السادة المسافرين على رحلة رقم 826 المتجهة بمشيئة الله إلى القاهرة، أهلًا بكم على متن الطائرة إيرباص 767، معكم قائد الطائرة الكابتن/ أحمد سامي، نحن على وشك البدء بإجراءات الإقلاع، يرجى العلم أن الطائرة مزودة بأربع مخارج للطوارئ كما أن سترة النجاة موجودة تحت كل مقعد، لمزيد من المعلومات عن الطائرة يرجى قراءة الكتيب الموجود فى داخل مقاعد حضراتكم، الزمن المتوقع للرحلة ثلاث ساعات، وسنطير بمشيئة الله على ارتفاع 30 ألف قدم.
كان يستمع إلى نداء الكابتن ويردد كثيرًا من العبارات التي حفظها عن ظهر قلب نتيجة سفره المتكرر، لكن هذه المرة تختلف عن كل المرات السابقة، تُرى هل الكابتن مفرط في التفاؤل؟ أم هو كاذب؟ هل حقًا سيصلون القاهرة بعد ثلاث ساعات؟ هل سيتركون بوتقة صهر الأجساد وتكسير العظام بمجرد أن تدور محركات الإيرباص؟ تمنى أن يرى ما بداخل عقل كابتن الطائرة ليرى بنفسه ما إذا كان صادقًا أو كاذبًا أو متفائلًا أو شجاعًا، إنه ليس مجرد كابتن طائرة ستطير من بلد إلى بلد قاطعة القفار والبحار والسواحل والمدن والقرى والسيارات والبشر والحيوانات، إنه المنقذ، إنه بمثابة المهدي المنتظر، هيا يا منقذ البشر، إنطلق، أقلع، حلق، يا هل ترى ثلاث ساعات فقط هي البرزخ الذي يفصل بين الموت والحياة؟! ثلاث ساعات فقط تبعد الضحية عن الجلاد الذي يقتل باسم الله؟ قرأ ذات مرة أن الله لم يقتل الشيطان عندما عصاه، ولكن البشر يقتلون بعضهم زعمًا منهم أن ذلك من أجل الله. أي إله هذا الذي يقتلون الأبرياء من أجله؟ كلا، إنه ليس الإله الأوحد، إنه إله العجوة الذي يأكلونه عندما يجوعون. "هيا يا قائد الطائرة" قالها لنفسه فى صمت. الوقت ليس مناسبًا للصراعات والمعارك الفكرية، كف عن ذلك الآن، كف عن التفكير والنقد والتفحيص والتمحيص، توقف عن جلد ذاتك، هيا يا قائد الطائرة، لماذا يمر الوقت بهذا البطء؟ لماذا يمر الوقت في الغربة وفي الأوقات العصبية كأنما تحرك جبل من مكان لآخر؟! هيا يا قائد الطائرة، لا أتمنى أن تمر الثلاث ساعات مثلما أتمنى أن تمر النصف ساعة الأولى فقط، بمجرد أن تغادر الطائرة المدرج سيكون كل شيء على ما يرام، حياته كلها متوقفة على النداء الآخر لقائد الطائرة عندما يعلن عن هبوط الطائرة في القاهرة، يا الله!!! إنه أهم نداء في حياته، أهم من نداء النطق بالتقدير الذي حصل عليه في رسالة الدكتوراة، والنداء الذي كان ينتظره عندما شك الطبيب بأن لديه مرض خبيث قاتل وأثبتت التحاليل بعد ذلك عدم صحة تشخيص الطبيب، أهم من نداء الجيش يوم سمع السلاح بأنه تم تأجيل تجنيده لمدة ثلاث سنوات مما يعني أنه سيتم إعفاءه من الخدمة العسكرية. تُرى لماذا لم يكن يرغب في الالتحاق بالجيش؟ أين الوطنية؟ أين التضحية؟ ربما لفظه الوطن ونفاه لأنه تمنى ألا يلتحق بالجيش. هل كان فرحًا فعلًا لأنه لم يكن ليخدم الوطن ولكنه كان سيخدم مجموعة من القوادين الذين يتغنون كذبًا بحب الوطن؟ يا له من عقاب قاسٍ، لأول مرة يصاب بهذا الهاجس، توقف عن التفكير، كف عن التحليل سوف تصاب بالجنون، لماذا تتكالب الأفكار والهواجس على الإنسان في لحظات ضعفه وخوفه وترقبه؟ إنه لغريب حقًا أن تهجم عليه الأفكار كما تتداعى الأكلة إلى قصعتها، إنه اللاشعور الذي قال عنه فرويد: إنه اللاشعور الذي يظل كامنًا ثم يتحين الفرصة ليهجم على فريسته هجومًا شرسًا لا يقاوم، إنها معركة من جانب واحد، معركة محسومة النتائج. جاء نداء قائد الطائرة لينقذ نفسه المنهكة من براثن الأفكار ومخالب الهواجس.
