Darebhar

Share to Social Media

-2-
اللقاء المنتظر

رعشة لا إرادية اجتاحت جسدي كله وأنا أخطو نحو البوابة الإلكترونية الأمامية، وعم "محمد" موظف الأمن يطلب مني بأدب جم تفتيش حقيبتي، كان كما هو بالضبط كأني تركته بالأمس، ربما زادت شعيراته البيضاء فأضفت عليه هالة من الطيبة والوقار، سألته عن اسم مدير البنك فرد بسرعة أستاذ "آدم سليم".. إذن فقد أصبح هو المدير الجديد للفرع، فشكرته وتوجهت نحو المكتب الذي أعرفه عن ظهر قلب، بادرتني السكرتيرة الجديدة التي تبدو بكامل أناقتها قائلة: "أهلا بك، كيف يمكنني مساعدتك، هل لديك موعد مسبق مع أستاذ "آدم"؟"
فأجبتها بالإنجليزية: "أريد أن أقابل مدير البنك لأني سأودع مبلغًا كبيرًا في البنك، وأرغب التعرف على كافة التفاصيل"..
فابتسمت في رقة وهي تقول: "سأخبره على الفور"، وقبل أن تدخل مكتبه سألتني إذا كنت أود أن أشرب أي شيء، فأجبتها بلا.
كانت مُرتبكة قليلًا ربما أثار مظهري اللافت توترها... دَلفْت لمكتبه واختفت بضع دقائق، حاولت أن أهدئ نفسي خلال فترة الانتظار، فكرت للحظة في الفرار والعودة إلى الفندق، ربما توهمت أنني قادرة على المواجهة الآن، تبًا لي لن أتخلص من اندفاعي أبدًا، لكن وجودي هنا حتميًا لبدء تنفيذ الشرط المنصوص عليه في العقد... لا يوجد مفر إذن من العودة إلى مسرح الجريمة يجب أن أستمر حتى النهاية وإلا ستختفي المنحة الإلهية...
أخذت أرتب في عقلي ما سأقوله له، والأفكار المحمومة تتواتر على ذهني بجنون هل بكى على فراقي؟، هل شعر بالندم لما فعله معي؟ ألم تنتهي الحياة بالنسبة له كما انتهت بالنسبة لي بعد فراقنا؟ ثم لاح في بالي رؤيته مع الفتاة بالأمس، شعرت للحظة أني سأفقد السيطرة على نفسي بمجرد أن أراه وجهًا لوجه، وسوف أنهار باكية أمامه وأعترف له بكل شيء وأموت على الفور مرة أخرى لبوحي بالسر، كنت أرتعش كريشة في مهب الريح!
انتشلني صوت السكرتيرة من أفكاري وهي تقول لي في أدب: "تفضلي، أستاذ "آدم" في انتظارك".
شعرت برجفة خفيفة وأنا أقوم من مقعدي واتجهت نحو المكتب الذي كان مكتبي يومًا، ودخلت وأنا أقاوم بضراوة ألا أسقط مَغشيًا عليّ، شعرت بوخزة مُؤلمة في صدري لرؤيته أمامي بكامل أناقته، لم يطرأ أي تغيير على وسامته بل ربما زادت بفعل تلك الشعيرات البيضاء التي لم تكن موجودة منذ عام مضى، لطالما أحببت النظر إليه وهو نائم بجواري، مرت ذكرياتنا سويًا في لمح البصر في مخيلتي وأنا أحاول أن أبدو مُتماسكة، راودتني مشاعر مُتضاربة هل أرتمي بين أحضانه لأبكي وأتركه يقبلني كما اعتاد أن يفعل عندما كنت أغضب منه، أم أصرخ بوجهه وأقوم بقتله بدم بارد جراء ما فعله بي... هب واقفًا في هدوء عندما رآني وقد التمعت عيناه إعجابًا بي أنا أعرف كم يُقدر الجميلات، نظر لي نظرة طويلة كأنما يتذكر شيئًا ما، مددت يدي الباردة للسلام عليه، فضغط عليها ضغطة خفيفة بين كفيه فارتجفت، ثم عاد إلى مقعده، وهو يقول: "أهلًا بك كيف أستطيع أن أخدمك، كان يتحدث بالإنجليزية، فأخبرته أنني أتحدث العربية بطلاقة، فرفع حاجبه مندهشًا، وابتسم من جديد: "أين تعلمتيها؟" وأشار لي بيديه أن أجلس في أدب جم وهو يقول في ثقة: "آدم سليم"، مدير البنك".
