١
إنه يوم زفافي:
ويوم الزفاف هو اليوم الأكثر تميزًا في حياة الأنثى؛ ذلك أنه أكثر يومٍ تلتفت فيه أنظار الجميع إليها، وهو أكثر يومٍ في حياتها تحرص أن تكون فيه جميلة ومتأنقة، ليس هذا فحسب، بل تحرص على أن يكون اليوم مميزًا في جميع تفاصيله، برنامج الحفل، ديكور قاعة الاحتفال، حتى رد فعل الحضور، كل هذا تلتفت إليه العروس بكل اهتمامٍ رغم انشغالها بالرقص والغناء وتلقي التهاني والتبريكات.
وفي يوم زفافي لم أنتبه لديكور قاعة الاحتفال؛ ليس لأنني انشغلت عنه أو أهملته كما تتوقعون، ولكن لأن الفرح لم يكن داخل قاعة مغلقة أصلًا، بل كان على شاطئ خلاب يخص أحد المنتجعات السياحية في شرم الشيخ، وفي واقع الأمر اهتم العاملون بالفندق كافةً على أن يخرج حفل الزفاف على أكمل وجهٍ ممكن، وحرصوا أكثر مني على أن تكون التفاصيل جميعها مميزة؛ وذلك لسببٍ سوف تعرفونه لاحقًا.
وحتى رد فعل الحضور لم يشغلني كثيرًا، ما دامت التفاصيل كلها تلقى اهتمام خبراء الأفراح، والمطاعم، والضيافة في فندق من الفئة العليا فلن يجد المتربصون من الحضور أخطاءً أو سلبيات واضحة ليتحدثوا عنها، ولن يكون بينهم سوى الهمز واللمز المعتاد من السيدات والفتيات اللاتي يعقدن المقارنات وينسجن بخيالهن قصصًا غير حقيقية حولي وحول عريسي وعائلتينا، وبغض الطرف عما تضمره القلوب، كان الاستمتاع بشاطئ الفرح يسيطر على المشاعر، وكانت البسمة تكسو وجه الجميع إلا وجهًا واحدًا، لم تتمكن صاحبته حتى أن تفتعل الابتسام!
إنها مي!
ربما تتساءلون الآن عن السبب وراء ملامح مي الواجمة، والأقرب للحزن وربما البكاء؟ رغم هذه الأجواء الدافئة في ليلة رائعة من ليالي الصيف، ورغم الفرح المبهج والأغنيات الجميلة، وربما تتساءلون كذلك عما إذا كانت ملامح مي الحزينة والتي لم تتمكن من إخفائها تزعجني؟ ولسوف يندهش البعض منكم أو كلكم إذا أجبت على التساؤل الأخير بالقول أنني كنت شديدة التعاطف مع مي! وما كان يزعجني حقًا هو شعورها بهذا الحزن الشديد وعدم قدرتي على إسعادها!
أما الإجابة على تساؤلكم بشأن حزن مي؛ فهي تحتاج للعودة إلى ما قبل يوم زفافي بنحو عشرة أيام، كما تحتاج مني أن أقدم لكم نفسي قبل أن نعود بالأحداث إلى الوراء.
أنا نور محمد حسن مكاوي، العروس، وأنا التي ستقص عليكم كل شيءٍ من البداية إلى النهاية، وأخي هو أنس محمد حسن مكاوي، الشخص الوحيد الذي تعرفه مي جيدًا في هذا الفرح.
الآن يمكننا العودة إلى ما قبل يوم زفافي بعشرة أيامٍ؛ حيث لم يكن أحد منا موجودًا بشرم الشيخ سوى خطيبي أيمن، ولم تكن مي على وجه الخصوص موجودة في مصر من الأساس؛ بل كانت في مقر عملها في دبي، تمسك بهاتفها بيد، وتضرب مكتبها بعنفٍ بأصابع اليد الأخرى، فلاحظت صديقتها المقربة وشريكتها في العمل نجوان ما بها من توتر غير معتاد، فتابعتها بنظرها قليلًا قبل أن تقول فجأة:
- كفاية يا بنتي صدعتيني!