السادة المسافرين، أسعد الله مساءكم بكل خير، نرجو من حضراتكم ربط حزام الأمان نظرًا لبدء إجراءات الإقلا.......
صعد فى السماء وطارت روحه وحلقت من الفرح ثم هبطت وتهاوت بانقطاع الصوت، ما الذي حدث؟ تُرى لماذا انقطع النداء؟ نظر المسافرون إلى بعضهم البعض نظرة تساؤل وترقب، يتساءلون بينهم لماذا انقطع الإرسال؟ تُرى هل وقع ما كانوا يخشونه؟ أين طاقم الطائرة ليسألونهم؟ ما الذي حدث؟ أين قائد الطائرة؟ أين الترحيب والتطمين والصوت الهادئ؟ أين وعده بأنهم سيصلون القاهرة خلال ثلاث ساعات؟ تُرى هل انقضت الثلاث ساعات؟ نظر من نافذة الطائرة فتأكد أنهم ما زالوا في مطار الدمام، لماذا انقطع الإرسال؟ قد يكون هناك عطل مفاجئ، يا الله! تمنوا جميعًا أن يكون العطل في السماعات أو الميكروفونات أو أي شيء يمكن الاستغناء عنه. نعم إنه عطل بسيط فى النظام الصوتي، اهدأوا جميعًا، نسمع صوت إعادة الإرسال مرة أخرى، نعم إنها الهمهمة والخروشة التي تسبق دومًا التحدث في الميكروفون، الخروشة؟؟؟ هل هذا مصطلح لغوي صحيح؟ تُرى هل هذه كلمة صحيحة في اللغة العربية الفصحى؟ ما هي أصول واشتقاقات هذه الكلمة؟ ابحث في المعجم عن كلمة خروشة. ما هذه التُرهات والإرهاصات التي تفكر فيها؟ الأرواح على المحك وأنت تفكر في اشتقاقات كلمة! قد لا تكون كلمة أصلًا، المهم أن الإرسال قد عاد، ولكن عاد بصوت آخر غير صوت الكابتن الهادئ المطمئن، كان صوتًا غليظًا أجشًا، تنطلق التهديدات من بين حروفه وتنهمر القسوة من ثنايا كلماته.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، معكم أبو مصعب المصري قائد سرية المنطقة الشرقية لتنظيم الدولة الإسلامية فى أرض الحرمين وبلاد الرافدين، نفيدكم علمًا بأن الطائرة بفضل الله وقعت تحت سيطرتنا، يرجى إتباع جميع الأوامر بدون تردد أو نقاش، سوف نتعامل معكم طبقًا لتعاليم الشريعة الإسلامية: "ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون" صدق الله العظيم. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
بيان رقم 1
يا للحظ العاثر، وقعت الكارثة. نظر الجميع إلى بعضهم البعض في وجوم واكفهرار، تطلع الكل في وجه الآخر وأطلق كل منهم نظرة توسل للآخرين، كلٌ يرجو أن ينتفض أحدهم فيكذب الخبر ويقول عفوًا لقد كانت مزحة، الأمل لا زال موجودًا فليتقدم أحد أفراد الطاقم ويلقي عليهم حبل النجاة ويقول عفوًا يا سادة أردنا بداية الرحلة بمزحة خفيفة، لا بأس كل شيء على ما يرام. ولكن كيف ذلك والطائرة قد وقفت بالفعل؟ نعم توقفت عن الحركة لكن لم يتوقف المحرك، إلا أن الصمت المطبق كان أعلى بكثير من صوت المحرك، يكاد الصمت يقتلع قلوب الجميع، إلا أنه لم تمض ثوانٍ معدودة حتى كسر حاجز الصمت وقع أقدام تأتي من جانب مقصورة القيادة ومكان تجمع الطاقم، لا بدّ أن المسئولون عن الطائرة أدركوا خطورة الموقف وفداحة المزحة فأسرعوا ينفون الشائعة ويطمئنوهم ويخبرونهم أن كل شيء تحت السيطرة. هيا فليخرج أحدكم بابتسامته المصطنعة المتكلفة ويقول إنها مجرد مزحة، حتمًا لن يؤذيكم أحد، على العكس سنسامحكم ونغفر لكم، لكن هيا بسرعة أعيدوا لنا الأمل فى النجاة، برغم أنها كانت مزحة كئيبة قاتلة إلا أننا نغفر لكم كل شيء بشرط أن تنفوا الشائعة، كلا كلا لستم مضطرين إلى نفي الشائعة أو الإعتذار