في شهر مارس من عام ١٩٤٤ في أحدى قرى محافظة البحيرة في مصر، الأم فوزية تصرخ وكأنها سرينة إسعاف وزوجها متوتر وقد امتلئ جبينه بقطرات العرق التي تشبه قطرات الندى على ورق الشجر في ساعات الصباح الأولى، كان خائف جدًا ليس على امرأته بالتأكيد ولكن خوفًا من أن يكون المولود الثاني له بنتًا.
ها هي الداية تأتي مسرعة وتطلب من منيرة أخت فوزية الكبرى التي لم تنجب بعد أن تسخن لها الماء، لا أعلم حقيقةً ما فائدة الماء الساخن في الولادة...! هل يا ترى يستخدم في غسل الطفل بعد ما ينزل من بطن أمه ومن شدة الحرارة الطفل لا يتحملها فيصرخ صراخًا عاليًا وبذلك يكونوا نظفوا الطفل وجعلوه ينطق! أم يستخدمون الماء الساخن في سكبه على الام عقابًا لها على فعلتها الشنيعة بأنها أتت بطفل آخر إلى هذه الدنيا المريرة المؤلمة، حقيقةً أنا أمزح معكم ولكن موضوع الماء الساخن لم أحصل على اجابه علمية بفائدته، حتى اني سألت أمي التي أنجبت أربعة قالت لي: انه ليس مهم ولا أعرف كنهه حتى.
آه أين كنت... دعوني أكمل لكم ما جرى في يوم الولادة تلك.
هرعت منيرة مسرعةً كالغزال بقوامها الممشوق ووضعت قدر من الألمنيوم على الموقد الذي يعمل بالجاز أي ما يسمي حينها ببابور الجاز، كانت منيرة تقف بجوار البابور وتدعوه بأن يسخن الماء بسرعة، أي كأنه كائن مدرك يقدر الموقف الذي هُم فيه الان، وهي قلقة على أختها التي لم تتوقف عن الصراخ، وهذا يجعل نياط قلبها يتمزق من الخوف عليها.
أحضرت الماء الساخن الذي لا يعرف استخدامه إلا الدايات سابقًا.
خرجت الداية تبشر منيرة بأن الله رزقهم بنت جميلة، دخلت منيرة مسرعةً في لهفة لأختها، رأت اختها حزينة نائمة ممددة على الفراش والدموع الساخنة تنزل من عينها، سألتها منيرة متعجبة:
-ما الذي يحزنك الآن...؟ وقد قمتي بالسلامة ورزقك الله بنت جميلة تشبه القمر..!
-أنا حزينة لأن زوجي يريد ولدًا.
-دعكِ منه، سوف يسعد بها صدقيني، يوجد الكثير لا ينجبون ويتمنوا لو يروا حتى ظفر طفل.
وأخذت منيرة الطفلة الصغيرة في لهفة وحب وحملتها بين يديها واخذتها في حضنا وعانقتها برفق، ونزلت دموع منيرة من شدة سعادتها ببنت اختها، بالفعل كانت منيرة تشعر بأن بدر قطعة منها، وأخذت تلمس يديها الصغيرة التي تكاد تخاف أن تمسكها الا تؤلمها، وسرحت في جمالها بالفعل تشبه البدر وقد أتت في ليلة القمر مكتمل بها، كانت الطفلة والبدر واحد في تلك الليلة، بدأت منيرة بأن تحرك إصبعها برفق علي وجه الطفلة، وأعجبت بعينيها المغمضتين، شكرت الله على هذه البنت وعلى نعمة جمالها، فأنها لم ترى طفلة بجمالها قط، ومن ثم هرعت وذهبت بها لأبيها عطاالله، أول ما رآها أبيها لم ترسم على وجهه ابتسامة حتى وترك البيت من دون أن يطمئن على زوجته.
كانت منيرة الوحيدة التي استبشرت بقدوم هذه الملاك الصغيرة أكثر من أمها وأبيها.
رجعت منيرة لكي تطمئن على اختها من جديد فسألتها فوزية في حزن وأسى:
-أين عطاالله؟ هل رأيته؟ ماذا قال لكي؟
-هوني عليكِ، لم أجده في الخارج، يبدو انه خرج ليبتاع شيئًا.
ومن ثم غيرت منيرة الموضوع وسألت أختها الصغرى فوزية بلهفة وسعادة عارمة وابتسامة تنير وجهها وهي ممسكة بيد أختها المنهكة الممددة على سريرها النحاسي ذا الأعمدة بينما هي كانت تجلس على حصيرة على الارض:
-ماذا سوف تسمينها تلك الملاك الصغيرة..؟
ردت فوزية والغصة تخنقها لأنها أنجبت بنت:
-لا أدري اختاري أنتِ لها اسم.
