hindawiorg

Share to Social Media

في العشرين من مايو، من عام ١٨٨١ (والحديث على لسان جون نيكولاس، في غرفة التدخين
على مَتن السفينة جاليا)، قضيتُ النهار وجزءًا من الليل في منزل صديقي العزيز سكوت
جوردان، رئيس سكك حديد بلومزبرج ولايكامينج. يَمتلك جوردان منزلًا في أحد الأحياء
الضاحوية الساحرة على بُعد بضعة أميال مِن فيلادلفيا، وهو رجل ذو شخصية تستحقُّ
الإشادة.
إنه رجل شديد الإيمان بالخُرافات، وعمليٌّ لأقصىحدٍّ،صِنف من الرجال لا يَسَعُ الكثيرَ
من الناس إلا أن يُصدقوه دون تردُّد. ويشهد على صدقه وحسِّه التجاري السليم نصفُ
دَزِينَة من السكك الحديدية، مصمَّمَة ومبنية ومُجهزة، تعود أرباحها إلى أربابها الشرعيين،
وإذا كان ثَمةَ حاجة إلى دليل آخر على خبرته بشئون الحياة والنَّاس، فقد يكون موجودًا
في خزينته المليئة بالأوراق المالية القابلة للتداول. ويقترب سكوت جوردان في قدرته على
إدارة الآخرين والتعامل مع المشروعات المعقدة، في تصوري، من توماس براسي أكثر من
أي مُقاول رأسمالي آخر أعرفه. إن اسمه في أي مجلس إدارة هو ضمانة لإدارةٍ محافِظةٍ،
حكيمةٍ، لكنها ليست أبدًا بالجَبَانة. أتمنَّى لو تولَّى الاعتناء بشئوني المالية المُتواضِعة، إلى
آخر دولار أمتلِكُه. إنه رجل عجوز ودُود، ويحبُّ أن يكون في أعيُن الآخرين رجلًا ذا ذوقٍ
رفيع. إنه بكل معنى الكلمة رجل واسع الخبرة بدروب الحياة، ورغم اهتمامه بشئون هذا
العالم، فإنه يقضينصف حياته تقريبًا في عالمٍ آخر؛ عالمٍ غريب حيث يُعزف على البانجو
وتُدقُّ الأجراس بلا أيادٍ بشرية، وحيث تمتدُّ الأذرع الشَّبحيَّة من وراء ستائر المجهول،
وتَلتقي فيه أشكال مُعتمة من كل عصرمن عصور التاريخ وجهًا لوجه.
كورو الرائع
إن بيت جوردان ملاذٌ جاذب لجميع مُحترفي الشَّعوَذَة في مجال السموِّ الروحاني؛
فهم متعلِّقون به كالطُّفَيليَّات، ومنهم الوسطاء الرُّوحانيون، والمُنوِّمون المغناطيسيُّون،
والمعالجون الروحانيون، والأشخاص ذَوو القدرة على تجسيد الأرواح، والمشعوذون،
والعرافون، والمَجذوبون من كل نوع، ذكورًا وإناثًا، صغارًا وكبارًا، أثرياء ومُعدِمين.
أخبرني جوردان أن ضيافته لهذه الطبقة الراقية تُكلِّفُه اثنَي عشرَ أو خمسةَ عشر
ألف دولار سنويٍّا. ومع ذلك فهم يَلْقَون منه كل الترحاب باعتبارهم وسائل مساعدة في
بحثه الدءوب عن الحقيقة. إنهم يعيشون مثل الأمراء في منزله؛ فيأتي كل صباح حاملًا
معه مكافآتهم الشرفيَّة عن أداء الليلة السابقة. ويظل جوردان علىضيافته الملكية لضيوفه
المصريين واليونانيين إلى أن يكتشفزيفهم في إحدى حِيَلهم الأضعفمن المعتاد؛ فيُخاطبهم
كالوالد المَفطور قلبه، ويُرسلهم مجانًا عبر أحد خطوط السكك الحديدية التابعة له، وهو
على أتمِّ الاستعداد لخوضالتجربة نفسها مرةً أخرى.
ستفهمون الآن، أيها السادة، أنَّني طالما تطلعتُ باهتمامٍ كبير لزيارتي إلى بيت
جوردان.
على الرغم من أن العائلة كانت تَستضيف العديد من أرباب الِمهَن، وجدت أنني كنت
الضيف الاجتماعي الوحيد. كنت وحدي من يُدرك هذا الاختلاف، لكنَّ جوردان لم يكن
يُدرك ذلك قط. لا يُمكنك إلا أن تزداد إعجابًا بالرجل العجوز، لكِياسته الرائعة ذات الطابع
التقليدي القديم في التعامل مع الشِّرذِمة الرديئة السمعة من الدَّجَّالين.
إنهم هم مَن يتعَطَّفون عليَّ عندما » : كان دائمًا ما يقول بقدْرٍ من التباهي والفخر
يُشرِّفونني بصحبتهم؛ ألا يَجلبون معهم الملوك والشعراء والفنانين العظماء والحكماء