أو حتى طلب الغفران، فقط انطلقوا بالطائرة، أديروا المحركات بكامل طاقتها وانطلقوا إلى السماء كي ننجو من المزحة السخيفة التي قد تتحول بعد قليل إلى مذبحة مريرة تتناقلها وسائل الأخبار في العالم كله. يا الله! هل يعقل أن تظهر صورته في الجزيرة وCNN وBBC قبل أن يلقاه أهله! يا للمأساة المضحكة، كانوا يتعجلون رؤيته ويتشوقون له. قد تكون بضع ساعات وتنتشر صورته بين صور الضحايا في كل وكالات الأنباء. تُرى كيف ستظهر العناوين فوق الأخبار الحصرية؟! ماذا سيكتبون عنهم وعن هذه المذبحة الوحشية؟ تُرى كيف سيظهر في الصور؟ وأي صورة سيضعون؟ هل سيكون مذبوحًا؟ أم مشنوقًا؟ أم محروقًا؟ بالله عليكم لا تفعلوا ذلك، قد تتأذى أمي كثيرًا، سوف تخشى على جثتي من البرد. أقول لكم فكرة أفضل، استخدموا صورة وثيقة السفر فأنا أبتسم فيها ابتسامة عريضة، اعتدت الابتسام، وأحيانا الضحك، في كل صوري الشخصية، لا أدري لماذا! ستبكي أمي كثيرًا عند رؤيتي في الأخبار والصحف، لكن مهلًا، أوقف هذا السيل الجارف من الأفكار المتشائمة، لن يحدث هذا كله، هناك وقع أقدام تقترب من الستارة التي تفصل الطاقم عن المسافرين، عما قليل ستظهر أحد المضيفات وتقول: "عفوًا لعبنا بأعصابكم ومشاعركم، عذرًا ذقتم الموت عدة مرات في هذه اللحظات، نعتذر منكم". قولي ما شئتِ، نغفر لكم أي شيء وكل شيء.
لكن كل هذا لم يحدث، فقد أزيلت الستائر عن شخص ملتحٍ متوسط القامة، عيناه واسعتان تلحظ فيها الهدوء القاتل العنيف، كان يتحلى بإبتسامة الموت الرحيم، كان يرتدي بدلة عسكرية يغلب عليها اللون الأسود. بمجرد أن دخل إلى مقصورة المسافرين دخل وراءه ست حراس إتخذوا مواقعهم في الأماكن الاستراتيجية للمقصورة، لم يكونوا ملثمين على عكس كل التوقعات، كانوا يبدون مثل البشر الآليين، يتم التحكم فيهم بالنظرات والإيماءات والإشارات، وفي أحيان قليلة جدًا الأوامر الصوتية، كانوا مسلحين تسليحًا حديثًا كاملًا متكاملًا. تُرى من أين حصلوا على كل تلك الأسلحة الحديثة المتطورة؟! رشاش آلي وسماعات ولاسلكي وقنابل يدوية وأوقية للصدر وخوذ وغير ذلك من التسليحات التي جعلت من كل فرد منهم بمثابة ترسانة متحركة. تُرى من أين حصلوا على تلك الأجهزة؟ من سلحهم بها؟ ولماذا؟ أوليست هذه الأسلحة من صنع الكفار؟ أوليس الكفار هم الذين أمدوهم بالأسلحة ليعيثوا في الأرض فسادًا ويؤدون دور الدمى المرسوم لهم بمنتهى الإخلاص والتفان؟ يا الله! كيف يفكر هؤلاء البشر؟ هل هم يفكرون أصلًا؟ أعتقد أنهم لو كانوا يفكرون ولو للحظات لانتقموا من أنفسهم شر انتقام جراء الأذى الذي لحقوه بالإنسانية جمعاء. الويل لكم أيها الأوغاد. لا بدّ أن أماكنكم محجوزة في قاع الجحيم، لا بدّ أنكم ستوضعون في مكان ما في الجحيم تشكو النار نفسها من شدة حرارته. كثيرًا ما شاهد مؤمن فيديوهات تعكس وحشية هؤلاء الغير آدميين، شاهدهم يذبحون البشر كما لو كانوا خرافًا، يقطعون أيديهم وأرجلهم وهم أحياء. شاب يقتل أمه على مرأى ومسمع من أعضاء جماعته لأنها خارجة عن الدين حيث أنها تقوم بصنع ملابس للفتيات لتقتات، وهذه الملابس منافية للزي الإسلامي المتمثل في الحجاب والثوب الأسود الطويل الفضفاض. تمثل أمامه مشهد حرق الطيار الأردنى الذي أسره داعش، حرقوه حيًا أمام عدسات الكاميرات، لك أن تتخيل كم