صديقي العزيز، ستُسَرُّ بلا شكٍّ لسماعِ نبأ المشفى الذي أنُشئ حديثًا في لوجفيل. لقد
توجَّهتُ لزيارته منذ أيام قليلة بصُحبة السيد ميركل؛ وهو محامٍ من بوسطن، التقيتُه
مصادفةً على متن القطار. وفي طريقنا إلى هناك، قصَّ عليَّ قصةً أثارت اهتمامي للغاية،
حول التبرُّع بهذه المؤسسة، من جانب الراحل لورين جينكس، الذي يدين العالم لسخائه
المُتميز، بأعمالٍ خيريةٍ لا تقل جِدَّة في فكرتها عن نُبل غايتها وفعاليتها من الناحية العملية.
كما تعلم، كان السيد لورين جينكس رئيسًا لشركة ساكو ستوكنج آند سوك ميلز،
وقد كان رجلًا عزبًا واستثنائيٍّا للغاية. لقد جنى مليون دولار ذات يوم، عبر مراقبة النساء
وهُنَّ يشترين جوارب من متجرٍ رخيصٍ في شارع تريمونت رو. لاحظ السيد جينكس أن
الإناث اللاتي تردَّدن لوقت طويل في دفع خمسين سنتًا لقاء زوجَين من الجوارب البيضاء
الخالية من النقوش، دفعنَ بحماسخمسة وسبعين سنتًا لشراء زوجَين لهما الجودة نفسها
مزيَّنَين بنقوشحمراء عند الكاحل. تبلغ تكلفةصناعة زوجَين من الجوارب اثنين وعشرين
سنتًا، وتُكلِّف طباعة النقوش الحمراء رُبع سنت.
هذه المراقبة كانت الأساسالذي بنى عليه جينكسثروته العظيمة. » : قال السيد ميركل
على الفور توقَّفت شركة ساكو ميلز عن صنع الجوارب الخالية من النقوش، ومنذ ذلك
الحين لم يصنع جينكس شيئًا غير الجوارب المزينة بنقوش حمراء، والتي باعها بالتجزئة
بستين سنتًا. حُكي لي أنه ما من امرأة تحت سن الخامسة والستين في ماساتشوستس، أو
نيوهامبشير أو مين أو فيرمونت، لم تمتلك على الأقل نصف دستة من جوارب جينكس
«. العادية ذات النقوش الحمراء والستين سنتًا
يوم بين الكذابين
هذه الحقيقة ستُثير اهتمام السيد ماثيو أرنولد. إنها تدل على أن الحلاوة » : قلت
«… والخِف
عذرًا. إنها تدل على أن جينكس كان رجلًا عمليٍّا، بجانب كونه فيلسوفًا. ورغم أنه »
كان مشغولًا في حياته، فقد أولى السياسة عظيم اهتمامه، ككلِّ المواطنين العقلاء. كما
كان أيضًا ضليعًا في علم الماورائيات. وقد اتبع إلى حدٍّ بعيدٍ التفكير التأملي المعاصر، وكان
يميل إليه حتى قبل وفاته بوقتٍ قصير؛ إذ تحوَّل إلى المدرسة الهيجلية. وفي منتصف كلِّ
صيف، كان يترك شركتَه تُدير نفسها بنفسها، ويذهب بمرح إلى مدينة كونكورد ليستمع
إلى المحاضرات في بستان التفاح. في رأيي الشخصيأن السادة أفلاطون وكانط وشركاءهما
استنزفوه كثيرًا مقابل هذا الامتياز. ولكن جينكس اكتسب في كونكورد أفكارًا جديدة، فيما
«. يخصواجبه نحو بني جنسه
توقَّف السيد ميركل لبرهة ليُناول المحصِّلَ تذكرته.