ما أن جلست حتى قلت له في سرعة: "تعلمتها في روسيا"، وأكملت بصوت بذلت قصارى جهدي حتى يبدو هادئًا وطبيعيًا: "اسمي "لارين ايفانوفتش" أريد أن أفتح حسابًا في البنك بمبلغ عشرة ملايين دولار، لقد اخترت هذا البنك لأنه من أفضل البنوك الاستثمارية في مصر".
بدت على ملامحه الدهشة إثر سماعه المبلغ، وقال رافعًا حاجبيه: "شكرًا لك، هذا البنك يعد بالفعل من أفضل البنوك في مصر وله عدة فروع في العديد من دول العالم في الولايات المتحدة، وأوروبا والعديد من الدول الأخرى، نحن نسعى لتقديم أفضل معاملة لعملائنا ولدينا أعلى عائد على الشهادات والودائع". ثم سكت فجأة كأنه تذكر شيئًا هامًا:" سامحيني لم أسألك ماذا تحبين أن تشربي، هذا خطأ لا يغتفر في حضرة سيدة جميلة مثلك"، قالها وهو ينظر لي نظرة خاطفة ساحرة، انتفض لها جسدي، فأنا أعرف تلك النظرة جيدًا.
قلت له مبتسمة: "ليمون من فضلك"
أمسك سماعة الهاتف الداخلي وطلب عامل البوفيه "عم حسن" قائلًا: "اثنان ليمون من فضلك سريعًا، فلدي أهم عميل على الإطلاق" ونظر لي مبتسمًا.
فقلت له: "بدون سكر من فضلك"، فَتشت في وجهه عن أي ردة فعل تُلمح بتذكره كيف كانت "ليلى" تتناول عصير الليمون، لم تكن تحبه بسكر كذلك، لكن لم يبدُ عليه أي تغيير يذكر!، ماذا كنت أنتظر بربي!، أن يخر باكيًا وهو يقول أنت تحبينه كما كانت زوجتي الميتة "ليلى" تحبه.. يا للهراء!
قال لي: "بالطبع" وأخبر العم "حسن" بذلك، ثم أغلق السماعة، وقام من مكتبه وهو يقودني نحو الصالون الأسود الجلدي في مكتبه، وجلس مواجهًا لي حتى تتاح له رؤيتي بالكامل.. وسألني في اهتمام: "هل أنتِ مُقيمة بمصر؟"
قلت: "سأظل هنا لفترة طويلة لم أحددها بعد، فأنا أفكر في الاستثمار في مصر"
تساءل: "هل هذه هي زيارتك الأولى لمصر؟"
أجبته: "نعم"
قال: "هل لديك إقامة؟"
أجبته: "ليس بعد"
قال: "هل تعملين هنا؟"
قلت: "لا، لست بحاجة للعمل فأنا ثرية للغاية" قلتها ضاحكة، فابتسم وهو يسألني:" وبالنسبة للأموال هل تريدين وضعهم كوديعة أم شراء شهادات، فهذا مبلغ ضخم يجب أن تفكري جيدًا في كيفية استثماره وأنا تحت أمرك"
قلت له في اهتمام مصطنع: "سأقوم بتحويل المبلغ على مراحل من أحد البنوك بروسيا، اشرح لي من فضلك مزايا الودائع والشهادات وأيهما أفضل؟ أردت فقط أن أحثه على الاسترسال في الكلام، حتى أتمكن من تفحصه والنظر إليه أطول وقت ممكن وأنا أشعر بداخلي أني أجلس مع قاتلي وجهًا لوجه، أعشقه وأمقته في نفس الوقت، نظرت لعينيه السوداويين العميقتين اللتين طالما أحببت النظر إليهما دومًا، هاجمتني الذكريات سريعًا، تذكرت المرة الأولى التي قال لي فيها أحبك، وشعوري بالسعادة الطاغية يوم خطبتنا وكذلك يوم زواجنا الذي كان أسعد يوم في حياتي على الإطلاق، كنت أشعر يومها أني امتلكت الدنيا بما فيها وحققت الشيء الأهم في حياتي فقد وجدت الحب مع من عشقته بكل كياني... كيف انتهى كل شيء فجأة وتحول لرماد، تركني فجأة في عز احتياجي له... كان "آدم" لا يزال يشرح لي مزايا الودائع والشهادات بحماس منقطع النظير وعيناه تلتمعان إعجابًا بي وهو يتفحصني من رأسي حتى أخمص قدماي، كأنه يستعرض تمكنه من عمله أمامي فلربما أعجب به وإلمامه بكل كبيرة وصغيرة، كنت أحفظ ما يقوله عن ظهر قلب على أي حال، ولم أكن مُنتبهة على الإطلاق لما يقول... كنت أريد أن أتحسس وجهه وشعره وأربت على كتفه كما اعتدت دومًا، لكني كنت عاجزة بالطبع عن فعل أي شيء سوى التظاهر بأني أركز في كل كلمة يقولها... ثم سألني فجأة عن رأيي فيما ذكره...