ظلت منيرة تفكر وهي سارحة في السقف المصنوع من الطين، ومن ثم أخذت تنظر إلى الجدار الطيني الذي كان يتراقص عليه شعاع لهيب لمبة الجاز(حينها كان لا توجد كهرباء في القرى فكانوا يعتمدون على مصباح يعمل بالجاز ويقومون بإشعال الفتيل للإضاءة ليلًا) أخذت تفكر وهي تحك ذقنها ومن ثم وهي تنظر لأختها، رفعت رأسها قليلًا فنظرت إلى النافذة فرأت القمر مكتمل أمامها أي أنه بدر، ومن ثم قالت صارخةً في لهفة وفرحة وقلبها يتراقص وكأنها عرفت حل أصعب معادلة:
-سوف أسميها بدر، هل ترين كيف القمر مكتملاً الليلة...؟ وهي جميلة منيرة مضيئة مثله تمامًا...!
*نظرت لها فوزية وقد رسمت على وجهها نصف ابتسامة، أي قامت بتصنع الضحكة من أجل أختها وأردفت:
-اسم جميل مثلك يا منيرة.
*ثم أردفت منيرة طالبة من أختها طلب وتشعر بالحرج قليلًا:
-فوزية ،أريد أن أطلب منك طلب، أريد أن أخذ ابنتك زينة اربيها لكي، وحتى لا يكون الحمل عليكِ كبيرًا أنتِ وزوجك.
-لا يوجد حمل علينا في شيء فهما مجرد اثنتان فقط ولكن المشكلة مع أبيهما انهما بنتان وهو يريد ذكران.
*أصرت منيرة أن تأخذ زينة، لم يكن السبب لكي تقلل الحمل على فوزية ولكنها كانت بحاجة طفل في حياتها يؤنسها في وحدتها ووحشة ايامها وتشعر معه إحساس الأمومة وينير لها حياتها المظلمة الكئيبة.
*كانت فوزية تدري جيدًا ما يدور في خلد اختها منيرة، لذا طمأنتها وقالت لها: بأنها سوف تستشير زوجها اولًا.
★★★
*كانت منيرة قد عادت إلى بيتها بعد ان اطمأنت على أختها، دخل عطا الله بيته في وقت متأخر جدًا ووجد زوجته نائمةً متعبة، نظر إلى الطفلة الصغيرة وهو ما زال لا يعرف لها اسم، أخذها بين يديه الكبيرتين ونظر لهذه الملاك الصغيرة وقبل رأسها وكأن بين يديه قطعة من الجنة وملاك صغير، ولكنه سرعان ما أفاق من شروده وتذكر أنها بنت، يخاف من تربية البنت ولأن البنت قد تكون عار لأهلها، بينما الولد هو من يكمل السلالة ويحمل الاسم ويكون عزوة له.
*ذهب إلى فراشه كي ينام لأنه قد تعب كثيرًا من كثرة التفكير، فتذكر قول صديقه له مازحًا:
-أنت تنجب البنات لان علاقاتك بالنساء كانت كثيرة، أتذكُر صديقنا حسن لأنه كان ملتزم لم ينجب غير اولاد....
أمزح معك يا صديقي ان شيخ ذلك الجامع ذريته كلها بنات وسعيد جدًا وراضٍ بحكمة الله.
*في اليوم التالي آتت منيرة إلى أختها كي تهتم بها وتطعمها ذاك الطعام الدسم كي ترتد لها عافيتها بسرعة ومن ثم بعدما انتهت من إطعام أختها فوزية الدجاجة كاملة فاتحتها في موضوع تربية ابنتها زينة.
*ردت عليها فوزية وهي تشعر بالتخمة من كثرة الاكل:
-لم افاتح عطاالله حتى الآن، سوف افاتحه الليلة واخبرك غدًا.
*عاد عطاالله إلى بيته وبعدما تناول الغداء وشرب الشاي بالنعناع، كانت فوزية ترضع ابنتها الصغيرة بدر بعدما انتهت من رضاعتها اعطتها إلى زوجها عطاالله فحملها، كان يشعر اتجاه ابنته بدر بحب ومشاعر تختلف عن مشاعره تجاه ابنته زينة التي لم يتقبلها يوميًا بينما بدر تأسره بابتسامتها البريئة، بينما هو يداعب وجه أبنته بدر بأنامله فاتحته زوجته في موضوع اختها منيرة.