الألم الذي اعتصر قلبيّ أبويه، لا بدّ أن أمه أصيبت بالجنون لهول ما رأت النار تأكل جسد ابنها داخل القفص، رأت ابنها يحترق أمام أعينها، ابنها التي كانت تخشى عليه أن ينام دون غطاء أو أن يسعل أو أن يمرض، بل كانت تخشى عليه أن يؤذي الطعام الساخن فمه ولسانه، رأته يكبر أمام أعينها ليكون سندًا لها في الكبر، لطالما صحبته إلى مدرسته لتتأكد من سلامته، ماذا حدث لها كي تتركه يلتحق بالقوات الجوية الأردنية ثم يلقى حتفه بهذه الصورة البشعة؟ ماذا جنت وماذا ارتكبت لتراه يعذب بهذه الطريقة الوحشية؟ لا بدّ أنها شكت آلاف المرات في وجود إله يسمع ويشاهد ويراقب ما يحدث ثم لا يحرك ساكنًا. أين العدل الإلهي؟ أين الرحمة الإلهية؟ لا بدّ أنها قالت لنفسها أنه لو كان هناك إلهًا حقًا لما حدث كل ذلك. ماذا كان يفعل الإله وهم يحرقون فلذة كبدها أمام عدسات الكاميرات؟ ولكن العدل الإلهى موجود ولا شك، طالما هو موجود أين هو من ابنها؟ لماذا استثنى ابنها واستبعده عن القاعدة؟ لماذا لم يرسل حجارة من سجيل فتحصد أرواح القتلة عديمي الرحمة؟ لا بدّ أنها فكرت في كل ذلك وهي ترى قلبها حبيس القفص ينتفض من الألم مثل عصفور وقع في مقلاة الزيت المغلي.
تمثلت كل هذه المشاهد أمام عينيه كشريط فيلم حدث من قبل ومن المتوقع أن يراه الآن حيًا أمامه. أخذ الخاطفون على عاتقهم فرض أسلوبهم من اللحظة الأولى، أرادوا أن يمحوا أي أمل أو أي محاولة للمخطوفين للمقاومة، شرعوا منذ البداية إلى قتل أي بادرة للمقاومة الحركية أو حتى المقاومة الفكرية. نظر قائدهم إلى المسافرين نظرات إستطلاع، وما إن وقعت عيناه على فتاة شابة تبدو على وجهها ملامح الجمال، رغم أنها لم تكن ترتدي المثير من الثياب، حتى ذهب إلى جانبها وسألها عن اسمها:
– ما اسمك؟
– هاجر وهذا زوجى إسلام.
– عليك أن تعتنقي الإسلام الصحيح.
– أنا مسلمة بالفعل.
– لست على المنهاج الصحيح، كيف تتركين وجهك مكشوفًا هكذا؟
وهنا تدخل زوجها مدفوعًا بحمية النخوة وبشجاعة نادرة لم يكن هو ذاته يتوقعها وقال له:
– يا هذا دعنا وشأننا، نحن نؤمن بالله ونخافه أكثر منك.
– تدعي الخوف من الله وتترك زوجتك وزينتها للغادي والرائح؟ إنكم كفار خارجون عن ملة الإسلام.
– لا حول ولا قوة إلا الله، من الذي منحك الحق في أن تحدد من هو مؤمن ومن هو كافر؟ من الذي منحك سلطة الحكم على نوايا ومقاصد وسلوكيات البشر؟ ما هو مصدر هذه الثقة الغريبة التي تمنحك مفتاح باب الجنة فتقف عنده لتحدد من هو في الجنة ومن سيصلى سعير النار؟ من منحك هذا الحق؟ من أعطاك هذه السلطة؟ من أين أتيت بهذه الأسلحة؟ أليست من صنع الكفار؟ لماذا منحوك إياها؟ لو كان عندهم ذرة شك أنك قد تصوبها نحوهم ما منحوك إياها؟
وهنا توقع الجميع إنطلاق رصاصة من أي سلاح صوب رأسه مباشرة، كيف يتحدث هكذا مع أمير الجماعة؟! كان الجميع يعلم أن أنفاس هذا الزوج باتت معدودة، ولكن على عكس المتوقع تمامًا التفت أمير الجماعة إلى الزوجة وقال لها في برود تام:
– ستكونين أميرتنا، ستتذوقين حلاوة الإيمان ومذاق الجهاد في سبيل الله، وفي الآخرة ستسكنين جنات النعيم، وجمت الفتاة وصمتت صمتًا شجعه على إستكمال كلامه قائلًا: هيا إلحقي بنا ولا عليكِ من هذا الرجل، معًا سنعمل من أجل عزة الإسلام والمسلمين، دعك منه وتعالي إلى طريق الله.
