انتهى الأمر، قضي الأمر الذي فيه تستفتيان، تلاشى لدى الجميع أي أمل، أصبحت النجاة حلمًا سخيفًا لا وجود له تحت فوهات البنادق المصوبة إلى رؤوس الجميع، لقد ازداد الوضع سوءًا، الآن لا يستطيع أن يتحرك أحد إلا بحساب، حتى التنفس وضربات القلب المتلاحقة كانت تهدد حياتهم، قد يضغط هؤلاء الموتورون على زناد البندقية لمجرد أن أحدهم مد يده ليحك رأسه أو ذقنه أو أذنه. أيعقل أن تنتهي حياة الإنسان هكذا؟ أمن المقبول أن تطوى صفحة حياة إنسان له أسرة وأهل وأحباء وأصدقاء فقط لأن أحد هؤلاء الأوغاد كان يحمل أداة القتل؟ لا عجب أن عقوبة القاتل هى أن يصلى نار جهنم خالدًا فيها.
أجال مؤمن بصره بهدوء في الطائرة ورأى الركاب كالتماثيل، ضحك داخل نفسه ضحكة عصبية سخر فيها من الروائيين ومن الروايات والأفلام، أي قلم يستطيع أن يصف ما يحدث؟ أي كاميرا تستطيع أن ترصد وتصور هذا المسرح العبثي؟ أي شاعر يستطيع أن يصف مشاعر الأم الثكلى؟ أي طبيب نفسي يستطيع أن يحلل شخصيات الركاب التماثيل؟ وبينما هو مستغرق في فظاعة المشهد، تذكر رواية كوابيس بيروت، نعم إن ما هم فيه الآن هو صورة متطابقة مكررة ومشهد ليس الأول من نوعه، نعم أصبحوا جميعًا مثل الحيوانات في دكان الحيوانات الأليفة التي حكت عنه غادة السمان، كم هو صغير هذا العالم! الأحداث تتكرر وتعيد نفسها ولكن الإنسان لا يتعلم أبدًا.
إنهم مهددون بالقتل في أي لحظة، الموت يحيط بهم من كل مكان، تأكدت له الفكرة بعد أن استرجع مشاهد الرواية، لم يكن من الضروري أن يكون الهدف في مجال مرمى الآلي أو البندقية، الموت لا يخضع للأرقام الرياضية أو القوانين والقيم الفيزيائية، اتجاه الطلقات لا يخضع لقوانين السرعة والجاذبية والإنعكاس والإنكسار التي سهر الليالي عاكفًا على دراستها في الثانوية العامة، الطلقات أصبحت موجهة مثل الصواريخ، لا تخطئ الهدف أبدًا. لا شك أن الجميع بدا عليهم الاستسلام الكامل، جزء نفسي من الاستسلام كان التفكير فيما بعد هذا المشهد الذي يبدو أنه لن ينتهي أبدًا، رأوا أنهم من الأفضل أن يتأقلموا إذ أنه لا جدوى من المقاومة، مجرد التفكير في المقاومة هو بمثابة انتحار صريح. بدأ كل منهم يفكر في مصيره، تراءى له أنه حتى لو فتحت لهم أبواب الطائرة فإن أرجلهم لن تقوى على حملهم للهرب، إن السجين تزعجه فكرة الحرية، تزعجه فكرة ماذا بعد!، قد تكون خدعة ماكرة من الخاطفين أن يفتحوا لهم الأبواب الموصدة ثم يتركونهم يركضون حتى يلهثوا وتنقطع أنفاسهم ثم يطلقون عليهم الرصاص، لقد سمع عن تلك المشاهد في كثير من الحروب. قد يقومون أيضًا بتصوير تلك المشاهد ليوطدوا فزاعتهم في العالم. تُرى أنى لهؤلاء البربر بتلك الكاميرات والتقنيات عالية الجودة التي يصورون بها فظائعهم؟! كيف يتسنى لهؤلاء الأغبياء إخراج تلك المشاهد بتلك الدقة والوضوح؟
إنهم لا يستطيعون حتى قراءة اسم الماركات المكتوبة باللغة الإنجليزية. ضحك في نفسه ضحكة ساخرة، كيف يريدون دخول الجنة على جثث الخلق؟ أينعمون بالجنة وهم غارقون في ظلمات الجهل؟ كيف يلقون الله وأيديهم ملطخة بدماء الأبرياء؟ أه لو عمل هؤلاء بأول آية نزلت في القرآن، إقرأ. آه لو قرأوا وتعلموا، لما استطاع أحد أن يقنعهم بأن إزهاق أرواح الأبرياء هو الطريق للحور العين. ازدحمت الأفكار في رأسه ازدحام الإلكترونات حول الذرة أثناء التفاعل مع ذرة أخرى، أحس أن الخاطفون قد يقرأون أفكاره وقد يطلعون على اللعنات التى يصبها عليهم تباعًا، أطرق لحظات وأشفق على عقله وقرر أن يمنحه بضع لحظات من الراحة والهدوء، كانت مشكلته الكبرى في الحياة هي ما يطلق عليه علماء النفس "Overthinking"، تمنى أن يتوقف عقله عن التفكير والتحليل والمقارنة والقياس ولو لدقائق معدودة.