*رد عليها بلامبالاة وهو مستمر باللعب بدميته الصغيرة بدر:
-فلتأخذها ليس لدي ادني مانع... إذا فعلت هي ذلك وأخذت زينة كأنها فعلت بي معروف.
*عندما خرج عطاالله لتأدية صلاة العشاء وبعدما انتهى من الصلاة ظل في المسجد ولم يهم بالرحيل مسرعًا كعادته... وكان شكله مثل الباندا مهموم وحزين ووحيد.
*اقترب منه الشيخ مصطفى وحاول أن يعرف ما به وما سبب عبوسه الليلة…؟
*رد عليه عطاالله وقد قطب حاجبيه:
-أنت تقول في خطبتك دائمًا أن الله يقول (ادعوني استجب لكم) وآية أخرى لا احفظها.
-تقصد قول الله تعالي (وإذا سألك عبادي عني فأني قريب اجيب دعوة الداعِ إذا دعانِ فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون).
-صحيح تلك هي الآية، وقد حمدت الله على أول طفل لي بالرغم انها بنت ولكن دعوت الله ان يكون مولودي الثاني ذكرًا، دعيت وطلبت من الله كثيرًا وفي النهاية لم يستجب لي، بالرغم ان الله يعطي الذكور لأشخاص لا يدعون الله بشيء.
-ولما أيست من رحمة الله...؟ قد يكون الله يختبر صبرك.
يريد أن يراك كيف ستحمده على اختياره لك وقضائه وقدره، أعلم جيدًا انك إن رضيت باختيار الله لك سوف يرضيك الله بما تحب وترضى، ولكن تذكر قول سيدنا يعقوب (فصبرٌ جميل).
*وأكمل الشيخ مصطفى حديثه وهو يربت على كتف عطاالله الذي بدأ يلين قلبه لكلامه.
وإنجاب الإناث يا أخي عطاالله لا يحتاج كل هذا الحزن وأن تكون متكدر هكذا.
هذا التصرف ليس من شيم الاسلام والمسلمين بتاتًا، هذا التصرف من شيم أهل الجاهلية الذي كان عندما يبشر أحدهم بالأنثى (ظل وجهه مسودًا وهو كظيم).
*أردف عطاالله وقد شعر باحراج لأنه شُبه هذا التشبيه:
-ولكن يا شيخ هذا ليس ذنبي، انها عادات وتقاليد قد نشأت عليها.
-عادات وتقاليد خاطئة متمسكة بعادات الجاهلية وتاركةً عادات ديننا الاسلام السمحة.
ما ذنبها زوجتك أن تشعرها بالذنب لأنها انجبت بنتًا، صدقني هذا من خطأ مجتمعنا وعاداتنا وتقاليدنا فمن يحدد جنس المولود هو الرجل، يعني إذا أنجبت المرأة لزوجها بنتًا بدلًا من أن ينهالوا أهل زوجها عليها ويلومنها بأنها تنجب الإناث بل من الأفضل أن يلوموا ابنهم لأنه هو المسؤول عن جنس الجنين... الله يقول في كتابه العزيز(نسائكم حرث لكم) أي ان زوجتك مثل الأرض تمامًا وأنت المسؤول عن ما سوف يخرج من تلك الارض.
علينا ان نتبع ديننا ولا نتبع عاداتنا وتقاليدنا توجد بعض العادات عادات جاهلية لا تتناسب مع ديننا الحنيف... والله أنزل كتابه على نبينا محمد صل الله عليه وسلم لكي يكون هذا الكتاب مثل الكتالوج الذي يفهمنا ويعلمنا كيف نتعامل في هذه الدنيا وأن نفهم حكمة الله من كل شيء.
عندما كان يرزق احدًا في الجاهلية ببنت يقول الله عز وجل (يتوارى من القوم من سوء ما بشر به أيمسكه على هون أم يدسه في التراب ألا ساء ما يحكمون).
في الجاهلية كانوا يئدون البنات ومن كان رقيق القلب بهن يتركهن على هون أي يجعلهن يعشن ولكن يعاملهن بذل وإهانة.
وفي وقتنا الحالي لازلنا متمسكين ببعض عادات الجاهلية بأن من ينجب بنتًا يتوارى من الناس ويكون وجهه مسودًا ويربي أبنته بكرهٍ منه ويعاملها بذل وإهانة.
* كان عطاالله ينظر إلى الشيخ مصطفى وقد رق قلبه ودمعت عينه.
