كلمة
في فتاة مصر
طارت شهرة هذه الرواية وهي لا تزال في المهد من أقصاء هذا القطر إلى اقصائه واخترقت البحار إلى سائر البلدان حيث خفق للغة العربية علم وما كادت تتم الحول الأول في الوجود حتى نفد كل ما طبع منها ووردت الرسائل على حضرة شقيقي الدكتور يعقوب صروف من رجال العلم والفضل الراغبين في تنشئة الطلاب على تحدي الانشاء الفصيح الخالي من كل تعقيد طالبين اعادة طبعها. ولما كانت اعماله الكثيرة تحول دون إجابة الطلب استأذنه في إعادة طبعها لي في ذلك.
ومن حسن الاتفاق أن حضرة استاذي العالم الفاضل جبر افندي ضومط أستاذ اللغة المدرسة الكلية السورية في بيروت بعث بمقالة إلى مجلة المقتطف الغراء وصف فيها هذه الرواية ابلغ وصف فلم أجد بداً من نقل بعض ما جاء فيها. وليس نقلي له تقريظاً للرواية وإنما لكي يلم من يريد قراءتها والانتفاع بفوائدها ببعض موضوعها.
قال الاستاذ:
«قبل أن أبدأ بانتقاد هذه الرواية البديعة في بلبهل لقول أني كنت أقرأ فتاة مصر كما كنت أقرأ بقية مقالات المقتطف الرائجة وأعيد النظر فيها كما أعيد النظر في تلك فتأخذني نشوة من حسن أسلوبها وما أودعه الكاتب» في مطاويها من أفكاره العمرانية وانتقاداته البديعة الفلسفية إن في ما يتعلق بأسباب الحرب الروسية العمرانية أو في ما يتعلق بأحوال مصر الاجتماعية والزراعية أو في ما يتعلق بالماليين وتأثيرهم في هيئة المدينة الحاضرة.
والحق يقال اني كثيراً ما كنت أقدم قراءتها على قراءة بقية مقالات المقتطف لا لمجرد الفكاهة واللذة المرادة من كتابة اغلب الروايات بل لما كنت أرى فيها من الحقائق العمرانية والسياسية وما ترمي إليه من إصلاح الأخلاق والعادات والتعريض ببعض ما أضر بنا من الإقبال على ما كاد يشرف بنا على شفا جرف من الإفلاس والخراب واشتدت غوايتنا به حتى عم أو كاد يعم غنينا وفقيرنا عالمنا وجاهلنا تاجرنا وصانعنا وأعني بذلك مضاربات البورصة والتقحم فيها على خراب ونحن لا نشعر.
وأقول أيضاً أني بعد أن قرأتها اجزاءً وقت صدورها عدت فقرأتها مجلدة مرتين فما زادتني قراءتها الا إعجاباً بها ويقيني أنها من خير ما ألف لتهذيب شباننا وإنها اجدر كتاب لحد الآن يحسن بنا أن نضعه بين أيدي شباننا وطلبة مدارسنا يقرأونه أولاً لما فيها من حسن الأسلوب ودقة التعبير مضافاً إلى ذلك فصاحة الالفاظ وبلاغة التركيب وسلامة الذوق، وثانياً لما فيها من المرامي والمقاصد الحكمية والفلسفة العمرانية ولا سيما ما ينبغي تنبيه أذهان الشبان إليه من قوة المال والماليين وانه لا تقوى أمة أو تصير شيئاً مذكوراً ما لم يجتمع عندها بكد افرادها واقتصادهم رأس مال يعدونه لطوارق الحدثان يغالبون بقية الامم ويزاحمونهم على موارد التجارة والانتفاع وينازعونهم بكثرته السطوة والوجاهة.
فلا مجدَ في الدنيا لمن قلَّ مالهُ
* ولا مالُ في الدنيا لمن قلَّ مجدهُ
وهنا أشكر لأستاذي الدكتور صروف واضع هذه الرواية لأنه أجاب ملتمسي في طبعها على حدة لينتفع بها التلامذة خصوصاً وأنها وفت بالغاية التي من أجلها التمست منه طبعها على حدة وهي الآن كتاب مطالعة لأكثر من ستين بل سبعين طالباً يتمرنون بمطالعتها على تطبيق قواعد النحو على ما يقرؤونه ويتحدون أساليبها في الكتابة والانشاء وقد وفت بهاذين الغرضين فضلاً عما يجده فيها الطلبة من الفوائد العمرانية والاخلاقية المقصودة رأساً من تـأليفها.
