يا عزيزي، يا عزيزي، هذا حقيقي جدٍّا يا فريتس. أنا » : ردَّ البروفيسور في ضيق كبير
«. لم أفكِّر فيه من قبل. أخبرني فقط كيف يُمكنني أن أعوضك وستجدني جاهزًا ومستعدٍّا
استمع إذًا، إذا تعهدتَ أنَّني بعد هذه التجربة يُمكنني الزواج » : قال فريتس في جدية
من ابنتك فسأكون مستعدٍّا لمساعدتك، لكن إن لم تفعل، فلن يكون لي علاقة بالأمر. هذا
«. هوشرطي الوحيد
«؟ وماذا ستقول ابنتي عن ذلك » : تساءل البرفيسور بعد لحظة دهشة
«. سترحِّب إليزا بذلك؛ إننا مُتحابَّان منذ وقت طويل » : فأجاب الشاب
إذًا ستكون لك؛ لأنكَ شاب طيب القلب، ومن أفضل » : أجاب الفسيولوجي بحزم
الخاضعين للتجارب العصبية الذين عرفتهم، ولكن عندما لا تكون تحت تأثير الكحول.
سأنُفِّذ تجربتي في الرابع من الشهر القادم. ستأتي إلى المختبر الفسيولوجي في الساعة
الثانية عشرة. وسيكون حدثًا جللًا يا فريتس؛ إذ سيأتي فون جروبن من ينا، وسيأتي
«. هينترشتاين من بازل، أبرز العلماء في كل جنوب ألمانيا سيكونون هناك
ومن ثمَّ افترقا. سار البروفيسور «. سأَصل في الموعد المحدد » : ردَّ الطالب باقتضاب
نحو بيته بخطوات مُتثاقلة يفكر في الحدث القادم العظيم، بينما أخذ الشاب يترنَّح على
طول الطريق خلف رفاقه الصاخبين، ولا يَشغل باله سوى إليزا ذات العينين الزرقاوين،
والصفقة التي أبرمها مع والدها.
لم يُبالغ البروفيسور عندما تحدَّث عن الضجة التي أثارتها التجربة السيكولوجية
الجديدة؛ فقبل حلول الساعة المحددة كانت الغرفة تعجُّ بكوكبة من المواهب؛ فبالإضافة
إلى الشخصين الشهيرين اللذين ذكرهما، جاء من لندن البروفيسور لاتشر الذي اكتسب
شهرته من أطروحته المميزة عن المراكز الدماغية. وجاء العديد من الشخصيات البارزة في
المجتمع الرُّوحاني من مسافات بعيدة؛ لحضور هذا الحدث، كما جاء أيضًا كاهن من أتباع
سفيدنبوري اعتقد أن هذه الوقائع قد تُلقي الضوء على مُعتقَدات جماعة الصليب الوردي.
صاحَب ظهورَ البروفيسور فون بومجارتن والشخص الخاضع للتجربة على المسرح
تصفيقٌ كبير من الحشد البارز. ومن خلال كلمات مُنتقاة بعناية أعرب المُحاضرعن أفكاره
أعتقد أن الشخص عندما يكون تحت تأثير التنويم » : والطريقة المقترَحة لاختبارها؛ فقال
المغناطيسيتُغادر روحُه جسدَه في ذلك الوقت، وأتحدى أن يُقدِّم أيُّ شخصٍفرضيةً أخرى
تفسر حقيقة الجلاء البصري؛ ولذلك بعد أن أنوِّم صديقي الشاب مغناطيسيٍّا، ثم أدُخِل
نفسي في غشية، أتمنى أن تتمكَّن رُوح كلٍّ منا من التواصل رغم بقاء جسدَينا في ثبات
وبلا حراك، وبعد فترة سوف تَستأنف الطبيعة سيطرتها، وستعود كل روح لجسدها،
وستكون كل الأمور كما كانت في السابق. وبعد إذنكم الكريم سوف نبدأ إجراء التجربة
«. الآن
تجدَّد التصفيق عند هذا الكلام، ثم سكن الجمهور فيصمت يشوبه الترقُّب. وبحركاتٍ
سريعة قليلة من يد البروفيسور خضع الشابللتنويم المغناطيسي، وغاصَبظهره في الكرسي
شاحبًا ومتصلِّبًا. ثم أخرج البروفيسور كُرةً زجاجية برَّاقة من جيبه، وركز نظره عليها،
