hindawiorg

Share to Social Media

مِن بين كل العلوم التي حيَّرت بني آدم، كان علم النفسوالعلاقات غير واضحة المعالم التي
تربط بين العقل والجسد هي أكثر ما جذب البروفيسور العلَّامة فون بومجارتن. ونظرًا
لكونه عالِم تشريحٍ شهيرًا، وكيميائيٍّا مُتبحِّرًا، ومن أوائل علماء الفسيولوجيا في أوروبا، فقد
أراحه أن ينصرف عن هذه العلوم، وأن يستخدم هذه المعرفة المتنوِّعة في تحقيق أثر في
دراسة الرُّوح والعلاقات الغامضة بين الأرواح. في بادئ الأمر، عندما بدأ وهو شاب يخوض
في أسرار التنويم المغناطيسي، بدا كأن عقلَه يَهيم في أرضغريبة ليس بها سوى الفوضى
والظلام، خلا أنه من آنٍ لآخر كانت تتلألأ أمامه حقيقة مستقلَّة لا يُمكن تفسيرها. إلا أنه
مع مرور السنوات وازدياد مخزون المعرفة القيِّم لدى البروفيسور، بدأ كثير من الأمور
التي بدت غريبة وغير ممكنة التفسير تتضح معالمه أمام ناظرَيه؛ فالمعرفة تولِّد المعرفة
مثلما يولِّد المالُ المالَ. وأصبحت تيارات الفكر الجديدة مألوفة بالنسبة له، وأدرك صلاتٍ
تربط بين أمور كانت غير مفهومة ومثيرةً للدهشة. ومن خلال تجارب امتدت لمدة تزيد على
عشرين عامًا أصبحت لديه قاعدة من الحقائق، طمح إلى أن يؤسِّسعليها علمًا دقيقًا جديدًا
يجمع بين التنويم المغناطيسي والروحانية وكل الموضوعات المشابهة. بالإضافة إلى ذلك،
فإن معرفتَه التفصيلية بالأجزاء الشديدة التعقيد في علم فسيولوجيا الحيوان، الذي يتناول
التيارات العصبية وعمل الدماغ، قد ساعدته كثيرًا؛ حيث كان أليكسيس فون بومجارتن
أستاذًا جامعيٍّا يَشغل أحد الكراسيالملَكية في جامعة كاينبلاتس في مادة الفسيولوجيا، وفي
متناوله كل موارد المُختبَر اللازمة لمساعدته في إجراء أبحاثه العميقة.
كان البروفيسور فون بومجارتن طويلًا ونحيلًا، ذا وجه نحيف وعيون رمادية قاتمة،
لامعة وثاقبة على نحوٍ مميَّز. ومن كثرة التفكير كان يُقطِّب جبينه ويضمُّ حاجبَيه الكثيفَي
الشعر، فكان يبدو عابس الوجه دائمًا؛ مما جعل الناس يَنخدعون كثيرًا في شخصيته؛
تجربة جامعة كاينبلاتس الكبرى
إذ كان رقيق القلب على الرغم من مظهره الصارم. وكانت له شعبية بين طلابه الذين
كانوا يتجمَّعون حوله بعد المحاضرات ويَستمعون بحماس إلى نظرياته الغريبة. وكان في
كثير من الأحيان يطلب متطوِّعين من بين الطلاب ليُجري عليهم بعضالتجارب، وفي نهاية
الأمر لم يبقَ طالبٌ في الصف لم يدخل في يوم من الأيام في غشية تنويم مغناطيسي على يد
البروفيسور.
لم يكن من بين متطوعي العلم الشباب من يُضاهي حماسة فريتس فون هارتمان.
ولطالَما وجد زملاؤه الطلاب أنه من الغريب أن يُكرِّس فريتس، ذلك الشاب الجامح
والمتهوِّر والجريء المولود في راينلاند، هذا الوقت والجهد لقراءة أعمال معقَّدة ولمساعدة
البروفيسور في تجاربه الغريبة. إلا أن فريتس كان في حقيقة الأمر ماكرًا وداهية؛ فقبل
أشهُر وقع في حب ابنة المحاضر؛ إليزا، الشابة ذات العينَين الزرقاوَين والشعر الأصفر.
وعلى الرغم من أنه نجح في أن يَجعلها تعترف بأنها مهتمَّة بتودُّده لها، فإنه لم يجرؤ
مُطلقًا على التقدم لعائلتها كعريسٍ رسمي؛ ومن ثم كان سيجد صعوبة في رؤية الفتاة لو
أنه لم يتَّخذ مساعدته للبروفيسور ذريعةً لذلك. وبهذه الطريقة كان يُدعَى بشكل مُتكرِّر