فأجبته على الفور: "سأفكر في الموضوع، لدي العديد من التساؤلات!"
قبل أن يرد، سمعنا طرقات على المكتب ودخل العم "حسن" حاملًا صينية عليها كوبي العصير، كدت أن أهب واقفة لإلقاء السلام عليه لكني تراجعت في اللحظة الأخيرة عندما تذكرت أني "لارين" ولست "ليلى"، فشكره "آدم" وهو ينصرف، وحمل كوب عصير وناولني إياه.
رشفت رشفة صغيرة من العصير وما إن رفعت عيني، رأيته يحدق بي كأنه يحاول تذكر شيء، فارتجفت يدي وشعرت بالتوتر الشديد لكني تمالكت نفسي فهل اكتشف أمري لكن هذا مستحيل تمامًا، ونظرت لساعتي كأني تذكرت موعدًا هامًا، وقلت له:" اعذرني يا أستاذ "آدم" يجب أن أذهب الآن فلدي موعد هام"، بدا عليه الامتعاض للحظة، ثم قال في هدوء: "أممم تشرفت بمقابلتك على كل حال، وأتمنى أن نلتقي مجددًا"
ابتسم وهو يعطيني بطاقته الشخصية، طالبًا في اللحظة الأخيرة بلهجة عملية أخذ رقم هاتفي لأني سأكون عميلة مهمة للبنك... ثم قال لي فجأة وهو يتنهد: "أخيرًا تذكرت، لقد رأيتك بالأمس في مطعم بالزمالك، كانت أنتِ أليس كذلك! لا يمكن أن أنسى هذا الوجه الجميل، ظللت طول الوقت أحاول تذكر أين رأيتك."
قلت له: "نعم لقد كنت هناك بالفعل!" قلتها في سرعة وقد اشتعلت من الغيظ بعد أن أعاد هذا المشهد المزعج لذاكرتي وصورته وهو يفتح لها الباب طرأت كالكابوس في مخيلتي، ثم قلت له في حدة:" ليس لدي رقمًا مصريًا بعد"
فدون رقمه على البطاقة بعد أن سحبها في رقة من يدي قائلًا: "صدقي أو لا، لقد راودني شعور وقتها أنني سأراك مرة أخرى، سأنتظر اتصالك".. نظرت له مبتسمة دون أن أرد، قام بتوصيلي للخارج حتى باب البنك الخارجي، وسألني: "هل معك سيارة؟"
قلت: "لا سأستقل سيارة أجرة"
قال: "انتظري سأطلب لك أوبر فهو أفضل وأكثر سرعة" وسألني: "ما هي وجهتك؟"
لم أتوقع ذلك ها هو يستجوبني في خبث ليحصل على المعلومات التي يريدها، فقلت: "فندق هيلتون رمسيس"
سألني وهو ينظر لهاتفه لوضع العنوان على الأوبر في نبرة حاول أن تبدو طبيعية: "هل تقيمين هناك؟"
"نعم"
قال في سرعة: “تفضلي بالجلوس في مكتبي حتى يأتي الأوبر، لا يمكن أن تظلي واقفة في الشارع"
فدخلت معه البنك مرة أخرى، ورأيت نظرة انتصار في عينيه لكن سرعان ما وصل الأوبر فعدنا، فتح لي باب السيارة وهو يودعني مبتسمًا وفي عينيه قرأت "سنلتقي مجددًا وستقعين في حبي يومًا ما"، وتمنيت أن يقرأ في عيني: "أعدك أنك ستدفع ثمن ما فعلته بليلى".