موضوع فتاة مصر وأبحاثها
موضوعها أو الغاية منها فكاهي تهذيبي وأبحاثها اجتماعية عمرانية. أما الفكاهة فيها فأحكم أن الكاتب وفاها حقها من تشوق القراء إلى الرواية وحديثهم فيها والذي اعرفه في هذا الصدد إنما أعرفه من نفسي وأهل بيتي وبعض أصدقائي الذين يقرأون المقتطف وهؤلاء كلهم كانوا إذا تأخر عنهم المقتطف يوماً خالوه أسبوعاً ومعظمهم على ما أعلم كانوا يبادرون حين وصوله إليهم إلى فتاة مصر. وقد لحظت ممن أشرت إليهم جميعهم أن غضبهم على عزراً كان شديداً وبلغ استياؤهم مبلغه عند ما قرأوا الفصل الثامن والعشرين والثلاثين الأول في التهييج والثاني في المرافعة واشتموا منهما نجاة عزرا من الحكم عليه. فلما ظهرت الحقيقة سرى عنهم وبدت عليهم امارات الرضى والابتهاج.
وأما الغاية التهذيبية ففي وصف امرأة الخواجة لاڤي وامرأة واصف بك وابنتيهما وحليمة ودورا ما يفي بها. فإن كل ما وصف به هؤلاء السيدات أو أسند إليه من الأقوال والأفعال كان غاية في بابه في إنه يرفع النفس في النساء والفتيات وربات البيوت ويحبب إليهن الفضيلة والتعقل والطهارة وسلامة النية المقرونة بالفهم وصحة النظر ويرغبهن في كل ذلك. وكل ما قيل عن أمين بك وما أصابه وأصاب أهله وأصحابهم من الغم والحزن هو مما يكره بالبورصة وأمثالها من المضاربات التي استغوت كهولنا وشباننا. وهنا اذكر إني بعثت بهذه الرواية إلى ابني في مدرسة الشوير فقرأها ولما رأيته في مسامحة عيد الفصح رأيت أنه أثر فيه جداً ما قيل عن أمين بما كره إليه البورصة وبدا لي منه ما يشف عن شدة احتقاره لها ولمن يتطوح جهلاً في اشغالها مع أنه لا يتم الثانية عشرة من عمره قبل يونيو القادم، ولا أقول أنه فهم كل ما فيها من المطاوي الفلسفية ولكني أقول أنه قرأها فتفكه بقراءتها واستفاد منها وأقل ما استفاده (وهو من أعظم الفائدة) أنه تولد فيه مقت ونفور شديد من هذه المغواة الجهنمية التي ذهبت بأموال الكثير من تجارنا وابناء الأغنياء والكبراء منا.
وكل ما قيل عن هنري برون هو في بابه خير للشبان والطلبة من عشرين خطاباً موضوعها الترغيب في الجد وعلو الهمة والتجافي عن البذخ والاسراف وانصراف النفس إلى المعالي وبذلها في الواجب وخدمة البلاد والأمة والحكومة.
وأما بقية الأغراض العمرانية من قوة المال والماليين وأسباب الثورة الروسية فيكفي الفهيم اللبيب ما أودعه الكاتب فيها من الحقائق والمباحث الدقيقة مما هو غاية في بابه. وليس لي شيء أقوله في انتقاد هذا الموضوع ألا تحفظ الكاتب وهو ما يتطلبه العلم وحنكة السن وخير للكاتب أن يعرف القارئ ما يريد أن يقوله من غير أن يقوله.
والخلاصة أن هذه الرواية بديعة في بابها وأسلوبها البلاغي وأبحاثها. والذي اعقده أنه لم ينسج بعد أحسن منها ولا مثلها وقد خلت من كل تضليل تاريخي يمكن أن يقع في الروايات التاريخية ووقع شيء منه في رواية قلب الأسد وما هو على شاكلتها من الروايات كما أنها خلت أيضاً مما قد لا تخلو منه رواية فكاهية مما يحرك النفس الشهوانية او عاطفة الحب الطبيعي بما يضر الشبان والشابات ويدفعهم إلى ما وراء الحد الذي لا يحمد اندفاعهم إليه. وغاية ما أقوله في هذا الصدد إني لا أخشى مغبة من قراءتها على تلميذي أو على ابني أو ابنتي أو . أو. فجزى الله مؤلفها خيراً ولا أقول ما أقول تقربا من كاتبها فإنه أستاذي بكل ما تحتمله هذه اللفظة من المعنى الحقيقي للأستاذ وأنا تلميذه بكل ما يجب أن تتضمنه لفظة تلميذ من المحبة والاعتبار وليس بين الأستاذ والتلميذ إذا كان على هذه الصورة ما يصوغ أن يتوهم فيه انه من قبيل التقرب ومجرد حب الزلفي بوجه من الوجوه والسلام.
هذا ما قاله حضرة استاذي الفاضل وهو مطابق لما قاله كل من طالع هذه الرواية من العلماء والأدباء حتى ومن عامة القراء فعسى أن تكون إعادة نشري لها خدمة لجمهورهم.
اسحق صروف