وهنا انفجر الزوج:
– الله؟؟ أتتحدث عن الله؟؟ الله برئ منكم ومن أفعالكم أيها الأوغاد.
ومرة أخرى توقع الجميع نهاية الزوج بأبشع الطرق لكن تفاجأ الجميع برد أمير الجماعة مرة أخرى:
– سامحك الله وغفر لك لسانك البذئ.
إلا أن المفاجأة الأكبر كانت بعد هذه الجملة، فكأنما هناك شخصان لأمير الجماعة دكتور جيكل ومستر هايد. فقد مد يده بعد هذه الجملة وأخذ مسدسه وأطلق رصاصة بين عينين الزوج أردته قتيلًا في الحال، كما قتلت كل الآمال التي كانت قد بزغت في قلوب الركاب عندما سمعوا كلمات أمير الجماعة المغلفة بالإيمان الزائف والصبر الكاذب والرحمة المصطنعة.
إقتاد رجاله الفتاة المنهارة من البكاء على فقدان زوجها، أخذوها إلى خارج الطائرة إلى حيث لا يدري أحد. كانت هذه الحادثة بمثابة تحذير للجميع بالإنصياع والإنقياد للأوامر دون أي تردد أو تفكير. كان الطفل منشغلًا بلعبته لدرجة أنه لم يكن يدرك ما يجري حوله حتى سمع صوت طلقات الرصاص، لم يكن يفهم ما يحدث ولا يجد له تفسيرًا ولا أحد يفسر له، حتى دموع أمه وصرخاتها وأناتها الهادئة وجسدها المضطرب وأيديها المرتعشة المتشابكة حول صدرها، كل ذلك لم يكن ليفسر له ما يحدث، فقد كانت هذه عادة أمه دائمًا عند السفر وحيدة مع طفلها، كان الحزن يخيم عليها منذ أن تبدأ في إعداد الحقائب، ويصل الحزن ذروته عند صعود الطائرة حيث تدرك في هذه اللحظة أنها ابتعدت عن زوجها وأنه لا بدّ من الرحيل وحدها في هذا العالم المتوحش الذي لا يرحم.
كل ذلك كان مألوفًا للطفل بعد أن كان يفزع منه في المرات الأولى، إلا أنه اعتاده فيما بعد، لم يسأل الطفل أمه عما ألم بها أو ما الذي يجعلها تبكي، ولكنه سألها ببراءة الأطفال الفضولية:
– من هؤلاء يا أمي؟ لماذا لا يجلسون على المقاعد المخصصة لهم؟ لماذا يحملون كل هذه الأسلحة؟ لماذا لا يرتدون زي الشرطة؟ لِمَ لمْ تقلع الطائرة حتى الآن؟ لماذا كل الناس صامتون يا أمي؟ لماذا لا يتحدثون كعادتهم؟ أنا جوعان يا أمى، لماذا لم يأتوا بالطعام؟ هل يوجد لنا طعام أم ليس لنا طعام مثل المرة السابقة؟ ولكن أبي قال لي أنه حجز لنا وجبات اللحم والبطاطس وكيك الشيكولاتة التي أحبها. أمي! أمي!.
– اصبر يا بني قليلًا، كل شيء سيكون على ما يرام.
كان الطفل يلهو بقطاره في المسافة الضيقة أمام مقعده، كانت المنطقة ضيقة جدًا إلا لجسد الطفل النحيل الذي كان مسرورًا جدًا بهذا المكان الذي يمثل عالمه الخاص، كان مندمجًا في عالمه الصغير الصامت مع قطاره لدرجة أن أحدًا من الخاطفين لم يلحظ وجود طفل صغير في هذا المكان أمام المقعد. عندما رأى الخاطفون مكان الطفل فارغًا ظنوا أن أحد المحظوظين قد تخلف عن الرحلة وترك مقعده فارغًا، أو أن المكان مخصص لأحد أفراد الأمن الذين يصحبون الرحلات الجوية أحيانًا لدواعٍ أمنية، لكن أحدًا لم يكن يتصور أن هذا المقعد هو لطفل جلس أمامه ليلهو قليلًا قبل إقلاع الطائرة.