إلى منزل العجوز؛ حيث وافقَ بمحض إرادته على أن يُجري عليه البروفيسور أي تجربة
بأيِّ طريقة ما دام سيحظى بنظرة مبهجة من عيون إليزا أو بلمسة من يدها الصغيرة.
كان الشاب فريتس فون هارتمان على قدرٍ كافٍ من الوسامة، وكان أيضًا سيرث
ثروةً كبيرة بعد وفاة والده. وعلى الرغم من أن كثيرًا من الناس سيجدونه عريسًا مناسبًا؛
فقد كانت السيدة زوجة البروفيسور تَنزعج من وجوده في المنزل، وتوبِّخ زوجها في بعض
الأحيان لأنه سمح لهذا الذئب بأن يَحوم حول حَمَلهم. في حقيقة الأمر، كانت سُمعة فريتس
سيئة في جامعة كاينبلاتس؛ فلا يوجد شغب أو مشاجرة، أو أي مصيبة يجري تخطيطها
إلا وكان الشاب الراينلاندي قائدًا لها. لم يكن أحد يفوق هذا المتطوِّع الوحيد لهذه التجارب
في استخدام الألفاظ النابية، ومعاقرة الخمر، والمداومة على لعب القمار، وإضاعة الوقت.
ولا عجب إذًا في أن زوجة البروفيسور الصالحة وضعت الفتاة تحت جناحها، وتوجَّست من
نوايا متطوع التجارب البغيض. أما بالنسبة للمُحاضرالبارز، فقد كان منشغلًا بدراساته
الغريبة على نحوٍ منعَه من تكوين أي رأيٍ بخصوصهذا الشاب الخاضع للتجارب.
على مدار سنين كثيرة ظلَّ سؤالٌ واحد يفرضنفسه باستمرار على أفكار البروفيسور.
كانت كل تجاربه ونظرياته تدور حول فكرة واحدة، وكان البروفيسور يتساءل مائة مرة
في اليوم عمَّا إذا كان من الممكن أن تبقى الرُّوح البشرية خارج الجسم لفترة ثم تعود إليه
مرةً أخرى. وعندما خطرت هذه الاحتمالية على باله لأول مرة رفضها عقلُه العلمي؛ فهي
تتعارض بشدة مع الأفكار والآراء التي اكتسبها من تعليمه السابق. إلا أنه عندما توغَّل
في طريق البحث الأصلي تَحرَّر عقله تدريجيٍّا من أغلاله القديمة، وأصبح مستعدٍّا لمواجهة
أي استنتاج قد يوفِّق بين الحقائق. وقد كانت هناك أمورٌ كثيرة جعلته يعتقد في إمكانية
انفصال العقل عن الجسم المادي. وفي النهاية ظنَّ أنه من خلال تجربة جريئة ومُبتكَرة
يُمكن أن تُحسَم هذه المسألة على نحوٍ قاطع.
في مقالته الشهيرة، التي فاجأت المجتمع العلمي كله، عن الكيانات غير المرئية، ونشرتها
من » : في ذلك الوقت الدورية الطبية الأسبوعية الصادرة عن جامعة كاينبلاتس ذكر ما يلي
الواضح أنه — في ظل ظروف معينة — يمكن أن تنفصل الروح أو العقل عن الجسد، وفي
حالة الشخصالمنوَّم مغناطيسيٍّا يرقد الجسم في حالة جمود، في حين تغادره الروح. قد تَردُّ
بأن الروح موجودة لكنها في حالة نوم. وسأجُيبك بأن الأمر ليس كذلك، وإلا فكيف يمكن
تفسير ظاهرة الجلاء البصري التي أصبحت سيئة السُّمعة بسبب خداع بعض المُحتالين؟
لكن يمكن بسهولة إيضاح أنها حقيقة لا شك فيها. ومن خلال إجراء تجربة على شخص
يتسم بالدقة تمكنتُ بنفسي من الحصول على وصفٍ دقيق لما كان يحدث في غرفةٍ أخرى
أو في منزلٍ آخر. فكيف يمكن تفسير هذه المعلومات دون فرضية مغادرة رُوح الشخص
الخاضع للتجربة لجسده، وتجوُّلها عبر الفضاء؟ وتُستدعَى الروح للحظةٍ من قِبَل مُجري
التجربة؛ لتصف ما رأته ثم تطير مرة أخرى عبر الهواء. ونظرًا لأن الروح بطبيعتها غير
مرئية، فلا يمكننا رؤية قدومها وذهابها، لكننا نرى تأثيرها في جسد الخاضع للتجربة،
فهو تارةً متصلِّب وغير قادر على الحركة، وتارةً أخرى يكافح من أجل وصف صورةٍ
