي يردد علينا أبيات الشعر التالية:
وما فَتِئَ الزمانُ يدورُ حتّى
* مَضَى بالمَجْدِ قَوْمٌ آخَرُونَا
وأَصبَحَ لا يُرى في الرّكْبِ قَومِي
* وَقَد عاشُوا أَئِمَتَه سِنِينَا
طفولتي و ذكرى الحرب العالمية الثانية
وقعت الحرب العالمية الثانية في الفترة ما بين سبتمبر 1939م إلى سبتمبر 1945م، ظلت ذكرى الحرب العالمية الثانية باهتة جداً في مُخيّلتي، لأني كنتُ في السابعة من عمري وقت نشوبها، ثم انتهت وأنا في سن الثانية عشرة على وجه التقريب. وأتذكر وفاة الكثير من أهل الأحساء في تلك الفترة المؤلمة من الجوع أو من المرض، وإن لم يشاركوا في الحرب بالقتل والدمار. ويشهد التاريخ أن بعض الشباب سُحبوا غصباً عنهم إلى ساحات القتال؛ للمساعدة في نقل المؤن والعتاد، وغير ذلك من لوازم الحرب، ومات بعضهم من التعب والإجهاد. ولا شك في أنه عندما تدق الحروب أبوابها فإنها تؤثر سلباً على من حولها، وقد مرت علينا سنوات صعبة في ذلك الزمن؛ حيث ألقت الحرب بظلالها السوداء علينا رغم بعدنا عن مواقع الصراع. لم تعد القوافل العادية أو حتى السيارات الخاصة تخاطر بالسفر لجلب البضائع من بلاد الشام والعراق وغيرها، وهكذا كسدت التجارة، ولم يبقَ للناس من المؤن الغذائية إلا مخزون التمور والحبوب والمزروعات الموسمية، لكن ذلك المخزون كان يقل تدريجياً. وأتذكر كيف عشنا تلك الأيام العصيبة بقهر أليم وبؤسٍ شديد، وقد فُرض علينا التبرع بالتمر والحبوب لصالح عتاد الحرب، ثم ما لبثت أن اُغتصبت معظم المحاصيل قهراً من المزارعين، بأمرٍ من المسؤولين، وكانت تُصدّر إلى الحلفاء، مقابل وعودهم لولاة الأمر باستمرار السيطرة الكاملة على الجزيرة العربية. أجل لقد حلّت علينا المصائب العظمى بسبب تعاون بلدنا مع الحلفاء آنذاك.
والدي والتفكير في الزواج مرة ثانية عام 1936م
لا شك في أن عشق والدي لأمي كان حقيقياً، حتى ظن الجميع أن العلاقة بينهما لن تنتهي بالموت، وذلك بسبب الحزن الذي ظل بادياً عليه لأكثر من عام كامل، لكن للحياة مطالب وواجبات، والزمن كفيل بتغيير وتبديل كل شيء. وقد وجدت في دفتر مذكراته التي اطّلعت عليها بعد وفاته ما يلي: "كنت في بداية العشرين من عمري، عندما تزوّجت من فتاة سمراء رقيقة نحيلة من أسرة ثرية، عشت معها حياة هانئة يُغلفها الحب والوداد، ثم ما لبثت أن وضعت لي توأماً بعد معاناة شديدة أثناء مخاض الولادة، مما أصابها بالضعف الشديد وفقدان الشهية. وازداد الأمر سوءاً عندما أنجبت طفلة بعد قرابة عامين من وضعها للتوأم، تلك الطفلة ما لبثت أن تُوفِّيت بعد سنة من ولادتها. عانت زوجتي من المرض بعد وضع الطفلة مباشرة، حيث ظهرت عليها آثار حمى النفاس ومرض آخر لم نعرف له دواء أو علاجاً. انتهت الحياة الهانئة وبدأت المعاناة الشديدة، ومع كل ذلك كانت أمك تُظهر لي الحب، كما كنتُ أكن لها عشقاً لا هوادة فيه، وقد أسبغت على توأمها من الحب والحنان أنهاراً جارفة. وبعد زمن قصير لكنه مر علينا كدهور طويلة من الآلام والأوجاع، لفظت حبيبتي أنفاسها الأخيرة، فما أمر الحياة بدونها وما أصعب تربية الأيتام. لكن ولله الحمد والمنة، ما زالت أمي بصحة جيدة وقد احتضنت الأيتام بنفس راضية بالقضاء والقدر، وبذلت أقصى جهدها في رعايتهما. كان والدي شيخاً كبيراً جليلاً، وقد مرت عليه حالات غريبة عجيبة من مُسببات الموت، حدثت لبعض أزواجه وأقربائه. وسمعت أنه لم يكن يصبر إلا أربعين يوماً على فقدان الزوجة، حتى يتزوج بأخرى، وهكذا كان والدي يلمّح لي بالزواج ثانية بعد مرور أربعين يوماً فقط على وفاة زوجتي! لكنه بعد أن لاحظ إفراطي في حالة الحزن التي ألمت بكياني كله، أسر لي قائلاً: "هون عليك يا بُني، فالنساء من حولنا كثير، تزوج يا بُني، فإني أخاف عليك الفتنة، أنت كثير الأسفار والتنقلات لأمور التجارة، وتبدو عليك آثار التعب والنصب بسرعة، وإني أقدر حاجتك الشديدة لزوجة تحنو عليك وتواسيك". لكنه بعد ذلك التزم الصمت، فقد وجد أن عشقي للحبيبة لا يزال قابعاً في أعماق عيني. ثم أعاد عليّ القول ذاته بعد ثلاثة أشهر، وقد لاحظ نحولي الشديد، فقلت له: "أظن أني لن أتزوج الآن يا أبتي، إلا بعد مرور عامٍ كاملٍ على الأقل، التوأم في حاجة شديدة لكل حناني واهتمامي، ولن يشتد عودهم قبل إتمامهم الخامسة من عمرهم، وعندها أعدك بالتفكير في الزواج ثانية".
وقد حفظ والدي وعده لجدي، ففي نهاية عام 1936 بدأ بالتفكير الجدي في الزواج ثانية، وكان لا يزال شاباً قوياً ينضح بالعاطفة، وقد كتب في مذكراته بخط يده ما يلي: "لقد آن الأوان للبحث عن زوجة لي، إن حاجتي إليها ملحة، وليس لي إلا التقدم لخطبة واحدة من الأرامل أو المطلقات كونهن يطلبن اليسير من المهر ومن تكاليف العُرس. أجل يوجد حولي الكثير من المطلقات والأرامل، لكن كيف لي أن أتزوج ثانية أو أتدبر تكاليف العرس، والتجارة غير ميسرة والناس تشكو الجوع والفاقة، ومن العجب العجاب أنه خلال ثلاث سنوات (1936- 1938) وفي فترات متقطعة منها، أجدبت أرض الأحساء الخصبة جداً! وقد شحّ سقوط المطر، وغارت عيون الماء العذبة، حتى الآبار المالحة قد قل ماؤها! وكأن المدينة قد فقدت الخير والبركة بعد موت الزوجة الطيبة المؤمنة الصابرة المحتسبة. وبعد ذلك بسنة واحدة قامت الحرب العالمية الثانية (1939- 1945)، فكسدت تجارتنا بسبب شُحّ المؤن التجارية، ومرت علينا أيام كدنا نتضور فيها جوعاً، ولم يكن لدينا المال الكافي للبدء في أي عمل جديد فما بالك بالزواج؟ كما أني أخاف كثيراً على التوأم، وأتساءل دوماً هل سوف ترحمهم زوجة الأب يا ترى أم تعذبهم؟ لقد اشتد عود أطفالي حتى أعطى الناس الجلمود أكبر من سنه، يظنه الناس في السادسة بينما هو يتجاوز الرابعة بقليل. ابنتي الطاهرة نشطة وبصحة جيدة، وها هي تحاول المساعدة في أعمال المنزل، فلماذا أخاف عليهما وأمي تساندهم وترعاهم".
وفي صفحة أخرى من المذكرات كتب والدي ما يلي: "فرحت أمي بنهاية حزني واعتكافي، وتهلل وجهها عندما سألتها عن إمكانية البحث عن زوجة لي. لكن ظهر فجأة الإشكال الأكبر، ألا وهو أن أمي تدقق جيداً في المواصفات الأنثوية، وفي كل يوم تصف وتمدح لي واحدة منهن، وعندما أوافق عليها، تتراجع أمي وتذكر بعض العيوب فيها، ولا تستقر على قرار. وقد حدث ذات يوم، أن ذكرت لي أمي تلك الأرملة الخبازة، التي جاءت مع زوجها العجوز من مدينة المنامة في البحرين، لزيارة أقرباء لهم، ثم حدث أن مات الزوج فجأة في الأحساء، ولم تتمكن المرأة من العودة إلى بلدها، بل قضت فترة العدة في بيت قريبتهم في الأحساء، وكانت تجد في البحث عن عمل ما، لتسد رمق يتيميها الاثنين، ولم تجد غير أن تمتهن مهنة الخبازة في المنزل الذي تقضي فيه عدتها. وعندما ذهبت أمي لشراء الخبز منها، أعجبت بالأرملة التي بدت هادئة مستكينة (وما أشد خداع المظاهر)، وجميلة جداً، كما وجدت أمي أن سنها مناسب جداً لي. لم أتجاوب مع أمي في البداية، كوني لا أحب أن أتزوج إلا من بلدي، وقد حدثت لي حادثة مؤلمة في زيارة للبحرين قبل فترة من الزمن، فلم أزل متشائماً من ذكر تلك البلاد. لكن أمي تتردد على الأرملة في كل يوم لشراء الخبز، وتلك تتودد إليها بالحيلة والمكر؛ كونها علمت ترملي وبحث أمي الدؤوب عن زوجة لي.
عندما حدثتني أمي ثانية عن حديث العروس المعسول وجمالها الآخّاذ، كانت على شفتيها ابتسامة وفي عينيها فرح، لكن ذلك أثار لمحة غضب على وجه جدي الذي يعرف أني لا أحب ذكرى البحرين وساكنيها، بيدَ أن أمي أقنعته بقولها إنها جميلة جداً، ومهرها سوف يكون قليلاً كونها أرملة، ولنا فيها أجر كبير؛ لأن في رقبتها طفلين هما بنتٌ في مثل سن الطاهرة، وولدٌ أكبر من الجلمود بثلاثة أعوام، وقد يتسلون باللعب مع بعضهم، كما أننا سنجد خبزاً طازجاً في بيتنا في كل يوم. أُعجِب أبي بفكرة توفر الخبز الطازج في المنزل؛ لأن ذلك يعني توفير عناء خروجه باكراً من المنزل كل صباح، وتفكّر قليلاً في حيلة ما، ثم قال لأمي: "كي تقنعي وَلَدك بالزواج منها، رتبي له موعداً كي يراها خفية بين النخيل دون أن تشعر هي بذلك". وقد كان أن واعدتها أمي في إحدى مزارع النخيل التي نملكها، لزيارة خاصة ووجبة إفطار، وكان لا بد من تواجدي كي أنظر خفية من وراء الأشجار، أجل كانت تلك الحيلة كفيلة بإيقاع قلبي في شرك ذلك الجمال الأنثوي الذي لا يُقاوم، بهرتني تقاسيم وجهها الدقيقة، وشدة بياض بشرتها مع تلك العيون العسلية الواسعة، فكان أن وافقت على خطبتها دون أدنى تردد".