انطلقت السيارة وأنا غير مُصدقة أنني لم أنهار من شدة التوتر، لم أصدق أنني قابلته لتوي، تذكرت كل شيء بأدق تفاصيله، كم كنت واهمة عندما ظننت أن إقامتي بالقصر ولو لعام كامل قد شفت كل جروحي وأن مواجهته ثانية لن تفعل بي الأفاعيل أو تطيح بكياني كله مرة أخرى!؛ لكنها لم تكن سوى مخدر خفيف، وقعت على العقد بأنفاسي الأخيرة ولم أتوقع أن يكون الثمن مؤلمًا لهذه الدرجة!
عدت إلى الفندق مباشرة للاختلاء بنفسي فكنت أشعر باضطراب شديد لم أتصور أن يعاودني مرة أخرى، وذات المشاعر المتناقضة التي شعرت بها خلال لقائي به تنتابني بقسوة... تذكرته وهو يسعى ورائي كثيرًا في بداية علاقتنا لأني فقط لم أكن أعره أي اهتمام عندما تزاملنا في البنك، كنت أشعر في قرارة نفسي أنه سيحطم قلبي، فهذا الصنف من الرجال لا يمكن الوثوق به، بل يجب الابتعاد عنه والنجاة منه، فهو النسخة الجديدة من أبي، كنت طوال عمري أهرب من الرجال لهذا السبب لا أريد أن أعاني كما عانت أمي، لكنه بالرغم من كل احتياطاتي ودفاعي المستميت عن قلبي، نجح في النهاية في الإيقاع بي، تلك القصة الأزلية التي ستتكرر حتى نهاية الدنيا بين الصياد الماهر والفريسة الساذجة التي لا تمتلك الحنكة الكافية للمراوغة والدفاع عن نفسها فتدفع حياتها ثمنًا لذلك، تمامًا كما حدث معي.. تزوجنا وعشت معه أجمل أيام حياتي وصار محور الكون بالنسبة لي، كنت مُستعدة للتخلي عن أي شيء في سبيل إرضائه، الأمر الذي كان مستحيلًا... كان في البداية كل شيء يسير على ما يرام لكنه تغير فجأة بدأ ينتقد كل شيء، شكلي وشعري ووزني وأسلوبي حتى طريقة كلامي!، كل شيء كل ما أنا عليه!، كان إرضاؤه مستحيلًا رغم محاولاتي المستميتة لتحقيق تلك الغاية.
فعلت كل شيء أملًا في أن يعود كما كان، غير أني كنت أطارد سرابًا.. تبدل للنقيض على مر الوقت إلى أن جاءت تلك اللحظة التي لم أنساها أبدًا عندما أخبرني أنه غير سعيد ويشعر بالملل، ولا يريد الاستمرار في هذه العلاقة، أربع سنوات عشناها سويًا كزوجين بل يزيد عليها سنة أخرى منذ أن تعارفنا عندما كان يطاردني، بدأت مثل الأحلام ثم انتهت بألم مميت لا يمكن وصفه.. تم الطلاق وهو يبرر فعلته بأنه كان صريحًا معي لا يريد أن يخدعني ويستمر في حياة زوجية انتهت بالنسبة له، وأن هذا القرار هو الأفضل لكلينا..

طلبت منه بل توسلت إليه بكل جوارحي أن نحاول مرة أخرى ووعدته أن أصلح من نفسي لأكون كما يريد، لم يكن لكرامتي أي معنى من أجل الإبقاء عليه... كنت على أتم استعداد لفعل كل شيء وأي شيء مقابل استرجاع لحظاتنا السعيدة الأولى، لكنه رفض بصورة قاطعة وبصرامة يُحسد عليها كأني هواء، تحول إلى تمثال صلب من الحجر بلا إحساس، وطلب مني أن نظل أصدقاء... لكن كيف يمكن أن يتحول الحب إلى صداقة؟! رفضت، كان لدي أمل خفي في أن يندم ولو للحظات وأن يعود لي باكيًا لكن ذلك لم يحدث أبدًا، عشرة أشهر مرت بعد الطلاق كنت أموت فيها في اليوم مئات المرات ولا أشعر بمذاق أي شيء، كنت أتلاشى ببطء إلى أن قررت الرحيل عن الدنيا بأسرها...