وبذل جهدًا ذهنيٍّا قويٍّا، ونجح في إدخال نفسه في الحالة نفسها. وكان من الغريب والمؤثر
رؤية العجوز والشاب جالسَين جنبًا إلى جنب في حالة التصلُّب نفسها. وكان السؤال الذي
طرَح نفسه على كل المشاهدين هو: هل غادرتِ الرُّوحان جسديهما؟
مرَّت خمسُ دقائق، ثم عشرُ دقائق، ثم خمس عشرة دقيقة، ثم خمس عشرة دقيقة
أخرى، وما زال البروفيسور وطالبه يجلسان في تخشُّب وتصلُّب على المنصة. وخلال هذا
الوقت لم يُسمَع أيصوت من العلماء المجتمعين، بل كانت أعينُهم مركَّزة على هذَين الوجهين
الشاحبَين بحثًا عن أوُلى علامات العودة إلى الوعي. ولم يحصل المشاهدون الصابرون على
مرادهم إلا بعد أن مرَّ ما يقرب من ساعة؛ فقد ظهر احمرارٌ خفيف على وجنتَي البروفيسور
فون بومجارتن؛ إذ كانت الرُّوح في طريق العودة إلى مسكنها الأرضي. وفجأةً مدَّ ذراعيه
الطويلتين الرفيعتَين كما لو كان يُفيق من النوم، وأخذ يحكُّ عينيه، ونهض من الكرسي
ونظر حوله كما لو كان لا يُدرك أين هو. وتفوَّه بأبشع الشتائم في جنوب ألمانيا على
اللعنة! أين » : نحوٍ أصاب الجمهور ببالغ الدهشة وأثار اشمئزاز الكاهن. قال البروفيسور
أنا بحقِّ الجحيم، وما الذي حدث؟ آه … حسنًا، تذكرت الآن. إنها إحدى تجارب التنويم
المغناطيسي العبَثية. لا فائدة منها في هذه المرة؛ لأنني لا أتذكر شيئًا على الإطلاق منذ أن
فقدتُ الوعي؛ لقد قطعتم كل هذه الرحلة الطويلة سُدًى أيها الأصدقاء الجهابذة، الأمر كله
وهنا انفجر أستاذ الفسيولوجيا في نوبة من الضحك، «. مجرد مُزحة! ومزحة جيدةً حقٍّا
وأخذ يَضرب فخذه بطريقة غاية في الفجاجة. استشاط الجمهور غضبًا من هذا السلوك
الوَقِح من جانب مُضيفهم، وكادت تحدُث بلبلة كبيرة لولا التدخل الحكيم من الشاب
فريتس فون هارتمان الذي أفاق من سباته لتوِّه. وتقدَّم الشاب متصدِّرًا المنصة واعتذر
يؤسفني أن أقول إنه شخصٌ طائش على الرغم من أنه بدا غاية » : عن سلوك زميله قائلًا
في الجدية في بدء هذه التجربة. إنه ما زال يُعاني من أثر التنويم المغناطيسي، ولا يكاد
يكون مسئولًا عن كلماته. أما بالنسبة للتجربة نفسها فأنا لا أَعتبرها فاشلة. من الممكن
جدٍّا أن تكون رُوحانا قد تواصلتا مكانيٍّا خلال هذه الساعة، لكن للأسف الذاكرة الجسدية
الجمعية مُنفصلة عن الروح، ولا يمكننا تذكُّر ما حدث. سأكُرِّس جهودي الآن للتوصل
إلى طرُق قد تتمكَّن من خلالها الأرواح من تذكُّر ما حدث لها في حالة التحرُّر، وأنا واثق
من أنني عندما أحُقِّق ذلك سأحظى بشرف لقائكم هنا مرة أخرى في هذه القاعة وأعرض
وسبَّب هذا الحديث الصادر عن الطالب الشاب قدرًا كبيرًا من الدهشة بين «. عليكم النتيجة
الجمهور، واستاء بعضهم ظنٍّا أنه يدَّعي الكثير من الأهمية. أما الغالبية فقد رأوا أنه شاب
واعد، وعقدوا وهم يغادرون القاعة مقارناتٍ كثيرة بين سلوكه المحترم وطيشأستاذه الذي
وقف في أحد الأركان يضحك من قلبه وهو يستمع إلى الملاحظات السالفة الذكر، دون أن
يشعر بأدنى خجل من فشل تجربته.