نظرت إليها مي بملامح يائسة قبل أن تقول:
- هو أنا عاملة دوشة جامدة؟ حد غيرك سمعني؟
- لا مش للدرجة دي! بس ليه كل التوتر اللي أنتِ فيه دا؟ أنا عمري ما شفتك كدا!
نظرت مي إلى هاتفها مجددًا، ثم أطلقت زفيرًا قويًا دون أن ترد، فتابعت نجوان:
- مي، على فكرة أنا بكلمك!
- عايزة إيه يا نجوان؟!
- مالك يا بنتي قلقانة كدا ليه؟!
هدأ صوت مي قليلًا وهي تقول:
- هو باين عليا إني قلقانة؟
- باين عليكِ جدًا!
قالت مي بعصبيةٍ وهي تنظر لهاتفها:
- ما هو مبعتش حاجة! مبعتش حاجة.
- هو مين دا يا بنتي؟! حد من العملاء؟!
نظرت مي إلى نجوان بامتعاضٍ وهي تقول:
- بقى بذمتك حد من العملاء ممكن يعمل فيا كدا؟!
- ما أنا بقول برضو! أومال أنتِ تقصدي مين؟!
سكتت مي ولم ترد، وأعادت النظر إلى هاتفها؛ فاتسعت عينا نجوان دهشةً وهي تقول:
- أنس؟!
قالت مي بصوتٍ منخفضٍ ويائس:
- أيوه هو!
ابتسمت نجوان ابتسامةً ماكرة وهي تسأل مي مداعبةً إياها:
- هو الحلو وقع ولا إيه؟!
أجابت مي بسرعةٍ وبصوتٍ قوي:
- وقعت إيه بس أنتِ كمان؟! أنا برضو ممكن راجل يوقعني؟!
تحدثت نجوان بجديةٍ:
- أنا مستغربة بصراحة! إحنا نعرف بعض من أكتر من عشر سنين عمري ما شفت راجل واحد قدر يوقعك، ولا حتى يكسر مناخيرك اللي على طول في السما دي! ومن غير زعل يعني! أنا أصلًا مكنتش عارفة الرجالة اللي عرفتيهم قبل كدا كانوا مستحملين عجرفتك وألاطتك عليهم إزاي؟! دا أنا اللي اسمي صاحبتك وشوفي اتخانقنا كام مرة بسبب الحكاية دي! حتى الموظفين بتوعك هنا بتعامليهم كأنهم رعاع وإنك مولودة في بقك معلقة دهب! فما بالك بالعرسان والمعجبين؟!
نظرت إليها مي بغضبٍ وهي تقول:
- عجرفتي؟! طب والنبي نقطيني بسكاتك بدل ما أطلع عليكِ عجرفتي كلها!
ابتسمت نجوان قبل أن تقول:
- طيب بجد قولي لي .. إيه حكايتك مع أنس؟ أنا حاسة إنك مش رافضاه وبتتكلموا مع بعض باستمرار من ساعة ما اتعرفتوا على بعض على فيسبوك.
تراجعت حدة التوتر والعصبية لدى مي تدريجيًا، وتحدثت بهدوءٍ أقرب لنعومة الأنثى وهي تقول:
- مش هخبي عليكِ يا نوجا، أنا حاسة بحاجة مختلفة المرة دي! أنس شاب لطيف، وسيم، طويل، صورته بتقول كدا! أسلوبه معايا في الكلام مختلف؛ مش بيزعلني ومش بيصدني، أنا في الأول كنت غلسة قوي معاه لكن دا مخلاهوش يهرب زي اللي هربوا قبل كدا! بالعكس استحملني وفضل يكلمني برقة وذوق يخلوا أي بنت تضعف.
ثم انتبهت مي فجأةً وقالت بحدةٍ:
- بس دا برضو مش معناه إني وقعت! أنا مفيش راجل يوقعني!
ضحكت نجوان قبل أن تقول:
- أنتِ يا بنتي مفيش جملة حلوة تكمليها للآخر من غير ما تبوظيها بعندك وتكبرك دا؟! على فكرة مش هيحصل لك حاجة لو قلتِ إنك معجبة بحد وعايزة ترتبطي بيه!