*أستمر الشيخ مصطفى في أن يهون عليه بكلامه وقال له مبشرًا إياه:
- أتعلم أنا لدي أربع بنات وسعيد جدًا اني انجبتهن، لأنهن سيكونن سببًا في دخولي الجنة ويكونن لي حجابًا من النار.
*تعجب عطاالله ورفع حاجبيه مستغربًا من كلام الشيخ مصطفى وأردف:
- كيف تكون البنت سبب في دخولي الجنة…؟
*رد عليه الشيخ مصطفى وقد رسمت على وجهه ابتسامة قد جعلت من وجهه يضيء نورًا واستطرد قائلًا:
-يقول حبيبنا ونبينا محمد : (من كان له ثلاث بنات فصبر عليهن، وأطعمهن وسقاهن، وكساهن من جدته، كن له حجابًا من النار يوم القيامة).
*تسأَل مصطفى متعجبًا:
- وهل يجب علي أن تنجب لي زوجتي الطفلة الثالثة كي ينطبق علي هذا الحديث.
*لا أبدًا يا عطاالله يا أخي، عندما كان نبينا محمد صل الله عليه وسلم يقول ذلك الحديث قام أحد الحاضرين وسأل نبينا محمد:
-ماذا لو عندي اثنتين فقط...؟ فأجابه نبينا محمد: "حتى الذي عنده اثنتين ينطبق عليه الحديث".
-ومن ثم قام أحد اخر من الحاضرين وسأل نبينا محمد:
- ماذا لو عندي بنتًا واحدة فقط؟
فأجابه نبينًا محمد مبشرًا إياه:
حتى ولو بنتًا واحدة.
* المقصود من هذا كله ان نبينا محمد يريدنا أن نترك عادات الجاهلية تلك وأن نفرح ونبشر عندما يرزقنا الله بالأنثى، وعلينا أن نهتم بهن بكل احتياجاتهن ونحسن تربيتهن كي يكن لنا حجابًا من النار بأذن الله.
ولا تحزن لأن لديك بنتين تذكر ان نبينا محمد كان لديه أربع بنات(زينب ورقية وأم كلثوم وفاطمة).
* وكان يقول حبيبنا المصطفى في حديث شريف (لا تكرهوا البنات فإنهن المؤنسات الغاليات).
*نظر له عطاالله وقد شرح صدره بكلام الشيخ مصطفى وأردف:
-بارك الله فيك يا شيخ مصطفى قد أتيت إلى هنا مهمومًا، والله جعلك سبب لكي تزيل همي وتريح بالي من كثرة التفكير.
*رد عليه الشيخ مصطفى وهو يربت على كتف عطاالله وينظر له وعلى وجهه ابتسامته السمحة:
- والله يا أخي عطاالله أنا لو استمريت في أن أحكي لك كيف وصانا الرسول بالبنات ومواقف نبينا محمد في التعامل مع بناته لن يكفيني الوقت، المهم علينا ان يكون قدوتنا في التعامل في الحياة هو نبينا محمد.
*هم كلاهما بالنهوض والخروج من المسجد، وعندما كان يمشي عطاالله بجوار الشيخ مصطفى قال له متسائلًا:
-أخت زوجتي الكبرى لا تنجب وطلبت من زوجتي أن تأخذ ابنتي زينة، عمرها عامين لكي تربيها وأنا قلت لزوجتي ان ليس لدي مانع ولكن رأيي هذا كان نابع مني لأني لا أرغب في البنات بتاتًا، هل يصح أن أعطيها البنت؟
-حسنًا، سوف أحكي لك قصة قصيرة من سيرة الرسول محمد وسوف أحاول اختصارها.
*في يوم خرج طفل في الثامنة مع أمه ولكن في الطريق كان هناك قطاع طرق فأخذوا منها الطفل وباعوه كعبد واشتراه حكيم بن حزام بن خويلد ابن أخ سيدتنا خديجة بنت خويلد ابتاعه من سوق عكاظ ومن ثم أهداه إلى عمته خديجة بنت خويلد ومن ثم اهدته خديجة رضي الله عنها الى نبينا محمد.
نبينا محمد لم يعامله كعبد ابدًا بل عامله كأبن له، في أول يوم كان يبكي الطفل ويقول:
أريد أمي أريد أبي...
ولكن بعد أن رأى معاملة السيدة خديجة ونبينا محمد له نسى تمامًا وأنس بالوجود في بيت أحسن الخلق نبينا محمد.