دخول زوجة الأب إلى البيت الكبير في بداية عام 1937م
ذات يوم عندما كنت في الخامسة من عمري، تسرّب إلى علمي ومن خلال مرافقة أبي في المتجر، بحثه عن امرأة للزواج منها، عرفت ذلك بسؤاله المتكرر لبعض الأقارب عن المُطلّقات والأرامل في منطقتنا، لم أنزعج كثيراً لهذا الأمر، لكن انزعجت أختي التي كانت تتنصت إلى أحاديث النساء، وتعرف منهن القصص الكثيرة الواقعية المؤلمة التي تُجسّد قسوة زوجة الأب تجاه أبناء زوجها. تتبّعت أختي الأخبار من جدتي التي كانت تَجِدّ في البحث عن زوجة لأبي أيضاً، تُبلّغني أختي بكل تطور جديد في هذا الأمر، وهي في أشد حالات الكرب والحزن، بينما أبدو أنا متفائلاً، وكم ذكرتها أن زواج أبينا معناه ظهور إخوة لنا من صلب والدنا، نلعب معهم ونسامرهم، ويكونون لنا سنداً عندما نكبر في السن، وقد نجحت بتلك الأفكار في أن أخفف ما بها من مخاوف ووساوس، وأجعلها تتفاءل قليلاً.
وأخيراً وجدتْ جدتي المرأة التي تراها مناسبة لوالدي، لقد كان زفافاً سريعاً ووليمة بسيطة فرحنا بها جميعاً. لكن المرأة الجميلة سيطرت على أبي من أول يوم، وقد لاحظت تدريجياً قلة اهتمامه بنا، وتوجيهنا للجد أو الجدة كلما مررنا به، أو طلبنا منه شيئاً؛ بينما كانت مجاملاته الواضحة منصبة على الزوجة الجديدة وأولادها. أجل يوم تزوج أبي بتلك الأرملة جاء الفأس في الرأس؛ لأنها جلبت معها طفلين يتيمين آخرين، وبعد مجيئهم حوى البيت الكبير من الشجار الكثير ومن الفرح القليل، ولولا حماية جدي وجدتي لكنا من المستضعفين.
جاء الطفلان من بيئة فقيرة جداً، وكادت الحيرة أن تقتلهم والتعجب يستحوذ عليهم، نظراً لسعة البيت الكبير وكثرة محتوياته، كما لاحظوا جمال ملابسنا وكثرة ألعابنا، وبالتحايل علينا نجحوا في اكتساب ودنا وبتنا نلعب معاً. لكن أين مراعاة أبي وحنانه علينا؟ لقد ذهبا إلى الا بد، وكلما أشارت جدتي نحونا، رد عليها قائلاً: "هما يتيمان أيضاً". زوجة الأب جميلة وقاسية ولم ترحم جدتي أيضاً؛ وقد كثر الشجار بينهما على أتفه الأسباب. وعندما كنتُ أتذمر من الوضع الجديد، كانت الجدة تدافع عن موقف والدي قائلة: "عندما يبحث الأرمل عن زوجة رخيصة المهر، لا بد أن تكون مطلقة أو أرملة، الأرملة أم الأيتام لا تطلب مهراً يُذكَر غير تربية أطفالها في بيت زوجها الجديد، علهم يجدون ما يقتاتون به، كما يرتجي الزوج الجديد وأهله الأجر والثواب في الآخرة، مقابل الاهتمام بتربية الأيتام". اقتنعت بالعذر والأجر، مما خفف الحزن عني في تلك الفترة المؤلمة، وجدتُ أبي وقد طبّق أعظم تطبيقات التكافل التي أوصى بها الإسلام، والتي مارسها المسلمون الأوائل بصدق وإخلاص.
كتبت أختي لي عن تلك الفترة قائلة: "في بيتنا الكبير استمر الحزن مخيماً على جدي وجدتي رغم مرور ما يقارب السنة على وفاة أمي الحبيبة، وليس كفالة وتربية التوأم هو ما يرهقهما، لكنها وحدة أبي الأرمل، حزنه وتذكره لأمنا في كل حين. أمي، تلك الرقيقة الصافية ذات الصوت الدافئ الحنون، لقد فُجعت بوفاتها حقاً؛ كونها وفرت لي الحب والرعاية والطمأنينة في هذه الحياة. وما زلت أقول في كل حين، حمداً لله على وجود أبي والجد والجدة في ذلك الوقت العصيب، وقد كوّنوا فريقاً لإنقاذ اليتيمين المفجوعين. ولله الحمد والمنة، لا شيء حببني في هذه الحياة مثل وجود أخي وتوأم روحي إلى جانبي، الجلمود مرح ضحوك قادرٌ على تخفيف مُصابي. نعم كان أخي التوأم يُمثّل لي البهجة الوحيدة بعد وفاة أمي، قلبي يتحد مع كل ما يُعبّر عنه من أحاسيس ومشاعر، لم أعرف السعادة في طفولتي إلا معه؛ استمتعت بكل ما يقترحه عليّ من ألعاب ومُزاح، ولن أنسى مواقفه دوماً للدفاع عني وقت المشاجرات مع أولاد عمومتي. ويوم أن جاءت زوجة الأب كنت بالكاد قد جاوزت الخامسة من عمري، توجست خيفة منها، كرهت نظراتها وابتعدت عن أبنائها، لكن أخي طيب القلب، سمح لهم بالمشاركة في ألعابنا. وفي غضون أيام معدودات من وجود زوجة الأب بين ظهرانينا، وجدناها تتطاول علينا بالزجر والنهر، كما ميزت أبناءها علينا في المأكل والمشرب، بل كانت تنهب ملابسنا الجديدة وتضعها في الصناديق الخاصة بملابس أبنائها. بل لم تتوانَ في السخرية مني لأني أجمل من ابنتها، وبالغت في إذلالي وتسخيري لتلبية مطالبها داخل البيت الكبير، مما أغضب أخي وجدتي. أما أبي الهادئ جداً في جميع الأحوال، فلم تظهر منه أي دلائل معبرة عن تعاطفه مع التوأم، وغالباً ما يكون صامتاً غير مكترث، لكن كي أكون منصفة، أحياناً أراه يبدي شفقته على الجميع دون استثناء أو تمييز".
الكد والعمل هو ديدني فور بلوغي السابعة من العمر:
في ذلك الزمان لا قيمة لأي فرد إلا بالكد والعمل، حيث تنتهي مرحلة الطفولة في السابعة من العمر لكلا الجنسين، ويبدأ الطفل بالتدرج والتدرب على الأعمال البسيطة أولاً، وعندما يشتد عوده يقوم بممارسة الأعمال الشاقة. وبالرغم من انعدام المدارس النظامية في ذلك العصر، لكن والدي حرص على تعليمنا، وجعلني أذهب إلى المطوع أو المعلم (الكُتاب) في ثلاثة من الأيام صباحاً، بينما تذهب أختي إلى الكُتاب عصراً، حيث نتعلّم القراءة والكتابة وحفظ القرآن الكريم. لكن في جميع الأيام كان لا بد لي من مرافقة أبي في متجره مساءً، أو صباحاً حيث لا كُتاب. وبعد فترة وجيزة ظهرت المدرسة الأولية النظامية التي أسسها الأتراك في الهفوف، ثم انتشرت المدارس في باقي مدن المملكة. كنت أرافق والدي في متجره حتى أتعلم منه أساليب التجارة مبكراً، وتلك مدرسة الطفل الحقيقية، ألا وهي تعلم حرفة أبيه والمساهمة في العمل معه، وفي تلك السن المبكرة كان غالباً ما يبتعثني مطراش (مرسال) أو حمّالٍ للبضائع من وإلى المتاجر الأخرى، كنتُ أهرع إلى مرافقته حتى أنال بعضاً من حنانه، وأهرب من زوجته القاسية.
كذلك عملت أختي الطاهرة في بعض الأشغال المنزلية الكثيرة جداً، وذلك كي تكف زوجة الأب عن معايرتها بالكسولة، كما أقنعتها جدتي أن العمل واجب عليها حتى تستعد لبيت الزوجية، لكن أعمال المنزل مجهدة ولا تنتهي أبداً، حتى إننا لا نكاد نلعب معاً.
بعض ذكريات الطاهرة بين الأعوام 1938- 1942م
تملك أختي ذاكرة دقيقة عن أحداث ذلك الزمان، وكانت تحدّث أبنائي وأبناءها قائلة: "عشنا في ذلك الزمان طفولة مرعبة حقاً، فلا يكاد يخلو أي شهر في السنة من إطلالة الموت وحصدٍ للأرواح في نطاق المدينة التي نعيش فيها أو في غيرها من المدن والقرى. أما الأسباب فهي كثيرة جداً، متعددة ومتنوعة، منها البرد القارس أو الحر الشديد، كثافة هطول الأمطار التي تهدم البيوت والمزارع وتغرق البشر في بعض المواسم، أو قلتها في مواسم أخرى مُسببة القحط والجوع، ناهيك عن موجات الأمراض الموسمية القاتلة والتي ليس لها علاج. للموت أسبابه الأخرى غير المعروفة أبداً، بل قد تكون مجهولة المصدر مثل تلبس الجن للإنسان كما يعتقد البعض، أو عين الحسود حتى قيل في المثل الشعبي (لولا الحسد ما مات أحد). أجل لقد كانت حياتنا غالباً ما ترتبط بالخوف من أسباب الموت، أكثر من الموت نفسه. وهكذا كانت لنا الطقوس الخاصة بدرء المسببات السيئة بعيداً عنا، وفي المقابل كان لا بد من المحاولات المستمرة لتوفير أسباب الحياة السليمة البسيطة.
أثناء شهور الربيع وحتى بدايات الصيف تكثر الولادات، وحيث إن الناس وقتها كانوا ينامون فوق أسطح المنازل التي كانت متلاصقة، كنا نسمع من معظم الأسطح صياح المواليد ليلاً حتى لا نستطيع النوم، لكن تلك الأصوات تخفت وتقل تدريجياً من حولنا بين نهاية الصيف ومنتصف الشتاء، مما يدل على أن المواليد قد مات بعضهم، ومن تبقى منهم قد يكون عليل الجسد أو معاقاً، أما المواليد الأصحاء الأحياء فعددها قليل جداً. تخاف الأمهات على المواليد الأصحاء من سطوة العين والحسد، وعليه يقمن بتحصينهم يومياً بقراءة القرآن الكريم والأدعية، كما يلجأن قبل أذان المغرب إلى تبخيرهم بالشبة والحبة السوداء، ولا بد من حرق بعض الرمل من الدهاليز التي يمشي عليها الحُسّاد، وهكذا تُحرَق النظرات الحاسدة كما يظنون. ومن الطقوس المتبعة لدرء الروع والحسد، كسر البيض الطازج في وقت أذان المغرب، على زوايا المنزل أو عند مدخل البيت مع قراءة المعوذات. أجل لقد اعتاد الناس الموت وتقبلوه بنفس راضية، سواء كان المتوفى كبيراً أم صغيراً في السن، لكن الطفل اليتيم يكسر الخواطر ويُدمي القلوب الرحيمة؛ لأنه يظل في حاجة ماسة لمن يرعاه ولمن يصرف عليه، وعادة ما يتنافس الأقارب من الأهل أو حتى من سكان الحي الواحد في كفالة الأيتام. لكن على الدوام يبقى اليتيم يتجرّع علقم فراق أحد والديه أو كلاهما، ومن ثمَّ مغبة إذلال الكفيل في بعض الأحيان".