قرأ كثيرًا عن هذه الحالة النفسية وعن تواتر الأفكار المتدفقة والسيل الجارف من الذكريات الذي لا يمكن إيقافه، قرأ عن قيام الشخص بتحليل كل ما يجري حوله تحليلًا نفسيًا، قرأ عن أسباب اشتياق الإنسان للماضي حتى لو كان مرًا في حينه. إنها حالة الحنين إلى الماضي هي (النوستالجيا) Nostalgia حتى أنه بعد حين يبدأ ينظر إلى الماضي البائس كما لو كان ماضيًا تليدًا ملئيًا بالأمجاد، ثم ما يلبث أن يصدق الصورة الجديدة للماضي الذي استحدثها عقله. رجع مرة أخرى يرى نفسه يجلس مع جدته في فناء المنزل الريفي، كثيرًا ما كان يحب أن يعود من الحقل مبكرًا يجلس بجوارها أمام الكانون كما كان يسمى، فيرى المهارة الفائقة التي تتمتع بها جدته في ضبط إيقاع النار ضبط العازف للآلة الموسيقية، فهي أحيانًا تضيف بعض أعواد القش وجذوع الخشب لكي تستعر النار، وأحيانًا أخرى تعدل وضع الإناء (حلة المحشي) حتى لا يحترق جانب من جوانبه، تقوم بكل ذلك بمهارة متمكنة تشبه قائد الأوركسترا المستمتع بكل إيقاع وبكل إنصات، يا لها من أيام هادئة! كم يفتقد هذا الهدوء وراحة البال تلك، كم كانت الأحلام بسيطة بريئة. تُرى لماذا عاد إلى هذا المشهد نفسه؟ لماذا تخيل أن جدته تراه وتنظر إليه بإشفاق من مكان ما؟ لماذا يهرب دائمًا من عالم الواقع إلى عالم الماضي والذكريات؟ كثيرًا ما كان يؤلمه أن يكون قد فشل في حياته أو فشل في تحقيق الصورة التي كان يحلم بها أهله وخاصة جدته، كثيرًا ما كان يزعجه أنه لم يكن الإنسان الذي كانوا يريدونه، سحقًا للحياة، تبًا لهذه البلاد التي تسحق الأحلام والطموحات بلا رحمة ولا شفقة، لقد داسته عجلات الحياة ومضى الزمن يجبره على التخلي عن أحلامه وطموحاته شيئًا فشيئًا. لماذا لا تسير الحياة وفق ما نريد وطبقًا لما نشتهي؟ لماذا تقسو الحياة هذه القسوة على بني البشر؟ "مهلًا" قال لنفسه في هدوء: السؤال غير صحيح، إن الصيغة الصحيحة هي "لماذا يقسو البشر على أنفسهم بهذه الطريقة؟ لماذا يقتتلون؟ لماذا يظلمون؟ لماذا يكذبون؟"
عاد مؤمن يسترسل في الأفكار من جديد ويحادث نفسه.. تبًا لهذه الآلة اللعينة التي تسمى العقل، الشيطان يكمن في العقل، ألا تتوقف تلك المقصلة ولو لدقائق تمنحه فيها بعض الوقت للراحة والاستعداد لرحلة التعذيب القادمة؟!
أفاق من غيبوبة التفكير وانتشله من دوامة التفكير التي تكاد تذهب بعقله صوت أجش يطالب الجميع بالنهوض: "فلينهض الجميع وليخرج من الطائرة".
طلبوا منهم أن يقفوا صفًا واحدًا أيديهم مرفوعة فوق رؤوسهم، وقف الأسرى خاضعين مطأطئ رؤوسهم لا يعلمون إلى أين يقتادونهم، لم يكن له أي مجال أو وقت للتفكير حيث قام أحد الخاطفين بدفعه بعنف في ظهره بالبندقية وقال له بسخرية:
– امضِ للأمام بهدوء ولا تحدثن نفسك بأي حماقة، يبدو لي أنك مصري، أليس كذلك؟
– نعم أنا مصري. قالها وهو يلتفت وراءه.