حاول مؤمن أن يهرب من المشاهد العبثية التي تفوق في حدتها كل أفلام اختطاف الطائرات التي شاهدها في حياته، حاول أن يحول بصره الحانق بعيدًا عن أعين الخاطفين كي لا يصطدم بهم ولا يصطدموا به، نظر من نافذة الطائرة للهروب من المشهد القاتم ولاستكشاف ما يجري خارج الطائرة ولمعرفة أسباب هذا الهدوء القاتل في المطار وفي مدرج الطائرات، إلا أن المشهد بالخارج كان أكثر قتامة، حيث رأى بعض الخاطفين يجرون الزوجة الثكلى ويقتادونها إلى سيارة مع غيرها من الحسناوات اللاتي اختارهن الدواعش، لم تكن تستطيع أن تقف فكانوا يجرونها على الأرض بقسوة مما دفع الأخريات إلى الإنقياد التام دون تذمر. كان المشهد يهد الجبال هدًا، منهن من أُخذت من أبيها وأخرى من بين أحضان زوجها، كانوا يقتادونهن كأسيرات حرب.
سيدفع بهم لاحقًا إلى سوق النخاسة، أي عصر هذا الذي يعيشه هؤلاء الأوغاد! إنهم يعودون إلى عصور الجاهلية في عصر غزو الفضاء وثورة التكنولوجيا وبركان الاكتشافات العلمية. يبدو أنه قد حصل تقدم في جميع المجالات ما عدا مجال الإنسانية واحترام آدمية الإنسان وحقوقه، سحقًا لهم، يقتادون السبايا للسيارات الأمريكية واليابانية حديثة الطراز، وتعود دائرة التناقضات في ذهنه إلى المربع الأول، كيف يقولون أن أمريكا هي الشيطان الأعظم ثم يستخدمون سياراتهم وأسلحتهم في تدمير البشر؟ لماذا ينفذون أجندة الكفار بهذا التفان والإتقان؟
انظر إلى الداخل أفضل، ارجع إلى الفيلم السينمائي الذي يجري أمامك دون مخرج أو منتج أو ملقن، ارجع إلى المسرح الذي يقف عليه الشخصيات ليؤدون الأدوار التي لم يكن يخطر ببال أي من الحاضرين أن يكون في هذا الموقف وأن يلعب هذا الدور. لو رجع كل فرد بذاكرته خمسة عشر عامًا أو عشرين عامًا وقرأ هذا المشهد ورأى هذا الدور ما كان ليصدق ما يقرأ، ألم يكن أمير الجماعة هذا طفلًا ذات يوم؟ ألم تكن له أم تخشى عليه من نسيم الهواء؟ ألم يشعر بالأسى والمودة والرحمة في يوم من الأيام؟ أراهن أننا لو قابلناه قبل عشرين عامًا وقلنا أنه سيخطف طائرة أبرياء وسيقتل وينكل ويحرق بأناس لم يرهم من قبل، أناس ألقى بهم حظهم العاثر في طريقه، أراهن أنه ما كان ليصدق أبدًا، كان ليضحك أو ليبكي أو يسخر أو يشعر بالأسى، أي شيء إلا أن يصدق أن يتحول إلى هذا الوغد الآبق. تُرى ما السبب في تحول البشر إلى هذه الأشكال اللإنسانية؟! أهي البيئة أم الوراثة؟ وهنا يعود بفكره إلى القضية الجدلية الأشهر في التاريخ وإلى الإشكالية الأزلية، ما هي كينونة الإنسان؟ هل هو خيّر بالفطرة؟ أم شرير بالفطرة؟ فتكون للفلسفة الطبيعية اليد العليا. هو يولد كينونة محايدة بين الخير والشر وتتولى الظروف والعوامل الإقتصادية والإجتماعية والسياسية وغيرها من العوامل تشكيل هذه الكينونة المحايدة، ويكون ذلك انتصارًا آخرًا للفلسفة الطبيعية. ترى هل كان أمير الجماعة هذا مسيرًا مجبرًا على اختيار هذا الطريق الذي انتهى به ليقف به في هذا المكان بعدما أثبت إخلاصه للجماعة من خلال إزهاق أرواح آلاف الأبرياء؟! أم أنه اختار كل شيء بمحض إرادته الحرة؟! اختار بنفسه الطريق التي يسلكها، نعم إنها الفلسفة الواقعية تلوح في الأفق.
مريض أم مجنون أنت يا مؤمن؟ كيف تحول كل مواقف الحياة إلى صراع فلسفي ونقاش جدلي؟ ببساطة، إنها النفس البشرية بكل تعقيداتها وتشابكاتها.