كما كتبت لي أختي عن أكثر مشكلة واجهتها وهي طفلة يتيمة ما يلي: "من فضل الله علي أني وصلت إلى سن البلوغ بعد سن العاشرة مباشرة، وأمي الحجية لا تزال حية ترزق، فأرشدتني إلى ما ينبغي عمله، ولولا اهتمامها ولطفها بي لكنت من العاجزات التعيسات. لكنها كررت لي تلك المقولة صباحاً ومساءً وهي فرحة جذلة: " لقد أصبحت مرية (تصغير امرأة)"، وعلى ذلك ألبستني (البخنق) وهو غطاء جميل يكسو الرأس والصدر معاً، تتزين أطرافه بخيوط مذهبة ذات تطريز جميل، ويعتبر البخنق الحجاب الكامل للفتاة الصغيرة في ذلك الزمان. وفى تلك الفترة حذرتني جدتي من اللعب مع أبناء عمومتي داخل غرف المنزل المغلقة. شعرت بالخجل الشديد من الآخرين، وربما لاحظت يا أخي العزيز تغيّر نظراتي وسلوكي في ذلك الحين، شعرت بأنوثتي مبكراً وتوقفت عن اللعب، لكني ما زلت أنتظر مزاحك معي بشوق ولهفة. ومنذ أن ماتت أختي الطفلة الصغيرة وتبعتها أمي، وأنا أفكر كم هي تعيسة هي الأنثى التي تتحمل آلام الحمل والولادة، ثم التربية الشاقة للوليد، وقد يموت وليدها بعد عنايتها الكاملة به، وقد تموت هي أيضاً بسبب حُمى النفاس أو غيرها، بينما الرجل سليم ومرتاح من ذلك الأذى كله. والآن جاء دوري كي أعاني بعض آلام النساء أثناء دورة الحيض، تكتمت على آهاتي أثناء المغص الدوري، وحتى لا يراني أحد كنت أقوم في الليل البهيم حتى أغسل الطفارات (قماش خاص يستخدم لامتصاص دم الحيض)، وكم تحيرت كيف وأين أنشرها كي تجف في فصل الشتاء؟ أجل لقد كانت حيرتي شديدة حينذاك، ولم تظهر المشكلة في فصل الصيف حيث تقوم شمسنا الحامية بتنشيفيها في بضع دقائق. كم كرهت نفسي أثناء دورة الحيض التي تستمر خمسة أيام تقريباً، ولولا وجود جدتي التي ترشدني وتتستر علي لكنت من أتعس البنات".
أتذكر غرام أختي الشديد بالحلويات المصنعة، وقد كتبت لي عنها ما يلي: "كنا نسمّي الحلويات المغلفة بالقرطاس (حلاوة)، ولو كانت بنية اللون أو مخلوطة بالكاكاو تُسمى (شوكليتة)، أما لو كانت غير مغلفة تُسمى (بيض الصعو) أو(البرميت) أو غير ذلك. لكن جميع أنواع الحلويات كانت غالية جداً بسبب غلاء السكر في ذلك الزمان، وبسبب ندرة المصانع الخاصة بها، وأظن أن غالبيتها المتداولة في الأسواق لم تكن محلية الصُّنع بل مستوردة من إيران أو تركيا أو الهند أو غيرها من البلدان. ولا توزع الحلويات علينا إلا في المناسبات الدينية الشعبية مثل القرنقعوه (ليلة منتصف رمضان)، والناصفة (ليلة منتصف شعبان)، وأحياناً أثناء عيدي الفطر والأضحى. وأتذكر أني في طفولتي كنت ألتقط كل ما يشبه الحلوى من الحصى الصغيرة وأحاول مصها، وكثيراً ما أنقذتني أمي وجدتي من بلعها، وذات يوم ذهبت إلى جدتي والنمل يملأ فمي ويفيض حول شفتي وذقني؛ وذلك لأني التقطت حلاوة ساقطة على الرمل في بيتنا، وكان النمل قد تجمّع عليها، وقد أحسست بقرصاته بعد أن مصصتها، صرخت وبكيت كثيراً، ومن يومها أسماني الأطفال في البيت الكبير بـ "آكلة النمل".
كيف كانت حياة الجدة الضاحكة الحزينة حتى عام 1945م؟
بفرحة كبيرة تلقفتنا الجدة (أمي الحجية) منذ ولادتنا، وغمرتنا بحنانها غير المحدود أثناء حياة أمي وبالزيادة بعد وفاتها. وكان من صفاتها التبسّم دوماً والضحك لأسباب واهية وذلك لأنها تتميز بروح الدعابة دون غيرها من أفراد العائلة، ولا أدري لماذا كانت تضع باطن يدها على فمها عندما تقهقه؟ هل هو نوعٌ من الحياء، أم تظن من العيب أن يرى الآخرون باطن فمها. لكن بعد وفاة أمي أطلق جدي على جدتي لقب (الضاحكة الحزينة)، دمعتها قريبة جداً وسريعة الانحدار خاصة عندما تحضننا وتتذكر أمنا، أو يذكرها أحدٌ أمامها، وكم نهرها جدي قائلاً: "إنك تكسرين خاطر الأيتام بدمعتك هذه، حاولي حبسها في محجرها، وكُفّي عن التنهّد والتأوّه عندما تجلسين معهم"، لكن كم من المرات رأيناها تبكي وهي وحيدة بعيدة عن العيون. كانت امرأة فذة الذاكرة، تتلو معظم القرآن عن ظهر قلب، وتحفظ الشعر، تلقي الحِكَم والمواعظ، وتسرد القصص والحكايات التي تشيع بيننا الفضول والدهشة والحزن، ثم تنتهي دوماً بالبهجة والسرور. أنجبت جدتي ستة من المواليد، لكن لم يبقَ منهم على قيد الحياة إلا أبي وعمّتي الأرملة التي تعيش معنا، أما باقي أعمامي وعماتي الأحياء فهم من زوجات أخريات لجدي.
عندما يكون الصيف على أشده، يتسرب سلهوب أو سرسوب هواء السموم (لواهيب الهواء الحار) من النوافذ الخشبية المغلقة، وحينئذٍ لا بد لنا من الاختباء في غرفة الطعام الصغيرة التي لا نوافذ فيها، وهكذا لن يتمكّن الذباب والغبار والسموم من الدخول إلينا، وعادة ما يحل محل الدريشة (النافذة الصغيرة) ما يُسمى بالروشنة، وهي فجوة في الجدار تستخدم كالرف وتوضع عليها العطور وأدوات الزينة أو غيرها. عادة ما تخاطبني جدتي وهي تفرش سفرة الطعام المخصوفة (المصنوعة من سعف النخيل)، استعداداً لوجبة الغداء قائلة: "يا وليدي اذهب لأبيك وجدك في متجريهما، وبلِّغهم ضرورة الحضور للغداء قبل اشتداد السموم، فما أشد حبهم للبيع والشراء"، كنت صبياً مشاغباً وعنيداً لا أتحرك إلى أي مكان إلا بصحبة أختي، لكن أبي كان لا يسمح بحضورها إلى المتجر خوفاً من الأعين الغريبة الحاسدة. حينها أرد على جدتي قائلاً بحدة: "لا لن أذهب إلا مع أختي"، تقطب جدتي حاجبيها ثم تقول: "الله يقطع شرك يا وليدي، إذن ما رأيك أن نذهب جميعاً، وسوف أقف معها بعيداً عن المتجر تحاشياً لغضب أبيك، بينما تدخل أنت المتجر وتحادثه؟"، تصفّق أختي فرحة بالفكرة فلم تكن بالكاد تغادر المنزل، أما اللعب فهو مُتاح لها مع بنات أقاربي لكن داخل المنازل فقط. الصبيان يخرجون في كل يوم لحضور دروس المطوع أو لقضاء بعض الحوائج لأهاليهم من السوق، أو للتجمع واللعب مع أولاد الجيران في السكة (وجمعها سكيك وهي دروب الحي الضيقة التي تفصل بين المنازل). وعادة ما يُكلَّف الصبي بمبادلة الطعام والحاجات الأخرى مع الجيران، أو حسب ما تطلبه منه ربة البيت؛ أما البنات فقليلاً ما يخرجن، وإن حدث فلا بد أن يكون مع أحد من ذويهن.
أجل لم تكن جدتي الحبيبة مُقصّرة معنا أبداً في الرأفة والرحمة، أو تلبية احتياجاتنا، سواء أثناء حياة أمي أو بعد وفاتها، وكثيراً ما كانت تقص علينا القصص المسلية أثناء الليل، وتجمعنا في فراشها أيام البرد والمطر، فأشم من مفرق شعرها روائح الزعفران والخزامى، ثم يذوب قلبي من البهجة والسرور عندما تضمني إليها، فاشتم فيها روائح دهن العود وخلاصة زيت الورد العالق في ملابسها. كانت دائماً ما تقرأ القرآن الكريم بعد الفراغ من صلاة الفروض، كما كانت تحفظ عن ظهر قلب أجزاءً كثيرة منه، وقد تقضي معنا الوقت الطويل لتعليمنا الصلاة والدعاء وتلاوة القرآن، وكثيراً ما تتجمع بنات الأقارب من حولها حتى يحفظن منها القرآن مُجوداً، لم تكن تطلب الأجر المالي، بل الدعاء لها بالصحة والعافية. كم كنت معجباً بتلك الجدة المؤمنة الصابرة، وقد سألت الله -عز وجل- أن أنجب في المستقبل بنتاً بمثل ملامحها وطباعها، ولا بد من تسميتها على اسمها العجيب. ومع ذلك لم أنسَ صفات أمي أبداً، أجل قد لا أتذكر ملامحها جيداً، لكن أتذكر حرصها الشديد على الترتيب والنظافة. ولله در تلك الأم، فبالرغم من كونها نحيلة ومريضة، فإنها لم تفتأ عن الاعتناء بنا، والحرص على تلبية كافة مطالب أبي. وما فتئت جدتي تذكر لأختي كيف كانت أمي ربة بيت نظيفة وماهرة، وذلك لتشجيعها على التدرّب على أعمال البيت الكثيرة، وهذا مثال مما كانت تقوله جدتي لأختي وهي في السابعة من عمرها: "يا بنيتي إن مهارتك في الأعمال المنزلية سوف تكون من أسباب سعادتك واستقرارك في منزل الزوجية في المستقبل، ولا بد أن تعاملي أفراد أسرتك دوماً باللطافة والظرافة والرأفة والرفاهة" وكانت تقصد بالكلمة قبل الأخيرة (الرأفة أي: الرحمة)، أما الكلمة الأخيرة فتقصد بها (الرفاهية والتدليل).
