استيقظ شادي من غفوته على صوت الطيار، الصادر من ميكروفون الطائرة، معلناً بلغته الإيطالية انتهاء الرحلة والوصول إلى مطار القاهرة الدولي، مؤكداً على ضرورة التزام الركاب بمقاعدهم وربط أحزمة الأمان استعداداً للهبوط.
نظر شادي إلى ساعته التي كانت تشير إلى الثالثة صباحاً بتوقيت مدينة ميلانو بإيطاليا، أي الرابعة صباحاً بتوقيت القاهرة، تعجَّب لشعوره بأن فترة نومه قد استغرقت أربع دقائق فحسب، وليس أربع ساعات، فقد كان يوَد آنذاك لو كان باستطاعته أن ينام أربعين عاماً، ليس لإرهاقٍ أو نعاسٍ قد سيطر عليه، ولكن هرباً من كل شيء، من التفكير فيما حدث، وما ترتب عليه من قرارٍ أهوجٍ بالعودة، ومن كل ما هو مقبل عليه دون أن يدري إن كان حقاً على استعداد لمواجهته، أم أن هذه المواجهة كان عليها ألا تأتي أبداً.
شرعت الطائرة في الهبوط، وما إن احتكت عجلاتها بمَدرج المطار، حتى شعر شادي بانقباض عنيف في صدره وغصة تحتل حلقه لتحول بينه وبين أنفاسه، فقد وجد نفسه فجأة تحت وطأة شعور غريب ظن أنه قد سقط من ذاكرته إلى الأبد، ليكتشف بهذه اللحظة أنه لم يفارقه يوماً، بل أنه هو من تعمد أن يتناساه هرباً من جرحٍ قديمٍ كان يظن أنه استطاع طَمْس أثره ببراعة، ليعود اليوم ويفتحه من جديد إثر قراره المتهور الذي لم يكتشف تبعاته بعد، ذات الانقباض، وذات الغصة، ذات الشعور الذي سيطر عليه والطائرة تقلع نحو المجهول قبل أكثر من عشرين عامٍ، لم يتغير شيء سوى اتجاه الرحلة، فاليوم يعود من حيث أتى، ولكنه لم يَعُد ذلك الفتى ذو الثالثة عشر من العُمر الذي غادر برفقة والده دون أن يدري إلى أين هو ذاهب أو متى سيعود، بل عاد رجلاً في الخامسة والثلاثين من عمره، رجلٌ يختار لأول مرة أن يواجه الماضي بمحض إرادته، ويا لها من مواجهة!
توقفت الطائرة وسادت الحركة في جميع أرجاءها، بين ركابٍ ينهضون عن مقاعدهم وآخرين يجمعون أمتعتهم استعداداً للخروج، أما شادي، فقد كان لا يزال جالساً بمكانه دون حـِراك، بدا لحظتها وكأنه قد استوعب لتوَّه أن ما من طريق يسلكه للرَجعة، اقتربت منه المضيفة لتسأله إن كان ينتظر شيئاً، وَدَّ آنذاك لو استطاع أن يرجوها لتسمح له بالبقاء على متن الطائرة حتى يغادر معهم مرة أخرى في الرحلة العائدة إلى ميلانو، ولكنه تراجع في آخر لحظة عن أفكاره الطفولية هذه، فابتسم لها نافياً، ثم نهض عن مقعده وجذب حقيبته مغادراً الطائرة، ليدلف إلى داخل المطار.
وقف شادي في طابور الانتظار لإنهاء إجراءات الدخول متأفّفاً، خوفاً من أن يمتد الأمر لساعات طويلة نظراً لازدحام الطائرة بالركاب، ولكنه بمجرد أن نظر إلـي الضابط تنفس الصعداء وقد أدرك أنه لن ينتظر طويلاً، فقد ارتسمت على وجهه ابتسامة نمطية مرحِّبة، رغم النعاس الذي كان يغالب جفنيه، بدا وكأنه مُدَرَّب على ذلك، وأن هذه الابتسامة ليست سوى قطعة من زي العمل الذي يرتديه، اقترب شادي من الضابط وقد حان دوره، ثم مَد يده إليه بجواز سفره الإيطالي قائلاً:
– اتفضل.
نظر إليه الضابط متسائلاً:
– مصري؟
أجاب شادي باقتضاب:
– أيوة.
– واضح إن حضرتك ماجيتش مصر من زمان.
– من أكتر من عشرين سنة.
قال الضابط وهو يتصفح جواز سفر شادي دون أن ينظر إليه:
– ياه.. ده عُمْر بحاله.
فجأة تنبَّه الضابط واستيقظت خلايا عقله الخاملة وهو يعيد قراءة اسم شادي متمهلاً، ليردده بصوتٍ مسموعٍ:
– شادي رأفت خليل الحجّار.. حضرتك ابن رجل الأعمال رأفت الحجّار؟
– أيوة، حضرتك تعرفه؟
– ابتسم الضابط ابتسامة بدت لشادي مُتهَكِّمة أكثر من كَونها ودودة، مما أثار استفزازه، ثم أكمل قائلاً:
– ومين في مصر مايعرفهوش؟ هو الوالد ساب مصر فجأة ليه صحيح؟
تأفف شادي، ثم أجاب بنفاذ صبر:
– أسباب شخصية، أي أسئلة تانية؟
اتسعت ابتسامة الضابط الخبيثة، ثم قال وهو يمد يده بجواز السفر إلى شادي بعد أن قام بختمه:
– لأ خلاص كده، حمد الله على السلامة.