وعلى الرغم من أن كل هؤلاء العلماء خرجوا من قاعة المحاضرات مُعتقدين أنهم لم
يروا شيئًا مهمٍّا، فقد حدث في الحقيقة أمرٌ من أروع الأمور في تاريخ العالم أمام عيونهم.
لقد كان البروفيسور فون بومجارتن محقٍّا للغاية في نظرية غياب روحه وروح تلميذه
عن جسديهما لبعضالوقت. ورغم ذلك، فقد حدث تعقيد غريب وغير متوقَّع. فعند عودة
الروحين دخلت روح فريتس فون هارتمان في جسد أليكسيس فون بومجارتن، واستقرَّت
روح أليكسيس فون بومجارتن في جسد فريتس فون هارتمان؛ ولذلك خرجت العبارات
الدارجة والبذيئة من فم البروفيسور الجادِّ، وخرجت الكلمات الجادَّة والعبارات الرزينة
من الطالب المهمِل. لقد كان حادثًا غير مسبوق لم يعرف به أحد لا سيما كل المعنيِّين به.
شعر جسد البروفيسور بجفاف شديد في الحلق فجأةً، فخرج إلى الشارع وهو ما زال
يضحك فيسره على نتيجة التجربة، فقد تملَّك الاستهتار رُوح فريتسالموجودة داخله أثناء
التفكير في العروس التي فاز بها بمنتهى السهولة. وكان أول خاطر راوده هو الذهاب إلى
المنزل ورؤيتها، لكن عندما فكَّر مرةً ثانية خلصإلى أنه سيكون من الأفضل الابتعاد إلى أن
تعلم السيدة بومجارتن من زوجها بالاتفاق الذي تمَّ بينهما؛ ولذلك ذهب إلى حانة جرونر
مان وهي واحدة من أماكن اللقاء المفضلة للطلبة المشاغبين، واندفع صاخبًا وهو يلوِّح
بعصاه في الهواء إلى الرَّدهة الصغيرة التي يجلس فيها شبيجل ومولر وستة من الأصدقاء
المقربين.
ها ها! أيها الفتيان، عرفتُ أنني سأجدكم هنا. اشربوا، اشربوا جميعًا » : وصاح قائلًا
«. واطلبوا ما يحلو لكم؛ فأنا سأتحمل تكلفة كافة المشروبات اليوم
لو كان الرجل الأخضرالمرسوم على لافتة الحانة الشهيرة قد دخل على الطلبة الردهة
وطلب زجاجة من الخمر، ما كانوا ليَندهشوا مثلما اندهشوا بهذا الدخول المفاجئ لأستاذهم
الموقَّر. لقد تملَّكهم الذهول لدرجة أنهم ظلوا نحو دقيقتين يحدِّقون فيه في دهشة تامة
عاجزين عن الردِّ على هذه الدعوة الودِّية.
دونر وبليتسن! ما خطبكما؟ أنتما تجلسان مثل » : وصاح البروفيسور في غضب
«؟ خنزيرَين مطعونين تُحدِّقان فيَّ. ما الأمر
«. إنه الشرف غير المتوقَّع » : كان شبيجل جالسًا على كرسيفقال مُتلعثمًا
شرف، ما هذا الهراء! هل تعتقد أنني لمجرَّد أن كنتُ » : قال البروفيسور في ضيق
خاضعًا للتنويم المغناطيسي في أحد عروضهذا العجوز الذي يُشبه الحفريات سيُصيبني
الغرور فأمتنع عن معرفة أصدقائي القدامى؟ قمْ من على هذا الكرسييا صديقي شبيجل
لأنني سأجلس عليه الآن. اطلبوا كل ما يحلو لكم من الجعة أو النبيذ أو مشروب شنابس
«. أيها الرفاق، اطلبوا ما يحلو لكم، واعهدوا لي بالحساب