قطع صوت صافرات سيارات الشرطة حبل الصراع الفكري والتحليل النفسي الذي كان يجريه على أمير الجماعة وأفرادها. تهللت أسارير الجميع عند سماع سيارات الشرطة تعلن تجدد الأمل في إغاثة الملهوف، نظر الجميع إلى بعضهم نظرة الفرح الحذر والأمل اليائس، لا بدّ أن الشرطة جاءت كفرقة إستطلاع فقط، نعم سيأتي الجيش لاحقًا لإنقاذ الطائرة وتحرير المطار من أيدي المسلحين، سوف تصل التعزيزات العسكرية من باقي أرجاء الممكلة ومن كل الدول الإسلامية عما قريب. كان الصوت يرتفع أكثر وأكثر كلما اقتربت السيارات من الطائرة حتى أحاطوا بها من جميع الإتجاهات، كان الصوت عاليًا جدًا لدرجة تصم الآذان، كان هذا الصوت هو الشيء الوحيد الكفيل بإيقاظ الطفل العابث وإخراجه من عالمه، كثيرًا ما يحب الأطفال سماع دوي سيارات الشرطة وكذلك رؤية رجال الشرطة بالزي الشرطي، رجل الشرطة هو الشخص الوحيد الذي يحتل المكانة الأبرز من الوقار والاحترام عند الأطفال بعد الأب. عندما كنا أطفالًا، كنا نتمنى أن نكون رجال شرطة، عندما كنا نُسأل ونحن صغار "ماذا تريد أن تكون عندما تكبر؟" كانت الإجابة نموذجية موحدة "أريد أن أكون ضابطًا" قليلًا جدًا كنا نسمع إجابات أخرى مثل "أريد أن أكون طبيبًا أو مدرسًا أو مهندسًا أو ميكانيكيًا أو بناءً أو صيادًا" فقط رجل الشرطة هو الذي يمثل بؤرة الاهتمام التي تسلب عقول الأطفال.
مدفوعًا بالحب الغريزي والاهتمام الطفولي الفضولي لرجال لشرطة، هب الطفل واقفًا لكي يرى سيارات الشرطة ورجال الشرطة الذين يتمنى أن يكون مثلهم، كانت حركته مفاجئة للجميع حتى للمسلحين الجاثمين على قلوب الخاطفين، ظن أحد الخاطفين أن حركة الطفل ما هي إلا إحدى محاولات التمرد والإنقضاض على الخاطفين، انطلقت رصاصة من سلاحه قبل أن يدرك بساطة الدوافع وفداحة وهول المأساة، كان حلم الطفل البريء سببًا في مقتله، لم يكن يدري أن وجبته القادمة التي كان يسأل أمه عنها سوف يتناولها في الجنة، كان حلمه أن يكون رجل شرطة فقتلته صافرة إنذار سيارة الشرطة، كان هول الصدمة عظيمًا على الجميع، اخترقت الرصاصة جسد الطفل الهزيل الذي لم يرتكب أي ذنب أو إثم تجاه القاتل، كيف يرتكب ذنبًا تجاه القاتل الذي لم يعرفه ولم يشعر ولم يأبه بوجوده أصلًا؟ اغتالوا الإبتسامة والبراءة وها هو الجسد النحيل ملقى على الأرض مضرج بالدماء بعدما صعدت روحه الطفولية إلى السماء مجنحةً شاهدةً على ظلم الإنسان لأخيه الإنسان. تحت تأثير الصدمة ووطأتها انطلقت الأم إلى جسد طفلها غير عابئة بالأسلحة المشهورة في وجه الجميع، ألقت بجسدها فوق عصفورها الصغير الذي تركته يلهو ويلعب في عشها الصغير فأردته رصاصة الغدر قتيلًا، مدت يدها تقلب في جسده الصغير الساكن تمامًا:
– أجبني يا أدهم، ماذا فعلوا بك؟ لماذا أنت صامت هكذا؟ قم والعب، قم، إطرح عليّ ما تشاء من الأسئلة، انهض يا ولدي رفقًا بأمك، كفى لوعة وعذابًا، أتعلم شيئًا؟ سافرنا من أجلك أنت، سافرنا نؤمن مستقبلك فأخذناك لموتك، قم يا ولدي، قم يا زهرة أحلامي.
انتاب الحاضرين نوبة شديدة من البكاء وأخذوا يهدئون الأم الثكلى "اهدئي يا أمي، لقد ذهب ابنك لمن هو خير منكِ، لقد استرد الله أمانته، فلتدعِ الله أن يكون ابنك شفيعًا لك يوم القيامة فيسبقك إلى الجنة".
نظرت الأم إليهم نظرة ذهول تبعتها نظرة استرحام.