تلك الجدة المثابرة لم تُقصّر في تعليم أختي كل شيء يتعلق بأمور البيت الكثيرة، بل جعلت منها طفلة نشيطة دؤوبة على العمل ومُحبّة له. لقد اكتسبنا من جدتي طلاقة المحيا وطريقة المزاح الظريفة، وهذه الأخيرة كانت شائعة جداً بين الناس في ذلك الزمان، كبديل عن الضحك على النكات التي لم تكن متداولة حينذاك.
كان عيب جدتي الوحيد هو عدم تفهُّم سلوك الأطفال ومقاصدهم الشريفة البريئة، وقد تكون حازمة شديدة معنا في ممارسة الطقوس الدينية، مثل إتمام وإسباغ الوضوء، والأداء الصحيح لأركان الصلاة مع إظهار الخشوع، كذلك الحرص على الطهارة في جميع الأوقات، وقراءة القرآن بكثرة، خاصة في شهر رمضان الكريم. وما زالت الجدة محتفظة بتقواها وإيمانها الشديد حتى توفاها الله عام 1945م. وقد ظلت الحرب العالمية مشتعلة بعد موتها بشهور، وكذلك الحرب مع زوجة أبي، وتكالبت عليّ الأحزان، عندما تزوجت الطاهرة ورحلت عن البيت الكبير، ولم تعد الأمور كسابقتها أبداً.
بعض ما كتب والدي في مذكراته عن الأعوام 1936-1945م
"يا لقسوة الحياة على رجلٍ ترمل في عز شبابه، وبات يحمل عبء تربية طفلين يتيمين، بينما تتطفل الحروب القاسية عليه متسببة في قلة الزاد والمتاع. بعد وفاة زوجتي الحبيبة، كنت كثيراً ما ألجأ للصلاة والدعاء عند منتصف الليل، ولا أنام إلا بعد صلاة الفجر، أفعل ذلك فراراً من وسوسة الأفكار؛ حتى أصبحت الصلاة أحب إلى قلبي من كل شيء، بل أدمنت عليها لما لها من تأثير إيجابي في إدخال السكون والطمأنينة إلى قلبي. ولا شك في أن مناجاة الله في جوف الليل مستراح للقلب المجروح، وراحة للروح المحزونة، ألا ما أجمل دقائق التوجه والانكسار بين يدي الله -عز وجل- بالخشوع والدعاء، في تلك الدقائق المعدودة حين تتخلص النفس من آلام الحياة وتحلّق في صفاء السماوات العلا. لكن عندما يشرق الصباح أعود إلى روتين هذه الدنيا البائسة، وما بين مشاغل البيت والتجارة تمزقني أنياب القلق على أبنائي وأهلي من ويلات الحرب، وتجرفني تيارات الأفكار والوساوس. وبرغم تلك الظروف الصعبة تم إلحاق أطفالي بالمطوع (الكُتاب)؛ ذلك أن القراءة والكتابة إرث دائم التوارث في جذور عائلتي الشريفة، ولا يمكن التخلي عنه مهما كانت الظروف. وكان يوم الخميس مميزاً لأنه يوم الدفع للمطوع في الكُتّاب، وقد قيل لنا: "من لا يدفع يوم الخميس يخيس"، وهو مثل شعبي معروف لمن يحصل على أجره مرة في الأسبوع. وقد يتم الدفع للمطوع بالبيض أو السكر أو الحبوب، عندما لا توجد القروش.
منذ ظهور الإسلام وانتشاره في الجزيرة العربية، ظهرت الكتاتيب في الأحساء لتحفيظ القرآن الكريم، وقد تم التحاقي بالكُتاب منذ نعومة أظفاري، تعلمت الكتابة والقراءة سريعاً، بل أصبحت مغرماً بالقراءة، ولطالما بحثت كثيراً عن بطون الكتب التراثية والدينية والتاريخية والفلسفية، ثم تمكّنت من اقتناء الكثير منها في صباي المبكر أثناء رحلاتي مع أبي للتجارة، لقد جمعتها من بلاد الشام ولبنان والعراق والكويت والبحرين وغيرها، وكنت أقرأها بشغف عارم، وأعتني بتغليفها جيداً، ثم أضعها في مكتبة العائلة داخل البيت الكبير. وما زلت أذكر الرعب الذي أصابني عندما اجتاحتنا الأمطار فجأة وبكميات غزيرة، حتى غرقت البيوت والمدارس والمساجد، وسميت تلك السنة 1925 سنة الطبعة (أي تطبّعت أو تشبّعت الكتب والملابس وغيرها بالرطوبة)، وقد حدثت تلك الواقعة في كافة أقطار الخليج العربي. كنت لا أزال في السادسة عشرة من العمر، لكني تمكنت من جمع الكثير من الكتب والمخطوطات، وهكذا تركت كل شيء مهم في تلك الليلة الليلاء، وسارعت بوضع الكتب كلها في أكبر صندوق معدني عندي، بعد أن أفرغته من ملابسي وأشيائي الخاصة، وتركتها فوق الرفوف الخشبية تنتظر قدرها من البلل. وعندما أصبحت سارعت إلى تفقّد صندوقي المعدني الذي حفظ كتبي في حالة ممتازة، كنت أسمع سخرية الأهل كلهم، وضحكهم على تصرفي، بما فيهم أبي الذي كان مغرماً بالقراءة مثلي تماماً. أجل كثيراً ما كنت أجد سلوتي في ليالي الشتاء الطويلة في القراءة ليلاً على ضوء السراج، وقد نهتني أمي عن إطالة فترة القراءة ليلاً، زاعمة أن ذلك سيفقدني بصري، ولم أجد رداً سوى ما يلي: "الكتاب المؤنس يا أُماه، خير بديل عن الزوجة المؤنسة"، وكان ذلك الرد كفيلاً بالبحث الدؤوب، عن زوجة لي لإنهاء ترملي، وبالتالي منعي من الإدمان على القراءة، المسببة للعمى على حد قولها.
يتهمني بعض أقاربي بالإسراف في القراءة، ولا أعتب عليهم، فهم يجهلون أن القراءة والكتابة هي من صنعت التاريخ والحضارة والتقدم والازدهار، نعم أنا أقرأ في كل المجالات، وأفخر باللجوء إلى التفكر العميق لكشف أسرار النفس والدين والكون. إن الشغف بالعلم متوارث في جذور عائلتنا، وقد حثني أبي على متابعة العلوم كافة، إلا أنه ما فتئ يُحذّرني من الضلالة التي قد تحتوي عليها بعض الكتب، تلك التي لا تستند إلى مفاهيم الإيمان الروحاني العميق في عقيدة الإسلام، بل تلجأ إلى العقل الذي قد يخدع الروح ويُضل النفس التقية. لكن هل نهى القرآن الكريم فعلاً عن اللجوء إلى المنطق والعقل؟ إنها لعمري تهمة باطلة، فقد حث القرآن الكريم على التفكّر والتأمّل في مظاهر الكون. وكم تفكّرتُ في الطبيعة بكل تجلياتها، وكيفية خلق الكائنات وفق منطق العقل العجيب، وبميزان دقيق، كما هو الحال في سُنة الله في خلقه دوماً وأبداً.
كما تحدث القرآن الكريم عن فطرة الله التي فطر الناس عليها، ووجوب التمسّك بها، وآيات الله الكثيرة التي تجب ملاحظتها. لكن جُلّ ما أقلقني تساؤل عقلي الدائم عن المفاهيم الكونية، وعن دور ترتيبات القدر في أحداث الحياة. لكن كيف يمكن لعقلي المحدود ببضعة خلايا أن يفهم النظام الضخم المُعقّد الكامن في الكون؟ وكيف يتمكّن العقل وحده من الغوص في جواهر الأشياء؟ تُرى هل يأتي يوم يتمكن فيه الفرد من الدراسة المفصّلة لتركيبة الكائنات؟ ومن ثمّ معرفة صفاتها الثابتة والمتغيرة بوسائل البحث العلمي التي تتطور في كل يوم؟ وهل يمتد بي العمر للتواصل مع تلك المعرفة والتفكّر فيها؟ الحمد لله ليس لدي الأفكار الباطلة أو الكافرة، بل إني أؤمن بعدم إمكانية العقل وحده في إدراك ماهية الأشياء، وعلى الفرد أن يصدق الإلهام الروحاني أيضاً؛ لأن للروح قوة فهم عُظمى تفوق قدرة العقل، ولها اتصال سريع جداً كالبرق مع جميع الكائنات، وقد توصلت أثناء مراقبتي للكائنات أن لها جميعاً إيقاعاً واحداً ومنظومة واحدة وتواصلاً دائماً.
أما بيت الشعر الذي يُضحكني كلما تذكّرته، والذي ظل أبي يردده لأولادي الجلمود والطاهرة على الدوام فهو: تعلم العلم تكن أمير* ترى الجهال كلهم حمير
كان أبي عاشقاً للأمثال الشعبية وأبيات الشعر تلك التي تنطق بالعلم والحكمة، ولأنه حاضر البديهة فقد كان ينشد الشعر للاستشهاد به في أمور الحياة الدنيا، لكنه يُحذّر دوماً من تداول أبيات المجون والغرام، إلا أنه كان مُحباً للضحك والمزاح البريء.
بعد وفاة زوجتي كان والدي يحثني على الزواج في كل حين، بل أرغمني عليه، حين دبر لأمي تلك الخطة الجهنمية، ومن ثمّ أوقعني في حبائل الجمال، وكل ما كنتُ أرجوه أن تكون تلك المرأة حنونة على عيالي، لكن كم خاب رجائي، وقد زاد الطين بلة على اليتيمين بعد موت أمي، التي كانت أماً حقيقية لهما، وكم كنت مطمئناً عليهما في حياتها، لكني اليوم شديد القلق عليهما بسبب تلك الزوجة الجميلة، بل تأكدت أن قسوة القلب مرتبطة غالب الأحيان بجمال الشكل".