أجابت مي بعصبيةٍ:
- إعجاب وارتباط إيه يا عبيطة أنتِ؟! مفيش الكلام دا خالص! كل الحكاية إن الناس بقت بتتكلم عني وحش؛ بقوا بيقولوا إن الرجالة بتطفش مني وعمر ما راجل هيتجوزني! وبعدين أنا في التلاتينات يعني شوية وهدخل على الأربعين.
قالت نجوان ببراءةٍ:
- أكيد عايزة حد يونسك باقي حياتك.
ردت مي بحدةٍ:
- لأ برضو؛ أنا بس مش هخلي حد يقول إني عنست، خصوصًا الستات والبنات في عيلتنا!
قالت نجوان:
- يخرب بيت ألاطتك! يعني اهتمامك بأنس مش علشان طيب وذوق معاكِ؟!
- لأ طبعًا! قصدي يعني هو مش أحسن حد في الدنيا علشان أبص له.
ابتسمت نجوان بمكرٍ وهي تسأل:
- ولما الحكاية كدا إيه اللي موترك في إنه مبعتش حاجة النهارده؟!
انفعلت مي وارتفع صوتها وهي تقول:
- علشان أخدت أجازة، وعطلت شغلي، وحجزت طيران، على أساس إن البيه عشمني إنه هيحجز لي فندق في شرم الشيخ لمدة أسبوع، وكان هيأكد عليا إمبارح بالليل ولحد دلوقت مبعتش حاجة.
اندهشت نجوان وهي تقول:
- بتهرجي؟! حجز لك أسبوع في شرم الشيخ؟!
- ٨ أيام بالظبط، والمفروض أسافر شرم يوم الجمعة اللي هو بعد بكره، أسافر إزاي وهو ما أكدش عليا؟! حقيقي معندهوش دم.
- هو برضو اللي معندهوش دم؟
- بتقولي حاجة حضرتك؟!
أجابت نجوان بحزمٍ:
- أه بقول؛ فيه راجل في الدنيا كلها يحجز لبنوتة عايز يتعرف عليها أسبوع في شرم الشيخ وتقول عليه معندهوش دم؟!
قالت مي بعصبيةٍ:
- وهو كان حجز وبعت لي؟! بقول لك مبعتش حاجة، يعني طلع بتاع كلام.
سألتها نجوان:
- وهو أصلًا إيه يخليه يفكر يحجز لك أسبوع ولا ٨ أيام في شرم الشيخ؟!
انخفض صوت مي وقالت بقليلٍ من النعومة:
- قال لي إن الأسبوع دا هيبقى فرصة كويسة نقرب فيها من بعض علشان لو اتعلقنا ببعض يعرّفني على أهله في آخر الأسبوع.
- هما أهله عايشين في شرم الشيخ؟!
- لأ، بس فرح أخته هيتعمل في نفس الفندق اللي المفروض يحجز لي فيه في آخر الأسبوع دا؛ فهو شاف إنه لو حصل قبول ما بيننا يعرفني على أهله وأحضر فرح أخته وتبقى مناسبة حلوة للتعارف.
قامت نجوان من خلف مكتبها واقتربت من مي قبل أن تقول:
- مي، أوعديني إنك متطفشيش أنس ومتتعامليش معاه بمناخيرك العالية اللي عايزة كسرها دي، دا شاب رومانسي جدًا وبيعمل معاكِ حاجات الرجالة بطلوا يعملوها من قبل الثورة الفرنسية، دا أنا جوزي مبيعملش معايا كدا وأنا مراته وأم عياله.
أجابت مي بعنجهية:
- ملكيش دعوة بمناخيري.
أمرتها نجوان بعنفٍ:
- أوعديني.
ردت مي بعصبيةٍ:
- وهو يعني كان بعت لي الحجز وأنا موعدتكيش؟!
وما إن انتهت مي من عبارتها الأخيرة حتى صدر عن هاتفها رنة قصيرة، أمسكت به مي وقرأت ما ورد إليها من أنس بعينيها قبل أن تبتسم وهي تنظر إلى نجوان قائلةً برقة:
- أوعدك.