منطبعة في ذهنه لم تكن لتأتي له بطرق طبيعية. ولا يسعني سوى أن أرى طريقة واحدة
يمكن من خلالها إثبات هذه الحقيقة؛ فعلى الرغم من أننا في أجسادنا عاجزون عن رؤية
هذه الأرواح، فإن أرواحنا في حالة انفصالها عن الجسد ستكون مُدركةً لوجود الأرواح
الأخرى. ولذلك، وباختصار فأنا أنوي تنويم أحد الطلبة مغناطيسيٍّا. وبعد ذلك سأنُوِّم
نفسي مغناطيسيٍّا بطريقة أصبحَت سهلة بالنسبة لي. وعندها إذا ثبتَت صحة نظريتي
فلن تجد رُوحي صعوبةً في لقاء روح الطالب والتواصل معه؛ لأن كلتَيهما انفصلتا عن
جسديهما. وآمل أن أتمكَّن من الإعلان عن نتيجة هذه التجربة المثيرة في وقتٍ قريب في
«. دورية كاينبلاتس الطبية الأسبوعية
عندما وفىَّ البروفيسور البارع بوعده أخيرًا، ونشر سردًا لما حدث، كان السرد غاية في
الغرابة لدرجةٍ تسبَّبت في حالة عامة من عدم التصديق. وكانت تعليقات بعض الصحف
على الموضوع مسيئة للغاية لدرجة جعلت العالِم الغاضب يُعلن أنه لن يفتح فمه ثانيةً، أو
يشير إلى الموضوع بأيِّ طريقة، وقد التزم بهذا الوعد بمنتهى الوفاء. ورغم ذلك، فإن أحداث
هذه القصة قد جُمعت من مصادر موثوقة تمامًا، ويمكن الاعتماد على الوقائع المذكورة
باعتبارها صحيحة في جوهرها.
بعد فترة قصيرة من تصوُّر البروفيسور فون بومجارتن لفكرة التجربة السالفة الذكر،
كان يسير ذات مرة غارقًا في تأمُّلاته في طريق العودة إلى المنزل بعد قضاء يوم طويل في
المختبر، فقابل مجموعة من الطلبة الصاخِبين الذين خرجوا للتوِّ من إحدى الحانات. وكان
في مقدمتهم الشاب فريتس فون هارتمان شبه سكران وفي حالة صخب شديدة. كاد
البروفيسور يَتجاوَزهم لولا أن جرى إليه ذلك الطالب واعترضسبيله قائلًا:
وأمسك الرجلَ العجوز من كُمِّه وسار به عدة خطوات على «. مهلًا أيها المعلم العظيم »
ثمةشيء أريد أن أقوله لك، ومن الأسهل بالنسبة لي أن أقوله الآن » : الطريق واستطرد قائلًا
«. والجِعَّة الفاخرة تطنُّ في رأسيمقارنةً بأي وقت آخر
«؟ وما هو يا فريتس » : سأله الفسيولوجي وهو ينظر إليه بدهشة
سمعتُ أيها السيد أنك على وشك إجراء تجربة رائعة تأمُل فيها أن تُخرج رُوح إنسان »
«؟ من جسده ثم تعيدها إليه مرةً أخرى. أليس كذلك
«. هذا حقيقي يا فريتس »
وهل فكَّرتَ سيدي العزيز في أنك قد تجد صعوبة في العثور على شخصٍ تنفذ عليه »
هذه التجربة؟ يا إلهي! لنفترض أن الرُّوح خرجتْ ولم تَعُد. ستكون هذه مصيبة. من
«؟ يمكن أن يُقدِم على هذه المخاطرة
لكنني يا فريتساعتمدتُ على » : قال البروفيسور في انزعاجٍ كبير من نظرته للموضوع
«. مساعدتك لي في التجربة. أنت لن تتخلى عني بالتأكيد. فكِّر في الشرف والمجد
لن أفُكِّر في هذا الهُراء! هل سيكون هذا ما أجنيه دومًا؟ » : فصاح الطالب في غضب
ألم أقف لساعتَين على عازل زجاجي وأنت تُوصِّل قدرًا كبيرًا من الكهرباء إلى جسمي؟ ألم
تحفز أعصابي الهائجة، ألم تدمر عملية الهضم عندي بتوصيل تيار مباشرحول معدتي؟
لقد نوَّمتني مغناطيسيٍّا أربعًا وثلاثين مرة، وعلى ماذا حصلتُ مقابل كل ذلك؟ لا شيء.
والآن تريد أن تأخذ روحي مثلما تخرج التروس من الساعة. هذا أكبر مما يستطيع تحمُّله
«. مخلوق من لحمٍ ودم
0 Votes

Leave a Comment

Comments

Write and publish your own books and novels NOW, From Here.