*سكت الشيخ مصطفى ونظر إلى عطاالله وسأله أتدرى من هو البخيل؟
*رد عليه عطاالله مستغربًا من السؤال بعدما اندمج في القصة:
-من هو البخيل يا شيخ...؟
-البخيل هو الذي يسمع اسم خير الخلق نبينا محمد ولا يصلي عليه، تذكر انك إن صليت على الرسول مره صل الله عليك عشر.
-ولكن ما هو فضل الصلاة على الرسول؟
-فضلها تغفر الذنوب ويشفع لك نبينا محمد يوم القيامة عندما يأذن الله له بذلك.
دعني أكمل لك القصة بما اني أوشكت على الوصول إلى بيتي:
كان أهل زيد يبحثون عنه في كل مكان و كان أبوه ينشد فيه الشعر لان الشعر في ذلك الوقت مثل وسيلة إعلان في وقتنا الحالي، ومن ثم كان أحد اقربائه في مكة فرأي زيد فذهب إلى أهل زيد أخبرهم بأنه رأى زيد لذا قرر والد زيد أن يجمع مال لكي يعطيها لمالك زيد الحالي... لأن من يسبى ويأخذ كعبد يباع في سوق الرقيق وقد اشتراه حكيم بن حزام بن خويلد بأربعة الاف درهم.
جمع أهله المال وذهبوا جميعهم إلى مكة وبحثوا عن بيت محمد بن عبدالله الذي عرفوا أن زيد عنده.
طرقوا الباب فخرج نبينا محمد صل الله عليه وسلم... وسألهم؟ فأجابوه بأنهم أهل زيد وأنهم يريدونه وسوف يعطون نبينا محمد المال لكي يعيده إليهم.
فقال لهم نبينا محمد:
-لا أريد منكم مالًا بل أنا سوف أحضره لكم لكي يتعرف عليكم وسوف نخيره بيننا... إذا اختاركم أنتم فخذوه ولا أريد منكم مالًا... بينما إذا اختارني سوف تعودوا من حيث أتيتم.
طبعًا أهل زيد وثقوا في أنفسهم وقالوا في قرارة أنفسهم:
"سوف يعود لنا ابننا ولن ندفع مالًا".
أتى زيد وعندما رأى أهله بكى وسعد برؤيتهم ومن ثم خيروه فأختار نبينا محمد صل الله عليه وسلم وذلك من حسن معاملة نبينا محمد له وعطفه عليه.
فأخذه نبينا محمد وقال للناس جميعًا:
-انه من الآن اسمه زيد بن محمد.
يعني نبينا محمد أعلن أن زيد ابنًا له.
ولكن هذا الكلام قبل البعثة بكثير ولكن عندما نزل القرآن على نبينا محمد، قال الله تعالي(ادعوهم لأباءهم هو اقسط عند الله).
لذا بعد ذلك نبينا محمد جعل اسمه مثل ما كان زيد بن حارثه.
المقصود من تلك القصة انه في وقتنا هذا يوجد بعض الناس عندما يجدوا أحد من أقاربه لا ينجب فيأتي الآخر ويعطيه ابن من ابنائه.
ولكن ليس للتربية فقط بل يخذونهم ويسمونهم كأنهم ابنائهم تمامًا... وهذا أمر نهى الله عنه.
بينما أنت إذا كنت سوف تعطيها البنت لكي تربيها فقط فهذا أمر ليس بحرام ولكن الذي نهى الله عنه ان تعطوها البنت تمامًا وتسمى باسم أب ليس بأبوها.
ولكن تذكر أن تهتم بتلك البنت من وقت لأخر لكي تحبك وتتعلق بك وتكن لك حجابًا من النار يوم القيامة.
*هنا شعر عطاالله بأنه مرتاح تمامًا وكل الاسئلة التي في باله قد علم اجابتها وأردف قائلًا:
-جزاك الله خير الجزاء يا شيخ مصطفى فقد اسعدت قلبي وأرحت لي بالي.
★★★
*رجع عطاالله لبيته وعندما وصل فتح ذاك الزير المصنوع من الطين ومد يده وهو ممسك بذلك الكوب الصفيح لكي يشرب بعد ذلك المشوار الطويل.. وهو يشرب كان ينظر لبنته بدر التي انارت له حياته وأنارت له قلبه وبصيرته، بالفعل جعلت حياته ومفاهيمه تتغير.
*أخذ بدر من جانب امها من تحت الناموسية(الناموسية هي عبارة عن قطعة قماش خفيفة جدًا توضع فوق أعمدة السرير كي تغطيه من كل الجوانب فتمنع دخول الناموس) أخذ بدر ووضع رأسها على كفه وقربها منه وقبل جبينها ومن ثم بدأ في أن يتلوا عليها قصار السور التي يحفظها ودعا الله أن تكون من حفظة القرآن الكريم.