صوتًا ما بداخلي أخبرني يوم طلاقنا أنني لن أنجو من هذه الصدمة وقد صدقته فكانت نبوءة ذاتية التحقق... أخذت إجازة طويلة من العمل بعد وقت قليل من تعيني مديرة للبنك، فقدت حماسي للعمل والشغف الذي كان يحركني كنت أحاول فقط أن أستجمع شتات نفسي وأقول لنفسي أنها تجربة قاسية وستمر... بل ربما قد أحب مرة أخرى... لكني عجزت حتى عن أن أحب نفسي مرة أخرى أو أسامحها كنت تائهة! وانتقاداته المستمرة تتردد في ذهني طوال الوقت كأنها حقيقة مُسلم بها، أشعرتني أنني لا أستحق أي شيء بل إنني اقتنعت أنني لم أستحق أن أكون معه يومًا!... حاولت إنقاذ نفسي بشتى الطرق.... قرأت العديد من كتب التنمية البشرية وأمضيت عشرات الساعات في التأمل وذهبت لأطباء نفسيين ودجالين وشيوخ ومشعوذين طمعًا في إيجاد أي وسيلة لإعادته كما كان، لكن كل محاولاتي باءت بالفشل... ولم أفكر في أن أعود كما كنت... بدأت في التحسن ببطء شديد لكن انهار كل شيء كجبل من رمال بنيناه في وقت طويل قبل أن تأتي موجة هادرة فتدمره وتعيده كما كان، منبطحًا مستسلمًا أمام جبروت المحيط، فرؤيته في العمل مرة أخرى يضحك ويبتسم كأني شيئًا لم يكن، جعلتني أنتكس مئات المرات حتى غرقت في دوامة من الحزن والاكتئاب لم أخرج منها، فقدت الإيمان بالله وبنفسي وبكل شيء، انفصلت عن ذاتي بصور تامة ونهائية، لم أعد أعرف من أكون!
هبت تلك الذكريات الأليمة بقسوة على بالي وأنا مستلقية على فراشي في إنهاك، غمرتني في تلك اللحظة الرغبة العارمة في الانتقام منه، فهذا الجاثوم الماثل على صدري بعد أن قابلته لا ينزاح بسبب تلك الحرائق المشتعلة داخل قلبي وروحي... هذا الكبرياء البغيض والرغبة في الخروج منتصرة بأي ثمن يراودني من جديد، لم أنتصر وقتها، تُرى هل سأنتصر هذه المرة في هذه الحياة الجديدة؟!
لست قادرة على ابتلاع حقيقة أنه هزمني، حتى الموت لم يخلصني من هذا الألم، وروحي هائجة كطوفان عاتي لا يبقي ولا يذر.. لابد أن هناك حلًا ما، لا يمكن أن يستمر هذا الشعور بالعدمية والقهر مُلازمًا لي، لقد تخلصت من حياتي سابقًا لعدم قدرتي على التخلص منه.. ليتني لم أغادر القصر، وجريت نحو الصندوق الخشبي لأستمد منه ولو لمحة من أمان فهو يذكرني بالحلم السعيد الذي عشته يومًا في قصري المسحور بموسكو، تنفست ببطء لأهدئ انفعالاتي فأنا لست "ليلى" الآن، أنا "لارين"، سأرسم حياتي كما أريد... فلقد فات أوان البكاء على اللبن المسكوب، كفاني أوهامًا دفعت حياتي ثمنًا لها من قبل... قررت أن أبقى أسبوعًا كاملًا داخل غرفتي لا أخرج منها حتى أستعيد توازني مرة أخرى، سأحسب خطواتي المقبلة بدقة فلست مستعدة لخوض تجربة مماثلة في أي وقت قريب أو بعيد، أدركت أني استعجلت لقائه فلقد أعادني مليون خطوة للوراء...أردت أن يحتضني أحدهم في حنان، فقمت بإخراج اللوحات من الصندوق وكافة الأدوات، كانت رائحة الألوان الزيتية نفاذة، فتركته مفتوحًا لفترة، ثم أحضرت وسادة صغيرة وغطاء ونمت بداخله وأنا أتخيله يحتضنني، وانسابت الدموع الصامتة على وجنتاي حتى رحت في النوم.