رمق شادي الضابط بنظرة غاضبة، ثم جذب منه جواز السفر ورحل دون أن يجيبه، شعر شادي آنذاك بالدماء تغلي في عروقه وتندفع إلى رأسه الذي كان على وشك الانفجار، أخذ يتساءل تُرى متى ستنفَك عقدة لسانه، متى يستطيع أن يردع كل من يتعرض له بسوءٍ سواء كان ذلك كلمة، أو نظرة، أو حتى ابتسامة سخيفة كابتسامة الضابط، تلك الابتسامة التي كان يدرك مغزاها جيداً.
في صالة الوصول كان الجميع يقف متأهباً، الكل يستعد لاصطحاب من جاء من أجله، منهم مَن جاء لاصطحاب أخيه، ومَن غلبه الشوق وأتى لاستقبال حبيبته، ومَن وقف أبناؤه يترقبون وصوله بحماسٍ يملأ عيونهم الناعسة، في انتظار ظهوره ليركضوا إليه، ومَن أتى لاصطحاب الفوج السياحي التابع للشركة التي يعمل بها، الجميع ينتظر، الجميع لديه ما يتطلع إليه وينتظره، حتى وإن كان الانتظار سيمتد إلى الساعات الأولى من الفجر، أما هو، فقد مضى في هدوءٍ تامٍ دون أن يلتفت إليه أحد، وكأنه طيفٌ لا يستطيع أحد رؤيته، في هذه اللحظة، تملَّك شادي شعوراً بالخواء والوَحشة، ولكن ما الجديد؟ منذ متى وأي شخصٍ يهتم لميعاد قدومه أو مغادرته؟ حاول أن يتذكر آخر مرة شعر فيها بلهفة حقيقية من شخصٍ ينتظره، فلم يحضر إلى ذهنه سوى صورة أمه ووجهها الباسم وهي تفتح له ذراعيها لتضمه إليها بشوقٍ عند عودته من المدرسة، ويا لها من صورةٍ قديمة!
أفاق من شروده على صوت سائق الأجرة الذي اقترب منه متسائلاً:
– في حَد مستنيك يا أستاذ؟
– لأ.
فما كان للسائق سوى أن جذب العربة التي تحمل الحقائب، متجهاً إلى سيارته، وقد قرر اصطحاب شادي نيابةً عنه، ثم سأله بحماس:
– على فين إن شاء الله؟
أجاب شادي مُستسلماً:
– الزمالك.
– فين في الزمالك؟
أخرج شادي جواز سفره المصري ليتأكد من العنوان، ثم قال:
– شارع طه حسين.
جلس شادي إلى جانب السائق، وقد أسند رأسه إلى زجاج النافذة، أخذ يراقب الطريق متأملاً شوارع القاهرة الخالية ليلاً، كَم تغيرت! ذلك التغيُّر الذي جعله يشعر بأنه في مكانٍ لا يعرفه، وليس بلده الذي نشأ فيه وقضى به ثلاثة عشر عاماً من عُمره، اللعنة على هذا الشعور بالغُربة الذي يلازمه أينما كان!
وبالرغم من وابل الأسئلة الذي أخذ السائق يمطر به شادي طوال الطريق، إلا أنه لم يَكُن ينتبه إليه تماماً، لدرجة جعلت السائق يشعر أخيراً بالحَرَج ويتوقف عن تطفله، فقد كان كل ما يدور بذهن شادي آنذاك هو سؤال ضابط المطار المتهكِّم "هو الوالد ساب مصر فجأة ليه؟"، تُرى ماذا كان يقصد بالتحديد؟ أتُراه كان يقصد ما تردد لسنوات عن سُمعة أبيه بشأن قضية الأغذية الفاسدة وتجارته غير المشروعة؟ أم أنه كان يقصد ما كتبته الصُحُف عن حادث انتحار والدته؟
ذلك الحادث الذي لا تزال ملابساته غامضة بالنسبة إليه حتى الآن، وهل حقاً كان انتحاراً أم أنها قُتِلَت كما أُشيع آنذاك؟ إلى متى ستظل تطارده ألسنة الناس الذين يبدو أن عشرين عاماً لم يكونوا كافين بالنسبة لهم من أجل النسيان؟ تلك الألسنة التي منها هرب وإليها عاد.
بدَت أسئلة السائق المتطفلة آنذاك أكثر رحمةً وأخف وطأةً من تلك الأسئلة التي أخذت تنهال على رأس شادي تِباعاً وبلا توقف، ولكن مَن الذي تسبَّب في كل ذلك؟ من الذي بغموضه وصمته أحال حياته إلى جحيمٍ؟ فقط لو كان أجاب أسئلته، لو لم يمنعه عن ذِكر الأمر أو مجرد التفكير فيه، لو كان صادقاً معه منذ البداية وأخبره بالحقيقة كاملة -أيّاً كانت- بدلاً من أن يتركه فريسة لألسنة الناس وعيونهم، لما جاء ليبحث عنها بنفسه، ولكن هذا هو رأفت الحجار.