في العام الأخير من حياته، بقدر ما كان معروفًا » : ثم أكمل السيد ميركل حديثه قائلًا
عنه أنه غريبُ الأطوار وخيِّر ولا أسرة له، فإن جينكس أحُيط كثيرًا بأنُاسٍ سَعَوا إلى توجيه
اهتمامه إلى برامج متعددة من أجل تحسين حياة الجنس البشري. وقبل وفاته بأسبوع،
«. أرسل في طلبي
ميركل، أريد منك أن تكتبَ لي وصيةً مُحكمة؛ بحيث لا يستطيع أيُّ مُحتالٍ » : قال لي
«. في ساحة بيمبرتون النَّيْل منها
«؟ حسنٌ، ما هي وصيتك الحالية يا جينكس » : قلت له
أرغب في التبرع بثروتي كلِّها لصالح إنشاء مؤسسة، خطرت لي فكرتها في » : قال
«. كونكورد
لا شأن لي. أَهدِر مالك الطيب الذي جَنَيته من الجوارب » : قلتُ بشيء من الحدة
المنقوشة في طاحونة هواء كونكورد ودعه يَطير في الهواء … إنه عملٌ ختاميٌّ جيد، بالنسبة
«. إلى فيلسوف صيفي
ليست » : وخِلتُ أنني رأيتُ ابتسامة في زاوية فمه، ثم تابع «. مهلًا » : قال جينكس
مدرسة كونكورد هي ما أريد التبرُّع له، رغم أنني لا أنُكر أنه قد تكون هناك آمال معينة
وبعدئذٍ أخذ «؟ في البستان وما حوله. لكن ما الحكمة في إنفاق المال لتعليم الحُكماء الحكمة
يسرد خطته النبيلة للمؤسسة التي ستكون مشفًى للكذابين.
كان القطار يجرُّ عرباته إلى رصيف محطة لوجفيل.
بعد أيام قلائل، مات ذلك المواطن » : تابع المحامي قائلًا بينما ننهض من مقاعدنا
البعيد النظر والمهموم بالعمل العام. وبموجب بنودِ وصيته، يُخصَّصللمشفى دخلٌ يبلغ
مليونًا و ٥٠٠ ألف دولار ما بين سندات حكومية، وأوراق مالية سداسية في ماساتشوستس،
وأسهم في بورصتَي بوسطن وألباني، وصكوك رهن عقاري من الدرجة الممتازة في عقارات
نيو إنجلاند، مُخصَّصة للمشفى، تحت إشراف ثلاثة عشر من الأوصياء. أما طريقة إدارة
«. التركة تحت وصايتهم، فستطَّلع عليها بنفسك في غضون بضع دقائق
قابلَنا لدى باب المشفى رجلٌ محترمٌ طلق المحيَّا، تحدَّث بلكنة ألمانية بعض الشيء،
وعرَّفنا بنفسه بصفته المشرف المساعد.
«؟ معذرةً، لكن مَن منكما المريض » : قال بتأدُّب
أوه، لا أحد منا. أنا المستشار القانوني لمجلس الأمناء، وهذا » : أجاب ميركل ضاحكًا
«. الرجل هو مجرَّد زائرٍ مهتمٍّ بأعمال المشفى
«؟ حسنٌ، فهمت. هلا تفضلتما بالسير في هذا الاتجاه » : قال المشرف المساعد
من فضلك، دوِّن اسمك في سجل » : دلفنا إلى المكتب، وناولني دفترًا وقلمًا، وقال لي
فعلتُ ذلك، ثم التفتُّ لأتحدَّث إلى ميركل، لكن المحامي كان قد اختفى. «. الزوَّار
إن نظامنا بسيط للغاية؛ فالأساس النظري الذي تستند إليه » : قال المشرف المساعد
المؤسسة هو أن عادة الكذب، التي تُصبح مزمنةً في كثير من الأحيان، مرضأخلاقي؛ مثل
اعتياد السُّكْر، ويُمكن علاجه بصفة عامة؛ فنحن نأخذ الكَذَّاب الذي يُسلم نفسه طوعًا
لنظامنا العلاجي، ونُخضعه لمدة ستة أشهر لعملية الإلزام. خلال هذه العملية، نحثُّه على
الكذب، ونُحيطه بالكذَّابين، من المكافئين له والمتفوِّقين عليه في مهارة الكذب، ونُمطره
بالأكاذيب، إلى أن يَتشبَّع بها تمامًا. وبمرور الوقت تتولَّد لديه ردة فعل، وعادةً ما يصير