★★★
*في اليوم التالي أتت منيرة وأخذت زينة ولكنهما طلبا منها بأن تحضرها من حين لأخر كي تعتاد عليهم هم أيضًا.
*مر عامين وها هي فوزية تنجب طفلها الثالث، لم يكترث عطاالله هذه المرة بل قال في قرارة نفسه: "ان ما سوف يرزقه الله به هو خير وأنه راضٍ به".
من ثم خرجت الداية وبشرته بأن المولود ذكرًا، لقد وثب عطاالله من شدة فرحه لم يتوقع ابدًا بأن من يرضى بما كتبه الله له يرزقه الله بما يتمنى ويرضيه.
دخل مسرعًا إلى غرفة زوجته وقبل رأسها ولم يصدق نفسه وهو ينظر إلى الطفل الصغير.
*في اليوم التالي عندما أتت منيرة لكي تهتم بأختها طلبت منها أن تأخذ بدر وتربيها هي الأخرى مثل زينة، ردت عليها فوزية إذا كنتِ تريدي بدر أعطيني زينة كي لا يكون عليكِ الحمل كبير.
*وافقت منيرة وردت لها زينة وأخذت بدر، فهي تحب الاطفال في تلك الفترة من العمر كثيرًا.
*تقول منيرة لفوزية وهي مندهشة:
-ابنتك بدر تشبه امنا سعدية تمامًا، لها نفس العيون الخضراء الساحرة، أشعر اني كلما نظرت لها تأثر قلبي بنظراتها تلك.
-صحيح نفس عيون جدتها تمامًا، وأيضًا هي وجهها اتي بالخير علي، انظري كيف تغير حال عطاالله إلى الأفضل ومعاملته معي تغيرت كذلك لدرجة انه أصبح يحبني ويتكلم معي ويشرح لي ويفهمني كل الأمور التي يتعلمها في الحياة والدين كذلك.
-هل تتذكرين ما قالته لنا أمي عندما نظرت في عيوننا حينها كان عمري ٢٦ عامًا أي كان قد مضى على زواجي عشر سنوات ولم أنجب بعد.
*ابتسمت فوزية لأنها تذكرت التنبؤات التي قالتها لهن امهن قد حدثت كما قالت بالفعل.
-نعم أتذكر هذا وأنا كنت حينها عمري ١٩ عامًا ولم أتزوج بعد وهذا كان أمر غير مألوف بيني وبين البنات الاتي في سني، فقد تزوجن أغلبهن وأنا لا أفعل شيء سوى حضور افراحهن، أتذكر يومها عندما كنا معها جالسين على المصطبة أمام البيت ونتنسم الجو العليل ونسماته الباردة تداعب وجنتينا وانوفنا حتى احمرا وكنا نشرب أفضل شاي في العالم من يد امنا سعدية كوب شاي بالنعناع الطازج، مهما يكن بي من هموم أو تعب وأحتسي ذلك الشاي مع أمي أشعر بعدها بالسعادة العارمة التي تجري في عروقي ودمي.
-يبدو أن امنا كانت تضع لمسات السحر خاصتها في ذلك الشاي لكي نشعر بتلك السعادة التي لا توصف.
-يبدو أن امنا كانت تفعل ذلك.
*تحركت منيرة واقتربت من أختها فوزية ممسكة يدها وهما يجلسان على المصطبة خارج البيت:
-هل تتذكرين عندما طلبتِ من أمي أن تنظر في عينك بعدما مر عشر أعوام على زواجك وسألتِها:
-يا أمي قولي لي لماذا لم أنجب إلى الآن؟
*ردت فوزية ضاحكةً:
- نعم أتذكر حينها حاولت أن تتملص منك وتهرب كي لا تجيب على سؤالك مثل من يهرب من أفعى.
-نعم، ولكني أصررت عليها لأني أعلم جيدًا الجيران يقولوا ان أمنا تقرأ العيون تعرف الماضي والحاضر والمستقبل الخاص بمَن أمامَها بنظرة عين.
-صحيح كم كانت امنا موهبة وتتملك هبه عظيمة من المولى عز وجل، ان الله قد أنعم عليها بنعمة البصيرة وتستطيع بفراستها ان تعرف كل شيء.
-ولكن على حظي أنا لم ترغب في أن تساعدني وقالت لي:
-أنا كنت اساعد الناس وأقول لهم ليس للحصول على أجر مادي نهائي، كنت أحاول ان أطمئن أو أحذر الناس من بعض الأمور لله في لله، ولكن عندما سمعت القرية كلها بي أتى إلي شيخ القرية وقال لي اني دجاله وأدعي علم الغيب...!