هل يعادل المال الذي ورثناه من أمي قيمة البيت الكبير؟
كان جدي يكبر أبي بخمسة وثلاثين عاماً، وقد أنجب الكثير من الأبناء والبنات من زيجات مختلفة، لكن مات أغلبهم وهم مواليد أو أطفال صغار، وكذلك توفى الله جميع أمهاتهم ما عدا جدتي أم أبي، ولم يبقَ لي على قيد الحياة إلا ثلاثة أعمام. أما أبي وعمتي الوحيدة، تلك الأرملة التي تعيش معنا في البيت الكبير مع ولدها، فهما أصغر أبنائه من آخر زوجاته ألا وهي جدتي الحبيبة. ولا شك في أن أبي كان الفتى الأصغر المدلل، وقد خصص له والده متجراً كبيراً وبضاعة كثيرة، كما سجل البيت الكبير باسمه حتى غضب منه أبناؤه الآخرون وهجروا المنزل واحداً تلو الآخر. لكن جدي لم يكن ظالماً لهم، وما عرفته لاحقاً أن أمي قد ورثت من والديها بستاناً كبيراً وعقارات كثيرة، والتي ورثها أبي والتوأم بعد وفاتها، وما لبث أن باع أبي الميراث كله، ثم وضع المال كله تحت تصرف تجارة العائلة التي يترأسها جدي؛ ولذلك كافأه أبوه بعد سنوات من المتاجرة بذلك المال؛ أن قام بتسجيل ملكية البيت الكبير له، حتى نرثه نحن منه بالتالي بعد عمر طويل، ويكون بمثابة ميراثنا من أمنا. وعندما شعر جدي بدنو منيته (أجله)، جمع أولاده من حوله، وأخرج لهم صكوك بيع البستان والعقارات وهي ميراثنا من أمنا، وما تحصلت عليه من الأموال، ومن ثمّ أرباحها من خلال المتاجرة بها طوال تلك السنين، وكيف أنها جميعاً معادلة لقيمة البيت الكبير؛ لذلك لا بد من تسجيله لأبي حتى يرثه الأيتام من بعده، وهكذا يرجع الورث إلى مستحقيه. بعد ذلك الاجتماع قام جدي بتوزيع الأموال الأخرى بالتساوي بين أبنائه جميعاً، وهكذا أقنعهم أن قسمة المال عادلة، مما جعلهم راضين مرضيين. جاءت وفاة جدي فجأة وهو في السابعة والستين من عمره في بداية عام 1944، إنها فاجعة الموت الثالثة التي تحدث في بيتنا، لقد حزنا عليه أنا والطاهرة وبكينا عليه كثيراً، فقد كان جدي المؤنس لنا دوماً، والذي لم يتخلَّ عنا أبداً، بينما تخلى أبي عنا بعد زواجه من تلك الغادرة. جدي هو راوي الحكايات الطويلة والحزاوي (القصص القصيرة) المثيرة، وهو من يصحبنا إلى الأسواق في ليالي الأعياد والمناسبات السعيدة ليشتري لنا الأثواب والأحذية الجديدة. كم حملنا بين ذراعيه في أيام الصيف الحارة خوفاً علينا من حرارة الأرض، وكم خبأنا تحت بشته (البشت هو عباءة رجالية قد تكون من الصوف للشتاء، أو قماش خفيف للصيف) في أيام الشتاء خوفاً علينا من البرد القارس، وكم أسعدنا بشراء الحلويات اللذيذة، والألعاب الحديثة غالية الأثمان، والتي كُنا نفاخر بها رفاق الحي. كان له دعاؤه الخاص الذي يلهج به دوماً ألا وهو: "يا ولي العفو والعافية، ارزقني توفيق الطاعة وبُعد المعصية". كان يرحمه الله قمة في الكرم والسخاء، متحمساً للعطاء؛ كونه يبلغ به غاية السعادة، فكان يلاطف الفقير ويُقبل على المسكين، ويكثر من العطاء بإصرار وولع، ويقوم بإكرام الضيف بكل محبة ومودة. وينطبق عليه بيت شعرٍ وُصف بـ «أسخى بيت قالته العرب» وهو كالتالي:
تلقاه إذا ما جئتَه مُتهللاً
* كأنّك مُعطِيه الذي أنت سائِلُه
أجل وضع الشاعر في هذا البيت وصفاً عجيباً للشخص الممتلئ بشغف العطاء، وكأنه هو المستقبل لا المعطي. كما أنشد الشاعر أحمد أبو الطيب المتنبي، وهو في ظني أعظم شاعر أنجبته العرب على مر العصور، شعراً مشابهاً حيث قال:
إنَّ في الموج للغريقِ لَعُذراً
* واضحاً أن يفوتَهُ تعدادُه
ما سمعنا بمن أحبَّ العطايا
* فاشتهى أن يكونَ فيها فؤادُه
وفي حديث ابن العميد وصفٌ وشرح لأبيات المتنبي تلك كما يلي: (هو الشخص الكريم الذي أحب العطايا وألفها، وأفرط في شدة الشغف بها، حتى اشتهى أن يكون قلبه وما تضمنه من سعة الإحاطة، واشتمل عليه من ثاقب الدراية، مما يهبه لمن يطرقه، ويتفضل به على من يقصده).
عندما اشتدت على جدي آلام المرض قبل وفاته بيوم واحد، جمع أفراد عائلته وأوصاهم قائلاً: "الكرم صفة أصيلة في علية القوم، خاصة عندما يتعلق بالعطف على المساكين والفقراء، فاجعلوه صفة ملازمة لكم أنتم السادة؛ أما البخل فهو أسوأ أنواع انحطاط الأخلاق، وإن من يمارس البخل بعد منتصف العمر فهو يمارس أعلى درجات الغباء؛ لأن ليس للمرء من ماله إلا ما ينفقه على نفسه وأهله أو ما يتصدق به، أما الباقي فيكون للورثة يصرفونه ويلعبون به كما يشاؤون، يا أولادي احرصوا على الإنفاق والرحمة بالفقراء كلما وجدتم إلى ذلك سبيلاً، جِدوا في البحث عنهم وتفقُّد أحوالهم، صلوا أرحامكم الضعفاء، وأعينوهم على الحياة أعانكم الله، وسوف ينالكم الخير في الدنيا والأجر في الآخرة".
لبست جدتي عليه السواد لمدة أربعة أشهر وعشرة أيام، بكت كثيراً على فراقه، وكم كانت تلجم طبعها في الضحك والمزاح، بل تبدل مزاحها إلى أنين، وغابت البسمة عن شفاهها التي ذبلت واصفرت، بعد أن كانت تدق عليها الديرم (لحاء شجر الجوز يُدق على الشفاه بعد أن يبلل بالماء، حتى يصبغها باللون الأحمر القاني). وقد عرفنا مقدار حبها له وتعلقها به، بعد موته فقط، فقد كان من العيب أن تظهر المرأة حبّها لزوجها أثناء حياته، ولم تتحمل الحياة بعده إلا بضعة أشهر، حيث توفاها الله في عام 1945.
عملت في مدينة بقيق بداية من عام 1944 وحتى إشعار آخر
بعد سبع سنوات من زواج أبي كنت قد بلغت الثانية عشرة من العمر، وأدركت أن أبي مشغول عني تماماً بالأبناء الجدد، فقد أصبح له ولدان من الذكور، لكنه فقد ثلاثاً من البنات وهن مواليد، وفي كل مرة تموت له أنثى تقوم قائمة زوجته، وتتهم جدتي أو أختي بالتسبب في موتها بطريقة ما! تنقهر جدتي من تلك الاتهامات الباطلة وتبكي كثيراً، بينما تشمت أختي قائلة: (جزاءً وفاقاً). أما أنا فقد كنت منبهراً بجمال كل واحدة منهن، كن كفلقة القمر وكم دعوت الله أن يبقيهن على قيد الحياة، لكن الموت هو السائد في ذلك الزمان، ولا حيلة لنا فيه. أما الجدة الحبيبة فقد تأثرت وحزنت كثيراً بعد وفاة جدي، لكن داءها الأكبر كان لسان زوجة أبي السليط، واتهاماتها الظالمة التي لا تنتهي، وذلك أكبر من أن تحتملها نفسيتها المؤمنة التقية، أجل لقد تلهى أبي بعياله الجدد ولم يبقَ لي وأختي نصيرٌ إلا الجدة التي تعبت من الصراع والعراك، فتسللت إليها الأمراض واحداً بعد الآخر. حاول أبي حل مشاكل زوجته معنا بصرفي وإبعادي عن البيت ما أمكنه إلى ذلك سبيلاً؛ ذلك لاعتقاده أنني من أشعل الصراع بين الجميع. كان يرسلني للمبيت في بيوت أعمامي في بعض الأحيان، بينما أفر أنا بنفسي لأبات بين النخيل أحياناً أخرى. وعندما أكملت الحادية عشرة من العمر بلغت الحُلم وازدادت عصبيتي، بل جن جنون مراهقتي، ولم يعد الجميع يتحمل نزقي وصراخي، حينها أصبح أبي جاداً بالبحث عن عمل لي في مدينة أخرى؛ كي يرتاح من شروري، كما كان يقول، بينما كنت أقول في سريرتي: "يا رب أرحني ونجني من شرور زوجته عاجلاً غير آجل".
وأخيراً عثر أبي على عمل لي، في مدينة بقيق التي ظهر فيها النفط فجأة والتحق للعمل بها بعض شباب المبرز، تلك المدينة كانت بحاجة إلى عمالة شابة بأعداد كبيرة، وكانت تدفع أجوراً جيدة، حوالي ريال كامل في اليوم الواحد، وهو مبلغ يُعتد به في ذلك الزمان، فضلاً عن المسكن والمأكل والمشرب. تقع مدينة بقيق شمال مدينة الهفوف، وليس بعيداً عن مدينة الظهران التي تعتبر الميناء الأول لتصدير البترول في المملكة العربية السعودية، وقد استقطب العمل في بقيق والظهران الكثير من أبناء الدمام والهفوف والمبَرز وما جاورها. كانت المشكلة الوحيدة هي عدم توفر باصات النقل بشكل كافٍ، كما أن السفر بالسيارة الخاصة مكلف في التنقل إلى أماكن بعيدة، وعليه ما زال الناس يستخدمون عربات البغال والحمير للركوب آنذاك. كان عليّ السفر من مدينة المبرز إلى الهفوف أولاً، فركبت عربة تجرها البغال لمدة نصف ساعة، ثم واصلت مع الباص لمدة الساعة والنصف حتى وصلت إلى مدينة بقيق. كانت رحلة شاقة على تلك الطرق الصخرية غير المرصوفة، ومررت بالكثير من المدن الصغيرة، مثل: الدغيمية والعيون وغيرها.
أثناء الرحلة شعرت بمزيج متناقض من المشاعر، مبتهجاً لابتعادي عن زوجة أبي، وحزيناً لمفارقة أختي وجدتي، لكني كنت ممتلئاً بالإثارة والفضول فمعظم أقراني قد ذهبوا إلى هناك، ثم عادوا إلينا في العطلات بأخبار مثيرة للعجب والدهشة، معبرين عن سرورهم بالرغم من بعدهم عن ذويهم. ولا أنكر بأن العمل كان شاقاً في الصباح، لكن الأمسيات التي يتجمع فيها الشباب كانت مسلية ومبهجة جداً. ولحسن حظي وجدت لي مكاناً في المدرسة الابتدائية المسائية الخاصة بعمال "أرامكو"، حيث التحقت بالصف السادس الابتدائي، وكنت واحداً من التلاميذ النجباء، وكم لجأ إليَ البعض في مراجعة الدروس وحل الواجبات. لكن ما أقلقني هو صعوبة تعلم اللغة الإنجليزية، حيث كان طلاب الصف الذي أنا فيه قد سبقوني في تعلمها بمراحل عديدة.
في تلك المدينة وجدت العجب العُجاب، خليط من البشر من كل جنس ولون، ولأول مرة تعرفت على جنسيات عربية كانت خافية عليّ أشكالها ولهجاتها مثل العراقيين والسوريين والعمانيين وغيرهم. كذلك رأيت لأول مرة الأمريكان والإنجليز والعجم والهنود وغيرهم، سمعت لهجاتهم ولكناتهم الغريبة التي كانت تضحكني كثيراً، كنا نحاول تقليدهم ونتمازح بتلك اللهجات أنا وزملائي العرب.