– لا تلتفت وراءك، تحدث وأنت تمضي قدمًا.
– حاضر.
– ماذا كنت تعمل هنا؟
– أعمل محاضر لغة إنجليزية.
ضحك ضحكة خبيثة وسأله:
– وهل تتحدث الإنجليزية كالمصريين؟
قالها في مكر وتبعها بعدة ضحكات عصبية، ولما لم يرد عليه ازداد حنقًا وسأله بالإنجليزية:
How are you? Mr Beans?
فهم مؤمن المغزى من طرح السؤال التافه وأن الخاطف يريد أن يجعله مثارًا للسخرية خصوصًا مع وجود بعض الأجانب في التنظيم الذي ينتمي له فقال له بهدوء لم يكن هو يتوقعه:
– Fine, thanks.. قالها وهو ينطق الـ(th) ثاءً واضحة.
عاد الخاطف للضحك ولكن هذه المرة كان الضحك يخفي وراءه نوعًا من الحقد الدفين:
– well done يا باشا، مصر أصبحت علمانية، لم تعد منارة الإسلام، هل حقًا منعوا أذان الفجر في مكبرات الصوت؟
Shall I say it in other words? Has the call for fajr prayer been banned in Egypt?
كان يتحدث بلكنة أمريكية متقنة تعجب لها مؤمن، أدرك منذ اللحظة الأولى أن هذا الرجل يريد أن يستفزه، لم يكن واثقًا من دوافعه لذا آثر أن يفوت عليه الفرصة، كان باردًا جامدًا كالصخر، لم يسمح لأي شيء بأن يستثير غضبه، لم يرد عليه ولم يلتفت وراءه، كان الأسرى يسيرون في خط طويل بعد أن نزلوا من الطائرة وأخذوا يقطعون المدرج إلى مبنى الركاب حيث كان مركز العمليات، لم يرد عليه ورفع رأسه بهدوء واختلس بضع نظرات على المدرج وعلى سور وحدود المطار، كان فقط يود أن يعلم مدى خطورة الوضع، كانت مجموعة كبيرة من الدبابات والعربات المدرعة تحيط بالمطار من كل جانب، هذا بالإضافة إلى عدد كبير جدًا من المدافع التي انتشرت بأرض المطار. في تلك اللحظة أدرك أن كل شيء قد انتهى وأن الوضع أخطر بكثير مما كان يظن. لم يستغرق في التفكير كثيرًا تلك المرة، فقد استفاق على إثر دفعة أخرى في جنبه من مقبض البندقية.
– Speak up! Why are you silent, you fucking bastard?
– What do you want me to say? Could you leave me alone? There are so many people around here. Why are you so concerned with bothering me? Why do you insist on speaking English?
وهنا عاد الخاطف ليضحك ضحكة عصبية شريرة وقال فى هدوء مصطنع:
– ادع الله أن يمن علينا بفتح مصر وإعادتها للطريق القويم، من المفترض أن تكون مصر القلب النابض للعالم الإسلامي، فإذا بزغ فجر الإسلام على مصر أشرقت شمس الإسلام جلية ساطعة وأضاءت أركان الكون المظلم الكافر، مصر تحتاج عمرو آخر.
– وهل تظن أنه لا يوجد إسلام ولا مسلمين في مصر في الوقت الحالي؟
– أي إسلام يا هذا؟ أي إسلام وسط المراقص وبيوت الدعارة والخلاعة والمجون؟
– ولماذا تنظر فقط إلى هذه المساوئ وهي موجودة في أي بلد؟ إنه لشيء محزن حقًا أن تتواجد مثل هذه الأماكن، ولكن لا يمكن اختزال مصر في تلك الصور المقيتة، مصر ستظل منارة الإسلام.
– هههههههه كم أنتم فخورون بأنفسكم أيها المصريون!
– ولمَ لا نفتخر وقد خرج من أرضنا من قرأ القرآن فأسمعه العالم كله، ثم خرج من فسر القرآن في بساطة وفصاحة وبلاغة فأذهل المفسرين وأخرس الحاقدين، كيف لا نفتخر وبيننا علماء في جميع المجالات أضاءوا العالم بعد أن كان مظلمًا، وأحيوه بعد أن كان ميتا!
– إلى متى ستظلون تعيشون على هذه الخرافات التي أكل الدهر عليها وشرب؟ استفق يا هذا! مصر الكافرة يجب أن تعود إلى حظيرة الإسلام.