– اصمتوا جميعًا، دعوني وابني، لم يمت أدهم، إنها إحدى ألاعيبه التي كان يكررها كثيرًا، قم يا عزيز أمك، أمك لم تعد تحتمل المزاح، لا تتمادى في الأمر، كفى تمثيلًا وارحم عذاب أمك ولوعتها، رد عليّ، أعترف بأنني أخطأت في حقك، من البداية كنت ترفض فكرة السفر معنا إلى السعودية، كنت تسألني يوميًا عن موعد عودتنا إلى مصر، ها نحن عائدون إلى مصر، رد على أمك يا أدهم، كن رجلًا كما عهدتك دائمًا، قم يا أملي انهض يا سند، ماذا فعلوا بك؟ ماذا فعلت لهم ليقطفوا زهرة عمرك؟ نظرة إلى وجهك الباسم كانت تذهب عنا عناء السنين وتخفف عنا وطأة الحياة. يا أهل النخوة والعدل والرحمة ماذا فعل طفلي لهم ليقتلوه؟ لماذا قتلوه؟ لماذا لم تجرحوه فحسب؟ كنت لأسامحكم لو أنكم أصبتموه عقابًا على قلبه البريء وطفولته الساذجة، فلتشهد يا إله السماء، لقد قضوا علينا جميعًا وحكموا علينا بالتعذيب حتى الموت، قتلوه قاتلهم الله. يا يعقوب النبي، أخذوا منك يوسف ففقدت بصرك وأنت النبي الملهم، ماذا عساي أفعل وقد اقتطفوا ثمرة فؤادي! فقدانك البصر كان رحمة من الله لك، ليتني أفقد بصري فلا أرى بعده. يا محمد يا رسول الله، كم بكيت عند فقد ولدك إبراهيم! وأنت من أدبه ربه فأحسن تأديبه، بكيت وأنت لا تنطق عن الهوى، لقد فجعت بمن هو أغلى من عيناي، لقد قتلوا ابني يا رب. اللهم إنهم لا يعجزونك فانتقم لنا منهم.
نظرت الأم إليهم دون أن تبارح مكانها وقالت لهم في حدة وشجاعة ممزوجة بالإنكسار:
– الويل لكم أيها الأوغاد، الله سينتقم لنا منكم، يا رواد الجحيم، الله سيصليكم سقر، سحقًا لكم، أتحملون رايات مكتوب عليها اسم الله؟! والله لتكبكم راياتكم على وجوهكم في النار يوم الفصل، الله منكم بريء، أنتم لا تعرفون الله، أنتم لا تعبدون الله، إنكم تعبدون أمريكا والغرب والورق الأخضر، أى إله هذا الذي يأمركم بقتل أهلكم! أى إله هذا الذي تقتلون الأطفال لتقدمونهم قربانًا له! سحقًا لكم ولإلهكم الذي استحال البلاد الآمنة إلى قتل وحرق وتشريد وسبى، أرأيتم ما خلفتموه في كل البلاد التى دخلتوها؟ لماذا لا تصوبوا أسلحتكم نحو أمريكا والغرب؟ أتدرون لماذا؟ لأنكم صنيعة أمريكا.
كانت الأحداث تتسارع وكانت الفاجعة صادمة لدرجة أفقدت الجميع الذاكرة مؤقتا، كان مشهد الأم فوق جسد صغيرها مشهدًا مروعًا، أنست الجميع أمر سيارات الشرطة، إلا أن طبيعة النفس البشرية لا تتغير، وكما قال نجيب محفوظ: "وما سمي إنسان إلا لأنه ينسى، ولا قلب إلا لأنه يتقلب". استعاد الحاضرون الذاكرة تدريجيًا وبدأوا يفكرون في أمر سيارات الشرطة، لماذا لم تطلق النار على الخاطفين فتحولهم جيف سوداء؟ لماذا لم تطلق لهم التحذيرات والإنذارات بالاستسلام وعدم إيذاء الرهائن؟ هل هي مناورة عسكرية لاستدراج الخاطفين لكسب بعض الوقت حتى تأتي قوات الجيش الخاصة فتبيدهم عن آخرهم؟! إلا أن كل هذا لم يحدث، كل هذه الأفكار مجرد خيالات غير صحيحة، سخرية القدر تكمن في هزلية الموقف، إن جميع سيارات الشرطة تابعة للخاطفين، لقد سيطروا على كل هذه السيارات بعد معركة بسيطة جدًا مع شرذمة قليلة من الجنود المرابطين في المقر الرئيسي للأمن المركزي بالمنطقة الشرقية. كانت معركة غير متكافئة على الإطلاق، ترسانة داعشية تغطيها طائرات الأباتشي الأمريكية في مقابل عدد من الأسلحة الخفيفة والرشاشات والآليات العسكرية التى لم تصمد كثيرًا أمام القصف العنيف من الأسلحة الثقيلة والصواريخ الأرض أرض، إذن فقد أحكم الخاطئون قبضتهم على المطار والطائرة والركاب.