اختارني رب العمل للمساعدة في نقل البراميل المليئة بالماء أو الزيت إلى الشاحنات، وذلك لقوة بنيتي وكوني جاداً وسعيداً في عملي. لكن أكثر ما أقلقني هو النوم مع ثلاثة آخرين من الهنود في غرفة واحدة، انزعجت من حديثهم المتواصل الذي لا أفقه منه شيئاً، كذلك وجدتهم لا يحرصون على النظافة والترتيب، ولم أستسغ رائحتهم الغريبة الناتجة عن استخدامهم زيوتاً خاصة لدهن شعورهم وأجسادهم. شكوت انزعاجي منهم إلى رئيسي في العمل الذي كان راضياً عني، فطلبني بعد عدة أيام لمقابلة المسؤول عن توزيع الأفراد في الغرف، وقد رجوته السكن مع أشخاص من العرب، فضحك كثيراً وقال: "لا بأس في ذلك، لكنك سوف تندم كثيراً فالعرب كثيرو النزاع والصراخ".
صدق المسؤول لكني كنت متعوداً على الضجيج في البيت الكبير. لكن ما أزعجني في الغرفة الجديدة أن واحداً (يكبرني بثلاث سنوات) كان يتقرب إليَ كثيراً، يلاطفني في الكلام ويعطيني بعض المأكل والملبس الذي يزيد عن حاجته.
ثم أصبح تدريجياً يحدثني عن العلاقة الجنسية بين الذكور، قائلاً إنها علاقة طبيعية جداً ! كان يشرحها لي بالتفصيل الممل ويبالغ في وصف المتعة الناجمة عنها! أجل لقد كان يتعمد إثارتي، ويراقب عيني وقسمات وجهي بشوق وفضول شديدين؛ كنت أخجل من ذلك الحديث، لكن فضولي لمعرفة المزيد منعني من مقاطعته.
ومن الغريب جداً أن أوصاني وحذرني والدي من أمور كثيرة، لكنه لم يحدثني عن ذلك الأمر؟! أوجست في نفسي خيفة، وددت لو أتحدث في ذلك الأمر مع شخص آخر لكنني خجلت، واستغربت من انعدام خجل ذلك المراهق، الذي ظل يترصدني. لاحظت أنه يتعمد إثارتي بإلصاق جسده بجسدي ثم التحديق في عينيَ لمعرفة ردة فعلي، ولما كنت أتحاشى نظراته، كان يبتسم بخبث وأرى وهجاً في عينيه. ذات ليلة كنا في الغرفة وحدنا، وكان يتعمد خلع ملابسه أمامي بحجة الحر الشديد، وقد كشف لي عن عورته بقصد الإثارة، بل بالغ فى تركيزه عليّ حتى انتصب عضوه الذكري أمام عينيّ، حينها قمت بالفرار من الغرفة فقد نجح في اثارتي وهيجان مشاعري. تحيرت في كيفية معاملته حتى تاقت نفسي الخبيثة إلى تجربة ما يقوله لي! لكني استشعرت الخطأ في ذلك بفطرتي النقية، شعرت أن الله يمنعني منه ويصدني عنه بطرق عجيبة. كدت أنجذب له، ولم أجرؤ على وضع عيني في عينيه خشية أن تبوح بمشاعري نحوه، بل لجئت إلى البعد عنه ما استطعت إلى ذلك سبيلا، وكنت أتمسك بالصلاة في وقتها وأنصحه بها، لكنه لم ييأس مني. وذات ليلة مقمرة تجمع العمال من العرب في بقعة بعيدة عن السكن بقصد السمر واشعال النار، وكان أحدهم يعزف العود، شعرت بالمتعة والإسترخاء، وقد لاحظ صاحبي ذلك، فاقترب مني وعندما قام البعض وذهبوا بعيداً عنا، غمزني صاحبي مبتسماً وهمس لي: "هل تعرف لماذا ذهبوا بعيدا ًأزواجاً أزواجا؟" وظل محدقاً في الجزء ٍالأسفل من جسدي، ثم أمسك يدي وجرني بعيداً عن القوم. لا أعرف كيف طاوعته وقمت معه كنت كالمسحور أو المخدر، وحيث كنا بعيداً عن العيون احتضنني وقبلني على فمي ثم على وجنتي، استسلمت له فأنا أفتقد الملامسة والعطف والحنان، لكن عندما أمرني بخلع ملابسي ارتعش جسدي وامتغص قلبي، وثارت حميتي، احسست بعزة نفسي تتفوق على غريزتي، وشعرت برحمة من الله تداركني فصرخت وفررت منه، كنت أجري دون وعي مني. ولم أجد نفسي إلا وجهاً لوجه مع الفورمان (المراقب الرسمي للعمال) الذي جاء فجأة لتفقد المجموعة، وقد لاحظ اضطرابي وخفقان صدري فسمى الله عليّ وطلب مني الجلوس. أحسست بحنانه فلم أتمالك نفسي من البكاء، طبطب على كتفي وسقاني شربة من الماء، ثم طلب مني أن أحكي له ما حدث معي، فقلت له كل شيء كان يحدث من ذلك الشخص سابقاً، وما حدث مؤخراً مما أصابني بالقشعريرة، بعدها رد عليّ الفورمان متعاطفاً معي: "لا بأس عليك، ذلك الولد الملعون سوف يُعاقب، نحن نقلق بشدة من حدوث ذلك بين الشباب، ونحرص على المراقبة والتقصي، لا تخف يا بني لن تبات معه الليلة، وسوف أُغير مكان سكنك غداً".
وقد تم ما كان قد وعدني به، ثم أصبح هذا الفورمان بمثابة الأخ لي، وكان يتفقد أحوالي النفسية وأوضاعي الاجتماعية بين الفينة والأخرى. تلك العلاقة الطيبة زادت من ثقتي بنفسي، وأثبتت لي الكثير من المودة والاستلطاف بين العمال، وتأكدت أن لدي الكثير من الملاحة وخفة الدم مما يجذب النفوس إليّ. وبالرغم من ذلك لم يطب لي المقام في بقيق بعد ذلك الموقف الذي ترك أثراً سيئاً في نفسي، كما أنني اشتقت لبلدي وأهلي كثيراً. وبعد ستة أشهر من العمل كان يحق لي طلب الإذن بالإجازة ولمدة أسبوعين فقط، ثم لا بد من العودة لاستكمال عقد العمل. رجعت إلى الأحساء ووجدت جدتي عليلة وأختي ذليلة، وقد أثر فيهما فراقي كثيراً، فوددت البقاء بينهما وعدم الرجوع إلى بقيق، لكن ما باليد حيلة فقد كان عقد عملي يجبرني على إكمال السنة كاملة في بقيق، حتى أتسلم كافة مستحقاتي المالية، رجعت مرغماً ولم تفلح محاولاتي للاستقالة قبل إكمال السنة. بعد ثلاثة أشهر من رجوعي إلى بقيق ثانية، جاءني مرسالٌ عاجل من أبي يطلب مني الرجوع في اليوم نفسه؛ لأن جدتي تحتضر وتطلب رؤيتي. وعلى إثر مرسال أبي ختم لي رب العمل إذناً خاصاً بالرجوع، للاطمئنان على أسرتي، لكن لبضعة أيام فقط ثم لا بد لي من العودة إلى العمل. وطوال طريق العودة كنت أفكر بأن جدتي قد حزنت لوفاة جدي لكنها لم تمرض، وأغلب الظن أنها مرضت حسرة على فراقي، وتأثرت به نظراً لقلقها المتواصل عليَّ، بالإضافة إلى سوء معاملة زوجة أبي لها، أجل لقد تجمّعت عليها المصائب كلها مرة واحدة.
وفاة الجدة الرؤوم في بداية عام 1945م
قالت لي أختي عندما رجعت إلى الأحساء: "لقد اشتد حزن جدتي بعد موت جدي، لكنها مرضت عندما سافرت أنت إلى بقيق، كما كان عذابها مع زوجة أبي شديداً، ولم نعرف لها تسلية على وجه التحديد، مرضت ولم ينفع معها أي دواء وظل أنينها يقطع نياط القلوب".
عندما رأتني جدتي قادماً من بقيق تهلل وجهها وصفقت بيديها كعادتها عندما تفرح، دبت فيها العافية وقامت من فراش المرض، لكن بعد أيام معدودة وذات صباح مشؤوم نهضت من النوم، ولم أجدها في الحوش أو الليوان حيث كان مجلسها، بحثت عنها في أماكن تواجدها الأخرى، ثم ناديت عليها ولما لم أسمع لها رداً، دخلت غرفتها وجدتها منكبة على مصحفها بلا حراك، صرخت صرخة شقت أعماق الفضاء ووقعت مغشياً عليَّ. واهٍ لي من بعدها، ها أنا ذا أذوق اليتم للمرة الثانية، لكن لي في ذكرى تيتم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عزاء وتخفيف من الألم. ها هو القدر يفجعنا بالموت في بيتنا للمرة الرابعة، أجل إنها فاجعة عجيبة غريبة، أن تموت الجدة وهي بكامل عقلها ولا تزال في أوائل الخمسين من عمرها، لقد رأيت الكثير من معمرات النساء اللواتي وصلن إلى حد الخرف والمرض المزمن، لكن جدتي الذكية العاقلة ماتت في وقت مبكر من عمرها؟
أثناء دفنها مباشرة صرخت أختي في وداعها: "ادفنوني مع أمي الحجيه أرجوكم، لا أريد العيش بعدها"، بينما كنت أردد: "رحمك الله يا بديلة أمي رحمة واسعة، وأدخلك فسيح جناته فأنت تستحقينها بلا منازع".
بعد دفنها مباشرة تفردت بنا زوجة أبي وقالت لنا بالحرف الواحد: "لقد ذهبت من تسند ظهركم إلى غير رجعة، وأنا الآن سيدة هذا المنزل بلا منازع، وسوف تفعلون كل ما آمركم به بحذافيره"، ولم يكن لنا إلا الخضوع والاستسلام، أجل لقد رحلت الجدة التي حمتنا وناضلت من أجل حقوقنا، تلك المرأة العطوفة الطيبة المؤمنة التي ترحم عليها كل من عرفها ما عدا زوجة أبي الشريرة.
لم أقدر على المكوث في البيت الكبير أكثر من ثلاثة أيام، فقد كنتُ أتخيلها في كل زاوية منه، وأبكيها بحرقة شديدة تفوق حرقة أبي. كما أن نحيب أختي ليلاً ونهاراً قد قطّع نياط قلبي، وحيث إن إجازتي العارضة قد انتهت، فلا بد لي من الرحيل إلى بقيق، ودّعتُ أختي واعداً إياها بالعودة في أقرب فرصة ممكنة. أعطيتها عنواني وطلبت منها مراسلتي كلما أُتِيحت لها الفرصة، وعدتني بذلك أمام أبي الذي كان في أشد حالات الحزن والعجز، فلم يعترض، ووعد بإرسال مكاتيبها إليّ.