المريض مُتعطشًا للحقيقة؛ وبذلك يكون مستعدٍّا لخوضالمرحلة الثانية من العلاج؛ فعلى
مدار النصف الثاني من السنة، تُنفَّذ الطريقة المعاكسة؛ إذ يُحاط الكَذَّاب المقيت الذي تشبَّع
بالكذب، بأشخاص صادقين، ويَجري تشجيعه على قراءة أدبيات واقعية بعناية، وبفعل
المحاضرات والقدوة والتأثير الأخلاقي المتبادَل، يتمكن من فهم كم أنه أجدر بالإكبار أن
يقول المرء الحق، لا أن يقول الباطل. وبعد ذلك نُعيده إلى العالم؛ ويلزم أنْ أقول إنَّ حالات
«. الانتكاس نادرة الحدوث
«؟ هل تجدون أشخاصًا غير قابلين للعلاج » : سألت
نعم، من وقتٍ إلى آخر. لكن الكذاب غير القابل للعلاج، وجوده » : قال المشرف المساعد
في المشفى أفضل من وجوده خارجه، ومن الأفضل بالنسبة إلى المجتمع الخارجي أن يكون
«. هنا
أتى أحدهم، جالبًا مريضًا جديدًا. وبعد الإرسال في طلب المشرف، دعاني المساعد إلى
سأبُيِّن لك كيف يعيش مرضانا، وكيف يستمتعون بوقتهم. سنمرُّ أولًا » : أن أتبعه. قال لي
«. — إذا سمحت — بالجناح الأيسر، حيث يمكن مشاهدة مرحلة التشبُّع بالكذب
تقدَّمني عابرًا رَدْهة إلى غرفة أكبر، مُؤثَّثة بأثاثٍ مريح، ويشغلها دستتان أو أكثر
من الرجال، بعضهم يقرأ، وبعضهم يكتب، بينما يجلس آخرون أو يقفون في مجموعات،
منخرطين في أحاديث مفعمة بالحيوية. في الواقع، لو لم يكن هناك قضبان حديدية على
النوافذ، لحسبتُني في غرفة استراحة تخصُّناديًا محترمًا. توقَّف مرشدي للتحدث إلى نزيلٍ
كان يُقلِّب بسأمٍ أوراق نسخة مهترئة من مغامرات البارون مونشهاوزن، وترَكني واقفًا
على مقربة من إحدى المجموعات، لأسترق السمع إلى جانبٍ من حوارِهم.
أحدثتْ صنارتيصريرًا، وانثنت من المنتصف، » : كان رجلٌ سمين أحمر الوجه يقول
ودارَ خيطُها كأنه خُذروف. أقول لك إنه لو لم يكن بيير تشافو حاضرالذهن بما يكفي
لِجذْب الطرف المناسب من بنطالي بخطَّاف القارب، لكنتُ قد سُحِبتُ إلى عمق البحيرة
في غضون ثانيتين أو أقل. حسنٌ يا سيدي، لقد تصارعنا لمدة ست وتسعين دقيقة كاملة،
وحينما فزتُ بصيدي وعدتُ به إلى الفندق ووضعته على الميزان، سجَّل سبعة وثلاثين باوندًا
«. وأحد عشر جزءًا من ستة عشر جزءًا من الباوند، سواءٌ صدَّقت ذلك أم لم تُصدِّقه
كلام فارغ، هذا » : قال رجل وديع ضئيل الحجم كان يجلس في الجهة المقابلة
«. مستحيل
ومع ذلك، » : بدا المتحدِّث الأول شاعرًا بالإطراء من جراء ذلك، ولفَّه السرور. ردَّ قائلًا
«؟ فالأمر حقيقي، أقسم بشرفي كرجل رياضي. لماذا تقول إنه مستحيل
لأنها حقيقة علمية مؤكَّدة؛ فمثلما يعلم جيدًا كلُّ صيادٍ حقيقيٍّ » : قال الآخر بهدوء
في هذه الغرفة، لا يوجد سمك سلمون مرقَّط في بحيرة موسيليمجونتيكوك يزن أقل من
«. خمسين باوندًا
بالطبع لا؛ فقاع البحيرة غربالي — نوعٌ من تشكيلات » : تدخَّل متحدِّثٌ ثالث قائلًا
«. صخور الشستوز الغربالية — وكل الأسماك الأصغر من خمسين باوندًا تسقط من خلاله
ولماذا لا تسقط المياه من خلاله » : سأل المريض السمين بلهجة مفعمة بالانتصار
«؟ أيضًا
كانت تسقط بالفعل، إلى أن مرَّر مشرِّعو مين قانونًا يمنع » : ردَّ الرجل الوديع بجدية
«. ذلك