وأنا لم أقل يومًا اني أعلم الغيب ولست دجاله لأني لا أخذ المال مقابل خدمتي.
نصحني بأن أتوقف عن ذلك لأن هذا حرام وليس له معني ثاني سوى ادعاء علم الغيب ولا يعلم الغيب إلا الله.
لذا قررت في قرارة نفسي ان لا أقول لأحد شيء.
-ولكنني أنا بنتك يا أمي وهذا الموضوع يؤرقني…!
*نظرت أمي لعيني وشعرت بأنها سوف تقول لي ولكنها أعرضت عن الكلام وقالت لي انها سوف تطلب من الله رؤيا في موضوعي فأن الشيخ قال ان الرؤي رسائل من الله وليست حرام مثل قراءة الفنجان والعيون والكف.
*في اليوم التالي عندما ذهبنا إلى أمي وسألتها:
-ماذا حدث بشأن الرؤيا...؟
قالت لي:
-لقد رأيت لك الرؤيا معناها انك يا منيرة زوجك رجل طيب ويحبك ولكن الكمال في هذه الحياة لا يمكن ان يحدث، أنتِ نعم الزوجة وزوجك لا يوجد أطيب من قلبه، ولكن هناك شيء سوف ينغص عليكِ حياتك... وسكتت...
-وما ذلك الشيء الذي سوف ينغص علي حياتي؟
*ردت علي أمي والغصة تخنقها:
-أنتِ لن تنجبي لأن زوجك عقيم، ولكنك ستفضلين العيش معه عن الزواج مرة اخرى للأنجاب لأنك لن تجدي من يحبك مثله.
*نظرت لها بحزن وقد امتلأت عيناي بالدموع التي أحاول كبحها وأن لا تنزل أمام أمي... ولكن أمي شعرت بغصتي وحرقة قلبي.
أمي تعلم جيدًا أن المرأة قد تتحمل أي شيء في الحياة الا أن تفقد شعور الأمومة، ذلك الشعور بالمسؤولية اتجاه قطعة منك هو الذي يجعل للحياة طعم، وكل مشاعر الحياة كوم ومشاعر الأمومة كوم ثاني تمامًا.
*حينها شعرت أمي بكسرتي اقتربت مني وبشرتني وأردفت:
- سيكون لكي بنت ولكنها ليست من صلبك ولا صلب زوجك ولكن ستكون نعم الابنة لكما.
-ولكن كيف يا أمي...؟
-لا أستطيع أن أقول لكي... وتذكري أن لا يعلم الغيب الا الله... وهذا هو ما رأيته في الرؤيا ليلة أمس.
* ردت فوزية بلؤم وهي تنظر لأمها بطرف عينها:
-اذا كانت تلك رؤيا يا أمي، لما لم تحكي لنا الرؤيا في بداية حديثك معنا...؟
أنا أعرف من يرى رؤيا يبدأ بقول... خير اللهم اجعله خير، ومن ثم يقوم بسرد الرؤيا، ومن ثم يقول التفسير إذا كان على علم به...
*ثم أردفت أمنا وهي تمسك بأذنك يا فوزية و قالت لك:
- وماذا تريدين مني أيتها السوسة اللئيمة.
*بالفعل كانت قرصة أمي للأذن مؤلمة حقًا يا منيرة، أي كأنها لدغه حية ليست بقرصة من شدة الألم التي تسببه... أتذكر حينها قلت لأمي:
-أمي أنتِ لم تري رؤيا... بل أنتِ تعرفي كل شيء من العيون... لأنك لو حلمتي لكنتِ ذكرتي تفاصيل الرؤيا... وأريد منك الآن كما قلتي لمنيرة ماذا سيحدث معها قولي لي ماذا سوف يحدث معي، وهل سوف أتزوج أم لا؟
-أولًا... لا يجب عليكن تصديق ما قلته لكما ويجب أن يكون يقينكم فقط بالله، وأنا لم أذكر أي تفاصيل لمنيرة وأتمنى من الله أن يكون كلامي خطأ وأن يرزقها بأولاد وبنات يملئون عليها البيت ويشعرونها بالسعادة.