زواج الطاهرة في نهاية عام 1945
بعد عشرة أيام من وصولي إلى بقيق، وصلني من أختي خطاباً كان الحزن يقطر منه، ونظراً لشدة تأثيره فما زلت أحتفظ به حتى اليوم، وهو كما يلي: "يسوؤني أن أخبرك يا أخي العزيز وتوأم روحي أن الوضع متوتر جداً في البيت الكبير، سيطرت زوجة الأب تماماً على كل شيء، وبعد رحيل أعمامي من البيت الكبير، عزل والدي عمتي الأرملة بعد أن نالها من الذل نصيباً كبيراً، في ملحق خاص بها يفصلها عنا، وكان لها مطبخها الخاص الكائن أيضاً ضمن البيت الكبير. لم يتبقَّ لزوجة أبي إلا أنا تتسلى بتعذيبي، لقد أهانتني بالسباب والطلبات التي لا تكاد تنتهي وبشكل لا يُحتَمل، وفي ساعة من الصباح عندما رفضت أن أغسل لها ولابنتها طفارات دم الحيض، حملتني إلى السمادة (الزريبة)، وملأت فمي بالتراب القذر، ثم حبستني طيلة النهار هناك، حتى رجع أبي من المتجر ظهراً وسمع صراخي، وحررني من الحبس غصباً عنها. أنت تعرف أنه لا يوجد من يساعدني، فأنا أحمل على كتفي أعمال البيت كاملة، فيما عدا الطبخ وتخزين المؤونة التي تفردت هي وابنتها بهما، وذلك حتى لا يأخذ أحدٌ من الطعام شيئاً دون إذن منهما".
لم أتحمل أن يقع كل ذلك الشر على كاهل أختي، وهي الطفلة النحيلة ذات الثلاثة عشر عاماً، فأرسلت رسالة استجداء وتعاطف إلى أبي حتى يدفع عنها ما استطاع إلى ذلك سبيلاً. لكن أبي كان يلوم أختي لو اشتكت قليلاً، ويخرسني لو تذمرت من هذا الوضع المزري في رسائلي. فقرر منع التراسل بيننا، وحرمني حتى من الاطلاع على أحوال أختي.
دون أدنى شك، كانت زوجة أبي وابنتها تكرهان وتغاران من أختي التي تتفوق عليهما في الجمال والذكاء، وعلى ذلك لم تتحملا وجودها معهما، بل بحثا عن حجة لطردها من البيت، ثم الاستعانة بخادمة بدلاً منها. كان يعيش في البيت الكبير مع عمتي ابنها الذي يكبرني ببضع سنوات، طويل اللسان وشقي السلوك، وقد تطور الأمر به أن حاول تصيد أختي ومضايقتها مراراً، وكم تعاركنا أنا وهو بسبب ذلك الأمر قبل سفري إلى بقيق وبعد ذلك. وكلما تكررت مضايقة أختي من طرف ابن عمتي، أعادت زوجة أبي القول مراراً وتكراراً على مسامعنا جميعاً: "الحل الجذري للطاهرة سهل وبسيط ألا وهو أن تتزوج سريعاً"، وهكذا أصبح أبي يتمنى لها الزواج بأي شكل وهي لا تزال في الثالثة عشرة من العمر. شاع خبر معاناتها بين الأقارب كلهم، وسرعان ما تقدم لها رجل أرمل يكبرها بثلاثين عاماً على أقل تقدير، وله ابن متزوج يكبرها بعشر سنوات! وعليه فسوف تعيش معهم في المنزل نفسه، وتخدمهم جميعاً، خاصة أنه يترقّب حفيداً من ابنه البكر. وصلتني تلك الأخبار من قريبي الذي كان لتوه قادماً من الأحساء، تألمت لموافقة أبي السريعة، وظننت أن أختي سوف تعيش الجحيم بعينه مع ذلك الزوج المرتقب. كانت علاقتي بأختي عميقة جداً، حتى إنه لا يمكن قصم العروة بين روحينا بأي شيء ولأي سبب كان؛ لذلك جننت عندما علمت بتفاصيل الحياة التي سوف تعيشها أختي مع ذلك الرجل العجوز، وقد كنتُ في مراهقتي حاد الطباع، شرس الأخلاق حتى إنني تعمّدت التسبب بالمشاكل مع العمال في بقيق، ثم طلبت إجازة عاجلة من عملي متحججاً بمرض أصاب أبي. وصلت دياري ودخلت عليهم فجأة وكانوا مجتمعين على الغداء. صرخت بأعلى صوتي على أبي وشتمت زوجته وابنتها. ثم خططت للفرار مع أختي إلى بيت عمنا الأكبر، وكان قد انفصل عنا في منزل خاص به بسبب تسلّط زوجة أبي على أسرته، وعليه فقد كان يكرهها كرهاً شديداً. نجحنا في الهرب لكن أين المفر من القدر، وكما يقول المثل: "أين تفر من قضائي، والأرض أرضي والسماء سمائي"، فما هي إلا عدة أيام حتى أقنع عمي الكبير أختي بالزواج من ذاك الرجل لحسن أخلاقه وسمعته الطيبة، وأعطاها المواثيق أن يخلصها منه لو أساء معاملتها. جاء أبي وأخذها ليلاً وأنا نائم، ثم تم كل شيء بهدوء وأنا غافلٌ عنه. وكم كنت غاضباً منها لموافقتها على ذلك الزواج، لكنها صرحت لي، فيما بعد، أن عمي قد أقنعها بالزواج؛ لأنه الفكاك الوحيد من قبضة زوجة الأب القاسية، وها أنا أرى اليوم أن قرار عمي كان صائباً، وأن الزوج قد غمرنا بعطفه وحنانه نحن الاثنين. أجل إن الزمن كفيل بتصحيح أفكارنا وتكذيب ظنوننا.
العودة إلى مدينة بقيق والعمل فيها حتى نهاية عام 1948م
أصبح البيت خاوياً عليّ بعد وفاة جدي وجدتي، ثم زواج أختي وخروجها إلى بيت الزوجية. لم أطق المكوث في المنزل مع زوجة أبي المناكفة لي على أتفه الأمور؛ فعدت إلى بقيق سريعاً وجددت عقد عملي. كنت أقضي معظم السنة في العمل الشاق، ثم أقضي إجازتي القصيرة في بيت أختي، أو بين العشش في النخيل والبساتين. في تلك الظروف حالكة السواد بالنسبة لي، كان أبي متماسكاً بالرغم من طول فراقي وبعدي عنه؛ بل بدا سعيداً ولاهياً بزوجته وأبنائه منها. ولم يعمل حينذاك بوصية أبيه في نقل ملكية البيت للتوأم دون سواهما، لكن سوف تعرف يا قارئي العزيز، كيف تطوّر هذا الأمر لاحقاً.
عندما أكملت أنا السادسة عشرة من العمر، كذلك كانت اليتيمة ابنة زوجة أبي، أجل لقد كبرنا جميعاً في بيت واحد، لكن لم تحدث بيننا المحبة أو التآلف، ابنتها عادية الملامح، لم ترث شيئاً من جمال أمها، بالإضافة إلى رمد مزمن في عينيها، حيث تتراكم تحتهما أكياس دهنية. لم يتقدم أحدٌ لخطبتها، وكانت تلك مسبة كبيرة للبنت في ذلك الزمان. ولم تجد أمها لرفع تلك المسبه غير قولها لأبي في حضوري ذات يوم: "ابنتي هدية مني إليك، لن أطلب لها مهراً أو جهازاً خاصاً، وخطوبتها من الجلمود باتت قريبة"! صحت أنا في وجهها: "لا، إن عرضك مرفوض، وطلبك بعيد جداً كبعد النجوم"، قطعت إجازتي في حينها ورجعت إلى مدينة بقيق. قلقت طوال الطريق، ثم حمدت الله كثيراً في أنها لم تجبر أختي الطاهرة على الزواج من ولدها البكر، الذي لقبناه بـ "البهلول" لكثرة ضحكه ومزاحه. عاش معنا في البيت الكبير حتى بلغ السادسة عشرة من العمر؛ وكان كثير العناد والمشاكسة لأمه بالذات، ثم فجأة قرر الهروب بعد أن سرق المال والذهب من خزينة أمه، ولم يعد إلى البيت الكبير أبداً، قُطعت عنا أخباره لسنين طويلة حتى ظننا أنه صار من الهالكين. ثم وصلت لنا الأخبار أن البهلول يعيش في البحرين عند بعض أقاربه، بعد أن فر من تسلط أمه وقسوتها.
أما أنا فقد قررت الفرار منها بالعمل في مدينة بقيق، كنت أقضي هناك الشهور الطويلة، ولا أعود إلا أسابيع معدودة لرؤية أختي التي أنجبت صبيين واحداً تلو الآخر، وقد أصبحا فرحتي وتسليتي الوحيدة في هذه الحياة. وبمرور الأيام رتبت لي أختي غرفة بسيطة، أشبه بالعشة، في المزرعة الخاصة بزوجها، وكنت أقضي فيها أيام إجازتي من العمل في بقيق، مما أراح أبي وأراحني كثيراً من مشاكل زوجته. لم يكن لي صبر على تحمل المشاكسة، ولا أناة على العدوان، ولم أتعلّم الصبر والأناة إلا بعد أن دهستني الأيام، وواجهت أصعب الظروف والمحن؛ لذلك تحمّلت هوام الأرض ولدغات البعوض بين المزروعات حتى لا أرضخ لحكم زوجة أبي. لكن من قبيل بر الوالدين كنت أمر مرور الكرام على أبي في متجره، وأرفض العودة معه إلى البيت الكبير الذي أصبح مكروهاً لدي. قدّر أبي مخاوفي من إمكانية إلحاح زوجته على التقدم لخطبة ابنتها، لكنه لحرصه الشديد على صلة الرحم، أصبح يجلب أخوي إلى المتجر لرؤيتي وحتى لا تنقطع العلاقة بيننا نهائياً.
شعرت بالراحة وأنا أعيش وسط بستان أختي، كنت كمن يملك الدنيا بأكملها، ولم يعكر صفو حياتي شيء ما. كنت أنصت بفرح إلى هسيس أوراق السدرة التي تظلل على سقف تلك العشة، وكم أطربني صوت الشحرور في صباحاتي الهانئة، لقد كانت تلك الأصوات بمثابة الوصل بين لغة السماء والأرض، مما ربط روحي مع الكل العظيم المحيط بي، فلم أكن عنصراً معزولاً عن الطبيعة، بل اندمجت معها بطريقة تفوق الوصف. قضيت الساعات الطوال في مراقبة الطيور التي تتنقل بحرية وأمان من غصن إلى آخر بين النخيل، لا رقابة عليها ولا خوف من أن يسألها أحدٌ عن سر سعادتها، هي تمارس غرائزها دون مراقبة أو تنغيص من أحد، يا لحظها الوفير في امتلاك السعادة غير المحدودة والحرية التي لا نملكها نحن البشر. أجل لقد كذب من قال إن الإنسان هو أسعد الكائنات؛ بل هو أتعسها وأشقاها على الإطلاق. اليوم كلما أتذكر تلك العيشة الهنية، أردد في نفسي ألا ما أجمل العزلة عن البشر في عشة ما بين النخيل، وليتني أدفع نصف أموالي اليوم من أجل الحصول على مثل تلك العشة، التي سوف تعطيني بعض الراحة من مشاغلي وهواجسي التي لا تكاد تنتهي. وكم سهرت الليالي الطويلة أراقب النجوم في الليل، حتى كنت أراها قريبة جداً، بل أكاد ألامسها بيدي، أو أقطفها بأصابعي، ولم أكن أعلم أن تلك النجوم سوف تكون مرسال غرامي البعيد في يوم ما.