– مصر لم تكن أبدًا كافرة، مصر منارة الإسلام ومنبر السماحة، إذا ذهبت إلى مصر يومًا ستجد من يصلي ويصوم ويقوم الليل ويقرأ القرآن ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ستجد أطفالًا يختمون حفظ القرآن الكريم بعدة روايات في سن مبكرة، من يستطيع أن يقول أن مصر كافرة؟ إذن فمن المسلمون؟
– ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون.
– وهل أنتم من تحكمون بما أنزل الله؟
– طبعًا نحن أحرص الناس على تطبيق الشريعة، القاتل يُقتل والسارق تقطع يده والمرتد تضرب عنقه، حتى إن كان من أهلنا وذوينا. أترى هذا المجاهد إلى اليمين؟ لقد حاول أن يصلح من أهله مرارًا وتكرارًا، وعندما أدرك أن لا فائدة من هذه المحاولات أبلغ أمير الجماعة وأقام عليهم الحد بنفسه.
– فماذا فعل؟
– ضرب أعناقهم بالسيف، أمه وأخته.
– رحماك يا رب، لماذا كل هذا؟ ماذا فعلوا ليقتلهم؟
– يا هذا إننا نشتري الجنة بأغلى الأثمان، بأنفسنا وأهلنا وذوينا {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [التوبة: 24].
– {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة: 111]. أما أمه فكانت غير منتقبة وأخته، اغفر لي يا رب، كانت تعمل في مجال خدمة العملاء فتتحدث مع الرجال.
– يا الله! أحقًا ارتكبوا هذه الخطايا التي لا تغتفر؟ قالها بسخرية واضحة دون أن يلتفت وراءه.
– أرأيت أننا لا نطمح إلا إلى رضا الله مهما كلفنا ذلك؟
– نعم نعم، بالتأكيد. هل لي أن أطرح عليك سؤالًا؟
– اسأل. قالها باقتضاب وهو يدرك أنه قد يضع نفسه في مأزق ويورطها في حوار لن يطيق الاستمرار فيه كثيرًا.
– من أين تحصلون على هذه الأموال والأسلحة؟ أقصد من الذي يمولكم ويوفر لكم السلاح والمال؟ هل لديك عمل تقتات منه؟
– لقد زهدنا في الدنيا واخترنا طريق الجهاد والآخرة.
– إذن فمن أين تنفقون؟
– هناك الكثيرون الذين يرسلون إلينا الأموال وينفقونها ابتغاء وجه الله.
– والسلاح والعتاد.
– نشتريه بالطبع.
– ممن؟ ومن أين؟
– طالما أنك تملك المال لن تعدم الحصول على السلاح والعتاد.
– أعتقد أن هذا السلاح أمريكي الصنع، رأيت ذلك محفورًا على مقبض البندقية، من الواضح أيضًا أن هذه السيارات أمريكية ويابانية، سيارات فورد وتويوتا ذات دفع رباعى، إنها حديثة الطراز.
– بالطبع، {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ} [الأنفال: 60].
– وأعدوا لمن؟ للمسلمين؟ أعتقد أنك بحاجة لقراءة وتفسير كتاب الله مرة أخرى، أردت أن أسألك في أي سورة تقع هذه الآية؟ وفيمن نزلت هذه الآية؟
نظر إلي مؤمن بازدراء وإستخفاف وقال له في تحد:
– لن أجيبك لأننا لا يعنينا ما تسأل عنه، لا يعنينا إلا تطبيق شريعة الله.
– يجب أن تفهموا القرآن وتتدبروه جيدًا ولا تفتروا على الله الكذب، لقد أمرنا الله أن نقاتل من قاتلنا وأن نعد لهم كل وسائل القوة لكي ندافع عن أنفسنا ومقدساتنا وديننا، الأولى بكم أن تقاتلوا من اغتصب أرضنا ويتم أطفالنا ورمل نسائنا، لا أن تقاتلوا المسالمين العزل سواء أكانوا ملسمين أم مسيحيين أويهود. هل أمرنا الإسلام بقتل من هم على غير ديننا؟ هل أمركم دينكم بقتل الأبرياء العزل؟ هذه هي الآية 60 من سورة الأنفال إن لم تخنِ الذاكرة، وقد أمرنا الله سبحانه وتعالى أن نعد كل ما نستطيع لمواجهة أعدائنا وأوصانا الله برباط الخيل كرمز لكل سلاح، وجاءت قوة نكرة لتشمل كل ما يستطيع المسلم إعداده، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة، وأهلها معانون عليها، ومن ربط فرسًا في سبيل الله كانت النفقة عليه، كالماد يده بالصدقة لا يقبضها.