«؟ والصفوة من كل قرن
ولو أن لشهادة جوردان في هذا الأمر نفسَ ما لها من ثِقَل في أي قضية من قضايا
السكك الحديدية في أي محكمة في بنسلفانيا، فهذا يعني أن أحكم وأفضل الناس من كل
قرن، من سُقراط وحتى جورج واشنطن، قد زاروا مجلسه الخاصبالفعل.
على مائدة العشاء كان مِن دواعيسروريأن أقابل السيد جون روبرتسوأخاه ويليام،
الوسيطين الروحانيَّين المشهورَين؛ برغم ما بدا على وجهَيهما من وضاعة وخسة. قُدِّمتُ
أيضًا حسب الأصول إلى السيد هيلدر، وهو سيد نبيل ذو مظهر تبدو عليه آثار السُّل، يُقال
إنه يَمتلك قدرات متطوِّرة رائعة. كما التقيتُ بسيدة بدِينة نسيتُ اسمها، ولكنها تمارس
الطب استلهامًا من الدكتور راش الشهير. وقابلت السيدة بلاكويل، الوسيطة الروحانية،
وابنتَها، التي قُدِّمت إليَّ باسم السيدة وورك، وهي شابة ذات عينين سوداوين، قيل إنها
جميلة كالزهرة ووسيطة واعدة ذات موهبة نادرة. ولكنني لم أرَ السيد وورك قط.
ظننتُ أن الفتاة الجميلة والوسيطة الواعدة نظرت إليَّ بعينَين ودُودتين أثناء العشاء.
أما سلوك أصحاب المهنة الآخرين، فكان يحمل دلالة مُريبة على وجود تحفُّظ تجاهي؛ فقد
كانوا يُراقبونني خُفْية، وكأنهم يحاولون تخمين مدى حدة ذكائي. فتعمدتُ إلقاء بعض
التعليقات التي بدت أنها تطمئنهم. كان جوردان مرحًا، وغير مُدركٍ إطلاقًا لما يدور على
هامش العشاء.
شهدَت مكتبةصديقي بعد العَشاء مُمارسات الشعوذة المعتادة؛ حيث خُفِّضت الإضاءة
إلى النصف. وكان ثَمة غرفة مُلحقة صغيرة، مفصولة برواق عن المكتبة، بمنزلة حجرة
خاصة. كَبَّدَني ويليام روبرتس عناء ربطه بحبل غسيل. وبعد أن استحضر بعضًا من
الأرواح لشخصيات عادية تمامًا، أعلن أن الظروف غير مواتية. وبناءً على طلبٍ مُلِحٍّ
من جوردان، دخلت السيدة بلاكويل إلى المقصورة، فعُرضت فقرة الأيدي والوجوه البيضاء
الغامضة بين الستائر. كانت الأضواء لا تزال منخفضةً، وبدأت أصابع السيدة وورك تُلامس
القادمة عبر » و « أيها الاسكتلندي » أصابع البيانو، لتَشْدو بصوتٍ موسيقيٍّ عذب أغُنِيَتَي
وأدى التكرار المُستمر للنغمات في النهاية إلى استحضار شكلٍ بالحجم ،« حقول الشوفان
الطبيعي في سحابة من اللون الأبيض، تبيَّن أنه شبح ماري، ملكة اسكتلندا. اختفَت ماري
وعاودت الظهور عدة مرات. في النهاية، وكما لو كانت تستجمع الشجاعة، غَامَرت بالخروج
من المقصورة، وتقدَّمَت ياردة أو أكثر داخل الغرفة، وانحنَت احترامًا للحاضِرين. همس لي
جوردان لافتًا انتباهي للجمال السَّماوِيِّ المُتجلِّي في وجهها وثيابها. وبنَبرة مُوقَّرة سألها عما
إذا كانت ستَسمح لشخصٍغريب بالاقتراب. وبانحناءةٍ خفيفة من رأسها منحتْني الموافَقة.
وقفتُ أمام الملكة وجهًا لوجهٍ. وسمَحَت لي بوضع يدي بخِفَّة لثانية واحدة على إحدى ثنيات
الثوب الذي يَلفُّها. كان وجهها قريبًا جدٍّا من وجهي، حتى إنني في الضوء الخافت رأيتُ
عينَيها تلمعان من خلال ثُقبَي عينَي قناعِها المضحك المصنوع من الورق المعجَّن.
كانت رغبتي في الإمساك بماري وفضْح خدعتها السخيفة لا تكاد تُقاوَم. يبدو أنني
رفعت يدي دون وعي؛ إذ تملَّك الخوف الملكة واختفَت خلف الباب. عندئذٍ ترَكَت السيدة
وورك البيانو ورفَعَت الإضاءة. وقرأتُ في النظرة التي رمقَتْني بها استعطافًا مثيرًا للشفقة.
«! جميلة جدٍّا، ورائعة للغاية » : تهلَّلَ وجه جوردان بالرضا، وقال مُغمغمًا
0 Votes

Leave a Comment

Comments

Write and publish your own books and novels NOW, From Here.