*هذا الكلام وقع على مسامع منيرة وجعلها تشعر بالأمل من جديد وتمنت من الله أن لا يحرمها من الذرية، وهذا الكلام جعل قلبها يتحول من صحراء جرداء قد جف منه كل ذرة أمل فبسبب هذا الكلام شعرت بأنه مثل الغيمة المحملة بالمطر وقد بدأت قطرات المطر تسقط رويدًا رويدًا على صحراء قلبها وتحولها إلى أرض خصبة بالأمل والثقة في الله، بعد هذا الكلام غيرت وجهتها وأصبحت ثقتها في الله وليس في كلام امها.
*نظرت لكِ ورأيتك سرحتِ وعلمت ما يدور في خلدكِ ولكن أنا لم استسلم وتقربت من أمي أكثر وأصررت عليها أن تقول لي ما يخبئه لي القدر.
*أتذكر ذلك يا فوزية لدرجة ان أمي كانت تتملص منك وتريد أن تدخل البيت بحجة أن الجو صار باردًا على المصطبة.
*هه ولكني لم أتركها وشأنها وجلست على حجرها كي لا تقوم من مكانها وقولت لها: "انظري في عيني وقولي لي ما سوف يحدث لي" وعندما لم تجد لها مفر مني اضطرت أن تقول لي:
-ولكن كل ما سوف أقوله لكي لا يجب أن تصدقيه... هو مجرد كلام قد يحدث وقد لا يحدث... ها قولي لي سؤال واحد وأنا سوف أجيبك عليه:
-هل سوف أتزوج أم لا؟ وهل سوف يكون من أتزوجه يحبني كما يحب طلعت منيرة؟ وهل سوف أنجب...؟ وكيف سوف يكونوا اولادي؟
*هه أتذكر يا فوزية ان أمي اسكتتك من فرط الاسئلة التي ذكرتيها أمامها وأردفت:
-كفى، قلت لكي سؤال واحد، وسوف أبدأ في الإجابة من الآن، كي تكفي عن الاسئلة.
اسمعي يا بنتي... لو على الزواج سوف تتزوجين شخص سوف تعرفينه من أحد الافراح التي تهتمي بالذهاب اليها.
سوف يراكِ ويعجب بكِ ويطلبكِ للزواج، ولكن هو لا يحبك بجنون ولا هو يكرهك مجرد علاقة زوجية تتعايشين معه، ولكن في مرة سوف تحدث في حياتك نقطة تحول ويصبح شخص اخر ويحبك، وبالنسبة للأنجاب سوف تنجبين ثلاث، بنتين وولد.
-ولكن يا أمي أريد أن أعرف كيف سوف يكونوا لهم شأن عالٍ أم مجرد أطفال كبقية أطفال القرية.
-قلت لكي لن أجيبكِ على أي أسئلة اخرى.. يكفي انكما جعلتاني أقول لكما هذه الأمور ونقضت عهدي، آهٍ منكن بسببكن سوف أصوم ثلاث أيام، هذه اخر مرة انقض بها وعدي، ولكن عداني لا تصدقا أي شيء مما قلته، كل ما قلته لكما كان مجرد فضفضة.
*آه يا منيرة ظلت تقول لنا لا تصدقا هذه مجرد هرطقة لا أساس لها، وفي النهاية حدث كل ما تنبأت به.
*نظرت منيرة لفوزية مستغربة وهي تمط شفتها متسائلة:
-لماذا لم نأخذ هذه الصفة من أمنا...؟
-انها هبة من الله والله يرزق بها من يشاء.
-ولكن يا فوزية ان ابنتك بدر لها نفس عيون جدتها سعدية تمامًا، نفس تلك العيون الخضراء.
-صحيح انها تشبهها كثيرًا، أتمنى ان تكون مثلها وأن يرزقها الله تلك الهبة، وينعم عليها بنعمة البصيرة.
*اخذت منيرة بدر ولكنها لم ترجع بدر لأهلها بعد عامين بل طلبت من أختها فوزية بأن تأخذ البنت وتربيها وتكون بنتًا لها.
*شعرت منيرة انها لا تستطيع ان تستغنى عن بدر، قد اعتادت عليها في حياتها، كان هناك احساس يملئ قلبها بأنها لا يمكنها ان ترجع بدر إلى أمها وأبيها، كل ما تخطر هذه الفكرة في بالها تشعر بأنها سوف تستغنى عن قطعة منها، وليس أي قطعة، بل انها تشعر بأنها سوف تستغنى عن قلبها أي انها ليس لها حياة من دون بدر التي تنير لها حياتها.
*لم يرفض عطاالله ولم ترفض فوزية، وقدرا موقف منيرة وشعورها، وحمدا الله على بنتهم زينة وابنهم زين ولكن طلبا منها من حين لأخر تأتي بدر اليهم كي تعتاد عليهم ولا تنساهم.