استيقظت في الفجر فخرجت من الصندوق وجسدي يئن من التعب، قبلت الصندوق، وفتحت النافذة وجلست في الشرفة وأنا أستنشق نسمات الصباح المنعشة، قمت بإعداد فنجان من القهوة وجلست أحتسيه في بطء وأنا أشاهد شروق الشمس وذكرى اللقاء تخيم على رأسي... ما أثار دهشتي أن شيئًا ما بداخلي كان سعيد بتلك المواجهة مع نفسي التي حدثت إثر اللقاء والتي طالما هربت منها، كنت طوال الوقت أفكر في استعادته، لكن هذه المرة يجب أن أستعيد نفسي، رغم الألم الذي اعتصر قلبي بالأمس إلا أنني كان يجب أن أشعر به من جديد فهو لم يختفي أبدًا بل انزوى في ركن مظلم بعيد، أخرجه هذا اللقاء من مكمنه كمارد جبار خرج من قمقم بعد قرون من الاختباء.. سأصاحب هذا المارد هذه المرة، بل سأتخذه صديقي المقرب، فكرت أن أرسم فوجدتني بحاجة لشراء المزيد من الألوان الزيتية والفرش لتحفيز نفسي وتشجيعها، ارتديت ملابسي وذهبت للتبضع، لم أعد متسرعة في عمل أي شيء، كنت أتحرك ببطء شديد وأعامل نفسي كمريض خرج لتوه من غرفة العمليات وبحاجة لنقاهة طويلة وحب داخلي صادق حتى تُشفى جروحه...
تسكعت في الشوارع طويلًا كأني أؤجل المواجهة بيني وبين لوحتي الجديدة، ثم عدت للغرفة مع غروب الشمس، واضعة أدواتي الجديدة في سعادة على الطاولة الصغيرة، أخرجت المسند الخشبي في حرص، شرعت في تركيبه من جديد حتى أضع عليه اللوحة الجديدة.. وقفت أتأمل اللوحة البيضاء في تحدي، فلها رهبة مثلها مثل أي شيء جديد نخشى خوض غماره، سأترك لروحي العنان لترسم على اللوحة بدون تدخل مني... لم أعد خائفة من احتمال أن أكون عديمة الموهبة فالخوف من الفشل كان العائق الرئيسي لعدم ممارسة تلك الهواية في السابق... لم تخطر في بالي هذه المخاوف عندما كنت في موسكو لماذا تهب عليّ الآن مرة واحدة، لن ألتفت إليها... هل للقائي القصير بأدم علاقة بذلك!، خاصة سخريته الدائمة من موهبتي عندما كنت أهم برسم لوحة جديدة إلى أن فقدت الرغبة تمامًا في الرسم مرة أخرى، لقد دمر ثقتي في نفسي، وجعلني أشعر أني لا أصلح لشيء طالما فشلت في الاحتفاظ به وإسعاده.
كانت اللوحة تحدق بي في نفاذ صبر منتظرة أن أقوم ببث الحياة فيها بفرشاتي، همست لها: "انتظري قليلًا أرجوك!" سمعتها ترد: "مرت ثلاث ساعات كاملة، لقد شعرت بالملل، هيا خوضي غمار المعركة لن أتركك."
فتحديت بياضها الناصع بضرباتي المتلاحقة من الفرشاة، ولم أهدأ حتى بدأت ملامحها الأولية في التجلي أمامي، ابتسمت وشعرت بالرضا، كنت أنظر لنفسي من وقت للآخر في المرأة حتى أتأكد أنني لست "ليلى"... أريد أن أتخلص منها لأفسح المجال ل "لارين" حتى تتملكني وأصير الشخصية التي طالما حلمت أن أكونها في الماضي... لا أريد أن تستمر روحها القلقة في السيطرة علىّ هكذا.. يجب أن أواجه الماضي لا سبيل للتحرر إلا بذلك... مواجهتي الأولى لآدم أثبتت فشلي روحيًا، كنت أظن أني سأنجح من الجولة الأولى في ألا تعاودني تلك الأفكار المخيفة مرة أخرى... لمن ستكون الغلبة تُرى لليلى أم للارين؟ سنرى، وانطلقت بداخلي طاقة عجيبة للإبداع من جديد نابعة من إصراري على النجاة!
*****

0 Votes

Leave a Comment

Comments

Write and publish your own books and novels NOW, From Here.