علاقتي بالنخيل شديدة العروة ولن تنفصم أبداً
كم تمتعت في طفولتي وصباي بالطبيعة الخلابة خاصة في نهاية فصل الشتاء، حين تتزيّن الحقول والبساتين وواحات النخيل بصفرة زهور النوير، وتظهر شجيرات أو أحراش الرمث والعرفج والعلندة والثمام وغيرها من نباتات الربيع، على أطراف الأراضي غير المأهولة. في بداية الربيع ينتشر عبق الخزامى (اللافندر) في كل مكان من الأحساء، وعندما تختلط تلك الروائح مع رائحة لقاح النخل، يصيبني الخدر والاسترخاء والسكينة النفسية. أصحو فجراً على سيمفونية عذبة هي خليط من كركرة الطيور وزقزقة العصافير، وربما نقيق الضفادع التي تعيش في الجداول، فأنصت لها أثناء تأملي لتلك الطبيعة الساحرة، ثم أبدأ في العبادة والتسبيح حتى تخشع معي كل المزروعات والنخيل والأشجار. وأحياناً أطلق آهات على حالي الذي يشبه حال المشرد الغريب، وأردد قول الشاعر:
ونيت ونة في الحشا مستكنة *** صارت لها خضر الورق يابسات
في الأحساء يُسمى الفلاح المختص بشؤون النخل بالنخلاوي، وجمعهم نخلاوية، ولديهم الخبرة الكاملة في كيفية العناية بالنخل ومنتجاته، ومنهم عرفت الكثير عن الطريقة المثلى لزراعة النخيل. هؤلاء الطيبون شاركتهم همومهم وتفاصيل معيشة أيامهم الهانئة. كما أصبحت لدي حصيلة ثقافية عالية عن كيفية زراعة معظم المزروعات، بل وتعلّمت منهم أسماء جميع أنواع المحاصيل ومواسم زراعتها. في الليالي المنيرة حفظت منهم أسماء النجوم ومواسم الرياح والأمطار. وفي الربيع شاهدت بأم عيني تعشيش أنواع عديدة من الطيور المهاجرة، تلك تسمى طيور الفلاة تمييزاً لها عن طيور البحر، وتعلّمت بعض أسمائها مثل طائر المدقي، القحافي، الصعوة الرماني. وقد كان من دواعي سروري مشاركة الفلاحين في صُنع فزاعات مخيفة للطيور حتى لا تأكل محاصيلهم، وكم تفننت في صنعها حتى عرضوا عليّ شراءها بثمن جيد. كذلك سَعدت برؤية أنواع من الحيوانات التي ألفت العيش بين ثنايا البساتين والحقول، مثل الثعالب والقنافذ وغيرها.
في فصل الصيف الطويل تهب رياح السموم وتتميز بالهواء الجاف والحار جداً، وقد سُميت بذلك لأن تأثيرها المخدر على الجسد مشابه لتأثير السم، وعادة ما تشتد في وقت الظهيرة وحينها يختبئ الناس في المنازل، ولا يخرجون إلا حين يؤذن لصلاة العصر. ولحسن الحظ لا يعاني سكان الأحساء من الرطوبة إلا فيما ندر، حيث إن المناطق السكانية بعيدة تماماً عن البحر؛ ولذلك في فصل الشتاء القصير لا يهطل المطر كثيراً، وربما يهطل قليلاً في فصل الربيع؛ لذلك يرتبط المطر بأحاسيس البرودة ويبشر بالخير الوفير.
تُرسل مواسم الأمطار الفرح للجميع، وعادة ما ينشد الأطفال مع صوت تدفق الماء من المرازم (جمع مرزام وهو قطعة خشبية طويلة ومجوفة تصل بين السطح وخارج البيت، لتصريف مياه الأمطار المتجمعة في سطوح المنازل)، ومن الأناشيد الشائعة عند سقوط المطر (يا غيم ارزم، ارزم، وخلي المرازم ترزم) أو (طيح يا مطر طيح، بيتنا جديد، ومرازمنا حديد)، (ياربِ زيده، زيده، وارحم عبيده). وفي الأيام المطيرة، وبالذات أثناء دخول فصل الوسمي، فرحت معهم؛ لأن هذا المطر هو ما ينتج الفقع (الكمأة) في باطن الأرض، ألا ما أجمل الإثارة والمسرة أثناء تباري الربع (الزملاء والأقارب) في جمع الفقع، وكذلك كان الحال في الرحلات الشتوية الجماعية لجمع الجراد. أحببت صوت الرياح وعزف سيمفونية الأشجار عندما تثيرها الزوابع، ولم يخفني صوت البرق والرعد في ليلة ما.
وعند اضطراب الروح وفقدان السكينة ألجأ إلى تأمّل شجر النخل، ذلك الوحيد من الشجر بلا أغصان أو فروع، بل له عروش من السعف الجميل المتدلي من جذوعه القوية، تلك السعفات الرقيقات المنبثقات من الجذع، والتي تشبه تفجر المياه من ينبوعٍ ماءٍ صافٍ، يداعبها النسيم، ويمنحه رقة ورونقاً لا مثيل له. أما جذع النخلة فلا شك أنه متفرد ليس له مثيل بين جذوع الشجر الأخرى، تبرز منه قواعد السعف المقطوع (الكرب) فتعطيه شموخاً وقوة استمرارية الحياة، أحياناً أتخيل أن لجذوع النخل شبهاً معنوياً بأعمدة المساجد، مما يعطي قلبي عند تأمل النخل استكانة وخشوع المتصوف العابد، وكم أثرى ذلك التأمل وجداني الداخلي، كما أنضج تفكيري وجلب السكينة لنفسي. ذلك التأمل للنخل المحمل بعذوق البلح الأخضر والذي لا يمكن عده أو تعداده، يساوي في نفسي قراءة مئات الأذكار، ويثري عقلي بالأفكار النقية الصافية، وإني لأمتّع ناظري بجلال الله وعظمته في تلك الأكوام الكثيرة من الثمر الأخضر الناشف، الذي لا يلبث أن يتحول إلى الرطب الأصفر أو الأحمر الناضج الحلو الشهي .
وفي عز الصيف يأتي النخلاوي، ليجمع الرطب الناضج فيملأ الزبيل (سلة الخوص الكبيرة) بتلك الرطيبات الشهيات المشبعات اللاتي يخففن من حدة اللهيب الحارق في فصل الصيف. وكم ابتهج ناظري وسُرّ خاطري بمراقبة الكيفية التي يقوم بها النخلاوي في تسلق النخلة بطريقته الخاصة، ثم قيامه بقص عذوق البلح الناضج، وتُسمّى تلك العملية بـ "خرف الرطب"، وتتم أثناء موسم الصيف وبداية الربيع. وتعتبر مهمة تجميع عذوق النخل الناضجة شاقة خاصة عندما تكون النخلة طويلة جداً. ويُسمي النخلاوي الجزء الواحد من العذق شمروخاً وجمعها شماريخ، وكثيراً ما يجاملني أحد النخلاوية بقوله: "خذ هذه الشماريخ أيها السيد هدية مني، كرامة لجدك رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم".
بعد رحيل الطاهرة إلى مدينة العمران لم أجد بُداً من الرحيل بدوري
أصبحت الحياة كئيبة ومُملّة بعد رحيل أختي وزوجها إلى مدينة أخرى تسمى "العمران" تبعد حوالي 24 كيلومتراً عن مدينة المبرز، وها أنا ذا أجد مشقة كبيرة في الذهاب إليها. وبالرغم من حب زوجها لي ولأبي، فإنه لا يُحضرها لزيارتنا في البيت الكبير إلا مرة واحدة في الشهر. وهكذا اضطررت للعودة للمبيت في البيت الكبير، بعد أن باع زوج أختي البستان بالعشة الهانئة التي فيه. وللأسف الشديد لم تتغير طباع زوجة أبي معي، بل كانت تزداد معي سوءاً كلما نظرت إلى ملاحة وجهي ونموي السريع، وبنية جسمي المتناسقة مقارنة بأبنائها البدناء، وهي تصبحني وتمسيني بأنواع من الدعاوى عليّ، بسبب رفضي الزواج بابنتها. تحسدني على حسن شهيتي، ثم تقوم بتخبئة الجيد من الطعام لأبنائها، مما يثير في قلبي المزيد من الحقد عليهم، أجل إن لهم أُماً تعطف عليهم وتبرهم، بالإضافة إلى احتلالهم قلب أبي واهتمامه. وباستمرار ذلك الحال المزري لم أطق صبراً، ووددت الفرار من الأحساء كلها.
في ذلك الوقت كانت جزيرة البحرين قبلة الأسماع وبهجة الأنظار ومطمع التجار، وكان لها السبق في اللحاق بركب التطور الحضاري، فضلاً عن أنها أصبحت المركز التجاري العالمي للخليج العربي كله. وقد أقبل عليها الناس من كل حدب وصوب بسبب تنوع بضائعها التجارية وسرعة كسب المال فيها، ورغد العيش بها. بل إن كل مَن زارها تحدث عن جمال طبيعتها وغنى تربتها ورخص المعيشة فيها. وقد تجاوز القول فيها، بأن حلف أحدهم بأن جدران البيوت هناك مصنوعة من حبيبات السكر والقند (كريستال السكر)! وعليه فقد اتخذت قراراً مفاجئاً بالسفر إليها لبدء تجارتي الخاصة هناك، ولحسن حظي عرفت أن جماعة من أقاربي يودّون التوجه إلى البحرين للعمل، ولا يمانعون في أخذي معهم.
كنت في نهاية عامي السابع عشر، لكني بدوت في العشرين بسبب اعتدال قامتي وامتلاء جسدي؛ ولأني تدربت على البيع والشراء منذ الصغر تشجعت وقلت لوالدي: "طلبتك طلبة يا والدي، فلا تردني بحق رسول الله وآله الكرام"، كان ذلك القسم نقطة ضعفه فرد عليّ: "اللهم صلي على محمد وآل محمد"، قلت بسرعة: "أريد المتاجرة على أرض البحرين، وقد وافق بعض التجار من أقاربنا على أخذي معهم، وأريد منك بعض السلع والبضائع، وأعدك برد المال مضاعفاً إليك"، تفاجأ أبي وزاغت عيناه، وقد كان من عادته التأني قبل الرد، سكت هُنَيّة ثم قال: "أمهلني بعض الوقت كي نتحقق أنا وأعمامك من سلامة هذا الأمر". وبعد إلحاحي الشديد اضطر للموافقة، لكن بعد التشاور مع أقاربنا جميعاً، وتلك هي عادة العوائل في ذلك الزمان، فلا يقرر رب الأسرة أمراً مهماً حتى يأخذ الموافقة من أهله المقربين، فيطمئن قلبه على صحة قراره. وإنما تخوّف والدي من ذهابي إلى البحرين لتشاؤمه منها، وقد حدثت له حادثة مؤلمة منذ زمن بعيد على أراضيها. وزاد من تخوفه أن البهلول ابن زوجته يعيش في البحرين عند بعض أقاربه، وذلك بعد أن سرق ذهب والدته وهرب من البيت الكبير منذ سنوات عديدة، ولم يرجع بعدها إلى الأحساء أبداً. وقد حذرني أبي بشدة عن البحث عنه، أو مصاحبة ذلك السارق العاق الأفّاق كما وصفه، وقد أثبتت لي الأيام صدق قوله، لكن الإنسان لا يُصدق أمراً حتى يُجرّبه بنفسه.