والأحاديث الواردة في فضل ارتباط الخيل كثيرة، وفي صحيح البخاري، عن عروة بن أبي الجعد البارقي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة: الأجر والمغنم، أما قوله تعالى ) وَمَا تُنفِقُوا مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لَا تُظْلَمُونَ) معناه أنكم مهما أنفقتم في الجهاد، فإنه يوفى إليكم على التمام والكمال، ولهذا جاء في حديث رواه أبو داوود: أن الدرهم يضاعف ثوابه في سبيل الله إلى سبعمائة ضعف، ولا يكون التصدق على المسلمين فقط، إن الله أمرنا نتصدق على كل من سألنا حتى لو كان على غير ديننا. أتعلم تفسير من هذا؟ إنه تفسير إبن كثير.
طأطأ رأسه في صمت، لم يجد من الكلمات ما يسعفه مما شجع مؤمن على الاستمرار.
– أي عقل هذا وأي منطق ذاك الذي يجعلك تشتري السلاح ممن تسمونهم بالكفار لتقتلوا بهم الأبرياء سواء أكان مسلمين أم غير ذلك؟
– يا لك من علماني حقير.
– علماني؟؟ أتقول علماني؟ هل تعرف حتى معنى كلمة علماني؟
ضحك ضحكة عالية ونظر إلى مؤمن وقال في هدوء وثقة:
– لا تذهبن بك الظنون، لست على هذه الدرجة من الجهل، لقد درست في أمريكا، كنت على وشك الحصول على درجة الماجستير، لكن حمدًا لله أن الله انتشلني من هذا الهراء.
التفت وراءه في دهشة وقد اتسعت حدقتا عيناه فاستطرد الخاطف قائلًا:
– لا تعجب كثيرًا! إن لي نظريتي الخاصة، لقد قرأت إدوارد سعيد وهومي باهبا وفرانس فانون وسبايفاك وجميع من كتبوا عن نظرة أمريكا والأوروبيين (Colonizer) للعالم الثالث. (Colonized).
– هذا ما يسميه إدوارد سعيد (Orientalism).
– بالضبط، إنهم ينظرون إلينا على أننا مخلوقات أدنى من الجنس البشري، غير قادرين على أن ندبر أمورنا بأنفسنا، عبء الإنسان الأبيض والعهد الذي يتخذونه على أنفسهم بتعليمنا وتثقفينا وإدارة شئوننا بدلًا منا.
– ولذلك فإنكم تشترون منهم السلاح لتقتلوا بهم المسلمين والأبرياء! يا له من تناقض شاذ غريب!
– نحن نريد أن نرد المسلمين إلى دينهم حتى نقود العالم فيما بعد، نحن نسعى لأستاذية العالم ونشر الإسلام، نحن نبتغي العزة بالإسلام فقط.
– نشر الإسلام بالقتل والسبى والتشريد والاغتصاب؟
– نبل وسمو الهدف لا يجعلنا نتطرق للوسائل، أحيانًا قد تضطر لبعض الأخطاء البسيطة في سبيل تحقيق ما هو في صالح البشرية.
– نظرية ميكيافيلية حقيرة عفنة.
وهنا التفت وراءه ليكمل كلامه إلا أن رصاصة أطلقت من مكان قريب واخترقت الأرض بين قدميه، كان لدوي الرصاصة أثر رهيب في نفسه، نظر أمامه مشدوهًا فاغرًا فاه، وأنزل يديه في حركة عصبية تلقائية ونظر أمامه يستطلع مصدر الرصاصة فوجد أمامه شخصًا يرتدي بدلة عسكرية على بعد أمتار قليلة تمكنه من الاستماع إلى الحديث الذي دار بينهما، نظر إليه نظرة تحد واشمئزاز في الوقت ذاته وقال له:
– كفى ثرثرة وهرطقة، امضِ للأمام في صمت، ارفع يديك كما كانت ولا تلتفت خلفك، والتفت للخاطف الآخر:
– تركي، توقف عن هذا الهراء وانتبه لعملك.
انضم الأسرى إلى بعضهم البعض عندما وصلوا إلى البوابة المؤدية إلى صالة الوصول، أخذوا يجمعون جوازات سفرهم ويأخذونها منهم بالترتيب، التصق الأسرى ببعضهم البعض تحت وطأة شعور مشترك غير معلن كما لو كانوا يحتمون ببعضهم البعض، كما لو كانوا يشكلون درعًا دفاعيًا ضد الخاطفين.
كان مؤمن يقف إلى جانب الآخرين عندما اقترب تركي منه وقال له:
- سوف يكون لنا لقاء آخر يا المصري.